شارع القصص
احسن القصص
شارع القصص >احسن القصص > سيرة المعصومين > السحابة السوداء
 
 

قصة حول حياة الإمام علي بن موسى عليهما السلام

السَحَابَةُ السَودَاءُ

حول حياة الإمام علي بن موسى عليهما السلام

مَاذا يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ أَيُّها الخَلِيفةُ.. ؟ يَبْدو أَنَّهُ بُركانٌ.. وأَيُّ بركانٍ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.. لِماذا أَنْتَ عَلى هذا الحالِ.. ؟ أَلَمْ تَقضِ عَلى ثوراتِ العَلَوِيّينَ.. ؟!

إذَنْ هِيَ أَصْواتُهُمْ الرافِضَةُ لاِضْطِهادِكَ.. ذلِكَ الاضْطِهادُ الّذي يَدْفَعُهُمْ إِلى اسْتِخدامِ السَيفِ والدِفاعِ عَنْ حُقُوقِهِمْ بِالقُوَّةِ.. وَلِمجَرَّدِ إِحْساسِكَ بِاهْتِزازِ عَرْشِ المُلْكِ.. ذلِكَ العَرشُ الذي قَتَلْتَ مِنْ أَجْلِهِ أَقْرَبَ الناسِ إِليكَ.. فَمِنَ الطَبِيعِيّ جِدّاً أَنْ تَتْرُكَ هذِهِ الثَوْراتُ آثاراً تَجْعَلُ صَدْرَكَ يَفُورُ بِهذا البُركانِ.. وَيَسْتَغْرِقُ عَقْلُكَ بِتَفْكِيرٍ عَمِيقٍ تُخْفِيهِ سَحابَةُ زَفْرَتِكَ بَيْنَ طَيّاتِ حِمَمِها المَسْمُومَةِ.. تلك الحِمَمِ الّتِي تَتَزايَدُ وَيتفاقَمُ غَلَيانُها كُلّما نَشَبَتْ ثورةٌ جَدِيدةٌ..

يَسْتَغْرِقُ المأْمونُ فِي تَفْكِيرٍ عَمِيقٍ.. وَتَعْبَثُ رِياحُ الحِقْدِ بِسَحابَةِ الحِمَمِ المَسمُومَةِ.. وَتَجْعَلُها تَتَجَسَّمُ عَلى هَيْئةِ صُوَرٍ في مُخَيَّلَةِ الخَلِيفَةِ فَيَنْتَفِضُ مِن مَكانِهِ مُرَدِّداً : ـ لا بُدَّ مِنْ سَبيلٍ لِلخَلاصِ.. وامتصاصِ نِقْمَةِ الثَوْراتِ الّتِي تَجْعَلُ وَضْعَنا السياسيَّ يَزْدادُ تَأَزُّماً..

* * *

يَا لَهُ مِنْ قَرارٍ يِقَرِّرُهُ المَأْمُونُ.. وَأَيَّةُ صاعِقَةٍ تُذْهِلُ المُقَرَّبِينَ لَهُ.. وَتُثِيرُ تَساؤلاتِهِمْ: قصة حول حياة الإمام علي بن موسى عليهما السلام

ـ كَيْفَ يُقْدِمُ المَأْمُونُ على نُقْل الخِلافَةِ والسُلْطَةِ.. وَيُسَلِّمُ دَولَةً بَناها بَنُو العبّاسِ بِالدماءِ والصِراعِ.. وَمِنْ أَجْلِها بَذَلُوا مَا بَذَلُوهُ خِلالَ سَبْعِينَ عَاماً مَضَتْ.. أَبِهذِهِ السُهولَةِ تَعُودُ إِلى آلِ أَبي طالبٍ.. ؟! وَما كادَتْ تَخْرُجُ مِنْهُمْ إلاّ بَعْدَ صِراعٍ دَمَويٍّ وَفِكْريٍّ وَعقائديٍّ عَنِيفٍ.. إِذَنْ مِنْ أَجْلِ مَاذا كانَ ذلِكَ الصِراعُ.. ؟!!

وَوَسَطُ هذِهِ الدَهْشَةِ يَتَقَدَّمُ أَحَدُ وُزراءِ المأْمُونِ يُدْعَى الحَسَنُ بنُ سَهْلٍ بَعْدَ أَنْ طَلَبَ المَأْمُونُ الاجْتِماعَ بِهِ.. وَبِأَخِيهِ الفَضْلِ بنِ سَهْلٍ.. فَيَقُولُ لِلْمَأْمُونِ : ـ مَوْلايَ هَلْ تَعرِفُ مَدى خُطورَةِ إِخراجِ أَمْرِ الدَولَةِ عَنْ أَهْلِ بَيتِكَ.. ؟!

فَيَرُدُّ عَلَيهِ المَأْمُونُ : ـ إِنّي عَاهَدْتُ اللهَ أَنْ أُخْرِجَها إِلى أَفْضَلِ آلِ أَبي طالبٍ.. وَمَا عَلِمْتُ أَحَداً أَفْضَلَ مِنْ هذا الرَجُلِ..

فَما كانَ مِنَ الحَسَنِ بنِ سَهلٍ وأَخِيهِ الفَضْلِ بَعْدَ أَنْ رَأَيا تَصْمِيمَ المَأْمُونِ.. وَعَزِيمَتَهُ.. إلاّ أَنْ يُمسكا عَنْ مُعارَضَتِهِ حِينَ بادَرَهُما قَائِلاً : ـ تَذْهبانِ الآنَ إلى عليٍّ ابنِ مُوسى الرِضا.. وتُخْبِرانِهِ عَنّي بِما صَمَمَّتُ ، و...

وَيَنْتَهِي الاجْتِماعُ.. فَيَخْرُجُ الحسنُ بنُ سَهلٍ وأَخُوهُ الفَضْلُ.. مُتَوجِّهَيْنِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ بَعْدَ أَنِ اتّفَقَا مَعَ المَأْمونِ عَلى شُروطٍ مُعَيَّنَةٍ..

وَحِينَ وَصَلا إِلى الاِِمامِ الرِضا عليه السلام .. عَرَضا عَلَيْهِ ولايةَ العَهْدِ.. شَرْطَ أنْ لا يَأْمُرُ.. وَلا يُوَلِّي.. وَلا يَتَكَلَّمُ بَيْنَ اثْنَينِ فِي حُكْمٍ.. وَلا يُغَيِّرُ شَيْئاً هُوَ قائِمٌ عَلى أُصولِهِ..

والاِمامُ عليه السلام يَسْتَمِعُ إِليهِما وَهُوَ يَعْلَمُ بِأَنَّ المَأْمُونَ بنَ الرَشِيدِ يُحاوِلُ امْتِصاصَ النِقْمَةِ.. وَإقْناعَ الرَأْيِ العامِّ بِالاعْتِدالِ.. وَكَسْبَ الاََنْصارِ.. وَتَخْفِيفَ الضَغْطِ الّذِي يَنُوءُ بِهِ ضَمِيرُ الاُمَّةِ جَرَّاءَ المُعاملاتِ الظالِمَةِ لِحُكّامِ بَني العَبّاسِ لَلْعَلَوِيّينَ.. والوُقوفَ بِوَجْهِ التَيّارِ الثَورِيِّ العَلَوِيِّ الّذِي راحَ يَشْتَدُّ وَيَتعاظَمُ بِسَبَبِ الاِِرهابِ وَسَفْكِ الدِماءِ.. وَتَضْيِيعِ الاََمْوالِ وفَسَادَ الاِِدارةِ.. واضْطِرابَ الاََمْنِ بِشَكْلٍ مُرَوِّعٍ..

فَاخْتَرَعَ المأْمون مَشروعاً سِياسِيّاً لِتَطْوِيقِهِ عليه السلام بِمُبايَعَتِهِ لِولايةِ العَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ.. بَاعْتِبارِهِ الاِِمامُ مَنْ أَهْلِ بَيْتِ النُبُوَّةِ عليه السلام والقائِدُ البارِزُ.. وسيّدُ العِلْمِ فِي عَصْرِهِ..

فَما كانَ مِنْ الاِمامِ عليٍّ بنِ مُوسى الرِضا عليه السلام إلاّ أَنْ يَرْفُضَ عَرْضَ المأْمُونِ.. فَهَدَّدَهُ أَحدُهُما بِالسَيْفِ قائِلاً : ـ واللهِ فَقَدْ أَمَرَنِي مَولايَ المَأْمُونُ بِضَرْبِ عُنُقِكَ إِذا خَالَفْتَ مَا يُريدُ.. !!!

يَا لَها مِنْ خِطَّةٍ سياسيّةٍ.. أَيَّةُ ولايةٍ هذِهِ الّتِي لا يَأْمُرُ بِها ولا يَنْهي.. ولايُولِّي ولا يَعْزِلُ.. ولا يَتَكَلَّمُ بَينَ اثْنَينِ فِي حُكْمٍ.. وَبَعْدَ كُلِّ هذا فَقَدْ كانَ الاِمامُ عليه السلام مُرْغَماً على قَبولِ الوَلايةِ.. فَالْمَأْمُونُ قَدْ وَجَدَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُناسِبِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ مَعَهُ الوسائِلَ الّتِي اسْتَخْدَمَها الرَشِيدُ ضُدَّ وَالِدِهِ الاِِمامِ مُوسى الكاظِمِ عليه السلام . قصة حول حياة الإمام علي بن موسى عليهما السلام

بَدَأَ الاِِمامُ عَليٌّ بنُ مُوسى الرِضا عليه السلام رِحْلَتَهُ مِنَ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ مُتَوجِّهاً إِلى مَرْوٍ

عاصِمةِ الدَولَةِ العَبّاسِيّةِ عِبْرَ طَريقِ البَصْرَةِ والاََهوازِ.. وَلمَّا وَصَلَ إلى مَنْطَقَةٍ

تُسَمّى النباجُ.. نَزَلَ قُربَ مَسْجدٍ فِي تِلْكَ المَنْطَقَةِ وَقَدْ رَاحَ الناسُ يَتَجَمَّعُونَ حَوْلَهُ.. وَقَدْ كانَ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجلٌ يُدْعى أَبو حبيبٍ النباجِيّ.. وَقَفَ هذا مَذْهُولاً حِينَ شَاهَدَ الاِِمامَ عليه السلام وَقَدْ أَخْرَجَ طَبَقاً فِيهِ تَمْرٌ صَيْحانِيٌّ وَرَاحَ يَأْكُلُ مِنْهُ.. ومِمّا زادَ فِي دَهْشَتِهِ إِعطاءُ الاِمامِ عليه السلام إِيّاهُ قَبْضَةً مِنَ الَتمْرِ.. فَلَمّا عَدَّها وَجَدَها ثَمانِيَ عَشْرَةَ تَمْرَةً.. فَراحَ يُرَدِّدُ مَعَ نَفْسِهِ : ـ قَبْلَ عِشْرِينَ يَوماً رَأَيْتُ في مَنامِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَجْلِسُ فِي نَفْسِ هذا المَكانِ.. وَيَأْكُلُ تَمْراً مِنْ طَبَقٍ مِثْلِ هذا الَتمْرِ.. وَقَدْ أَعْطانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم قَبْضَةً مِنْهُ فَكانَتْ ثَماني عَشْرةَ تَمْرَةً .. وَقَدْ أَوَّلْتُ حُلُمِي هذا بِأَنّي سَأَعِيشُ ثَمانيَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْدَ عُمْرِي هذا..

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى الاِمامِ الرِضا عليه السلام قَائِلاً : ـ زِدْنِي يا ابْنَ رَسولِ اللهِ.. فَقالَ الاِِمامُ عليه السلام : ـ لَوْ زَادَكَ جَدّي رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَزِدْناكَ..

* * *

بَعْدَها وَاصَلَ الاِِمامُ الرِضا عليه السلام طَرِيقَهُ حَتّى دَخَلَ نَيْشابُورَ.. قصة حول حياة الإمام علي بن موسى عليهما السلام

فَعَرَضَ لَهُ اثْنانِ.. أَحدُهُمَا يُدعَى أَبُو زَرْعَةَ الرازِيّ.. وأَحْمَدُ بُن أَسْلمَ الطُوسِيّ.. وَمَعَهُما مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالحَدِيثِ.. وَقَدْ كانَ الرِضا عليه السلام فِي قُبّةٍ مَسْتُورَةٍ عَلى بَغْلَةٍ شَهْباءَ.. وَقَدْ شَقَّ بِها السُوقَ.. فَسَألُوهُ بِحَقِّ آبائِهِ الطاهِرِينَ أَنْ يُريَهُمْ وَجْهَهُ المُنَوَّرَ.. وَيَروِي لَهُمْ حَدِيثاً عَنْ آبائِهِ.. فَرَفَعَ السِتارَ وَإذا بِغُرَّتِهِ المُباركَةِ يَسْطَعُ مِنْها نُورُ الاِمامَةِ.. فَصارَ الناسُ بَينَ باكٍ.. وَصارِخٍ.. وَمُكَبِّرٍ.. وَمُهلِّلٍ.. وَبَعْضُهُمْ رَاحَ يُقَبِّلُ أَطرافَ القُبَّةِ تَبَرُّكاً بِها.. في هذِهِ الاََثناءِ صَاحَ أَحَدُ العُلَماءِ : ـ أَيُّها الناسُ أنْصِتُوا..

فَلَمَّا سَكَنَتْ فَورَتُهُمْ.. أَخْرَجَ الاِِمامُ الرِضا عليه السلام رَأْسَهُ مِنَ المَظَلَّةِ قائِلاً : ـ حَدَّثَنِي أَبي الكاظِمُ.. عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرٍ الصادِقِ.. عَنْ أَبِيهِ مُحَمّدٍ الباقرِ.. عَنْ أَبِيهِ عَليٍّ بنِ الحُسينِ السجّادِ.. قَالَ : حَدَّثَنِي أَبي الحُسينُ عَنْ أَبِيهِ عَليٍّ أَميرِ المُؤْمِنينَ قَالَ : ـ قصة حول حياة الإمام علي بن موسى عليهما السلام

حَدَّثَنِي أَخي وَابنُ عَمّي رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : حَدَّثَنِي جبرَائِيلُ قَالَ : ـ سَمِعْتُ رَبُّ العِزَّةِ سُبْحانَهُ يَقُولُ : « كلمةُ لا إلهَ إلاّ اللهُ حِصْنِي.. وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مَنْ عَذابِي .. » .

صَمَتَ الاِِمامُ عليه السلام بُرْهةً ثُمَّ قالَ لَهُمْ : ـ لكنْ بِشَرْطِها وَشُروطِها.. وَأَنا مِنْ شُروطِها..

ثُمَّ مَضى الاِمامُ عليه السلام فِي طَرِيقِهِ حَتّى نَزَلَ فِي مَحلّةٍ تُسَمَّى الفَروينيّ.. وَقَدْ كانَ فِيها حَمّامٌ فَدَخَلَهُ الاِِمامُ عليه السلام وَاغْتَسَلَ فِيهِ.. ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ وَصَلّى.. وَبَعْدَها وَاصَلَ الاِِمامُ عليه السلام سَيْرَهُ مارّاً بِسَرخسَ حَتّى مَرْوٍ عاصِمَةِ الخِلافَةِ العبّاسِيّةِ الّتي كانَتْ تَتَهيَّأُ لاِسْتِقبالِهِ.. وَتَنْتَظِرُ قُدُومَهُ.. وَقَدْ كانَ فِي طَلِيعةِ المُسْتَقْبِلِينَ وَالُمحْتَفِّينَ بِالاِِمامِ عليه السلام المَأْمونُ وَحاشِيَتُهُ وَرِجالُ دَولَتِهِ..

* * *

وَبَدأَ الحِوارُ.. وَبَدأَتْ المُفاوَضاتُ بَينَ الاِمامِ الرِضا عليه السلام وَبَيْنَ المأمونِ وَوزرائِهِ
قصة حول حياة الإمام علي بن موسى عليهما السلام

الّذينَ كَلَّفَهُمْ بِهذِهِ المُهمَّةِ.. فَحاوَلَ الاِِمامُ الرِضا عليه السلام أَمامَ المَأْمُونِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسَلُّمِ وِلايةِ العَهْدِ.. وَلكِنَّهُ قَبِلَ إثرَ تَهدِيدِ المأْمونِ الّذِي قَالَ لَهُ : ـ إنَّ عُمَرَ جَعَلَ الشُورى في سِتَّةٍ ، أَحدُهُمْ جَدُّكَ وقالَ : (مَنْ خالَفَ فَاَضرِبوا عُنُقَهُ) ولا بُدَّ لَكَ مِنْ قَبُولِ ذلِكَ..

ثَمَّ أَمَرَ المأمونُ وَزِيرَهُ الفَضْلَ بنَ سَهلٍ : ـ اُخرُج إلى الناسِ وَأَعْلِنْ لَهُمْ عَنْ قَراري.. وَرأْيِي فِي عليٍّ بنِ مُوسى الرِضا.. وعَزْمِي عَلى البَيْعةِ لَهُ بِولايةِ العَهْدِ مِنْ بَعدي..

وَأَمَرَ المأمونُ كَذلِكَ بِاستِبدالِ المَلابسِ السَوداءِ الَّتِي كانَتْ تُمَثِّلُ الشِعارَ العَباسِيَّ بِالملابِسِ الخَضْراءِ.. وَفِي يَومِ البَيْعَةِ أَقْبَلَ قُوّادُ الجَيْشِ والوُجَهاءُ والقُضاةُ.. وَهُمْ يَلْبَسُونَ الملابِسَ الخَضْراءَ.. فَأَمَرَ المأمونُ وَلَدَهُ العبّاسَ لِيَكُونَ أَوَّلَ المُبايِعِينَ.. فَقامَ يُبايعُ الاِِمامَ الرِضا عليه السلام بِولايَةِ العَهْدِ.. فَرَفَعَ الاِمامُ عليه السلام يَدَهُ وَقَدْ جَعَلَ بَاطِنَها إِلى الناسِ وظاهِرَها أَمامَ وَجْهِهِ.. ممّا أَثارَ دَهْشَةَ المأْمونِ فَقَالَ لِلاِِمامِ : ـ اَبْسِطْ يَدَكَ لِلْبَيعَةِ..

فَقَالَ الاِِمامُ عليه السلام : ـ إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم هكَذا كانَ يُبايِعُ الناسَ..

* * *

تَمَتْ مَراسِيمُ البَيْعَةِ حَافِلَةً بِاهْتِمامِ المَأْمونِ.. حَيثُ تَوافَدَ الشُعراءُ والخُطَباءُ والمُتَكَلِّمونَ والمُهنِّئُونَ.. وَبُذِلَتْ الاَموالُ والهَدايا وَاسْتَمَرَّ المأمونُ يُتابِعُ الاِِجْراءاتِ والقَراراتِ الّتِي تُؤَكِّدُ مَوقِعَ الاِِمامِ.. وَتُقْنِعُ الرأَيَ العامَّ بِجِدِيَّةِ الخُطْوةِ الّتي أَقْدَمَ عَلَيها.. ثَمَّ أَمَرَ بِإِصدارِ النُقُودِ باسْمِ الاِِمامِ الرِضا عليه السلام وضَرَبَ عَلَيْها اسْمَهُ الشَرِيفَ.. وأصدَرَ أَوامِرَه إلى كافَّةِ أَقطارِ الدَوْلَةِ بِأَنْ يُذكَرَ اسْمُ الاِِمامِ الرِضا عليه السلام فِي خُطَبِ الجُمُعَةِ وَفِي كُلِّ مَكانٍ.. وَاتّخَذَ خُطواتٍ أُخرى لِيُؤَكِّدَ الروابِطَ والعِلاقَةَ بِالاِِمامِ فَزَوَّجَهُ مِنْ ابْنَتِهِ اُمَّ حَبيبٍ.. وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ المَأْمُونُ كانَ مِنْ أَجْلِ إِقناعِ الاَُمَّةِ بِحُسْنِ القَصْدِ.. وَصِدقِ الاتّجَاهِ السِياسِيِّ الّذِي اخْتارَهُ وَاتّجَهَ إِلَيْهِ..

* * *

وَبَعْدَ كُلِّ هذا أَرادَ المأمونُ اَنْ يُمارِسَ الاِمامُ الرِضا عليه السلام عَمَلاً فِعْلِيّاً يَتَعَرَّفُ الناسُ مِنْ خِلالِهِ عَلى مُباشَرَةِ الاِمامِ عليه السلام لِبَعْضِ مَهامِّ الدَولَةِ.. فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَؤُمَّ الناسَ لِصَلاةِ عِيدِ الفِطْرِ الّذِي وَافَقَ بَعْدَ البَيْعَةِ بِفَتْرَةٍ قَليلَةٍ جَدّاً.. فَما كَانَ مِنَ الاِِمامِ عليه السلام إلاّ أنْ رَفَضَ طَلَبَ المَأْمُونِ.. وَلكِنْ بَعْدَ إِلحاحِ المَأْمُونِ وَإِصْرارِهِ.. وَجَدَ الاِمامُ عليه السلام نَفْسَهُ مُحرجاً.. فَقالَ للمأْمُونِ: ـ يا أميرَ المُؤمِنِينَ إِنْ أَعْفَيْتَنِي مِنْ ذلِكَ فَهَُو أَحَبُّ إِليَّ.. وإنْ لَمْ تَعْفِنِي خَرَجْتُ كَما كانَ يَخْرُجُ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم .. وَكَما خَرَجَ أَميرُ المؤمنينَ عَليٌّ بنُ أَبي طالبٍ عليه السلام ..

فَقَالَ المأْمُونُ : ـ اخْرُجْ كَما تُحِبُّ..

أَمَرَ المَأْمُونُ القُوّادَ والناسَ أَنْ يُبَكِّرُوا إِلى بابِ الاِِمامِ الرِضا عليه السلام .. فَجَلَسَ الناسُ فِي الطُرُقاتِ.. وَفَوقَ سُطُوحِ المَنازِلِ.. وَاجْتَمَعَ القوّادُ عَلى بابِ الاِِمامِ الرِضا عليه السلام .. إِلى أَنْ طَلَعَتِ الشَمْسُ.. فَقامَ الاِِمامُ عليه السلام وَاغْتَسَلَ..وَتَعَمَّمَ بِعِمامَةٍ بَيْضاءَ من القُطْنِ وَأَلقى طَرَفاً مِنْها عَلى صَدْرِهِ وَطَرَفاً عَلى كَتفَيْهِ.. ثُمَّ أَشارَ إِلى مَوالِيهِ قَائِلاً : ـ افْعَلُوا مِثْلِي..

وَخَرَجَ حافِياً بَيْنَ مَوالِيهِ بِهَيْئَةِ الخاشِعِ المُتَبَتِّلِ المُتَّجِهِ إِلى اللهِ سُبحانَهُ وَتَعالى بَعيداً عَنْ مَظاهِرِ الاَُبَّهَةِ وَالمُلْكِ والسُلْطانِ رافِعاً رَأْسَهُ إلى السَماءِ.. وَشَرَعَ يُكَبِّرُ : ـ اللهُ أَكْبَرُ.. اللهُ أَكبرُ.. اللهُ أَكْبَرُ والحَمْدُ للهِ عَلى ما هَدانا.. اللهُ أَكْبرُ عَلى مَا رَزَقَنا مِنْ بَهِيمَةِ الاََنعامِ.. والحَمْدُ للهِ عَلى مَا ابْتلانا..

وَرَفَعَ بِذلِكَ صَوْتَهُ.. فَرَفَعَ الناسُ أَصواتَهُمْ.. وَتَزَلْزَلَتْ مَرْوٌ مِنَ البُكاءِ وَالصِياحِ فَسَقَطَ القوّادُ عَنْ دَوابِّهِمْ.. ورَمَوا بِخِفافِهِمْ لَمّا نَظَرُوا إِلى الاِِمامِ الرِضا عليه السلام يَمْشِي وَيَقِفُ فِي كُلِّ عَشْرِ خُطواتٍ فَيُكَبِّرُ أَرْبَعَ مَرّاتٍ.. تَخَيَّلُوا أَنَّ السَماءَ والاََرْضَ وَالحِيطانَ تُجاوِبُهُ.. فَأَثارَ هذا المَوقِفُ مَخاوِفَ البِلاطِ وَأَرْكانِ السُلْطَةِ.. وتَجَسَّدَتْ أَمامَهُمْ بِدايةُ تَمرْكُزِ شَخْصِيَّةِ الاِِمامِ الرِضا عليه السلام وتَأَلُّقُ نَجْمِهِ السِياسِيِّ فَوَقَعَ هذا مَوقِعَ الرَهْبَةِ فِي قَلْبِ الفَضْلِ بنِ سَهْلٍ مِمّا جَعَلَهُ يُسْرِعُ لاهِثاً إِلى المأمونِ : ـ ياأَمِيرَ المُؤْمِنِينَ اذا بَلَغَ الرِضا المُصلّى على هذا السَبِيلِ افتَتَنَ بِهِ الناسُ.. فَرأْيِي أَنْ تَسْأَلَهُ الرُجُوعَ..

تَصاعَدَتْ حِمَمُ البُركانِ.. وَراحَ يَتفاقَمُ غَلَيانُها مِمّا جَعَلَ المأمونَ يَزْفُرُ زَفراتٍ سَرعانَ مَا راحَتْ تَتَجَمَّعُ فَتُشَكِّلُ سَحابَةً سَوداءَ مُثْقَلَةً بِحِمَمٍ مَسْمُومَةٍ.. وَساعتُها لَمْ يَجدْ أَمامَهُ إلاّ أَنْ يَعمَلَ بِرأْيِ وَزِيرِهِ وَمُسْتَشارِهِ الفَضْلِ بنِ سَهلٍ.. فَأَرْسَلَ خَلْفَ الاِِمامِ الرِضا عليه السلام مَنْ يَعودُ بِهِ إِلى بَيْتِهِ.. وَهُوَ يُفَكِّرُ فِي أمرٍ قَدْ عَزَمَ عَلى تَنْفِيذِهِ..

* * *

وَأَخِيراً أَيَّتُها السَحابةُ السوداءُ... كَيْفَ بِكِ الآنَ وَقَدْ أَمطَرْتِ حِمَمَكِ المَسْمُومَةَ... ؟! قصة حول حياة الإمام علي بن موسى عليهما السلام

ـ وَلكِنْ هَلْ تَعْتَقِدِينَ أَنَّ أَحداً لاَ يَعْلَمُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ نَزَلَتْ تِلكَ الحِمَمُ المَسْمُومةُ.. ؟! إِنّكِ تَتوهّمِينَ ما تَعْتَقِدِينَ أَيَّتُها السَحابَةُ السَوداءُ.. فَهاهُمُ الناسُ يَتَجَمْهَرُونَ صارِخِينَ بِأَعْلى أَصواتِهِمْ : ـ إنَّ المأمونَ قَدْ قَتَلَ عليّاً بنَ مُوسى الرِضا عليه السلام ..

كانَ ذلِكَ فِي آخِرِ شَهْرِ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثَلاثٍ وَمائَتَينِ.. وَقَدْ كانَ لَهُ مِنَ العُمْرِ خَمْسٌ وخمسونَ سَنَةً..