السيدة زينب - ليلة عاشوراء

يعتبر التوديع نوععاً من التزود من الرؤية ، فالمسافر يتزود من رؤية من سيفارقهم ، وهم يتزودون من رؤيته ، والوداع يخفف ألم البعد والفراق ؛ لأنّ النفس تكون قد استوفت قسطاً من رؤية الغائب ، وتوطنت على المفارقة ومضاعفاتها .
ولهذا جاء الإمام الحسين (عليه السلام) ليودع عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة ، وودائع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ( ، ليودع النساء والأخوات والبنات وأطفاله الأعزاء ، وليخفف عنهم صدمة مصيبة الفراق ، قد تحدث في هذا العالم حوادث وقضايا يمكن شرحها ووصفها ، وقد تحدث أمور يعجز القلم واللسان عن شرحها ووصفها ، بل لا يمكن تصورها .
فبعد أن قتل جميع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وبنو هاشم ، ولم يبق من الرجال أحد ، عزم الإمام على لقاء الله تعالى ، وعلى ملاقاة الأعداء بنفسه المقدسة ، فأقبل إلى المخيم للوداع ، ونادى : " يا سكينة ويا فاطمة ، يا زينب ويا أم كلثوم : عليكن مني السلام ، فهذا آخر الإجتماع ، وقد قرب منكن الإفتجاع!".
فعلت أصواتهن بالبكاء ، وصحن : الوداع . . الوداع ، الفراق . . الفراق ، فجاءته عزيزته سكينة وقالت : يا أبتاه إستسلمت للموت ؟ فإلى من أتكل ؟
فقال لها : " يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ، ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة ، فاصبري على قضاء الله ولا تشكي ، فإن الدنيا فانية ، والآخرة باقية .
قالت : أبه ردنا إلى حرم جدنا رسول الله ؟
فقال الإمام الحسين : هيهات ، لو ترك القطا لغفا ونام .
فبكت سكينة فأخذها الإمام وضمهما إلى صدره ، ومسح الدموع عن عينيها .
ثمّ إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) دعى النساء بأجمعهن ، وقال لهن : " إستعدوا للبلاء ، واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم" .
ثمّ أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن ، فسألته السيدة زينب عن سبب ذلك ، فقال : " كأني أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب !!".
فلما سمعت السيّدة زينب ذلك بكت ونادت : واوحدتاه ، واقلة ناصراه ، ولطمت على وجهها !
فقال لها الإمام الحسين : " مهلاً يا بنة المرتضى ، إنّ البكاء طويل !! ".
ثمّ أراد الإمام أن يخرج من الخيمة فتعلقت به السيّدة زينب وقالت : " مهلاً يا أخي ، توقف حتى أتزود منك ومن نظري إليك ، وأودعك وداع مفارق لا تلاقي بعده" ؟ فجعلت تقبل يديه ورجليه .
فصبرها الإمام الحسين ، وذكر لها ما أعد الله للصابرين .
فقالت : يا بن أمي طب نفساً ، وقر عيناً ، فإنك تجدني كما تحب وترضى .
فقال لها الإمام الحسين : " أخيه إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد ، اجعله تحت ثيابي لئلا أجرد بعد قتلي ، فإني مقتول مسلوب" ، فارتفعت اصوات النساء بالبكاء.
ولما أراد الإمام أن يخرج نحو المعركة نظر يميناً وشمالاً ونادى : هل من يقدم إلي جوادي ؟
فسمعت السيّدة زينب ذلك ، فخرجت وأخذت بعنان الجواد ، وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ؟(2)
وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه السلام) أوصى أخته السيّدة زينب قائلاً : "يا أختاه ! لا تنسيني في نافلة الليل" (3).
الإمام الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد
كانت تلك اللحظات من أصعب الساعات في حياة السيدة زينب ، من هول قرب الفاجعة والمستقبل المخيف المرعب .
وهل يستطيع القلم واللسان من وصف تلك الدقائق ، وتأثيرها على قلب السيدة زينب عليها السلام ؟ لقد توجه أخوها إلى ساحة القتال بعد أن قدم أعز أصحابه ، وأشرف شبابه ، وأكرم عشيرته ضحايا في سبيل الله ، ولم يبق له ومعه أحد من الرجال سوى ولده العليل .
ونتيجة الذهاب إلى المعركة معلومة : القتل والشهادة ! ! لقد ترك الإمام الحسين (عليه السلام) أغلى ما عنده ، وهم عائلته الذين هم أشرف عائلة على وجه الأرض ، وأكثرها عفافاً وخفارة ، وهن مخدرات الرسالة وعقائل النبوة ، اللاتي كانت حياتهن مشفوعة بالعز والإحترام . تركهم في وسط البر الأقفر ، قد أحاط بهن سفلة المجتمع ، وأراذل الناس ، من باعة الضمائر ، والهمج الرعاع ، وفاقدي الفضيلة . أولئك الذين سلموا أنفسهم واستسلموا لأقذر سلطة في التاريخ ، وأرجس جهاز حاكم في العالم . والعائلة المكرمة تعرف إتجاه أولئك الأشرار الأوباش ، ونفسياتهم ، فالمخاوف والأخطار تهاجم قلوب العائلة الشريفة من كل جانب .
فمن ناحية : الإحساس باقتراب الخطر من حياة الإمام الحسين (عليه السلام( . ومن ناحية أخرى : ترقب إستيلاء العدو الشرس المتوحش على سرادق الوحي ومخيمات النبوة.
ومضاعفات هذه الاحتمالات من العواصف والأعاصير التي سوف تجتاح حياة السيدات . . كلها أمور تدعو إلى القلق والخوف والوحشة.

عودة فرس الإمام الحسين إلى المخيم

وكان فرس الإمام الحسين . . فرساً أصيلاً من جياد خيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وقد بقي حياً إلى ذلك اليوم ـ فلما رأى ما جرى على صاحبه (أي سقوط الإمام عن ظهره إلى الأرض) جعل يحمهم ويصهل ويشم الإمام الحسين ويمرغ ناصيته بدمه ، ثمّ توجه نحو خيام الإمام (عليه السلام) بكل سرعة . . وهو هائج هياجاً شديداً ، وقد ملأ البيداء صهيلاً عظيماً ، فلما وصل إلى المخيم جعل يضرب الأرض برأسه عند خيمة الإمام الحسين ، وكأنه يريد إخبار العائلة بما جرى على راكبه ، حتى سقط على الأرض عند باب الخيمة .
فخرجت النساء والأطفال من الخيام فرأين الفرس خالياً من راكبه ، فارتفعت صياح النساء ، وخرجن حافيات باكيات ، يضربن وجوههن ، لما نزل بهن من المصيبة والبلاء ، وهن يصحن : "وا محمداه ، واعلياه ، وافاطماه ، واحسناه ، واحسيناه" .
وصاحت سكينة : " قتل ـ والله ـ أبي الحسين ، ونادت : واقتيلاه ، وا أبتاه ، واحسيناه ، واغربتاه" (5).

ذهاب السيدة زينب إلى المعركة
ولما سقط الإمام الحسين ( عليه السلام ) على الأرض خرجت السيدة زينب من باب الخيمة نحو الميدان ، وهي تنادي : وا أخاه ، واسيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل.
ثم وجهت كلامها إلى عمر بن سعد ، وقالت : يا بن سعد ! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟!
فلم يجبها عمر بشيء.
فنادت : ويحكم !! ما فيكم مسلم ؟
فلم يجبها أحد بشيء.
ثمّ انحدرت نحو المعركة وهي تركض مسرعةً ، فتارةً تعثر بأذيالها ، وتارةً تسقط على وجهها من عظم دهشتها حتى وصلت إلى وسط المعركة ، فجعلت تنظر يميناً وشمالاً ، فرأت أخاها الحسين)عليه السلام) مطروحاً على وجه الأرض ، وهو يخور في دمه ، ويقبض يميناً وشمالاً ، ويجمع رجلاً ويمد أخرى ، والدماء تسيل من جراحاته ، فجلست عنده وطرحت نفسها على جسده الشريف ، وجعلت تقول :
ءأنت الحسين ؟!
ءأنت أخي ؟!
ءأنت ابن أمي ؟!
ءأنت نور بصري ؟!
ءأنت مهجة فؤادي ؟!
ءأنت حمانا ؟!
ءأنت رجانا ؟!
ءأنت ابن محمد المصطفى ؟!
ءأنت ابن علي المرتضى ؟!
ءأنت ابن فاطمة الزهراء ؟
كل هذا ، والإمام الحسين لا يرد عليها جواباً ؛ لأنّه كان مشغولاً بنفسه ، وقد استولى عليه الضعف الشديد بسبب نزف الدم وكثرة الجراحات .
فقالت : أخي ! بحق جدي رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبتني.
فقالت : أخي ! بحق جدي رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبتني.
يا ضياء عيني كلمني .
يا شقيق روحي جاوبني .
فعند ذلك جلست خلفه ، وأدخلت يديها تحت كتفه ، وأجلسته حاضنةً له بصدرها .
فانتبه الإمام الحسين من كلامها ، وقال لها ـ بصوت ضعيف ـ : " أخيه زينب ! كسرتي قلبي ، وزدتيني كرباً على كربي ، فبالله عليك إلا ما سكنت وسكت" .
فصاحت : " وايلاه ! يا أخي وابن أمي ، كيف أسكن وأسكت ، وانت بهذه الحالة ، تعالج سكرات الموت ؟ !
روحي لروحك الفداء ! نفسي لنفسك الوقاء" .
فبينما هي تخاطبه ويخاطبها ، وإذا بالسوط يلتوي على كتفها ، وقائل يقول : تنحي عنه ، وإلا الحقتك به ، فالتفت وإذا هو شمر بن ذي الجوشن ( لعنه الله( .
فاعتنقت أخاها ، وقالت : والله لا أتنحى عنه ، وإن ذبحته فأذبحني قبله .
فجذبها عنه قهراً ، وقال : والله إن تقدمت إليه لضربت عنقك بهذا السيف.
ثمّ جلس اللعين على صدر الإمام ، فتقدمت السيّدة زينب إليه ، وجذبت السيف من يده .
وقالت : يا عدو الله ! إرفق به لقد كسرت صدره ، واثقلت ظهره ، فبالله عليك إلا ما أمهلته سويعةً لا تزود منه . ويلك ! أما علمت أنّ هذا الصدر تربى على صدر رسول الله ، وصدر فاطمة الزهراء ؟ !
ويحك ! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهز مهده ميكائيل!! ... دعني أودعه ، دعني أغمضه ، . . . فلم يعبأ اللعين بكلامها ، ولا رق قلبه عليها (6).
ويستفاد من بعض كتب المقاتل أن السيّدة زينب (عليها السلام) لم تكن هناك حين مجيء الشمر ، بل أسرعت إلى المخيم ، إمتثالاً لأمر الإمام الحسين (عليه السلام) حيث أمرها بالرجوع إلى الخيام .
ووقعت الفاجعة العظمى والرزية الكبرى ، ألا وهي : مقتل الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). فبدأت الأرض ترتجف تحت أرجل الناس ، وانكسفت الشمس ، وأمطرت السماء دماً عبيطاً وتراباً أحمر .
فاقبلت العقيلة زينب إلى مخيم الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت : يا بن أخي : ما لي أرى الكون قد تغير ؟ والشمس منكسفة ؟ والأرض ترجف ؟ !
فقال لها : يا عمة : أنا عليل مريض لا أستطيع النهوض إرفعي جانب الخيمة وسنديني إلى صدرك لا نظر ما الذي جرى !، فنظر إلى المعركة وإذا بفرس أبيه الحسين يجول في الميدان خالي السرج وملقى العنان ، ورأي رمحاً عليه رأس الإمام الحسين ! ، فقال يا عمة : إجمعي العيال والأطفال ، لقد قتل أبي الحسين ، قتل أسد الله الباسل ، قتل إبن سيد الأوصياء ، قتل إبن فاطمة الزهراء ، ثم غشي عليه وسقط على الأرض مكبوباً على وجهه.
فأخذت السيّدة زينب رأسه ووضعته في حجرها ونادت :
إجلس تفديك عماتك.
إجلس تفديك أخواتك .
إجلس يا بقية السلف .
إجلس يا نعم الخلف .
وهو لا يجيب نداها ، ولا يسمع شكواها ، فعند ذلك إنكبت عليه ومسحت التراب عن خديه ونادت : يا زين العباد ، يا مهجة الفؤاد ، ففتح عينيه . . . (7).

لهجوم على المخيمات لسلب النساء
وبعد ما قتل الإمام الحسين (عليه السلام) بمدة قصيرة . . هجم جيش الأعداء بكل وحشية على خيام الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهم على خيولهم ! ! حتى سحق سبعة من الأطفال تحت حوافر الخيل . . ساعة الهجوم (8) وقد سجل التاريخ أسماء خمسة منهم ، وهم :
بنتان للإمام الحسن المجتبى عليه السلام.
طفلان لعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب ، وإسمهما : سعد وعقيل.
عاتكة بنت مسلم بن عقيل ، وكان عمرها سبع سنوات.
محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب وكان له من العمر سبع سنوات.
نعم ، لقد كان الهجوم على العائلة ـ المفجوعة لتوها ـ بعيداً عن الرحمة والإنسانية ، وقد وصف التاريخ ذلك الهجوم بقوله :
وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرة عين الزهراء البتول ، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها!! وكانت المرأة تجاذب على إزارها وحجابها . . حتى تغلب على ذلك.

إحراق خيام الإمام الحسين عليه السلام
فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء.
فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ..
وذكر في بعض كتب المقاتل : أن زينب الكبرى (عليها السلام) أقبلت إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت :
يا بقية الماضين وثمال الباقين ! قد أضرموا النار في مضاربنا فما رأيك فينا ؟
فقال (عليه السلام( :عليكن بالفرار.
ففررن بنات رسول الله صائحات باكيات .
قال بعض من شهد ذلك.
رأيت امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة ، والنار تشتعل من جوانبها ، وهي تارةً تنظر يمنة ويسرة ، وتارةً أخرى تنظر إلى السماء ، وتصفق بيديها ، وتارةً تدخل في تلك الخيمة وتخرج.
فأسرعت إليها وقلت : يا هذي ! ما وقوفك ها هنا والنار تشتعل من جوانبك ؟ ! وهؤلاء النسوة قد فررن وتفرقن ، ولم لم تلحقي بهن ؟ ! وما شأنك ؟ !
فبكت وقالت : يا شيخ إن لنا عليلاً في الخيمة ، وهو لا يتمكن من الجلوس والنهوض ، فكيف أفارقه وقد أحاطت النار به ؟ (9)
وعن حميد بن مسلم قال : رأيت زينب ـ حين إحراق الخيام ـ قد دخلت في وسط النار ، وخرجت وهي تسحب إنساناً من وسط لهيب النار ، فظننت أنها تسحب ميتاً قد احترق ، فاقتربت لأنظر إليه ، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين.
أيها القارئ الكريم : أنظر إلى هذه العملية الفدائية ، وهذه التضحية بالحياة!! كيف تقتحم هذه السيدة الجليلة المكان المشحون بلهيب النار ، لتنقذ ابن أخيها ـ، وإن شئت فقل : إمام زمانها ـ من بين أنياب الموت ؟ ! فهل تعرف نظيراً لهذه السيدة فيما قامت به من الخطوات والأعمال ؟!إنّها مغامرة بالحياة من أجل الدين ، إنّها إبنة ذلك البطل العظيم الذي كان يخوض غمار الموت ـ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للدفاع عن الإسلام والمحافظة على حياة نبي الإسلام ، إنّها إبنة أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) .

السيدة زينب تجمع العيال والأطفال

لقد أوصى الإمام الحسين أخته السيدة زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده (عليه السلام) ، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصية أمراً صعباً ، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على مخيمات الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد إحراق الخيام وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء!
ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيدة زينب ، وتخفي أنفسهن خلفها ، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي ، فكانت السيدة زينب (عليها السلام) تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال ، وقد إسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها !
وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيدة زينب تتفقد النساء والأطفال ، وتنادي كل واحدة منهن باسمها ، وتعدهم واحدةً واحدة ، وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال!

ليلة الوحشة :

باتت العائلة المفجوعة ليلة الحادية عشرة من المحرم بحالة لا يستطيع أي قلم شرحها ووصفها ، ولا يستطيع اي مصور أن يصور جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة .
قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرمة وهي تملك كل شيء ، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً .
رجالها صرعى مرملون بدمائهم ، وأطفالها مذبحون ، والأموال قد نهبت ، والأزر والمقانع سلبت ، والظهور والمتون قد سودتها السياط وكعاب الرماح .
ليس لهم طعام حتى يقدموه إلى من تبقى من الأطفال ، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جف اللبن في صدورهن جوعاً وعطشاً .
واستولت على العائلة ـ وخاصةً الأطفال ـ حالة الفواق ، وهي حالة تشنج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً ، فتتشنج الرئة ، ويخرج النفس متقطعاً .
يا للفاجعة ، يا للمأساة ، يا للمصائب.
لا غطاء ، ولا فراش ، ولا ضياء ، ولا أثاث ، ولا طعام.
قد أحدقت السيدات بالإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وهو بقية الماضين ، وثمال الباقين ، وهن يتفكرن بما خبأ لهن الغد من أولئك السفاكين.

ترحيل العائلة من كربلاء

لقد جاءوا بالنياق المهزولة لترحيل آل رسول الله ، فلا غطاء ولا وطاء!! آل رسول الله ، أشرف أسرة وأطهرها وأتقاها على وجه الأرض ، وكأنهن سبايا الكفار والمشركين!! لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى القساوة والفظاظة وكأنهم يحاولون الإنتقام منهن ، ويطلبون بثارات بدر وحنين ! وهل أستطيع أن أكتب ـ هنا ـ شيئاً من مواقف بني أمية تجاه آل رسول الله ؟! والله . . إنها وصمة خزي وعار لا تمحى ولا تزول بمرور القرون ، لقد وصموا بها جبهة التاريخ الإسلامي النزيه المشرق الوضاء .
عن كتاب (أسرار الشهادة) للدربندي : ثم أمر عمر بن سعد بأن تحمل النساء على الأقتاب (10) ، بلا وطاء ولا حجاب ، فقدمت النياق إلى حرم رسول الله (صلى الله علهي وآله وسلم) وقد أحاط القوم بهن ، وقيل لهن : تعالين واركبن ، فقد أمر إبن سعد بالرحيل (11) .
فلما نظرت زينب (عليها السلام) إلى ذلك نادت وقالت : سود الله وجهك يا بن سعد في الدنيا والآخرة ! تأمر هؤلاء القوم بأن يركبونا ونحن ودائع رسول الله ؟ ! فقل لهم : يتباعدوا عنا ، يركب بعضنا بعضاً .
فتنحوا عنهن ، فتقدمت السيدة زينب ، ومعها السيدة أم كلثوم ، وجعلت تنادي كل واحدة من النساء باسمها وتركبها على المحمل ، حتى لم يبق أحد سوى زينب (عليها السلام !( فنظرت يميناً وشمالاً ، فلم تر أحداً سوى الإمام زين العابدين وهو مريض ، فأتت إليه وقالت : قم يابن أخي واركب الناقة . قال : يا عمتاه ! إركبي أنت ، ودعيني أنا وهؤلاء القوم . فالتفتت يميناً وشمالاً ، فلم تر إلا أجساداً على الرمال ، ورؤوساً على الأسنة بأيدي الرجال ، فصرخت وقالت : واغربتاه ! وا أخاه ! وا حسيناه ! وا عباساه ! وا رجالاه ! وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله . . . فأقبلت فضة وأركبتها . . (12).



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 219 ـ 238 .
2ـ كتاب "معالي السبطين" ج 2 ص 13 ـ 14 ، المجلس السادس .
3 ـ كتاب " زينب الكبرى" للشيخ جعفر النقدي ، ص 58 .
4 ـ معالي السبطين ، ج 2 ص 5 ، الفصل العاشر ، المجلس الثاني
5 ـ معالي السبطين ، ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر ، رواه عن كتاب (تظلم الزهراء( .
6 ـ كتاب " تظلم الزهراء" للسيد رضي بن نبي القزويني ، ص 232 ، طبع بيروت ـ لبنان ، عام 1420 هـ
7 ـ كتاب " تظلم الزهراء" ص 233 ـ 234.
كتاب "تظلم الزهراء" ص 233 ـ 234.
8 ـ معالي السبطين : ج 2 ص 135 ـ 140، الفصل الخامس عشر ، المجلس الثاني عشر .
9 ـ معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثالث.
10 ـ أقتاب ـ جمع قتب ـ : وهو وشيء يصنع من خشب ، يشد على ظهر البعير ، ويغطى بقماش سميك ، لراحة الراكب ، وحفظه من السقوط . قال في "المعجم الوسيط" : القتب : الرحل الصغير على قدر سنام البعير .
11 ـ لقد ذكر السيد ابن طاووس في كتاب "الملهوف" ص 189: إنّ ترحيل العائلة كان بعد الزوال من اليوم الحادي عشر من المحرم .
12 ـ أسرار الشهادة : الشيخ الدربندي .

 
نسخة الجوال للمكتبة الإسلامية
نسخة الجوال للمكتبة الإسلامية
شاهد المكتبة الإسلامية في جوالك بشكل يلائم جميع أجهزة المحمولة.
خدمة الأوقات الشرعية
يمكنك باستخدام هذه الخدمة ، مشاهدة اوقات الصلاة واستماع صوت الأذان لمدينة خاصة في موقعك.