إعتقال الإمام محمّد الباقر عليه السلام
الشيخ باقر شريف القرشي
منذ 11 سنةإعتقال الإمام
ولما ذاع فضل الإمام بين أهل الشام ، أمر الطاغية بإعتقاله في السجن وقد احتفّ به السجناء وهم يتلقّون من علومه وآدابه ، وخشي مدير السجن من الفتنة فبادر إلى هشام فأخبره بذلك فأمره بإخراجه من السجن ، وإرجاعه إلى بلده (1).
هذا ما ورد في الرواية الأولى في مجيء الإمام (ع) إلى دمشق وما جرى له مع هشام.
الرواية الثانية : رواها لوط بن يحيى الأسدي عن عمارة بن زيد الواقدي قال : حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حجّ فيها الإمام محمّد بن علي الباقر وابنه الإمام جعفر الصادق (ع) فقال جعفر أمام حشد من الناس فيهم مسلمة بن عبد الملك :
« الحمد لله الذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّاً ، وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من تبعنا ، والشقي من عادانا وخالفنا .. ».
وبادر مسلمة بن عبد الملك إلى أخيه هشام فأخبره بمقالة الإمام الصادق فأسرها هشام في نفسه ، ولم يتعرض للإمامين بسوء في الحجاز إلّا أنّه لما قفل راجعا إلى دمشق أمر عامله على يثرب باشخاصهما إليه ولما انتهيا إلى دمشق حجبهما ثلاثة أيّام ، ولم يسمح لهما بمقابلته استهانة بهما ، وفي اليوم الرابع أذن لهما في مقابلته ، وكان مجلسه مكتظاً بالأمويّين وسائر حاشيته ، وقد نصب ندماؤه برحاصا وأشياخ بني أميّة يرمونه ، يقول الإمام الصادق (ع) : فلمّا دخلنا ، كان أبي أمامي وأنا خلفه فنادى هشام :
« يا محمد ارم مع أشياخ قومك .. ».
فقال أبي : « قد كبرت عن الرمي ، فان رأيت أن تعفيني .. ». فصاح هشام : « وحقّ من أعزّنا بدينه ، ونبيّه محمّد (ص) لا أعفيك .. ».
وظنّ الطاغية أنّ الإمام سوف يخفق في رمايته فيتّخذ ذلك وسيلة للحطّ من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام ، وأومأ إلى شيخ من بني أميّة أن يناول الإمام (ع) قوسه ، فناوله ، وتناول معه سهما فوضعه في كبد القوس ، ورمى به الغرض فأصاب وسطه ، ثمّ تناول سهماً فرمى به فشقّ السهم الأوّل إلى نصله ، وتابع الإمام الرمي حتّى شقّ تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، ولم يحصل بعض ذلك إلى أعظم رام في العالم ، وجعل هشام ، يضطرب من الغيظ وورم أنفه ، فلم يتمالك أن صاح :
« يا أبا جعفر أنت أرمى العرب والعجم !! وزعمت أنك قد كبرت !! » ثمّ أدركته الندامة على تقريظه للإمام ، فأطرق برأسه إلى الأرض والإمام واقف ، ولما طال وقوفه غضب (ع) وبان ذلك على سحنات وجهه الشريف وكان إذا غضب نظر إلى السماء ، ولما بصر هشام غضب الإمام قام إليه واعتنقه ، وأجلسه عن يمينه ، وأقبل عليه بوجهه قائلاً :
« يا محمّد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ، ما دام فيها مثلك لله درك !! من علّمك هذا الرمي ؟ وفي كم تعلّمته ؟ أيرمي جعفر مثل رميك ؟ .. ».
فقال أبو جعفر (ع) : « إنّا لحن نتوارث الكمال ».
وثار الطاغية ، واحمرّ وجهه ، وهو يتميّز من الغيظ. وأطرق برأسه إلى الأرض ، ثمّ رفع رأسه ، وراح يقول :
« ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟ .. ».
وردّ عليه الإمام مزاعمه قائلاً :
« نحن كذلك ، ولكن الله اختصّنا من مكنون سرّه ، وخالص علمه بما لم يخصّ به أحداً غيرنا .. ».
وطفق هشام قائلاً :
أليس الله بعث محمّداً (ص) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافّة أبيضها وأسودها وأحمرها ، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم ؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافّة ، وذلك قول الله عزّ وجلّ : ( وَلِلهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فمن أين ورثتم هذا العلم ؟ وليس بعد محمّد نبي ، ولا أنتم أنبياء .. ».
وردّ عليه الإمام ببالغ الحجّة قائلاً :
« من قوله تعالى لنبيّه : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) فالذي لم يحرّك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالى أن يخصنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي أخاه عليّاً من دون أصحابه ، وأنزل الله به قرآناً في قوله : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) فقال رسول الله (ص) : سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي ، فلذلك قال علي : علّمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب ، خصّه به النبي (ص) من مكنون سرّه ، كما خصّ الله نبيّه ، وعلمه ما لم يخصّ به أحداً من قومه ، حتّى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا .. » والتاع هشام ، فالتفت إلى الإمام وهو غضبان قائلاً :
« إنّ عليّاً كان يدري علم الغيب ؟ والله لم يطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادّعى ذلك ؟ .. ».
وأجابه الإمام (ع) بالواقع المشرق من جوانب حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً :
« إن الله أنزل على نبيّه كتاباً بين دفّتيه فيه ما كان ، وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) وفي قوله تعالى : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) وفي قوله تعالى : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) وفي قوله : « وما من آية في السماء والأرض آية إلا في كتاب مبين » وأوحى الله إلى نبيّه أن لا يبقي في عيبة سرّه ، ومكنون علمه شيئاً إلّا يناجي به عليّاً ، فأمره أن يؤلّف القرآن من بعده ، ويتولّى غسله وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وقومي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فانّه منّي ، وأنا منه ، له ما لي ، وعليه ما عليّ ، وهو قاضي ديني ، ومنجز موعدي. ثمّ قال لأصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وعامه إلّا عند علي ، ولذلك قال رسول الله (ص) : « أقضاكم علي » أي هو قاضيكم ، وقال عمر بن الخطاب : لو لا علي لهلك عمر ، يشهد له عمر ويجحده غيره .. ».
وأطرق هشام برأسه إلى الأرض ، ولم يجد منفذاً يسلك فيه للردّ على الإمام ، فقال له :
« سل حاجتك .. ».
قال الإمام (ع) : « خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي .. ».
قال هشام : آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم ، فلا تقم وسر من يومك .. » (2).
وهذه الرواية لم تشر إلى ما جرى على الإمام من الإعتقال في دمشق ، كما أنّ الرواية الأولى قد أهملت جميع ما جاء في الرواية الثانية.
الهوامش
1. بحار الأنوار : ١١ / ٧٥.
2. ضياء العالمين الجزء الثاني ، دلائل الإمامة [ ص ١٠٤ ـ ١٠٦ ].
مقتبس من كتاب : [ حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل ] / الجزء : 2 / الصفحة : 60 ـ 64
التعلیقات