مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث جهاد إحياء .. و وفرة عطاء

يضمّ التراث خزين هائل للنهوض والإبداع في حياة الأمة ؛ لأن لكلّ أمة شروط نهضتها الخاصة المعبّرة عن تراثها التاريخي الخاص ، ومقوّمات شخصيتها التي تأتلف في إطار مسيرتها التاريخية المحدّدة.
ويعبّر تراثنا عن أمتنا وهويتها ، بل هو خير معبِّر عنها ، لأنه جزء منها ، وهكذا كلّ تراث هو جزء من الأمة التي أنجزته خلال فترة حياتها، فلا يمكن أن تؤسس النهضة على تراث آخر غير تراثها ، فالنهضة يحتضنها هذا التراث ، وتصبح فيما بعد أحد مكتسبات الأمة في حركتها التاريخية ، وتصير واحدة من الإنجازات الكبرى ، والقفزات المتميزة في سعي الأمة نحو التقدم والتكامل .
وللتراث وظيفة أساسية في صقل الهوية الحضارية للأمة ، وتأكيد ذاتها ، وحماية هذه الذات من الذوبان والانكسار ، باعتبار أن التراث يستوعب مجموعة الرؤى والأفكار والخبرات والابتكارات ، مما أنتجته الأمة في طول تجاربها الحياتية الشاقة ، في حالات الانتصار والهزيمة ، وفي حالات الازدهار والركود ، وفي حالات التقدم والانحطاط ، ولذا فهو يجسِّد الذاكرة التاريخية للأمة ، ويمثل الزمن المتحرك المحيط بكل فعاليات الأمة ومكتسباتها.
و أيُّ أُمة إن أرادت اكتشاف ذاتها واحتضان تراثها فعليها أن تتعامل بشكل مباشر مع تراثها ، عبر إحياء هذا التراث ، ونفض الغبار الذي تراكم عليه سنوات مديدة .
إن التراث يوحّد ولا يفرّق ، وهو الإطار الأمثل الذي يمكن أن تنتظم من خلاله الوحدة ، وتتراصف فيه الصفوف ، حيث يقف المسلمون جميعاً فيه على أرض واحدة ، وينهلون فيه من منهل واحد ، ويرتبطون بواسطته في تاريخ واحد ، وإذا اتّحد تاريخهم ، وكانت جذورهم واحدة ، فسيتوحّد حتماً حاضرهم ، فلماذا إذن يسعى البعض لنفي جزء واسع من التراث المشترك على أساس طائفي أو غيره ويتجاهل حضور هذا التراث ؟!، فيضحّي حينئذ بدعامة أساسية تتقوّم بها هويتها ، ويعتمد على الوعي بها حاضرنا ومستقبلنا .
إن عملية إحياء التراث ونشره من المهام الحضارية العظمى التي تتوقف عليها نهضة الأمة وتحرّرها واستقلالها ؛ لأن النهضة تتقوّم بالتراث ، وإحياء التراث هو الوسيلة الوحيدة لتقديمه بين أيدي الناس، وتحريره من الغرف المغلقة على خزائن المخطوطات ، ووضعه في متناول الجميع ، وتيسير الانتفاع به، واستلهام ما يشتمل عليه من إرث حضاري كبير يقي الأمة عمليات مسخ هويّتها وتفتيت شخصيتها .
لقد بذل العلماء المسلمون منذ عصر التدوين الأوّل جهوداً كبيرة على حراسة التراث ، وصيانته ، والمحافظة عليه ، ولولا تلك الجهود الرائدة المبذولة في هذا السبيل؛ لتعرّض هذا التراث للاضطراب ، والتبعثر ، والضياع التام ، كما حصل مع تراث بعض الأمم .
وقد يحسب البعض خطأ أن التقاليد العلميّة الحديثة المستخدمة في تحقيق ونشر النصوص التراثية لم تكن معروفة فيما مضى ، ولكن الخبير بالتراث الإسلامي يعرف أن الكثير من الأساليب العلمية في تقويم النصوص وضبطها ، كانت شائعة لدى القدماء .
وقد تجلّت أمانتهم العلمية وصيانتهم لآثار من سبقهم في حرصهم على مقابلة ما وصل إليهم أو ما نسخوه من كتب مع الذي سمعوه و من الذي يرويه ، وأكّدوا على أن يكون هذا الأصل المنقول عنه صحيحاً متقناً ، و في صورة اختلاف النسخ كانوا ينتخبون نسخة مقاربة لأصل المؤلّف ، وهو أسلوب ربما لا يختلف كثيراً عن الأسلوب المتعارف عند المهتمّين بنشر النصوص اليوم، حين يعتبرون النسخة ذات المواصفات الجيدة هي النسخة الأم ، ويختارون نصّاً للمؤلف بالاستعانة بالنسخ الأخرى.
ومما لا شكّ فيه أنّ وصول عدد جيد من الكتب المخطوطة من تراث العصر الإسلامي الأول ، بصورة سالمة وصحيحة ، ما كان له أن يتمّ لولا العناية الفائقة المستندة إلى قواعد وتقاليد علمية دقيقة، من نسخ الكتاب ، ومقابلته مع الأصل ، والأمانة في تلقّيه ونقله للآخرين . وقد وصلنا عدد وفير من المخطوطات العربية الاسلامية من عصور مختلفة ما يتجاوز المليون نسخة ، منتشرة في خزائن المخطوطات في مختلف أنحاء العالم ، وتشمل هذه المخطوطات على مؤلفات في التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه ، والفقه واصوله ، والتاريخ ، والتراجم ، واللغة العربية وآدابها ، والكلام ، والفلسفة، والمنطق ، والرياضيات، والهيئة والفلك ، والعلوم الطبيعية الأخرى ، ففي كلّ حقل من حقول المعرفة نجد عدداً غير قليل من النسخ الخطية.
إن تراثنا ـ الذي أورثنا عزاً تليداً، ومجداً فريداً، وحضارة شامخة تزدهي عجباً بنوابغ من العقول، عجز الزمان أن ينجب أمثالها، وإبداعات أعيت الحذاق أن يدركوا نظيراً لها ـ فهو اليوم سجين يشكو نكران أهله، وعقوق أبنائه، وجهل سجّانه.
ومع كلّ هذا فإن في النفس أملاً عميقاً في أن يدرك المسلمون ما يخبّئه لهم هذا التراث الثرّ من حاضر زاهٍ ومستقبل زاهر، لو عكفوا على دراسته ونشره وإذاعته.
و من هذا المنطلق بادر سماحة العلامة الحجة السيد جواد الشهرستاني في عام 1404 هجرية بتأسيس مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث؛ لتقوم بما قام به أولئك الذين وضعوا هذا التراث نصب أعينهم، هؤلاء الذين كان عملهم هوايةٌ وحبٌ أكيدٌ قبل أن يكون مهنة ؛ لأنّ التعامل مع المخطوطات يتطلّب صفات وقابليات وميولاً من المحقق تعينه على عمله، والسبب يكمن في أن المخطوطة نفسها عالم بذاته متميّز عن غيره، منفرد بدقائقه وتفصيلاته، ولا يستطيع أن يلج هذا العالم ويكشف خباياه إلا مَن أُوتي صبراً عميقاً وجلداً وثيقاً ورغبة وحبّ اطلاع، تشكّل هذه الصفات دافعاً له لاستكشاف المجهول في كلّ ثنية ورقة غائرة، أو جرّة قلم عابرة، أو تاريخ مزوّر، أو عنوان مزيّف، أو تشويه ناسخ، أو تعليق قارئ.
ومن هنا نخلص إلى أن التعامل مع المخطوطات ليس أمراً هيّناً وعملاً يسيراً، بل هو فن وصنعة قوامها الهوية، وسدادها الخبرة، ولُحمتها الدراية الطويلة والمران المستمر، والدراسة العميقة، إلى جانب ذوق جمالي وصناعي وفكري إضافة إلى الإلمام بكلّ جانبٍ من جوانب الحضارة الإسلامية.
ولذلك فإن الأُمم المتحضرّة تضع تراثها الفكري العلمي في حبات العيون تنسقه وتصدر منه طبعات أنيقة تتداول بالملايين، تماماً كما تصون تاريخها وتراثها وآثارها ومخلّفات عظمائها، ولذلك فهي تتجدد، وتنجب العباقرة والعظماء، وإنه حق على أبناء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أن يصونوا ما بقي من تراثهم وأن يحفظوه حفظ الأُم لوليدها، وألا يكلِّوا في ذلك أبداً، فلابد لأبنائها الذين سيرثونها أن يعرفوها أولاً وأن يعرفوا تراثها وتاريخها، وما كانت عليه، ثم يربطوا مستقبلها مع ماضيها، وبذلك يحذو الخلف على تراث السلف، ويطوّره وتستقيم الأمور.
والعمل في هذا المضمار واسع رحب، وعلى المثقفين والهيئات العلمية أن يعملوا بإخلاص فالمسألة مسألة جد صارم لا هوادة فيه؛ لأن التراث من أهم عوامل بعث الأمم والشعوب، فلا يمكن لأمة من الأمم أن تتسنّم ذرى الحضارة والمدنية إلا إذا كانت لها جذور عميقة، وتراث مجيد، وتاريخ تليد.
و مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، مؤسسة إسلامية غير حكومية عالمية مستقلة، تعمل لخدمة الإسلام والإنسانية جمعاء، و قد باشرت عملها من حين التأسيس وفقاً للأهداف التي حددتها لنفسها لتكون في خدمة الحوزات الدينية والاوساط العلمية والمسلمين والإنسانية جمعاء، فواصلت مسيرتها وحققت نتائج ملموسة يشهد لها بذلك الجميع ، فساهمت جادة في إبراز شموخ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وقيمها الرفيعة، حيث تمكّنت ـ بفضل العناية الإلهية والمنهجية المبتكرة التي اعتمدتها في برنامج عملها ـ من نيل جائزة أفضل أثر تحقيقي في جمهورية إيران الإسلامية لثلاثة أعوام متوالية 1984 / 1985 / 1986 عن كتاب: مستدرك الوسائل للمحدّث النوري (18 مجلداً) ، بالإضافة إلى فوائده الرجالية التي صدرت في 9 مجلّدات، وكتاب: جامع المقاصد للمحقّق الكركي (14 مجلّداً)، وكتاب: تفصيل وسائل الشيعة للحرّ العاملي (30 مجلّداً)، وفي سنة 1997 عن كتاب منتهى المقال لأبي علي الحائري (7 مجلّدات)، كما استطاعت عام 1992 من الحصول على جائزة أفضل مركز نشر وتحقيق في جمهورية ايران الإسلامية.
إنّ الحقبة الزمنية التي طوتها هذه المؤسسة منذ التأسيس وصولاً إلى عامنا هذا كانت وبلاشكّ ـ ومن خلال ما تمّ فيها وما سنعرضه في الصفحات التالية ـ دلالة واضحة الى حُسن التوفيق وصدق النوايا ، والتي مكّنت المؤسّسة وبجدارة لأن تتسنّم موقعاً ريادياً في عالم التحقيق والنشر، يقرّ به القريب والبعيد ، والداني والقاصي ، يظهر بوضوح أمام ناظري الجميع ومشاهداتهم أن مؤسّسّتنا ـ وبتوفيق من الله تعالى ومنّه ـ قد استطاعت أن تؤتي ثماراً يانعة، و في مجالات متعدّدة تصبّ بالتالي في بودقة الأهداف التي اسست من أجلها.

 

نسخة الجوال للمكتبة الإسلامية
نسخة الجوال للمكتبة الإسلامية
شاهد المكتبة الإسلامية في جوالك بشكل يلائم جميع أجهزة المحمولة.
خدمة الأوقات الشرعية
يمكنك باستخدام هذه الخدمة ، مشاهدة اوقات الصلاة واستماع صوت الأذان لمدينة خاصة في موقعك.