جواب الشبهات الوارده حول الامام المهدي عج

فرية تفتّقت عنها عقولٌ شطّت عن الهدى

البريد الإلكتروني طباعة

وهذه نغمة الأوّلين ، ترددها ببغاوات الآخرين ، ويزيدها كلٌّ من عنده ما يشاء ، وجميعه بهتان وافتراء.

وهذا افتراء عظيم ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَ‌ىٰ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( الصف/ 7 ).

إن ابن قيم الجوزية ( الإمام العلامة! ) ما ذكر ذلك في كتابه ( النفيس! ) إلاّ تبعاً لشيخه ابن تيمية الذي سبقه إلى هذه الفرية ، فقال في كتابه منهاج السنة ( ج1/ 12 ط بولاق سنة 1321 ط 1 مطبعة الرياض و ص 28 ، ط محمد رشاد سالم ) ننقل منها ما يأتي ، ( ومن حماقتهم أيضاً أنهم يجعلون للمنتظر عدّة مشاهد ينتظرونه فيها ، كالسرداب الذي بسامراء الذي يزعمون أنه غائب فيه ، ومشاهد أُخر ، وقد يقيمون هناك دابّة ـ إمّا بغلة وإمّا فَرَساًً وإمّا غير ذلك ـ ليركبها إذا خرج ، ويُقيمون هناك ـ إما في طرفي النهار وإما في أوقات أُخر ـ من ينادي عليه بالخروج : يا مولانا اخرج يا مولانا اخرج. ويُشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم. وفيهم من يقوم في أوقات الصلاة دائماً لا يصلّي خشية أن يخرج وهو في الصلاة فيشتغل بها عن خروجه وخدمته ، وهم في أماكن بعيدة عن مشهده كمدينة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، إما في العشر الأواخر من شهر رمضان وإما في غير ذلك ، يتوجهون الى المشرق وينادونه بأصوات عالية يطلبون خروجه. ومن المعلوم أنه لو كان موجوداً وقد أمره الله بالخروج ، فإنه يخرج ، سواء نادوه أو لم ينادوه ، وإن لم يؤذن له فهو لا يقبل منهم ، وأنه إذا خرج فإن الله يؤيده ويأتيه بما يركبه وبمن يعينه وينصره ، لا يحتاج أن يوقف له دائماً من الآدميين من ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، والله سبحانه وتعالى قد عاب في كتابه من يدعو من لا يستجيب له دعاءه ، فقال تعالى : ( ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَ‌بُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ‌ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ‌ونَ بِشِرْ‌كِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‌ ) ( سورة فاطر : 13ـ 14 ) هذا مع أن الاصنام موجودة ، وكان يكون بها أحياناً شياطين تتراءى لهم وتخاطبهم ، ومن خاطب معدوماً كانت حالته أسوأ من حال من خاطب موجوداً وإن كان جماداً ، فمن دعا المنتظر الذي لم يخلقه الله كان ضلاله أعظم من ضلال هؤلاء.

وإذا قال : أنا اعتقد وجوده كان بمنزلة قول أولئك : نحن نعتقد أن هذه الأصنام لها شفاعة عند الله ، فيعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( منهاج السنة 28 ـ 30 ) 1هـ.

وما كان ابن قيم الجوزية وحده الذي تبع ابن تيمية في مقاله وضلاله في افترائه ، بل هناك الذهبي أيضاً في المنتقى من منهاج الإعتدال كما مرّ ، ولهم أشباه وأشياع جعلوا من الفرية لحد الشياع. وعلى ما أسس الأولون بنى التالون صروح أوهامهم ، فابن خلدون وابن بطوطة والقرماني وأشباههم روّجوا المعزوفة المعروفة ( غاب في السرداب وأمّه تنظر إليه وهم ينتظرونه ويقومون على بابه وينادونه ـ ومعهم بغلة أو فرساً ـ أو حمارـ : أُخرج الينا يا مولانا... ) ومن المضحك المبكي ـ وشر البلية ما يضحك ـ وأشنع الكذب ما يبكي ـ أنّ المفترين ذهب كلٌّ إلى بلد فيه الشيعة فبهتهم ببُهتانه ، فابن بطوطة جعل السرداب مسجداً في الحلة ، والقرماني نقل السرداب إلى بغداد ، والآخرون قالوا في سامراء ، ومن أتى بعدهم وعرف شناعة بهتانهم أطلق السرداب ولم يعيّن له مكاناً ، وهكذا راجت تلك الأكاذيب ، في حين بين ظهرانيهم يعيش الشيعة ، وبين أيديهم تراثهم ، فلا هم يمارسون ما بُهتوا به من الوقوف كلّ ليلة ، ولا ورد في شيء من كتبهم في الغيبة ما يثبت زعم المفتري. والأنكى من كلّ ذلك أن نجد من المحدّثين من يزعم لنفسه التخصّص في تحقيق نقد الحديث يذكر ذلك في كتابه عن عمد ثم لا يعلّق عليه بشيء ، مع أنه عاش سنين في العراق وعاشر الشيعة وزار بعض علمائهم ، وكلّ ما في الأمر في حقيقة السرداب ، أنه مكان محفور في الأرض ليقي أهل الدار من لفح الهجير وشدّة الحر في الصيف ، كما كان متعارفاً في ذلك الزمان وحتى اليوم في البلاد الحارة. وإنّما يحترم الشيعة ذلك السرداب لأنه تشرّف ـ وشرف المكان بالمكين ـ بثلاثة من الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ، فكان مأواهم من حرارة القيظ ، وقد صلّوا فيه ، ولهم فيه محراب لا يزال أثره حتى اليوم ، وقد شيّده الناصر لدين الله العباسي الخليفة العباسي كما سيأتي بيانه ، والآن نذكر شيئا عن السرداب ومراحل تعميره ، لنعرف حقيقة اعتقاد الإمامية الاثني عشرية فيه.

قال الشيخ المحلاتي في كتابه مآثر الكبراء في تاريخ سامراء ج1/ 246 ط الحيدرية : ( العمارة الثالثة ) عمارة الملك... احمد بن بويه... معز الدولة... وكانت العمارة سنة 337... وعمّر القبة وكان في السرداب حوض يجري فيه الماء فأمر باملاء الحوض من التراب...

وقال في ج1/ 285 : العمارة السابعة للإمام الناصر العباسي... وذكر ما نظمه المرحوم العلاّمة السماوي في وشايح السراء مشيراً إلى عمارة أحمد الناصر الذي كان في سنة / 606 :

ثمّ أتاها الناصر العباسي ** بفيض جود وضـرام باس

فــعمّر القبة والمآذنا ** وزاد في تشييدها المحاسـنا

وزيّن الروض بما قد ابتهج ** وعقد السرداب في صنع الأزج

ومنع الحوض بذاك الروض ** أن يأخذ امرؤ تراب الحوض

وزبر الأئمة الاثني عشر ** على نطاق العقد فيما قد زبر

على يد الشريف بدر البعد ** معـد فتى محمـد بن معد

وجعـل الألواح فيه منبئه ** عن وقته في الست والستمئة

فنظروا ما قد زها في الدائر ** وأرّخوا ( صبح سعد الناصر )

ثم ذكر الشيخ المحلاتي صفة بناء سرداب الغيبة فقال : ليس اشتهار هذا السرداب بسرداب الغيبة لأن الحجّة ( عليه السلام ) غاب فيه ـ كما زعمه من يجهل التاريخ ـ بل لأن بعض الأولياء تشرّف بخدمته ( عليه السلام )... وحيث أنه مبيت الثلاثة من الأئمة ( عليهم السلام ) ومعبدهم في طول المدة ، وحظي فيه عدة من الصلحاء بلقاء الحجة ( عليه السلام ) صار من البقاع المتبركة... ثم ذكر ما جرى على السرداب من تعميرٍ وتطوير لسنا بصدده.

كما ذكر عمارة الناصر بتفصيل الحجّة المحدّث الشيخ النوري قدّس سره في كتابه كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار الذي هو ردّ على قصيدة وردت من بغداد يقول صاحبها في أوّلها :

أيا علماء العصر يا من لهم خبرُ بكلّ دقيقٍ حار من دونه الفِكرُ

وقد ردّ على القصيدة نظماً من أعلام العصر يومئذ : الشيخ محمد الجواد البلاغي ، والسيد محسن الأمين والشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء ، وقصيدة كاشف الغطاء يمكن أن يقال فيها أنها نظم لما كتبه شيخه المحدّث النوري في كشف الأستار ، وقد طبعت ملحقة بالكتاب طبعة سنة 1318 هـ.

فقال الشيخ المحدث النوري في صفحة 42 من كتابه : ( التاسع عشر ) الناصر لدين الله احمد بن المستضيء بنور الله من خلفاء العباسية ، وهو الذي أمر بعمارة السرداب الشريف ، وجعل الصفة التي فيه شبّاكاً من خشب ساج منقوش عليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودّة في القُربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور ، هــذا ما أمر بعمله سيدنا ومولانا الإمام المفترض الطاعة على جميع الأنام أبو العباس أحمد الناصر لدين الله امير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين الذي طبّق البلاد إحسانه وعدله ، وعمّ البلاد رأفته وفضله ، قرّب الله أوامره الشريفة باستمرار النجح والنشر ، وناطها بالتأييد والنصر ، وجعل لأيامه المخلدة حداً لا يكبو جواده ، ولآرائه الممجدة سعداً لا يخبو زناده ، في عزّ تخضع له الأقدار فيطيعه عوامها ، وملك خشع له الملوك فيملكه نواصيها ، يتولى المملوك معد بن الحسين بن معد موسوي الذي يرجو الحياة في أيامه المخلّدة ، ويتمنى انفاق عمره في الدعاء لدولته المؤبدة ، استجاب الله أدعيته ، وبلّغه في أيامه الشريفة أمنيته ، من سنة ست وستمائة الهلالية ، وحسبنا الله ونِعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطاهرين وعترته وسلم تسليماً ).

ونقش أيضاً في الخشب الساج داخل الصفة في دائر الحائط :

( بسم الله الرحمن الرحيم محمد رسول الله ، أمير المؤمنين علي ولي الله ، فاطمة ، الحسن بن علي ، الحسين بن علي ، علي بن الحسين ، محمد بن علي ، جعفر بن محمد ، موسى بن جعفر ، علي بن موسى ، محمد بن علي ، علي بن محمد ، الحسن بن علي ، القائم بالحق (عليهم السلام) ، هذا عمل علي بن محمد ولي آل محمد رحمه الله ).

ثم قال الشيخ المحدث النوري قدس سره : ولولا اعتقاد الناصر بانتساب السرداب إلى المهدي ( عليه السلام ) بكونه محلّ ولادته أو موضع غيبته أو مقام بروز كرامته ـ لا مكان إقامته في طول غيبته كما نسبه بعضُ من لا خبرة له إلى الإمامية ، وليس في كتبهم قديماً وحديثاً منه أثر أصلاً ـ لما أمر بعمارته وتزيينه ، ولو كانت كلمات عصره متّفقة على نفيه وعدم ولادته لكان إقدامه عليه بحسب العادة صعباً أو ممتنعاً ، فلا محالة فيهم من وافقه في معتقده الموافق لمعتقد جملة ممن سبقت إليهم الإشارة (1) وهو المطلوب. وإنّما أدخلنا الناصر في سلك هؤلاء لامتيازه عن أقرانه بالفضل والعلم ، وعداده من المحدّثين ، فقد روى عنه ابن سكينة وابن الأخضر وابن النجار وابن الدامغاني.

ويحسن بنا أن نقف وقفة تحقيق حول مزاعم ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يقم الأفاكون عليها من برهان. وتلك أكذوبة السرداب ، فمنهم من زعم غيبة الإمام المهدي ( عليه السلام ) فيه وأمه تنظر إليه ، ومنهم من زعم إقامته مدة غيبته فيه ، ومنهم من زعم أنّ خروجه منه ، ونسبوا في ذلك إلى الشيعة افتراءات عجيبة غريبة ، مع أن الشيعة يُنكرون جميع ذلك جملة وتفصيلاً ، وتحدّوا جميع الطاعنين أن يأتوا على زعمهم ببرهان يبرز مزاعمهم فلم يأتوا بشيء.

وإذا بحثنا أخبارهم نجدها متناقضة ، وذلك أن السرداب إنما هو في بيت الإمام في سامراء ، وقد غاب عن السلطة وأزلامها في سنة 265 ، ولم يقل أحد من الشيعة أنه غاب في السرداب ، لكن أول من نبز الشيعة بذلك هو ياقوت الحموي ( ت 626 ) فيما أعلم ، فقد ذكره في كتابه معجم البلدان في ( سامراء ) فقال بعد ذكره درجتها في خط العرض والطول : ( وبها السرداب المعروف في جامعها الذي تزعم الشيعة أنّ مهديهم يخرج منه... ثم قال : وخربت ـ سامراء ـ فلم يبق منها إلاّ موضع المشهد الذي تزعم الشيعة أنّ به سرداب القائم المهدي... ).

ونحن نجد فحوى ما ذكره ياقوت عند معاصره ابن الأثير المتوفّى سنة 630 ، فقد قال في الكامل في التاريخ حوادث سنة ( 260 ) : وفيها توفّي أبو محمد العلوي العسكري... وهو والد محمد الذي يعتقدونه ـ الإمامية ـ المنتظر بسرداب سامراء... ).

وبعد نصف قرن تقريباً نجد ذكر السرداب عند ابن خلكان المتوفّى سنة 680 ، فقال في ترجمة الإمام المهدي ( عليه السلام ) في وفيات الأعيان ج 4/ 562 تحقيق إحسان عباس : وهو الذي تزعم الشيعة أنه المنتظر والقائم والمهدي ، وهو صاحب السرداب عندهم وأقاويلهم فيه كثيرة ، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان من السرداب بسرّ من رأى ، كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين ، ولمّا توفي أبوه ـ وقد سبق ذكره ـ كان عمره خمس سنين ، واسم أمه خمط ، وقيل نرجس ، والشيعة يقولون : إنه دخل السرداب في دار أبيه وأمه تنظر إليه ، فلم يعد يخرج إليها ، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين وعمره يومئذ تسع سنين ـ ثم ذكر عن ابن الأزرق في تاريخ ميافارقين أن الحجة المذكور وُلد تاسع شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين ، وقيل في ثامن شعبان سنة ست وخمسين وهو الأصحّ ، وأنه لما دخل السرداب كان عمره أربع سنين ، وقيل خمس سنين ، وقيل أنه دخل السرداب سنة خمس وسبعين ومائتين وعمره سبع عشرة ، سنة والله أعلم أيّ ذلك كان ، رحمه الله تعالى.

فنقول : أين كان خبر السرداب قبل ياقوت المتوفى سنة 626 وابن الأثير المتوفى سنة 630 وابن خلكان المتوفى سنة 680 ؟ وهؤلاء جميعاً كان غمزهم ولمزهم على استحياء ، إلا أن زكريا بن محمد بن محمود القزويني المتوفّى سنة 684 أتى في كتابه ( آثار البلاد وأخبار العباد ) بعجيبة العجائب ، فقال في ص 386 : ( وفي جامعها ـ سامراء ـ السرداب المعروف الذي تزعم الشيعة أنّ مهديهم يخرج منه ، لأنهم زعموا أن محمد بن الحسن دخل فيه ، وكان على باب هذا السرداب فرس أصفر ، سرجه ولجامه من ذهب ، إلى زمن السلطان سنجر بن ملكشاه جاء يوم الجمعة الى الصلاة فقال : هذا الفرس ههنا لأي شيء ؟ فقالوا : ليخرج من هذا الموضع خير الناس يركبه ، فقال : ليس يخرج منه خير مني ، وركبه. زعموا أنه ما كان مباركاً لأن الغز غلبته وزال مُلكه ) إهـ.

ومن هنا فيما يبدو بدأت التخرصات والأكاذيب وتطوّرت ـ كما سيأتي بيان ذلك ، غير أني أودّ لفت نظر القارئ إلى كذب ما ذكره القزويني صاحب هذه الأكذوبة ، فقد غمز الشيعة في كذبه عليهم ( أولاً ) بأن مهديهم يخرج من السرداب المعروف كما وصفه ( ثانياً ) بهتهم بزعمه أن محمد بن الحسن دخل فيه ، ( وثالثاً ) بقوله : كان على باب هذا السرداب فرس أصفر... إلى زمن السلطان سنجر... فلنسأل من القزويني المتوفّى سنة 682 الذي أورد الخبر وبين زمانه وزمان السلطان سنجر المتوفّى سنة 552 أكثر من مائة وثلاثين سنة ، فمن روى له ذلك ؟ وفي أي مصدر رآه فرواه ؟ ألا فكّر وتدبّر ما بال هذا الفرس قائماً لا يزال ولا يزول! ، فلا يروث ولا يبول! ولا يأكل ولا يشرب! ، حتّى لو ظنّه ناقة صالح فيما يحسب ، فقد كان لها شرب يوم معلوم ، ولكنّه الخيال الموهوم ، والعِداء المحموم ، يولدان الغفلة فيوقعان الزلّة ، لو لم تكن في نفسه علّة ، لماذا لم يذكر لنا مبدء إيقاف الفرس ، وبحسب سياق كلامه أنه كان منذ زمن كذلك حتى زمان السلطان سنجر ، وهذا توفي سنة 552 ( كما في تاريخ ابن الأثير 11/ 12 ط بولاق ) فمن أتى به وأوقفه ؟ ومنذ كم جيء به ؟ وظل واقفاً إلى زمن السلطان سنجر؟ جواب جميع ذلك في جراب الأفّاكين ، وأظهر ما يستبطن كذب خبر القزويني ما ذكره : أن السلطان جاء يوم الجمعة الى الصلاة ، فسأل عن شأن الفرس ، فإذا كان الفرس واقفاً بباب السرداب ، وهو ليس بجامع تقام فيه الجمعة ؟ بل أن الجامع الذي تقام فيه الصلاة هو الذي لا تزال آثاره باقية حتى اليوم ، ومأذنته ( الملوية ) وبين هذا الجامع وموقع السرداب عدّة كيلومترات ، فأين مكان الصلاة من مكان الفرس ؟ وظاهر الخبر أنه صلّى الجمعة في السرداب وخرج وقال : ليس يخرج خير منّي وركبه ، ويبدو أن سنّة التطور في الحياة جرت حتى في أعاجيب الأكاذيب ، فما انقضى القرن السابع الذي ضمّ من ذكرناهم آنفاً حتّى طالعنا القرن الثامن بأفانين جديدة ، فبدأها ابن تيمية المتوفّى سنة 728 ، فقال في كتابه منهاج السنة ما مرّ ذكره وعليه وزره. فلم يكتفِ بسرداب سامراء حتى ضم إليه مشاهد أُخر ، ولأن ذهب سنجر بالفرس الذي ذكره القزويني فإن ابن تيمية جعل مكانها دابة إما بغلة وإما فرساً وإمّا غير ذلك ، وبدأ من نسج خياله وخباله ما لم يسبقه إليه أحد ، فوسّع الآفاق في التلفيق حتى في الزمان ، فذكر العشر الأواخر من شهر رمضان ، وفي المكان ذكر مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا تبارى علماء التزوير في النصوص من بعده ، فجاء تلميذه ابن قيم الجوزية والذهبي وأبو الفداء وابن كثير ، فصاروا يهرفون بما يخرفون ، وتلك بلية ما فوقها بلية ، ومن يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة ، ومن اللافت للنظر أن بداية فرية السرداب دخولاً فيه وانتظاراً لمن فيه وخروجاً منه كانت في القرن السابع منذ ياقوت الحموي.

وكلّما تمادى الزمان تبارى أصحاب البهتان في بهت الشيعة في مسألة السرداب ، وخُذ مثالاً على ذلك كتاب معجم البلدان لياقوت المتوفى سنة 626 فقد اختصره صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 739 وسمى كتابه ( مراصد الاطّلاع ) فقال ( في ص 685 تحقيق البجاوي ) :

ولها ـ سامراء ـ أخبار طويلة ، والباقي منها الآن موضع كان يسمى بالعسكر ، كان منه علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر ، وابنه الحسن بن علي وهما المعسكران ـ العسكريّان صح ـ يسكنان به فنُسبا إليه ، وبه دُفنا ، وعليهما مشهد يزار فيه ، وفي هذا المشهد سرداب تزعم الرافضة أنه كان للحسن بن علي الذي ذكرناه ابنٌ اسمه محمد صغير غاب في ذلك السرداب وهم الآن ينتظرونه ) فلو أردنا مقارنة هذا المختصر ـ مراصد الاطلاع ـ مع الأصل ـ معجم البلدان ـ فكم نرى الزيادة والتحوير ، ولا بدع فالرجل حنبلي وهو ليس دون ياقوت الذي عُرف بنُصبه ، ثم تدرجت التُهم تتعاظم حتّى وصلت الى ابن بطوطة المتوفّى سنة ( 779 ) ، الذي زعم رواية رؤيةٍ له في بلاد الحلة فقال في رحلته ( ط دار صادر ) يصف الحلة : ( وبمقربة من السوق الأعظم بهذه المدينة مسجد على بابه ستر حرير مسدول ، وهم يسمّونه مشهد صاحب الزمان ، ومن عاداتهم أن يخرج في كلّ ليلة مائة رجل من أهل المدينة عليهم السلاح وبأيديهم سيوف مشهورة ، فيأتون أمير المدينة بعد صلاة العصر يأخذون منه فرساً مسرجاً ملجماً أو بغلة كذلك ، يضربون الطبول والأنفار والبوقات أمام تلك الدابة ، ويتقدّمها خمسون منهم ، ويتبعها مثلهم ، ويمشي آخرون عن يمينها وشمالها ، ويأتون مشهد صاحب الزمان فيقفون بالباب ويقولون : باسم الله يا صاحب الزمان ، باسم الله أُخرج قد ظهر الفساد وكثر الظلم ، وهذا أوان خروجك ، فيفرق الله بك بين الحق والباطل ، ولا يزالون كذلك ، وهم يضربون الأبواق والأطبال والأنفار إلى صلاة المغرب ، وهم يقولون إن محمد بن الحسن دخل ذلك المسجد وغاب فيه ، وانّه سيخرج ، وهو الإمام المنتظر عندهم ) فهذا الهراء كذب بلا مراء ، فإن تاريخ الحلة في تلك الفترة كان حافلاً بأعلام عظام كالمقداد السيوري المتوفّى سنة 826 ، والحافظ رجب البرسي والشيخ أحمد بن فهد الحلي وأضرابهم ، فهل يعقل ويقبل أن يجري ما ذكره ابن بطوطة بتفاصيله غير المضبوطة ولا يُنكره أحد منهم ؟ وأحسب أن ما ذكره هو من إفرازات ما كان في أيام تولّي صدارة الحلة صفي الدين بن حمزة بن محاسن العكرشي من ظهور المتمهدي في سواد الحلة وادّعى أنه صاحب الزمان ، وذلك في شهر رمضان سنة ( 683 ) ويدعى بأبي صالح. فاستغوى البسطاء من الناس ـ وقد ذكر خبره في الحوادث الجامعة/ 440 إلى أن قال ( فقتل أبو صالح وجماعة من أصحابه وقُطعت رؤوسهم وحُملت الى بغداد وعلّقت هناك ). (2)

ومن المفيد أن نعود إلى ذكر السرداب فنقول : إن ابن حوقل المتوفّى بعد ( 367 ) ـ وقيل ( 380 ) ـ قال في كتابه صورة الأرض القسم الأول ص 243 ط ليدن : ومدينة سرّ من رأى وقتنا هذا مختلّة ، وأعمالها وضياعها مضمحلة ، قد تجمّع أهل كل ناحية منها إلى مكان لهم به مسجد جامع ، وحاكم ، وناظر في أمورهم... ) ولم يبعد معاصره البشاري المقدسي المتوفّى نحو ( 380 ) عن وصفه ، حيث قال : سامراء... والآن قد خربت ، يسير الرجل الميلين والثلاثة لا يرى عمارة.. ) غير أنه زاد عليه قوله : وكان ـ المتوكّل ـ قد بنى ثمّ كعبةً وجعل طوافاً واتّخذ منى وعرفات غَرَّ به امراء كانوا معه لما طلبوا الحجّ خشية أن يفارقوه ، فلما خربت وصارت إلى ما ذكرنا سُمّيت ساء من رأى ، ثم اختُصرت فقيل سامراء ). (3)

وبقيت سامراء عموماً على خرابها حتّى مر بها ابن جبير المتوفى سنة 614 ، فقال في رحلته / 210 ، ط اوربا : ( سر من رأى ) وهي اليوم عبرة لمن رأى ، أين معتصمها وواثقها ومتوكلها ،مدينة كبيرة استولى الخراب عليها إلا بعض جهات منها هي اليوم معمورة ، وقد أطنب المسعودي في وصفها... )

فهؤلاء لم يذكروا عن السرداب شيئاً ، إذ لا يعنيهم أمره ، غير أن ابا العباس أحمد بن يوسف بن أحمد الدمشقي الشهير بالقرماني المتوفى سنة 1019 هـ خبط خبطَ عشواء في ذلك ، فنقل السرداب إلى بغداد ، فقال في حديثه في ص 117 ط حجرية ، بغداد : ( الفصل الحادي عشر في ذكر الخلف الصالح الإمام أبي القاسم محمد بن حسن العسكري رضي الله عنه ) ، وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين آتاه الله فيها الحكمة كما أوتيها يحيى صبياً ، وكان مربوع القامة ، وكان حسن الوجه والشعر ، أقنى الأنف ، أجلى الجبهة ، وزعم الشيعة أنه غاب في السرداب ببغداد والحرس عليه سنة ست وستين ومائتين ، وأنه صاحب السيف القائم المنتظر قبل قيام الساعة ، وله قبل قيامه غيبتان إحداهما أطول من الأخرى ، فأما القصرى منذ ولادته إلى انقطاع السفارة بينه وبين الشيعة ، وأما الطولى فهي التي بعد الأولى وفي آخرها يقوم بالسيف.

وكان من عادة الشيعة ببغداد أن في كل جمعة يأتون بفرس مشدودة ويقفون على باب السرداب ويدعون باسم المهدي ، واستمروا على هذا الحال إلى آن آل الأمر للسلطان سليمان خان من بني عثمان واستولى على مدينة بغداد وأبطل تلك العادة... ).

أتريد خبطاً فوق هذا وغلطاً مثل هذا؟ فهذه فرية السرداب التي مُني بها الشيعة من كلّ مُفترٍ كذاب.

فتخلص من كل ما سبق نقله ، أن أول من ذكر السرداب وبهت الشيعة بغمز ولمز ، هو :

1ـ ياقوت الحموي المتوفى سنة 626 في معجم البلدان في ذكره ( سامراء )... فقال : وخربت حتى لم يبق منها إلا موضع المشهد الذي تزعم الشيعة أن به سرداب القائم المهدي... ) ثم جاء على إثره.

2ـ ابن الأثير المتوفى سنة 630 في تاريخه الكامل فقال ـ غمزاً على استحياء ـ : وفيها ـ يعني سنة 260 ـ توفّي أبو محمد العلوي العسكري... وهو والد محمد الذي يعتقدونه ـ يعني الإمامية ـ المنتظر بسرداب سامراء... )

ثم ارتفع الحياء ، وكثر الافتراء ، فجاء.

3ـ ابن خلكان المتوفى سنة 681 فذكر الإمام المهدي في تاريخه ( ج4/ 176 تحقيق احسان عباس ) فقال في ترجمته :

( وهو صاحب السرداب عندهم ، وأقاويلهم فيه كثيرة ، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان من السرداب بسر من رأى... والشيعة يقولون أنه دخل السرداب في دار أبيه وأمه تنظر إليه فلم يعد يخرج إليها... )

وعلى هذا النحو سار وزاد في المسار.

4ـ زكريا المتوفى سنة 682 في آثار البلاد وأخبار العباد صفحة 386 ط دار صادر ، وقد مر ذكر ما عنده من وقوف الشيعة وخبر الفرس إلى آخر ما مرّ.

وتطورت الفرية على مرور الزمان فكان.

1ـ ابن تيمية المتوفى سنة 728 ، ومن بعده تلميذه.

2ـ ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751.

3ـ ثم الذهبي المتوفى سنة 748.

4ـ وابن كثير المتوفى سنة 774.

5ـ ابن حجر المكي : المتوفى سنة 974 في الصواعق المحرقة/ 100 ط الميمنية.

6ـ القرماني المتوفى سنة 1019 في تاريخه / 117 ط حجرية ببغداد.

وعلى نهج من تقدم سار من تأخّر ، مثل.

7ـ السويدي المتوفى سنة 44 ـ 1246 في سبائك الذهب / 78 ط حجرية ببغداد.

وتتايع القوم في الإفتراء ـ والتتايع بالياء هو التتابع في الشر ـ نعوذ بالله من شرّ ما يعمل الظالمون.

وختاماً نذكر للقراء ما قاله علماء الشيعة في براءتهم ممّا يُفترى عليهم ، وأحسب أول من ردّ على الفرية هو علي بن عيسى الأربلي المتوفى سنة 687 ، فقال في كتابه كشف الغمة ( ج3/ 283 ) : والذين يقولون بوجوده لا يقولون إنه في سرداب ، بل يقولون انه موجود يحلّ ويرتحل ويطوف في الأرض...

وأخيراً لا آخراً كان المحدث النوري المتوفى سنة 1320 قال في كتابه كشف الاستار / 179 ط حجرية سنة 1318 هـ رداً على الفرية :

هذه كتب الإمامية من قدمائهم ومتأخّريهم ، وأكابرهم وأصاغرهم ، من مطوّلاتها ومختصراتها ، عربيها وعجميها ، موجودة ، وكثيرة منها مطبوعة شايعة ، نبئونا في أيّ كتاب يوجد هذا المطلب ، ومن ذكر أنه ( عليه السلام ) يخرج من السرداب.

ونحن كلّما تفحصنا لم نجد للسرداب ذكراً في أحاديثهم إلاّ في موضع نادر أشرنا إليه ، فضلاً عن كونه برجاً يطلع منه هذا البدر ، بل الموجود في أحاديثهم الكثيرة المعتبرة عندهم ، أن هذا البدر المنير يطلع من المطلع الذي طلعت منه الشمس البازغة : جده العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو مكّة المشرفة... ثم ساق جملة من الأحاديث الدالّة على ذلك ، وختمها بقوله :

إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى ، ولا يوجد في تمام الأحاديث المتعلقة بهذا الباب ما يعارضها ، ولا في كلام أحد من العلماء ما يخالفها ، فإلى الله المشتكى ، وإليه نستعدي من هذا الافتراء فعنده العدوى. (4)

_______________________

(1) لقد ذكر المحدث النوري في كتابه جملة من علماء العامة المعترفين بولادة الحجة المهدي ( عليه السلام ) فهو يشير إليهم.

(2) كما لا استبعد أن يكون المسجد المشار إليه ربما كان مقام صاحب الزمان الذي زاره في سنة 961 أمير قبطانية مصر سيد علي رئيس ( تاريخ الحلة ج1 ص 115 كركوش ) وثمة مدرسة باسم صاحب الزمان قد اندثرت ، وقد كتب بها الاخوان جعفر والحسين ابنا محمد كتاب قواعد الاحكام للعلامة الحلي كتب كل منهما مجلداً في سنة ( 676 ) وصححاه ، على نسخة صحيحة في مدرسة صاحب الزمان بالحلة ، والنسخة لا تزال موجودة في مكتبة غرب... بهمدان برقم ( 927 ) كما كتب بها المختصر النافع للمحقق الحلي في يوم الخميس 16 ربيع الأول سنة 957 بمدرسة صاحب الزمان بالحلة ، والنسخة في مكتبة عبد المجيد مولوي الشخصية بخراسان.

وقد فات مؤلف تاريخ الحلة كركوش ذكر هذه المدرسة ، فذكرتها في هامش نسختي ج1/ 96 عند ذكر كركوش كلام ابن بطوطة ، ومهما يكن فلم اقف على ما ذكره ابن بطوطة عند غيره ممن ذكر الحلة من قبل ومن بعد ، وهذا دليل ضعف الخبر ولو كان له أثر لاشتهر.

(3) احسن التقاسيم/ 122 ط ليدن.

(4) وللمطارفة أذكر للقارئ ما قرأته في كتاب حاضر العالم الإسلامي للأمير شكيب أرسلان ( ج2/ 195 ) قال : روى هوادت الفرنساوي صاحب تاريخ العرب أن انكليزيا ورد ( بيت المقدس ) وأقام بالوادي الذي يقال له انه ستكون به الدينونة وشرع كل صباح يقرع الطبل منتظراً لحشره.

وسمعت أن امرأة انكليزية ـ فيما أظن ـ جاءت ( القدس ) وكانت تغلي الشاي كل يوم لأجل أن تقدمه للسيد المسيح ساعة وصوله...

وحدّث ( لا مرتين ) الشاعر الفرنسوي في رحلته ( جبل لبنان ) انه زار في قرية ( جون ) السيد استير ستا نوب ابنة أخ الوزير الانكليزي الشهير فرأى عندما فرساً مسرجاً دائما ليكون ركوبه للسيد المسيح عند وصوله.

( أقول ) فيا هل ترى سخرية من الراوي ـ وهو مسيحي ـ من أولئك النفر وهم من أتباع السيد المسيح مثلهم ؟

مقاله في فرية السرداب

 

الفكرةالمهدوية تعيش بين أزمتين،أزمة الخرافةو...

البريد الإلكتروني طباعة


أزمة الفكرة المهدوية:

الظاهرة الدينية بما فيها الفكرة المهدوية تعيش بين أزمتين، أزمة الخرافة والتسويق للغيب المطلق المنفلت، وأزمة رفض عالم ما وراء الطبيعة. فقضيّة الجنّ مثلاً، والملك، والشيطان، فسّرت في الأوساط الدينية للمتحمّسين الجهّال على أساس الخرافة، وحماقة البشر، وساقت الناس إلى التلاعب بالعقول، وانتهاز السذّج، وتهديم المعارف العلمية، وتحصيل المكاسب المالية والسياسية، كقصَّة قتيل الجنّ، وتسخير الجنّ، وإخباراته، وتصرّفاته الوسيعة في عالمنا، وبين تفسير الظاهرة الدينية على أساس القوانين الحسّية الصرفة، فرفضت أصل فكرة الجنّ وألبستها لباساً علمياً جديداً تحت عنوان الظواهر المادية غير المرتقبة في الذهن، كما لو فسَّرنا سقوط التفاحة من الشجرة على أنَّ الجنَّ أسقطها، إلى أن ظهرت نظرية الجاذبية الأرضية، أو تفسير تسوّس الأسنان بمكث الجنّ فيها، إلى أن اكتشفت الجراثيم ونحوها، كما ورد ذلك في تفسير المنار.

وهكذا عاشت القضيّة المهدوية ظاهرة الخرافة، فكراً وسلوكاً، عمداً وجهلاً، واستغلَّت لمقاصد سياسية، أو ذاتية غير موضوعية، تحرّكها الأحاسيس الجماهيرية، وتخلق لها القصص، فصارت مكسباً لتحصيل القداسة، والوجاهة للمفلَّسين، وسعت إلى تعطيل العلوم، والتخصّصات، أو حلَّت محلّ العِدل والبديل، فاستغلَّت الفكرة الخلابة لتسويق البشر إلى مطحنة الجهل، وقلبت المفاهيم الواقعية والحقّة، فغالت في الغيب، ورمته في أحضان الخرافة، وأغلقت الميزان، والعلم، وحملت الناس على السلوك إلى الغيب المطلق، بعيداً عن الأسباب الطبيعية، والتكوينية التي نذعن نحن أنَّ الله جعلها نظام السير الكوني في عالم الاختبار والامتحان، وإنّا وإن قلنا: إنَّ للغيب قسطاً، لكنَّه ليس كلّ شيء، وإنَّما للعلوم والفنون مجال في ذلك، هذا من زاوية.

ومن الزاوية الأخرى رُفضت القضيّة المهدوية جملةً وتفصيلاً، ولو بسبب ردود الفعل اللاشعورية للموقف الصادر من أرباب الغيب المطلق، كما في الزاوية الأولى، ففنّدت الفكرة واُطّرت بإطار علمي، كظاهرة الإصلاح الاجتماعي العامّ، وكغلبة قريش على الأمم بدل الإصلاح الذي يقوم به فرد معيَّن، أو تمييع الظاهرة إلى حدّ تنزيلها منزلة سائر الدعاوى الأخرى، أو تفريغ فائدة الإيمان بها وإرجاء الحديث عنها إلى وقت حصولها وترحيلها إلى المستقبل، أو أنَّها من الخيال والأسطورة والميراث من المجتمعات الأخرى، وروّاد هذه النظرية أحمد أمين المصري، أو سعد محمّد حسن، أو محمّد عبد الله عثمان، أو الخطيب أو ابن خلدون.

أقول: الدعوة إلى العقلانية والواقعية لا تعني رفض الغيب، وكذا الإيمان بالغيب لا يعني الانفلات وتعطيل العلوم، بل الجمع بين المقولتين العقلانية والغيب ممكن وحاصل.

فالمعيار هو الواقع والحقّ، ولكن ليس في مساحة الواقع المحسوس، بل الواقع النفس أمري الذي يحتضن عالم الغيب ويرتضي المعارف الدينية ويحدّد لها طريقاً لا يتقاطع مع الثوابت العلمية والنتاج العلمي، فقضيّة المهدي تعيش روح الغيب المنتظَم، فإنَّ أصل غيبته وفلسفة ذلك وبعض تفاصيل الغيب، كخروجه بغتة مثلاً، هو من الغيب، بيد أنَّه بعدما ورد بالسير العلمي وجود الإمام وأثره، فلا مجال لرفضه، قال تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ) (هود: 49)، فهو من الغيب المنتظَم لا من الغيب الموهوم، ومن الغيب الذي لا يتقاطع مع العلم والفكر، لا من الغيب الذي يصادرهما ويصدّهما، فلا نرتضي ترحيل الإصلاح العلمي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي إلى يد الغيب، أو يد المستقبل، حتَّى يظهر الإمام والمنقذ، بل لا بدَّ من السعي الحثيث لتنشيط المفاصل الاقتصادية والعلمية والاجتماعية التي تكون هي السبب في ظهوره، بل في تعجيله.

( ضمن كتاب العقيدة المهدوية إشكاليات ومعالجات )

 

رؤية الإمام الغائب ومشاهدته بين الصدق والدجل

البريد الإلكتروني طباعة

رؤية الإمام الغائب ومشاهدته بين الصدق والدجل ظاهرة الغيبة وخصائص المرحلة:

امتدَّت مرحلة الغيبة الصغرى من (260هـ) إلى (329هـ)، وهذه الحقبة الزمنية لها خصوصيتها، فهي حقيقة واقعية خاضتها شريحة من الناس كانوا روّاداً لهذه الفترة.

ومن خصائص هذه المرحلة ما يلي:

1 _ إنَّ جملة ممَّن عاش وعاصر زمن الغيبة الصغرى هم من أصحاب الإمام الجواد، والهادي، والعسكري (عليهم السلام)، كعلي بن جعفر أبو هاشم، وداود بن القاسم الجعفري الذي رأى خمسة من الأئمّة (عليهم السلام)، وداود بن أبي يزيد النيسابوري، ومحمّد بن علي بن بلال، وعبد الله بن جعفر الحميري، وإسحاق بن الربيع الكوفي، وأبو القاسم جابر بن يزيد الفارسي، وإبراهيم بن عبيد الله بن إبراهيم النيسابوري.

2 _ إنَّ جملة ممَّن عاصر الغيبة الصغرى من وكلاء الإمام المهدي كمحمّد بن أحمد بن جعفر، وجعفر بن سهيل، ومحمّد بن الحسن الصفّار، وعبدوس العطّار، وسندي بن النيسابوري، وأبي طالب الحسن بن جعفر الفافاء، وأبي البختري.

3 _ إنَّ نوّاب الإمام في زمن الغيبة الصغرى هم أربعة: عثمان بن سعيد العمري، محمّد بن عثمان، الحسين بن روح، علي بن محمّد السمري.

4 _ إنَّ مجموعة ممَّن عاصر الغيبة الصغرى هم من العلماء الفقهاء، كالكليني، والصدوق وأبيه.

5 _ امتازت هذه المرحلة أيضاً بأنَّ الأجوبة كانت تظهر بشكل مكاتبات ومراسلات منه (عليه السلام).

6 _ تمتاز هذه المرحلة أيضاً بوجود قاعدة جماهيرية تحمل ثقافة الارتباط بالإمام المنصوب، والاعتقاد بالأئمّة السابقين، ويحملون هوية معيّنة، وانتماءاً خاصّاً، واعتماداً في مجال العمل على طريقة فقهية معيّنة.

ولنا وقفة فيما بعد في تحليل ومعرفة كيفية رجوع هذه القواعد الجماهيرية بعد شهادة العسكري إلى الإمام المهدي (عليه السلام) من دون أن تبتلى بإرباك ولو كان لبان.

علماً أنَّ هذه القواعد الجماهيرية تحمل خصوصيات فكرية، وسلوكية، تعكس لنا فوائد جمّة.

واتَّفق الجميع أنَّ طريق الاتّصال بالإمام المنتظر (عليه السلام) هو عن طريق النوّاب، ولم ينعكس لنا من روّاد هذه المرحلة، كالكليني، السعي العملي في طلب مشاهدته ورؤيته (عليه السلام)، بل كان مفروغاً عن عدمه ولو من جهة وجود المانع وإن كان المقتضي للرؤية تامّاً، ولو فرض سعي البعض في ذلك الظرف للرؤية كما نقل عن أبي العبّاس أحمد بن الخضر بن أبي صالح الخجندي، حيث ورد النهي والمنع عن هذا السعي الذي أشار إليه التوقيع الشريف من صاحب الزمان (عليه السلام) بعد أن كان اُغْريَ بالفحص والطلب وسار عن وطنه ليتبيَّن له ما يعمل عليه، فكانت نسخة التوقيع: (من بحث فقد طلب، ومن طلب فقد دلَّ، ومن دلَّ فقد أشاط، ومن أشاط فقد أشرك)، قال: فكفَّ عن الطلب ورجع(1). وما يقال: إنَّ المانع لشخص الباحث يحمل على القضيّة الخارجية والجزئية مردود بظاهر التعليل المنسجم مع العموم.

فلو كانت مسألة الرؤية للإمام والسعي العملي والفعلي لها خصوصاً في ظرف الغيبة الصغرى وبشرط المحمول كمالاً ومحبوباً، فلِمَ لم يقصده الوكلاء، والأصحاب، والعلماء، وأهل الإيمان، مع شدّة حرصهم على الإتيان بالنوافل، بل قد حفظ لنا التاريخ أنَّهم طلبوا منه (عليه السلام) أموراً أخرى عن طريق السفراء.
نماذج من طلب الحاجات من الإمام (عليه السلام):

منها: عن أبي جعفر محمّد بن علي الأسود (رضي الله عنه)، قال: سألني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه (رضي الله عنه) بعد موت محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أن أسأل أبا القاسم الروحي أن يسأل مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) أن يدعو الله عز وجل أن يرزقه ولداً ذكراً، قال: فسألته فأنهى ذلك، ثمّ أخبرني بعد ذلك بثلاثة أيّام أنَّه قد دعا لعلي بن الحسين وأنَّه سيولد له ولد مبارك ينفع الله به وبعده أولاد(2).

ومنها: الأسئلة التي رفعت إليه (عليه السلام) فقد روى الطوسي في غيبته(3): (حدَّثني جماعة من أهل بلدنا المقيمين كانوا ببغداد في السنة التي خرجت القرامطة على الحاجّ وهي سنة تناثر الكواكب أنَّ والدي (رضي الله عنه) كتب إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) يستأذن في الخروج إلى الحجّ...) الخبر.

ومنها: عن الكليني، قال: كتب محمّد بن زياد الصيمري يسأل صاحب الزمان (عليه السلام) كفناً يتيمَّن بما يكون من عنده(4).

ومنها: طلب الزراري من الحسين بن روح أن يدعو له الإمام (عليه السلام) إصلاح أمره مع زوجته أم عبّاس كما في (الغيبة)(5).

ومنها: ما في (الإرشاد)(6) للشيخ المفيد، عن علي بن محمّد، قال: حدَّثني بعض أصحابنا، قال: ولد لي ولد فكتبت أستأذن في تطهيره يوم السابع... إلى أن قال: وتهيَّأت للحجّ وودَّعت الناس وكنت على الخروج، فورد: (نحن لذلك كارهون، والأمر إليك)، فضاق صدري واغتممت وكتبت: أنا مقيم على السمع والطاعة، غير أنّي مغتمّ بتخلّفي عن الحجّ، فوقع: (لا يضيقنَّ صدرك، فإنَّك ستحجّ قابلاً إن شاء الله)، حيث إنَّ الراوي طلب الحجّ فقط، وهكذا في ذيل الرواية يقول: وكتبت: إنّي قد عادلت محمّد بن العبّاس، وأنا واثق بديانته، فهنا أيضاً يطلب الاستفسار عن الصديق فقط.

( ضمن كتاب العقيدة المهدوية إشكاليات ومعالجات )

 

إنَّ ثبوت قضيّة المهدي، وخروجه، وانتظاره، غير مخالف للعقل

البريد الإلكتروني طباعة

إنَّ ثبوت قضيّة المهدي، وخروجه، وانتظاره، غير مخالف للعقل، ولا للأصول الشرعية، ولا لقاعدة مجمع عليها، ولا لفرع محقَّق، هذا بلحاظ أصل القضيّة المهدوية، وأنَّ هناك مهدياً، وهو إمام غائب ويجب انتظاره.

أمَّا تفاصيل هذه العقيدة، فما كان منها _ لو فرض _ معارضاً لأصل عقلي، أو شرعي، بل حتَّى الفرع المجمع عليه، فهو مرفوض، وإلاَّ فإن لم يصحّ سنده كالخبر الضعيف لم يجز نسبته إلى الشارع إلاَّ على سياق قاعدة التسامح، أو روايات من بلغ إن كان لها مجال فيما نحن فيه، وإن صحَّ سنده كالخبر الصحيح والحسن والموثَّق فهو خبر عادي يصحّ نسبته ولا يجب تكليفاً الاعتقاد بالأمور التفصيلية ما لم يلزم محذور آخر، وإلاَّ فإن لزم محذور آخر في عدم الاعتقاد مع عدم الضرر بالاعتقاد فلا بدَّ من الاعتقاد به، وإلاَّ فإن لم يلزم محذور آخر من عدم الاعتقاد كقضيّة جزئية جدّاً، أو لزم الاعتقاد به حكم الضرر فينبغي عدم الاعتقاد به، إمَّا لعدم الدليل عليه وإمَّا لحكم الضرر ونحوه، كما هو واضح وفق الموازين المذكورة في محلّها.

وبما أنَّ العقيدة بالمهدي، بلحاظ أصلها، كقضيّة عقدية، فهي ثابتة بالتواتر، فيجب التسليم بها، لأنَّها من الغيب، أو من جهة أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر عنها، فلا بدَّ من الإيمان بإخبارات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) القطعية صدوراً، وأمَّا التفاصيل فلا يجب الاعتقاد بها وإن احتجنا إلى جلّها كما هو الحال في غيرها من القضايا العقائدية.

وكيفما كان، فمعرفة الإمام ضرورة دينية، لما ورد في حديث الباقر (عليه السلام): (بني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه _ يعني الولاية _)(15).

وورد أيضاً عنه (عليه السلام): (ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته)(16).

وفي جواب سؤال زرارة قال (عليه السلام): (الولاية أفضل لأنَّها مفتاحهنَّ والوالي هو الدليل عليهنَّ)(17).

وورد أيضاً عنه (عليه السلام): (لا يعذر الله يوم القيامة أحداً يقول: يا ربّ لم أعلم أنَّ ولد فاطمة (عليها السلام) هم الولاة على الناس كافّة)(18).

وقد ثبت في محلّه في تفسير قوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة: 55)، أنَّه ليس المراد من الولاية محض الحبّ، وإنَّما المراد منها معنى الإمامة بالمعنى الذي تقول به الشيعة.

وأيضاً في الحديث عن أبي حمزة، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): (إنَّما يعبد الله من يعرف الله، فأمَّا من لا يعرف الله فإنَّما يعبده هكذا ضلالاً)، قلت: جُعلت فداك فما معرفة الله؟ قال: (تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وموالاة علي (عليه السلام) والائتمام به وبأئمّة الهدى (عليهم السلام) والبراءة إلى الله عز وجل من عدوّهم، هكذا يعرف الله عز وجل)(19).

فالتعرّف بأمر الإمام من السعادة الأخروية وموجبات الاطمئنان وعلامات المؤمن والآثار الإيجابية الكثيرة.

* * *

 
الصفحة 1 من 7