سكينة الى كربلاء
السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم
منذ 11 سنةسكينة إلى كربلاء
تنصّ دراسات التربية على تأثير الناشئ بنفسيات البيئة ونزعاتها تكفيها بما جبل عليه رجالات البيت من الطموح إلى الرقي في العلم والترفع عن الدنايا فالعامل الوحيد لتكيف الناشئ بالصفات الفاضلة أو أضدادها ما يتدراسه أرباب البيت المتربي فيه وليدهم ومن الضروري ان يتّخذ الخلف طريقة سلفه ويتحرّى التخلق بما عليه من ملكات أما ان تأخذ به إلى اعلا مستوى الثقافة أو تنحط إلى هوة الضعة وفي الغالب تجد المشاكلة بين الجيل الأوّل والثاني في المعارف والآداب والصناعات والعادات اللهم الا ان يسود ذلك تطوّر يغلب تلك المقتضيات.
وإذا فتشنا بيوتات العالم فلا نجد بيتاً يتحرى المناهج الآلهية والسير على ضوء تعاليم الشريعة الخالدة إلّا البيت العلوي لأنّه ضمّ رجالات العصمة المودع عندهم أسرار التكوين وعلم الطبايع وفقه الشريعة والنظم الاجتماعيّة منحة من منشئ كيانهم جلّ شأنه فمن هذا البيت تؤخذ المعارف ويدرس الخلق الكامل :
بيت علا سمك الضراح رفعة |
فكان اعلا شرفا وارفعا |
|
بيت من القدس وناهيك به |
محط أسرار الهدى وموضعا |
|
اعزه الله فما تهبط في |
كعبته الأملاك الا خضعا |
|
فكان مأوى الملتجى والمرتجي |
فما أعز شأنه وأمنعا (1) |
وإذا كان أئمّة الهدى من عترة المصطفى الذين جعلهم الله حجّة على البشر بعد النبوّة يعلمون الأمّة ما فيه مناجحهم ويأخذ بهم إلى سعادة الدارين فلا يضنون بمن يتربى في حجورهم من ذكور واناث عن اضائة الطريق الموصل لهم إلى الغايات السامية والتنكب عمّا لا يلائم خطّتهم ويستحيل على من تغذى درّ الإمامة تربى في حجور الطاهرين ودرس التعاليم الالهيّة الاسفاف مع أهل المجون والأهواء.
والسيّدة سكينة حضنتها الحجور الزاكية وتلقت من أبيها سيّد الشهداء التعاليم الراقية والآداب الالهيّة ودرست القيم الإسلاميّة وجارت في المجاهدة والرياضة جدّتها الصدّيقة وعمّتها العقيلة حتّى حازت ارقى مراتب العبادة التي يرضاها ربّ العالمين ومن هنا منحها الإمام الحجّة الواقف على نفسيات البشر ومقادير أعمالهم ارقى صفة تليق بامرأة كاملة تفانت في طاعة الله تعالى وهي « خيرة النساء ».
من هذا وذاك صحبها « أبي الضيم » إلى محلّ شهادته في جملة من انتخبهم الباري سبحانه دعاة لدينه فشاهدت بين تلك الثنايا والعقبات الآيات المنذرة بتدابير النفوس وتخاذل القوم عن نصر الهدى واجتماعهم على ازهاق نفس ريحانة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم واراقة « دمه الطاهر » وانّهم قادمون على عصبه لا ترقب فيهم إلّا ولا ذمة فلم تعبء بتلكم الأهوال التي يشيب لها فود الطفل تسليماً للقضاء وطاعة للرحمن عزّ شأنه.
وشاهدت اولئك المناجيد مضرجين بالدماء مقطعين الأوصال وبينهم علة الكائنات ومدار الموجودات أبو عبد الله الحسين (ع) : وقد مثلوا فيه بكلّ مثلة.
ووجهوا نحوه في الحرب أربعة |
السهم والسيف والخطي والحجرا |
فقابلت تلكم الفوادح برباطة جأش وهدوء بال ولولا انخراطها في الاستغراق مع الله تعالى وتفانيها في الطاعة له كما أخبر أبوها الحجّة (ع) بقوله : « الغالب عليها الاستغراق مع الله » لا نهد قواها وساخ صبرها وتبليل فكرها وفقدت مشاعرها ولكنّها بالرغم من ذلك لم يرعها ذلّ الأسر ولا شماته العدوّ وتراكم الرزايا وأنين الأطفال وبكاء الفواقد فلم يصدر عنها ما لا يتّفق مع الخضوع للأصلح المرضى لله تعالى.
ولو كان « أبي الضيم » يعلم بضعف عزمها وتفكك صبرها لما رافقها إلى محلّ تضحيته لئلّا يتسبّب من تلكم الأهوال الوقوع في خطر عظيم.
ان ذلك المشهد الدامي الذي لم يمرّ على نبي أو وصي وقابله شهيد الدين بصبر تعجبت منه ملائكة السموات كما في نصّ زيارته ترك الجفون قرحى والعيون عبرى والقلوب حرى إلى يوم الانقضاء على حدّ تعبير الإمام أبي الحسن الرضي (ع) (2) ويقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : انّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً (3) والسيّدة سكينة ابصرت كلّ ما جرى في ذلك اليوم وسمعت صرخة أبيها المظلوم واستغاثته وشاهدت حرائر النبوّة ومخدّرات الإمامة يتراكضن في تلك البيداء المقفرة حين شبت النار في مضاربهم ولا محامي يلذن به الّا زين العابدين وقد انهكته العلّة.
فلو أن ايوباً رأى بعض ما رأى |
لقال بلى هذا العظيمة بلواه |
فلم يتضعضع صبرها ولا وهي تسليمها للقضاء الجاري ولم يتحدث المؤرخون عما ينافي ثباتها على الخطوب في الكوفة والشام مع ما لاقته من شماتة ابن مرجانة وابن ميسون ونكته بالعود رأس الحسين وأهل المجلس يشاهدون الأنوار تتصاعد من أسارير جبهته والروائح العطرة تفوح منه وهو يرمق حرمه بعينيه ولما أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم لأنه أنكر عليه فعلته نطق الرأس المقدّس بصوت جهوري « لا حول ولا قوة إلا بالله » (4).
فأخذت الناس الحيرة وراح الرجل يحدث جليسه بالضلال الذي عمهم وتحدّثت اندية الشام بهذا الحادث الذي لم يسمع بمثله قبل يوم الحسين ولما رجعت السيّدة الطاهرة سكينة إلى المدينة أقامت في بيت أبيها أبي عبد الله مع نساء قومها لابسات السواد يبكين الحسين والبهاليل من آل عبد المطلب وزين العابدين يعمل لهن الطعام (5).
ويحدثنا أبو عبد الله الصادق (ع) عن حزن الفاطميّات بقوله : ما اكتحلت هاشميّة ولا اختضبت ولا رؤى الدخان في بيت هاشمي خمس حجج إلى ان قتل عبيد الله بن زياد (6).
عاشت السيّدة سكينة في بيت أخيها السجّاد (ع) الذي لم يزل ليله ونهاره باكي العين على سيّد شباب أهل الجنّة وكان جوابه لمن يطلب منه التخفيف لئلّا تذهب عيناه : « انّي ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي الا تذكرت فرارهنّ من خيمة إلى خيمة » وكان هذا دأبه في البكاء على « قتيل العبرة » إلى ان استشهد صلوات الله عليه سنة ٩٥ وإذا كان عميد البيت لا يفتر عن النياحة مدّة حياته فما ظنّك بمن حواه البيت من النساء ومن شأنهن الرقّة والجزع والسيّدة سكينة تأوي هذا البيت المفعهم بالحزن والشجاء وفي مسامعها نشيج أخيها الحجّة وتبصر تساقط دموعه على خدّيه فتشاركه في الزفرة وتجاوبه بالعبرة ولا تبارح فاكرتها الهياكل المضرجة بالدماء وقد شاهدتهم صرعى مقطعين الأوصال.
قد غير الطعن منهم كل جارحة |
الا المكارم في أمن من الغير |
فهل تبقى لها لفتة إلى لوازم الحياة فضلاً عن عقد مجالس الأنس والفرح بلى كانت السيّدة العفيفة مدّة حياة أخيها الإمام وبعده باكية نادبة على أبيها المظلوم الممنوع من الورود وأبو عبد الله حياة الكون وري الوجود « والماء يصدر عنه الوحش ريانا ».
ولكن آل الزبير تحدّثوا وافتعلوا واكثروا ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) (7).
الهوامش
1. من قصيدة في الصدّيقة الزهراء للعلّامة السيّد محمّد حسين الكيشوان النجفي.
2. أمالي الصدوق ص ٧٦ مجلس ٢٧.
3. مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢١٧.
4. مقتل الحسين او حديث كربلاء ص ١٥ الطبعة الثانية وفيه ص ٤٠١ ذكرنا أسرار كلام الرأس المقدّس.
5. المحاسن للبرقي المتوفي سنة ٢٧٤ ج ٢ ، ص ٤٢٠.
6. البحار للمجلسي المتوفي سنة ١١١٠ ج ١٠ ص ٢٩٣ طبع الكبيني ايران.
7. الزخرف / ٣.
مقتبس من كتاب : [ السيّدة سكينة ابنة الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه السلام ] / الصفحة : 80 ـ 84
التعلیقات