شارع القصص
احسن القصص
شارع القصص >احسن القصص > سيرة المعصومين > نور المدينة
 
 

قصة الإمام علي الهادي ( عليه السلام )

نُورُ المَدينَةِ

حَقاً مَلْعونٌ ذلِكَ الوالِيُّ العباسيُّ.. إنّهُ أَخْبَثُ خَلقِ اللهِ في هذا الزَمنِ..

ـ بِسَبَبِهِ حَصَلَ كُلُّ ما نَحنُ فيهِ..

هذهِ العباراتُ وغَيرُها كانَتْ تَنسابُ إلى مَسامِعي مِنْ بَينَ صَفحاتِ التأريخِ الغابِرِ.. مَصْحُوبَةً بِالبُكاءِ والنَحِيبِ والصُراخِ.. وتُرَدِّدُها حَناجِرُ النِّساءِ والرِّجالِ

والاَطْفالِ والصِبيانِ.. حَناجِرٌ أَرْهَقَها البُكاءُ والصُراخُ.. فَصارَتْ تُخْرِجُ أَصواتاً مَبْحُوحَةً مُتَقَطِّعَةً.. مِمّا جَعَلَني أَغْرَقُ فِي تَفْكِيرٍ عَمِيقٍ وَأَنا أُحاوِلُ مُتابَعَةَ الاَحداثِ.. حَتّى لَفَّتْنِي صَفَحاتُ التأرِيخُ بَينَ طَيَّاتِها وكَأَنَّها بَحْرٌ مِنْ الرِّمالِ المُتَحَرِّكَةِ.. فَوَجَدتُ نَفسِّي أَقِفُ أَمامَ جَامِعٍ فِي مَدِيْنَةٍ خَيَّمَ عَلَيها الحُزْنُ والكآبَةُ.. وَجَثَما مِثْلَ جَبَلٍ شاهِقٍ عَلى صُدُورِ النّاسِ.. كانَ يَبدُو ذلِكَ وَاضِحاً عَلَيهِم وأَنَا أَتَأَمَلُ وجُوهَهُم المحتَرِقَةَ بِحَرارَةِ الدُّمُوعِ.. فَلَمَحتُ بَينَهُمْ شَيْخاً يَجلُسُ قُربَ بابِ الجامِعِ.. فَتَقَدَّمْتُ نَحوَهُ مُتَرَدِّداً بَيْنَ التَحدُّثِ إِلَيهِ وبَينَ العُدُولُ عَنْ ذلِكَ.. فَطَبِيعَةُ الحالِ كانَتْ تَبعَثُ فِي

نَفْسِيَ رَغْبةَ السؤآلِ.. وَفِي الوَقتِ نَفْسِهِ كانَتْ تَمنَعُنِي مِنْ ذلِكَ لِما هُمْ فِيهِ مِنْ هَمٍّ وحُزْنٍّ.. وبَيْنَما أَنْا على هذِهِ الحالَةِ.. شاهَدْتُ الشَيخَ يُشِيرُ لِي بِيَدِهِ قَائِلاً : ـ تَعالَ يابُنَيَّ وَقُلْ ما عِندَكَ وَلا تَتَرَدَّدْ.. فَإِنْ كانَتْ لَدَيكَ حاجَةً ، نَقْضِيها لَكَ بِإِذنِ اللهِ..

أَثْلَجَ كلامُهُ قَلبِيَ.. فَجَلَسْتُ بِجانِبِهِ وَقَدْ غَمَرَتْنِي فَرْحَةٌ عَظِيْمَةٌ.. فَقُلتُ لَهُ : ـ أَلَيْسَتْ هذِهِ المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ.. وَهذا هُوَ الجامِعُ النَبَوِيُّ.. ؟

فَرَاحَتْ الدُّمُوعُ تَنْهَمِرُ مِنْ عَيْنَي الشَيخِ وَهُوَ يَقُولُ : ـ نَعَمْ يَا بُنَيَّ.. وَسَوْفَ تَبْقى مُنَوَّرَةً رَغْمَ مُحاوَلاتِ الطُّغاةِ المُسْتَمِرَّةِ لاِِطْفاءِ أَنْوارِها..

ـ يَبدو أَنَّ هُناكَ حادِثَةً مُفجِعَةً أَلَمَّتْ بِكُمْ.. فَجَعَلَتْكُمْ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيهِ الآنَ.. فَرَدَّ الشَيْخُ بِلَوْعَةٍ وَأَلَمٍ : ـ سَحَابَةٌ عَبَّاسِيَّةٌ سَوداءُ حَجَبَتْ عَنَّا قَمَراً مِنْ

آلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم كانَ بَيْنَنا ، وَكانَتْ جَمِيْعُ بُيُوتُ المَدِيْنَةِ تَنْعَمُ بِنُوِرِهِ.. ما مِنْ فَقِيرٍ فِي المَدِينَةِ إِلاّ وَأَغْناهُ.. وَمَا مِنْ مَرِيضٍ إِلاّ وَسَعُدَ بِوُجُودِ الاِِمامِ عليه السلام بِقُرْبِهِ ، زائِراً لَهُ

فِي بَيْتِهِ.. وَشَمَلَ عَطْفُهُ وَحَنانَهُ جَمِيْعَ مَناحِيَ حَياتِنَا.. فَشارَكَنا فِي سَرّائِنا.. وأَعانَنا فِي ضَرَّائِنا.. فَكَانَ يَعْطُفُ عَلى صَغِيرِنا وَكَبيرِنا.. وَيَتَكَفَّلُ بِالاََرامِلِ والاََيْتامِ.. فَمَلَكَ قُلُوبَنا وَمَشاعِرَنا..

ثُمَّ أَشارَ الشَيْخُ بِيَدِهِ إِلى الجَامِعِ النَبَوِيّ.. وَوَاصَلَ حَدِيثَهُ قَائِلاً : ـ كَانَ هذا الجامِعُ مَدْرَسَةً تَشُعُّ بِنُورِ عِلْمِهِ.. تَعَلَّمَ النَّاسُ مِنْها دِروسَاً فِي تَهذِيبِ الاََخلاقِ.. وَتَرَبَّوا عَلى الآدابِ الاِِسْلامِيَّةِ.. وَنَهَلَ العُلَماءُ وَالفُقَهاءُ وَالرُّواةُ مِنْ عُلُومِهِ الّتِي إِسْتَمَدَّها عَنْ آبائِهِ الَّذِينَ أَضاؤُوا حَياةَ الاِِنْسانِ بِنُورِ العِلمِ وَالاِِيمانِ..

ـ سَمِعْتُ الناسَ يَلعَنُونَ رَجُلاً يُدعى عَبْدَاللهِ بنِ مُحَمَّدٍ.. وَقَدْ وَصَفُوهُ بِالخُبْثِ.. وَقالُوا : إِنَّهُ السَبَبُ فِيما حَصَلَ..

ـ هذا صَحِيْحٌ.. لَقَدْ بُعِثَ الوالِيَ عَبْدُاللهِ بنِ مُحَمَّدٍ مِنْ قِبَلِ الخَلِيْفَةِ المُتَوَكِّلِ وَالِياً عَلى إِقامَةِ الصَّلاةِ وَشُؤُونِ الحَرْبِ.. وَلَمَّا عَرَفَ هذا الرَّجُلُ بِحُبِّ النَاسِ لِلاِِمامِ عَلِيٍّ ابن مُحَمَّدٍ الهادِي عليه السلام وَالْتِفافِهِمْ حَولَهُ.. رَاحَ قَلْبُهُ يَفُورُ غَيْظاً وَحِقْدَاً.. فَصَارَ يَقْصُدُ الاِِمامَ بِالسُّوءِ وَالاََذَى.. وَلَمْ يَكْتَفِ بِذلِكَ حَتَّى سَعَى بِوِشَايَتِهِ إِلى المُتَوَكِّلِ.. فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّ الجَماهِيرَ تَلْتَفُّ حَولَ الاِِمامِ عَلِيٍّ الهادِي عليه السلام وَتَمُدُّه بِالاََمْوالِ الطَّائِلَةِ.. وَلا يُؤْمَنُ مِنْهُ شِراءَ السِّلاحَ لِمُقاوَمَةِ الدَوْلَةِ وَالاِِطاحَةِ بِالحُكُومَةِ العَبَّاسِيَّةِ.. وَلَمَّا عَلِمَ الاِِمامُ الهادِيُ عليه السلام بِوِشايَةِ هذا الوَغْدِ.. وَمُؤامَرَتِهِ ضِدَّهُ.. حاوَلَ أَنْ يُبَرِّرَ مَوْقِفَهُ أَمامَ المُتَوَكِّلِ لِيُدافِعَ عَنْ نَفْسِهِ لاََِنَّهُ يَعْلَمُ مَوْقِفَ الحُكَّامَ العَبَّاسِيِّينَ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ البَيْتِ عليهم السلام وَمَا أَسْرَعَ مَا يَتَّخِذُونَهُ مِنْ إِجراءاتٍ قاسِيَةٍ ضِدَّهُمْ.. فَكَتَبَ إِلى الحاكِمِ العَبَّاسِيِّ رِسَالَةً يَشْكُو فِيها أَحْقادَ عامِلِهِ عَلَيهِ.. وَسُوْءَ مُعَامَلَتِهِ لَهُ.. وَقِيامِهِ بِمَا يَسُوؤُهُ.. فَأَحاطَهُ بِذلِكَ عِلْماً بِكِذِبِ الوِشَايَةِ.. وَبَعْدَها تَمَخَّضَتِ النَتائِجُ عَنْ أَحْداثٍ.. كَانَتْ ظاهِراً لِصالِحِ الاِِمامِ عليه السلام فَقَدْ بَعَثَ المُتَوَكِّلُ رِسالَةً إَلى الاِِمامِ الهادِي عليه السلام يَقُولُ لَهُ فِيها : ـ (إِنِّي عارِفٌ بِحَقِّكَ.. وَمُقَدِّرٌ لِمَا أَنْتَ فِيْهِ مِنْ ظُلْمِ عَبْدِاللهِ ابنِ مُحَمَّدٍ.. وَلِهذا فَقْدْ قَدِمْتُ عَلى عَزْلِهِ مِنْ وِلايَةِ أُمُورِ الحَرْبِ والصَّلاةِ.. وَوَلَّيْتُ بَدَلاً عَنْهُ مُحَمَّدَ بنَ الفَضْلِ.. وَأَمَرْتُهُ بِإِكْرامِكَ.. وَالاِِمْتِثالِ إِلى أَمْرِكَ..) .

وَلكِنْ فُجْأَةً !! وَإِذا بِدارِ الاِِمامِ الهادِي عليه السلام تَتَعَرَّضُ

إِلى التَفْتِيْشِ مِنْ قِبَلِ رَجُلٍ يُدعَى يَحْيَى بنِ هَرْثَمَةَ أرْسَلَهُ الخَلِيْفَةُ المُتَوَكِّلُ على رَأْسِ مَجْمُوعَةٍ مِنْ رِجالِ الشُرْطَةِ.. فَقامُوا بِتَفْتِيِشِ الدَّارِ بَحْثاً عَنْ السِّلاحِ.. فَلَمْ يَجِدُوا فِيها غَيْرَ المَصاحِفِ وَكُتُبِ الاََدْعِيَةِ.. وَهذا ما يُؤَكِّدُ أَنَّ وِشَايَةَ عَبْدِاللهِ بنِ مُحَمَّدٍ قَدْ فَعَلَتْ فِعْلَها فِي قَلْبِ المُتَوَكِّلِ العَبَّاسِيِّ.. فَباتَ يَعِيْشُ حالاتَ الفَزَعِ وَالقَلَقِ عَلى كُرْسِيِّ الحُكْمِ.. وَبَعْدَ تَفْتِيْش الدَّارِ.. وَجَدْنا يَحيى يَأْمُرَ الاِِمامَ الهادِي عليه السلام بِالرَّحِيلِ مَعَهُ إِلى سامَرَّاءَ.. حَتْى يَكُونَ قَرِيبَاً مِنَ المُتَوَكِّلِ فَيُراقِبُ جَمِيْعَ تَحَرُّكاتِهِ وَاتِّصالاتِهِ..

فَفَزِعَتِ المَدِيْنَةُ أَشَدَّ الفَزَعَ.. وَالْتَفَّ النَّاسُ حَوْلَ الاِِمامِ عليه السلام يَصْرَخُونَ وَيَبْكونَ وَهُمْ يُحاوِلُونَ مَنْعَ يَحيَى بنَ هَرْثَمَةَ مِنَ التَّعَرُّضِ إِلى الاِِمامِ الهادِي عليه السلام .. فَرَاحَ يَحيَى يُسَكِّنَ مِنْ رَوْعِهِمْ.. وَيُهدِّىءَ فَزَعَهُمْ.. فَحَلَفَ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ فِيْهِ بِأَيِّ مَكْرُوهٍ.. وَأَخِيراً تَمَكَّنَ يَحيَى بنِ هَرْثَمَةَ وَرِجَالُهُ مِنْ مُغادَرَةِ المَدِينَةِ وَمَعَهُمْ الاِِمامُ عَلِيُّ الهادِي عليه السلام .. وَها هِيَ المَدِينَةُ كَما تَرى بَعْدَ رَحِيلِهِ عليه السلام .

حَدَّقَ الشَيخُ فِي وَجْهِي بَعْدَ أَنْ أَنْهى كَلامَهُ.. وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِّي.. لكِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ الكَلامَ حَيْثُ كَانَتْ تَخْنُقُنِي العَبَراتُ.. وَالدُّمُوعُ تَسِيْلُ بِغَزارَةٍ عَلى وَجْنَتَيَّ.. فَلَمْ أَجِدْ سِوى أَنْ أَجْهَشَ بِالبُكاءِ..

* * *

أَفْرَدَ المُتَوَكِّلُ العَبَّاسِيُّ لِلاِِمامِ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ الهادِي عليه السلام دَارَاً بَسِيْطَةً فِي سامَرَّاءَ.. فَنَزَلَ فِيْها الاِِمامُ عليه السلام وَمِنْ حَوْلِهِ عُيُونُ المَتَوَكِّلِ تَرْقَبُ جَمِيْعَ تَحَرُّكَاتِهِ ، وَتَعدُّ عَلَيهِ أَنْفاسَهُ.. وَلَمْ يَمْضِ عَلى وُجُودِ الاِِمامِ الهادِي عليه السلام فِي سامَرَّاءَ فَتْرَةً طَوِيلَةً حَتَّى تَعَرَّضَ إِلى وِشايَةٍ أُخْرَى مِنْ بَعْضِ الحاقِدِينَ عَلى أَئِمَّةِ أَهْلِ البَيْتِ عليهم السلام فَقَدْ نُقِلَ إِلى المُتَوَكِّلِ عَلى أَنَّهُ يَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ أَسْلِحَةً تَصِلُهُ مِنْ شِيْعَتِهِ.. وَهُناكَ أَيْضاً بَعْضُ الكُتُبِ يَتَبادَلُها مَعَهُمْ عَنْ طَرِيقِ المُراسَلاتِ.. وَمِنْ خِلالِ ذلِكَ يَبْدُو أَنَّهُ عازِمٌ عَلى التَّعَرُّضِ لِلدَّولَةِ..

وَفِي تِلْكَ اللَّيلَةِ بَيْنَما كَانَ الاِِمامُ الهادِي عليه السلام مُتَوَجِّهاً إِلى اللهِ تَعالَى يُصَلِّي وَيَتْلُو آياتٍ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ وَهُوَ يَفْتَرِشُ رِمالَ وَحَصاةَ الدَّارِ وَيَرْتَدِي مِدْرَعَةً مِنَ الصُوفِ ، وَإِذا بِجَماعَةٍ مِنْ رِجالِ الخَلِيْفَةِ المُتَوَكِّلِ يَهْجِمُونَ عَلى بَيْتِ الاِِمامِ عليه السلام وَيَشْرَعُونَ بِتَفْتِيشِها.. ثُمَّ قادُوا الاِِمامَ الهادِي عليه السلام إِلى الخَلِيْفَةِ المُتَوَكِّلِ..

* * *

وَعَلى أَيَّةِ حَالٍ كَانَ المُتَوَكِّلُ العَبَّاسِيُّ حِينَ أَدْخَلوا عَلَيهِ الاِِمامَ الهادِيَ عليه السلام .. كَانَ جَالِسَاً يَشْرَبُ الخَمْرَ فَراحَ يَسْتَمِعُ إِلى رِجَالِهِ وَهُوَ يَتَأَمَلُ الاِِمامَ عليه السلام فَتَرَهَبَهُ هَيْبَتُهُ وَوَقَارُهُ..

ـ وَجْدنَاهُ مُتَوَجِّهاً نَحْوَ القِبْلَةِ يُصَلِّي وَيَدْعُو.. وَقَدْ فَتَّشْنَا بَيْتَهُ فَلَمْ نَجِدْ شَيْئَاً..

قَالُوا ذلِكَ وَصَمَتُوا مُنْتَظِرِينَ الاََوامِرَ.. فَقَالَ المُتَوَكِّلُ مُوجِّهاً كَلامَهُ إِلى الاِِمامِ الهادِي عليه السلام : تَعالَ وَاجْلُسْ هُنا إِلى جَانِبِي..

جَلَسَ الاِِمامُ الهادِيُ عليه السلام بِالقُرْبِ مِنَ المُتَوَكِّلِ.. فَفُوجِىءَ بِالمُتَوَكِّلِ وَهُوَ يُقَدِّمُ لَهُ كَأْسَاً مِنَ الخَمْرِ.. فَبَادَرَهُ قَائِلاً : ـ اعْفِنِي مِنْها.. فَوَاللهِ لَمْ يُخامِرْ لَحْمِي وَدَمِي قَطْ..!!

فَأَعادَ المُتَوَكِّلُ كَأْسَ الخَمْرِ قَائِلاً : ـ إِذَاً أَنْشِدْنِي شِعْراً..

فَقَالَ لَهُ الاِِمامُ عليه السلام : ـ إِنِّي قَلِيْلُ الرِوايَةِ لِلشِّعْرِ..

قَالَ المُتَوَكِّلُ : ـ لا بُدَّ مِنْ ذلِكَ..

فَرَاحَ الاِِمامُ عليه السلام يُنْشِدُ قَائِلاً :

ـ بَاتُوا عَلى قُلَلِ الاََجْبالِ تَحرُسُهُم
غُلْبُ الرِّجالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ القُلَلُ
وَاسْتُنْزِلُوا بَعَدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِم
وَأُسكِنُوا حُفَرَاً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا
نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ دَفْنِهِمُ :
أَينَ الاََساوِرُ وَالتِّيجانُ والحُلَلُ
أَيْنَ الوُجُوهُ الّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً
مِنْ دُونِها تُضْرَبُ الاََستارُ وَالكُلَلُ؟!!
فَأفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُمْ حِيْنَ سَاءَلَهُم
تِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيها الدُودُ يَقتَتِلُ
قَدْ طَالَما أَكَلُوا دَهْرَاً وَقَدْ شَرِبُوا
فَأَصْبَحُوا اليَومَ بَعدَ الاََكْلِ قَد أُكِلُوا
وَطالَما عَمَّروا دُوراً لِتُسْكِنَهُم
فَفارَقُوا الدُورَ والاََهلِينَ وَانْتَقَلُوا
وَطَالَما كَنَزُوا الاََموالَ وادَّخَروا
فَفَرَّقُوها عَلى الاََعداءِ وارْتَحَلُوا
أَضْحَتْ مَنازِلُهُمْ قَفْراً مُعَطَّلَة
وساكِنُوها إِلى الاَجْداثِ قَدْ نَزَلُوا

كَانَ المُتَوَكِّلُ يَتَحَسَّسُ مَعانِيَ الاََبْياتِ فَتَسِيلُ الدُمُوعُ مِنْ عَيْنَيْهِ.. وَما أَنْ انْتَهى الاِِمامُ الهادِيُ عليه السلام مِنْ الاِِنْشادِ حَتَّى أَمَرَ المُتَوَكِّلُ بِإِعادَتِهِ إِلى مَنْزِلِهِ..

* * *

وَلكنْ تَبْقى هُناكَ حَقِيْقَةٌ وَاحِدَةٌ لا يُمْكِنُ أَنْ تَخْفَى عَلى أَحَدٍ.. وَهِيَ أَنَّ العَبَّاسِيِّينَ كُلَّما سَمِعُوا عَنْ تَعَلُّقِ قُلُوبِ النّاسِ بِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ عليهم السلام تَفاقَمَ الغَضَبُ والحِقْدُ فِي قُلُوبِهِمْ.. لاََِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ مِنْ ذلِكَ افْتِضاحَ أَمْرِهِمْ ، وَمِنْ ثُمَّ ثَوْرَةُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ.. لِذلِكَ عَمَدَ الحَاكِمُ العَبَّاسِيُّ إِلى دَسِّ السُمِّ لِلاِِمامِ عَلِيٍّ الهادِي عليه السلام فَقَتَلوهُ فِي جَوٍّ مِنَ الكِتْمانِ وَالخَفَاءِ.. وَقَدْ صادَفَ ذلِكَ فِي الثَالِثِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ مَائَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ وَخَمْسِيْنَ وَقَدْ كَانَ لَهُ مِنَ العُمُرِ آنَذاك أَرْبَعِيْنَ سَنَةٍ..