السيدة زينب

تاريخ ميلاد السيدة زينب(1)

في غضون السنة السادسة من الهجرة استقبل البيت العلوي الفاطمي الطاهر ـ بكل فرح وسرور ، وغبطة وحبور ـ الطفل الثالث من أطفالهم ، وهي البنت الأولى للإمام أمير المؤمنين والسيدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام) .
ففي اليوم الخامس من شهر جمادى الأولى ولدت السيّدة زينب ،(2) وفتحت عينها في وجه الحياة ، في دار يشرف عليها ثلاثة هم أطهر خلق الله تعالى : محمّد رسول الله ، وعلي أمير المؤمنين ، وفاطمة سيدة نساء العالمين ، صلى الله عليهم أجمعين ، هذا هو القول المشهور بين الشيعة ـ حالياً ـ وهناك أقوال أخرى في تحديد . تاريخة يوم وعام ميلادها المبارك .
ويجدر ـ هنا ـ أن نشير إلى جريمة تاريخية ارتكبها عملاء الأمويين وأعجب بها المنحرفون الذين وجدوا هذه الجريمة ـ أو الأكذوبة التاريخية ـ تلائم شذوذهم الفكري ، وانحرافهم العقائدي .
فقد ذكرت الكاتبة بنت الشاطئ في كتابها " بطلة كربلاء" ما نصه :
" إنها الزهراء بنت النبي ، توشك أن تضع في بيت النبوة مولوداً جديداً ، بعد أن أقرت عيني الرسول بسبطيه الحبيبين : الحسن والحسين ، وثالث لم يقدر الله له أن يعيش ، هو المحسن بن علي . . . . " (3).
من الثابت أنّ المحسن بن الإمام علي هو الطفل الخامس لا الثالث ، وهو الذي قتل وهو جنين في بطن أمه بعد أن عصروا السيدة فاطمة الزهراء بين حائط بيتها والباب ، وبسبب الضرب المبرح الذي أصاب جسمها وكان السبب في سقوط الجنبن . ولكن هذه الكاتبة المصرية تستعمل المغالطة والتزوير ، وتحاول إحقاق الباطل وإبطال الحق وتقول : إنّ السيدة زينب ولدت بعد المحسن بن علي الذي لم يقدر له أن يعيش !
فانظر كيف تحاول بنت الشاطئ تغطية الجنايات التي قام بها بعض الناس بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واقتحامهم بيت السيد فاطمة الزهراء (عليها السلام) لإخراج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليبايع خليفتهم ، ودفاع السيدة فاطمة عن زوجها ، وعدم سماح لهم باقتحام دارها ، وماجرى عليها من الضرب والركل والضغط ، فكانت النتيجة سقوط جنينها الذي سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في حياته ـ محسناً ، وهو ـ يومذاك ـ جنين في بطن أمه ! !

ولادة السيدة زينب
ولما ولدت السيدة زينب (عليها السلام) أخبر النبي الكريم بذلك ، فأتى منزل إبنته فاطمة ، وقال : يا بنية إيتيني ببنتك المولودة .
فلما أحضرتها أخذها النبي وضمها إلى صدره الشريف ، ووضع خده على خدها فبكى بكاءً شديداً عالياً ، وسالت دموعه على خديه .
فقالت فاطمة : مم بكاؤك ، لا أبكى الله عينك يا أبتاه ؟
فقال :يا بنتاه يا فاطمة ، إن هذه البنت ستبلى ببلايا وترد عليها مصائب شتى ، ورزايا أدهى .
يا بضعتي وقرة عيني ، إن من بكى عليها ، وعلى مصائبها يكون ثوابه كثواب من بكى على أخويها ، ثمّ سماها زينب (4).

إسمها وكنيتها
إسمها :
زينب

إنّ الأسماء مشتقة من المصادر ، والمصادر ـ طبعاً ـ لها معنىً ومفهوم ، فما هو معنى كلمة " زينب" ؟ الجواب : هناك قولان في هذا المجال :
الأوّل : إنّ " زينب" كلمة مركبة من : " زين" و" أب" (5).
الثاني : إنّ " زينب" كلمة بسيطـة وليست مركبة ، وهي إسم لشجرة أو وردة (6)
وعلى كل حال . . فلا خلاف في أن هذا الإسم جميل وحسن المعنى .
كنيتها : " أم كلثوم " و" أم الحسن" (7).
يوجد ـ في كتب التراجم ـ اضطراب شديد حول هذا الإسم وهذه الكنية ، فالمشهور أنّ السيدتين : زينب وأم كلثوم بنتان للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من السيدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام( .
وقد جاء التعبير عن السيدة زينب الكبرى ـ في بعض الأقوال التاريخية وعلى لسان بعض الخطباء والمؤلفين بـ"العقيلة" ، وهذا وصـف للسيـدة زينب وليس إسماً (8) .
ونحن نجد في كتب اللغة معاني عديدة لكلمة "العقيلة" ، فمنها : المرأة الكريمة ، النفيسة ، المخدرة(9). ومعنى الكريمة : المحترمة .



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 31 ـ 40 .
2ـ زينب الكبرى ، للعلامة الشيخ جعفر النقدي ـ رضوان الله عليه ، المتوفى سنة 1370 هـ ـ ص 17 ، باب إسمها وتاريخ ولادتها .
3ـ كتاب (بطلة كريلاء) لعائشة بنت الشاطئ ، ص 16 .
4 ـ ) ناسخ التواريخ ، المجلد الخاص بحياة السيدة زينب ، المسمى بـ (الطراز المذهب في أحوال سيدتنا زينب) .
5ـ كما احتمل ذلك الفيروز آبادي في كتابه " القاموس المحيط " .
6 ـ جاء في كتاب ( لسان العرب) : "الزينب شجر حسن المنظر ، طيب الرائحة ، وبه سميت المرأة".
7ـ كتاب (تحفة العالم في شرح خطبته المعالم) للسيّد جعفر بحر العلوم ، المتوفى سنة 1377 هـ .
8 ـ ذكر أبو الفرج الإصفهاني ـ المتوفى سنة 356 هـ في كتابه (مقاتل الطابيين) صفحة 60 طبع النجف الأشرف ، عام 1385 هـ ـ في ترجمة عون بن عبد الله بن جعفر ـ ما يلي : " أمه : زينب العقيلة ، والعقيلة : هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في "فدك" فقال : حدثتنا عقيلتنا زينب بنت علي عليه السلام .
9 ـ " لسان العرب" لابن منظور.


إن الذكاء المفرط ، والنضج المبكر يمهدان للطفل أن يرقى إلى أعلى الدرجات ـ إذا استغلت مواهبه ـ وخاصةً إذا كانت حياته محاطة بالنزاهة والقداسة ، وبكل ما يساعد على توجيه الطفل نحو الأخلاق والفضائل .
بعد ثبوت هذه المقدمة نقول :
ما تقول في طفلة : روحها أطهر من ماء السماء ، وقلبها أصفى من المرآة ، وتمتاز بنصيب وافر من الوعي والإدراك ، تفتح عينها في وجوه أسرتها الذين هم أشرف خلق الله ، وأطهر الكائنات ، وتنمو وتكبر وتدرج تحت رعاية والد لا يشبه آباء العالم ، وفي حجر والدة فاقت بنات حواء شرفاً وفضلاً وعظمة ؟ ! !
وإذا تحدثنا عن حياتها على ضوء علم التربية ، فهناك يجف القلم ، ويتوقف عن الكتابة ، لأن البحث عن حياتها التربوية يعتبربحثاً عن الكنز الدفين الذي لا يعرف له كم ولا كيف ، ولكن الثابت القطعي أنها تربية نموذجية ، وحيدة وفريدة .
وهل يستطيع الباحث أو الكاتب أو المتكلم أن يدرك الجو العائلي المستور في بيت الإمام علي والسيّدة فاطمة الزهراء عليهما السلام ؟
لقد روي أن رسـول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قرأ قوله تعالى:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}(2).
فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله أي بيوت هذه ؟
فقال : بيوت الأنبياء .
فقام إليه أبوبكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها ؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة .
فقال النبي : " نعم ، من أفضلها" (3).
ويجب أن لا ننسى أنّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ الذي أعطى المناهج التربوية للأجيال ، وأضاء طرق التربية الصحيحة للقرون ـ لابد وأنه يبذل إهتماماً بالغاً وعنايةً تامةً في تربية عائلته ، ويمهد لهم السبيل حتى ينالوا قمة الأخلاق والفضائل .
وخاصةً حينما يجد فيهم المؤهلات والإستعداد لتقبل تلك التعاليم التربوية .
ومن الواضح أن السيدة زينب ـ بمواهبها واستعدادها النفسي ـ كانت تتقبل تلك الأصول التربوية ، وتتبلور بها ، وتندمج معها ، وأكثر إنطباعات الإنسان النفسية يكون من أثر التربية ، كما أن أعماله وأفعاله ، بل وحتى حركاته وسكناته ، وتصرفاته وأخلاقه وصفاته نابعة من نوعية التربية التي أثرت في نفسه كل الأثر .
إذن ، فمن الصحيح أن نقول : إن السيدة زينب تلقت دروس التربية الراقية العليا في ذلك البيت الطاهر ، كالعلم ـ بما في ذلك الفصاحة والبلاغة ، والإخبار عن المستقبل ـ ومعرفة الحياة ، وقوة النفس وعزتها ، والشجاعة والعقل الوافر ، والحكمة الصحيحة في تدبير الأمور ، واتخاذ ما يلزم ـ من موقف أو قرار تجاه ما يحدث .
بالإضافة إلى إيمانها الوثيق بالله تعالى ، وتقواها ، وورعها وعفافها ، وحيائها ، وهكذا إلى بقية فضائلها ومكارمها .
وقد كان رسول الله )صلى الله عليه وآله وسلم) يغمر أطفال السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعواطفه ، ويشملهم بحنانه ، بحيث لم يعهد من جد أن يكون مغرماً بأحفاده إلى تلك الدرجة .
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إذا زارهم في بيتهم أو زاروه في بيته ـ يعطر خدودهم وشفاههم بقبلاته ، ويلصق خده بخدودهم.
ويعلم الله تعالى كم من مرة حظيت السيدة زينب (عليها السلام) بهذه العواطف الخاصة ؟ !
وكم من مرة وضع الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) خده الشريف على خد حفيدته زينب ؟ ! وكم من مرة أجلسها في حجره ؟ !
وكم من مرة تسلقت زينب أكتاف جدها الرسول ؟ !
ويؤسفنا أنّه لم تصل إلينا تفاصيل ، أو عينات تاريخية تنفعنا في هذا المجال ، وحول السنوات الخمس التي عاشتها السيدة تحت ظل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم .



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 43 ـ 49 .
2 ـ سورة النور/36.
3 ـ البرهان في تفسير القرآن ، للسيّد هاشم البحراني ، عند تفسير الآية الكريمة.


تستأنس البنت بأمها أكثر من استيناسها بأبيها ، وتنسجم معها أكثر من غيرها ، وتعتبر روابط المحبة بين الأم والبنت من الأمور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل ، فالأنوثة من أقوى الروابط بين الأم وبنتها .
وإذا نظرنا إلى هذه الحقيقة من زاوية علم النفس ، فإن الأم تعتبر ينبوعاً للعاطفة والحنان ، والبنت ـ بطبعها وطبيعتها ـ متعطشة إلى العاطفة ، فهي تجد ضالتها المنشودة عند أمها ، فلا عجب إذا اندفعت نحو أمها ، وانسجمت معها روحاً وقلباً وقالباً .
والسيّدة زينب الكبرى كانت مغمورة بعواطف أمها الحانية العطوفة ، وقد حلت في أوسع مكان من قلب أم كانت أكثر أمهات العالم حناناً ورأفةً وشفقةً بأطفالها .
السيّدة زينب الكبرى تعرف الجوانب الكثيرة من آيات عظيمة أمها سيدة نساء العالمين وحبيبة رسول الله وقرة عينه وثمرة فؤاده ، وروحه التي بين جنبيه ، صلى الله عليه وآله وسلم .
فقد فتحت السيّدة زينب الكبرى عينيها في وجه أطهر أنثى على وجه الأرض ، وعاشت معها ليلها ونهارها ، وشاهدت من أمها أنواع العبادة ، والزهد ، والمواساة والإيثار ، والإنفاق في سبيل الله ، وأطعام الطعام مسكيناً ويتيماً وأسيراً .
وشاهدت حياة أمها الزوجية ، والإحترام المتبادل بينها وبين زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وإطاعتها له ، وصبرها على خشونة الحياة وصعوبة المعيشة ، ابتغاء رضى الله تعالى .
كما عاصرت السيدة زينب الحوادث المؤلمة التي عصفت بأمها البتول بعد وفاة أبيها الرسول ، وما تعرضت له من الضرب والأذى ، كما سبقت منا الإشارة إلى ذلك .
وانقضت عليها ساعات اليمة وهي تشاهد أمها العليلة ، طريحة الفراش ، مكسورة الضلع ، دامية الصدر ، محمرة العين .
كما رافقت أمها الزهراء (عليها السلام) إلى مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين إلقاء الخطبة.



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 51 ـ 52 .


إنّ الاحترام اللائق ، والتقدير الرفيع كان متبادلاً بين السيدة زينب الكبرى وبين أخيها الأكبر ، وهو السبط الأوّل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الإمام الزكي ، الحسن المجتبى عليه السلام .
إن السيدة زينب كانت تنظر إلى أخيها الامام الحسن من مناظرين :

1 ـ منظار الأخوة.
2 ـ منظار الإمامة.

فمن ناحية : يعتبر الإمام الحسن الأخ الأكبر للسيدة زينب (عليها السلام) ، ومن المعلوم أنّ الأخ الأكر له مكانة خاصة عند الإخوة والأخوات ، وقد ورد في الحديث الشريف : "الأخ الأكبربمنزلة الأب"(2) .

ومن ناحية أخرى : يعتبر الإمام الحسن (عليه السلام) إمام زمان السيّدة زينب بعد شهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ؛ ولهذا فإنّ احترامها لاخيها كان ينبعث من هذين المنطلقين .
وتجدر الإشارة إلى أنّ كل ما سنذكره ـ من الروابط القلبية بين السيّدة زينب والإمام الحسين ـ فهي ثابتةً بينها وبين أخيها الإمام الحسن أيضاً ، وإذا كان التاريخ قد سكت عن التفاصيل فإن أصل الموضوع ثابت ، ونكتفي ـ هنا ـ بما ذكر في بعض الكتب من موقف السيّدة زينب حينما حضرت عند أخيها الإمام الحسن ساعة الوفاة : " . . . وصاحت زينب :
وا أخاه ! وا حسناه ! وا قلة ناصراه ! يا أخي من الوذ به بعدك ؟! وحزني عليك لا ينقطع طول عمري ! ثمّ إنّها بكت على أخيها ، وهي تلثم خديه وتتمرغ عليه ، وتبكي طويلاً" (3).



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 67 ـ 68 .
2ـ الحديث مروي عن الإمام علي بن موسى الرضا )عليه السلام) . ذكر في كتاب "بحار الأنوار" ج 75 ، 335 ، طبع لبنان عام 1403 هـ .
3 ـ معالي السبطين ، للمازندراني ، ج 1 ، المجلس التاسع


إنّ روابط المحبة ، والعلاقات الودية بين الإخوة والأخوات كانت من قديم الزمان ، حتى صارت يضرب بها المثل في المحبة والمودة بين اثنين ، فيقال : كأنهما أخوان ، أو كأنهما أخ وأخت.
ولكن العلاقات الودية وروابط المحبة بين الإمام الحسين وبين أخته السيدة زينب (عليهما السلام) كانت في القمة وكانت تمتاز بمزايا ، ولا أبالغ إذا قلت : لا يوجد ولم يوجد في العالم أخ وأخت تربطهما روابط المحبة والوداد مثل الإمام الحسين وأخته السيدة زينب . فإن كلاً منهما كان قد ضرب الرقم القياسي في مجال المحبة الخالصة ، والعلاقات القلبية .
وكيف لا يكونان كذلك وقد تربيا في حجر واحد وتفرعا من شجرة واحدة ؟!
ولم تكن تلك العلاقات منبعثة عن عاطفة القرابة فحسب ، بل عرف كل واحد منهما ما للآخر من الكرامة ، وجلالة القدر وعظم الشأن.

فالسيّدة زينب تعرف أخاها بأنّه :
سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتعلم بأنّ الله تعالى قد أثنى على أخيها في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، كآية المباهلة ، وآية المودة ، وآية التطهير ، وسورة "هل أتى" ، وغيرها من الآيات والسور .
بالاضافة إلى أنّها عاشت سنوات مع أخيها في بيت واحد ، وشاهدت ما كان يتمتع به أخوها من مكارم الأخلاق والعبادة والروحانية ، وعرفت ما لأخيها من علو المنزلة ، وسمو الدرجة عند الله عزّوجلّ .
وتعلم أنّه إمام منصوب من عند الله تعالى ، منصوص عليه بالإمامة العظمى ، والولاية الكبرى من الرسول الأقدس صلى الله عليه وآله وسلم .
مع توفر شروط الإمامة ولوازمها فيه ، كالعصمة ، والعلم بجميع أنواع العلوم ، وغير ذلك .
وهكذا يعرف الإمام الحسين (عليه السلام) أخته السيّدة زينب حق المعرفة ، ويعلم فصائلها وفواضلها وخصائصها .
ومن هنا يمكن لنا أن نطلع على شيء من مدى الروابط القوية بين هذا الأخ العظيم وأخته العظيمة .
وقد جاء في التاريخ : أنّ الإمام الحسين (عليه اسلام) كان يقرأ القرآن الكريم ـ ذات يوم ـ فدخلت عليه السيّدة زينب ، فقام من مكانه وهو يحمل القرآن بيده ، كل ذلك احتراماً لها (2).



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 69 ـ 71 .
2 ـ كتاب (ذخيرة المعاد) للشيخ زين العابدين المازندراني.


لمّا بَلَغت السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) مَبلَغ النساء ، خطَبَها ـ فيمَن خطَبَها ـ ابنُ عمّها : عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .
وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يَرغَبُ أن يتزوّج بناته من أبناء عُمومتهنّ : أولاد عقيل وأولاد جعفر ، ولعلّ السبب في ذلك هو كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ حينَ نظر الى أولاد الإمام علي وأولاد جعفر بن أبي طالب ـ فقال : " بَناتُنا لبَنينا ، وبَنونا لبَناتنا"(2).
وحصلت الموافقة على الزواج ، وتمّ العقد المبارك في جوّ عائلي يَغمره الودّ والمحبّة ، وزُفّت السيدة زينب (عليها السلام) إلى دار زوجها عبد الله بن جعفر .. بكلّ إجلال واحترام . وأنجَبَت منه أولاداً كانوا ثمرات تلك الشجرة الطيّبة ، وفروع أغصانها ، فلقد وَرِثوا المجد والشرف من الجانبين .

أولاد السيدة زينب (عليها السلام((3)
لقد اختلف المؤرّخون في عدد أولاد السيدة زينب (عليها السلام) وأسمائهم .
ففي كتاب (إعلام الورى) للطبرسي :
وقيل : علي ، وعون الأكبر ، ومحمد ، وعباس ، وأمّ كلثوم (4).
أمّا محمّد وعون فقد استُشهدا في نُصرة خالهما : الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء بكربلاء .
وأمّا أم كلثوم فقد تزوّج بها ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر ، وقد استُشهد في فاجعة كربلاء .



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 75 ـ 76 .
2 ـ الفقيه 3: 249 باب الأكفاء ح 1184.
3 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 101 ـ 102 .
4ـ كتاب "إعلام الورى بأعلام الهدى" للطبرسي ، طبع النجف الأشرف سنة 1390 هـ ، ص 204، تذكرة الخواص ، لسبط ابن الجوزي ، طبع لبنان ، سنة 1401 هـ ، ص 175 .


لا بدّ مِن أن نبدأ من أوائل الواقعة ، مع رعاية الاختصار ، ليكون القارئ على بصيرة أكثر من الأمر :
مات معاوية بن أبي سفيان في النصف من شهر رجب ، سنة 60 من الهجرة ، وجلس ابنه يزيد على منصّة الحكم ، وكتب إلى الولاة في البلاد الاسلامية يُخبرهم بموت معاوية ، ويطلب منهم أخذ البيعة له من الناس .
وكتب إلى والي المدينة كتاباً يأمره بأخذ البيعة له من أهل المدينة بصورة عامّة ، ومن الإمام الحسين (عليه السلام) بصورة خاصّة ، وإن امتنع الإمام عن البيعة يلزم قتله ، وعلى الوالي تنفيذ الحُكم ، واستطاع الإمام الحسين أن يتخلّص مِن شرّ تلك البيعة .
وخرج إلى مكة في أواخر شهر رجب ، وانتشر الخبر في المدينة المنوّرة أنّ الإمام امتنع عن البيعة ليزيد ، وانتشر الخبر ـ أيضاً ـ في مكة ، ووصل الخبر إلى الكوفة والبصرة .
وكانت رحلة الإمام الحسين إلى مكة بداية نهضته (عليه السلام) ، وإعلاناً واعلاماً صريحاً بعدم اعترافه بشرعيّة خلافة يزيد ، واغتصاب ذلك المنصب الخطير .
وهكذا استنكف المسلمون أن يدخلوا تحت قيادة رجل فاسد فاسق ، مُستهتر مفتضح ، متجاهر بالمنكرات . فجعل أهل العراق يكاتبون الإمام الحسين (عليه السلام) ويطلبون منه التوجّه إلى العراق ليُنقذهم من ذلك النظام الفاسد ، الذي غيّر سيماء الخلافة الإسلامية بأبشع صورة وأقبح كيفيّة !
كانت الرسل والمراسلات متواصلة بين الكوفة ومكة ، ويزداد الناس إصراراً وإلحاحاً على الإمام الحسين أن يُلبّي طلبهم ، لأنه الخليفة الشرعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنصوص عليه بالخلافة من جدّه الرسول الكريم.
فأرسل الإمام الحسين (عليه السلام) إبنَ عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، والتفّ الناس حول مسلم ، وبايعوه لأنّه سفير الإمام ومبعوثه ، وبلغ عدد الذين بايعوه ثمانية عشر ألفاً ، وقيل : أكثر مِن ذلك . فكتب مسلم إلى الإمام يُخبره باستعداد الناس للتجاوب معه ، والترحيب به ونصرته ـ كما فهمه مسلم مِن ظواهر الأمور ـ .
وقرّر الإمام أن يخرج من مكة نحو العراق مع عائلته المصونة وإخوته وأخواته ، وأولاده وأبناء عمّه وجماعة مِن أصحابه وغيرهم ، وخاصّة بعدما عَلِم بأنّ يزيد قد بعث عصابة مسلّحة ، مؤلّفة من ثلاثين رجل ، وأمرهم بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة ، أينما وجدوه .. حتى لو كان مُتعلّقاً بأستار الكعبة !

مجيء ابن زياد الى الكوفة :

وجاء عبيد الله بن زياد ابن أبيه من البصرة الى الكوفة والياً عليها من قِبل يزيد بن معاوية ، وجعل يهدّد الناس بجيش موهوم ، قادم من الشام .
واجتمع حوله الذين كانوا لا يتعاطفون مع الإمام الحسين ، وجعل ابن زياد يُفرّق الناس عن مسلم بالتهديد والتطميع ، فانفرج الناس عن مسلم ، وتفرّقوا عنه .
وفي اليوم الذي خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة نحو العراق كانت الأمور منقلبة ضدّ مسلم في الكوفة ، وأخيراً أُلقي عليه القبض وقُتل (رضوان الله عليه( ، وفي أثناء الطريق بلغ خبر شهادة مسلم إلى الإمام الحسين ، فكانت صدمة على قلبه الشريف .
ولا نعلم ـ بالضبط ـ هل رافقت السيدة زينب الكبرى عائلة أخيها من المدينة ؟ أم أنّها التَحقت به بعد ذلك ؟ وخَفيت علينا كيفيّة خروجها من المدينة المنوّرة إلى مكّة ، ولكنّنا نعلم أنّها كانت مع عائلة أخيها حين الخروج من مكّة ، وفي اثناء الطريق نحو الكوفة ، وعاشت أحداث الطريق من لقاء الحرّ بن يزيد الرياحي بالإمام ، ومُحاولته إلقاء القبض على الإمام في أثناء الطريق وتسليمه إلى عبيد الله بن زياد .
وإلى أن وصلوا إلى كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم ، ونزل الإمام ومَن معه ، ونَصَبوا الخيام ينتظرون المُقدّرات والحوادث .

الإمام الحسين يَصطحب العائلة
لقد عرفنا أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم ـ بِعلم الإمامة ـ بأنّه سيفوز بالشهادة في أرض كربلاء ، وكان يعلم تفاصيل تلك الفاجعة وأبعادها .
ولعلّ بعض السُذّج من الناس كان يعتبر اصطحاب الإمام الحسين عائلته المكرّمة إلى كربلاء منافياً للحكمة ، لأن معنى ذلك تعريض العائلة للإهانة والمكاره ، وأنواع الاستخفاف .
وما كان أولئك الناس يعلمون بأنّ اصطحاب الإمام الحسين (عليه السلام) عائلته المَصونة ـ وعلى رأسهن السيدة زينب ـ كان من أوجب لوازم نجاح نهضته المباركة. إذ لولا وجود العائلة في كربلاء لكانت نهضة الإمام ناقصة ، غير متكاملة الأجزاء والأطراف ؛ فإنّ أجهزة الدعاية الأموية ما كانت تتحاشى ـ بعد إرتكاب جريمة قتل الإمام الحسين ـ أن تُعلن براءتها من دم الإمام ، بل وتُنكر مقتل الإمام نهائياً ، وتنشر في الأوساط الإسلامية انّ الإمام توفّي على أثر السكتة القلبيّة ، مثلاً !!، وليس في هذا الكلام شيء من المبالغة ، ففي هذه السنة ـ بالذات ـ إنتشرت في بعض البلاد العربية مجموعة من الكتب الضالّة التائهة ، بأقلام عُملاء مُستأجرين ، من بهائم الهند ، وكلاب باكستان ، وخنازير نَجد . ومن جملة تلك الأباطيل التي سوّدوا بها تلك الصفحات ، هي إنكار شهادة الإمام الحسين ، وأن تلك الواقعة لا أصل لها أبداً .
فهذه الفاجعة قد مرّت عليها حوالي أربعة عشر قرناً ، وقد ذكرها الألوف من المؤرخين والمحدّثين ، واطّلع عليها القريب والبعيد ، والعالم والجاهل ، بل وغير المسلمين ايضاً لم يتجاهلوا هذه الفاجعة المروّعة .
وتُقام مجالس العزاء في ذكرى إستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في عشرات الآلاف من البلاد ، في جميع القارّات ، حتى صارت هذه الفاجعة أظهر من الشمس ، وصارت كالقضايا البديهيّة التي لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها ، بسبب شُهرتها في العالم .
وإذا بأفراد قد تجاوزوا حدود الوقاحة ، وضربوا الرقم القياسي في صلافة الوجه وانعدام الحياء ، يأتون وينكرون هذه الواقعة كلّياً . ولقد رأيتُ بعض مَن يدور في فلك الطواغيت ، ويجلس على موائدهم ، ويملأ بطنه من خبائثهم ، أنكر واقعة الجمل وحرب البصرة نهائيّاً ، تحفّظاً على كرامة إمراءة خرجت تقود جيشاً لمحاربة إمام زمانها ، وأقامت تلك المجزرة الرهيبة في البصرة ، التي كانت ضحيّتها خمسة وعشرين ألف قتيل . هذه محاولات جهنّمية ، شيطانية ، يقوم بها هؤلاء الشواذ ، وهم يظنّون أنّهم يستطيعون تغطية الشمس كي لا يراها أحد ، ويريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره . وهذه النشاطات المسعورة ، إن دلّت على شيء فإنّما تدل على هويّة هؤلاء الكُتّاب وماهيّتهم ، وحتى يَعرف العالَم كله أن هؤلاء فاقدون للشرف والضمير ـ بجميع معنى الكلمة ـ ولا يعتقدون بدينٍ من الأديان ، ولا بمبدأ من المبادئ ، سوى المادة التي هي الكل في الكلّ عندهم !!
إنّ تواجد العائلة في كربلاء ، وفي حوادث عاشوراء بالذات لم يُبقِ مجالاً للأمويين ولا لغيرهم ـ في تلك العصور ـ لإنكار شهادة الإمام الحسين . إنّ الأمويين الأغبياء ، لو كانوا يَفهمون لاكتَفوا بقتل الإمام الحسين فقط ، ولم يُضيفوا إلى جرائمهم جرائم أخرى ، مِثل سَبي عائلة الإمام الحسين (عليه السلام) ، ومُخدّرات الرسالة ، وعقائل النبوة والوحي ، وبنات سيد الأنبياء والمرسلين . ولكنّهم لكي يُعلنوا إنتصاراتهم في قتل آل رسول الله (عليهم السلام) أخذوا العائلة المكرّمة سبايا من بلد إلى بلد . وكانت العائلة لا تدخل إلى بلد إلا وتوجد في أهل ذلك البلاد الوعي واليقظة ، وتكشف الغطاء عن جرائم يزيد ، وتُزيّف دعاوى الأمويّين حول آل رسول الله : بأنّهم خوارج وأنّهم عصابة مُتمرّدة على النظام الأموي.
ونُلخّص القول ـ هنا ـ فنقول : كان وجود العائلة ـ في هذه الرحلة ، والنهضة المباركة ـ ضرورياً جداً جداً ، وكان جزءاً مُكمّلاً لهذه النهضة ؛ فإنّ هذه الأسرة الشريفة كانت على جانب عظيم من الحِكمة واليقظة ، والمعرفة وفهم الظروف ، واتّخاذ التدابير اللازمة كما تقتضيه الحال .

الإمام الحسين في طريق الكوفة

رويَ أن الإمام الحسين (عليه السلام) لمّا نزل الخزيمية قام بها يوماً وليلة ، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب (عليها السلام) فقالت :
يا أخي ! ألا أُخبرك بشيء سمعته البارحة ؟
فقال الحسين (عليه السلام) : وما ذاك ؟
فقالت : خَرجتُ في بعض الليل فسمعت هاتفاً يهتف ويقول :

ألا يـا عيـنُ فاحتفلي بجهد علـى قـومٍ تسـوقهم المنايا
ومَن يبكي على الشهداء بعدي بمقـدار إلـى إنجـاز وعـدِ


فقال لها الحسين )عليه السلام) : يا أختاه كل الذي قُضيَ فهو كائن (2).
وقد التقى الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى الكوفة برجل يُكنّى "أبا هرم" ، فقال : يابن النبي ما الذي أخرجك من المدينة ؟!
فقال الإمام : "... . وَيحَك يا أبا هرم ! شَتَموا عِرضي فصَبرتُ ، وطلِبوا مالي فصبرتُ ، وطلبوا دمي فهربت! وأيمُ الله ليَقتلونني ، ثمّ ليُلبِسنّهم الله ذُلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وليُسلّطنّ عليهم من يُذلّهم(3).

وصول الإمام الحسين إلى أرض كربلاء
وفي الطريق إلى الكوفة ، إلتقى الإمام الحسين (عليه السلام) بالحرّ بن يزيد الرياحي ، وكان مُرسلاً مِن قِبَل ابن زياد في ألف فارس ، وهو يريد أن يذهب بالإمام إلى ابن زياد ، فلم يوافق الإمام الحسين على ذلك ، واستمرّ في السير حتى وصل إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم سنة 61 للهجرة.
فلمّا نزل بها ، قال : ما يُقال لهذه الأرض ؟
فقالوا : كربلاء !
فقال الإمام : "اللهم إنّي أعوذُ بك من الكرب والبلاء" ، ثم قال لأصحابه : إنزِلوا ، هاهنا مَحَطّ رحالنا ، ومَسفك دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا . بهذا حدّثني جدّي رسول الله ) صلى الله عليه وآله وسلم) قال السيّد ابن طاووس في كتاب "الملهوف" (4) :
لمّا نزلوا بكربلاء جلس الإمام الحسين (عليه السلام) يُصلح سيفه ويقول :

يـا دهرُ أفٍ لك من خليل مِن طـالبٍ وصاحبٍ قتيل وكـلّ حيّ سالكٌ سبيلـي
كم لك بالإشراق و الأصيل و الدهـر لا يقنـعُ بالبَديل ما أقربَ الوعد من الرحيلِ
وإنّما الأمر إلى الجليلِ


فسمعت السيدة زينب بنت فاطمة (عليها السلام) ذلك ، فقالت : يا أخي هذا كلام مَن أيقَن بالقَتل !
فقال : نعم يا أختاه .
فقالت زينب : واثكلاه ! ينعى إليّ الحسين نفسه .
وبكت النِسوة ، ولَطمن الخدود ، وشقَقن الجيوب ، وجعلت أمّ كلثوم تنادي : وامحمّداه ! واعليّاه ! وا أمّاه ! وا فاطمتاه ! واحَسَناه ! واحُسيناه ! واضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله ... إلى آخره (5).
ورَوى الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد) هذا الخبر بكيفيّة أُخرى وهي :
قال علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) :
إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تُمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خِباء له ، وعنده جوين مولى أبي ذرٍ الغفاري ، وهو يعالج سيفه ويُصلحه ، وأبي يقول :

يا دهـر أفّ لك من خليل مِـن صاحب وطالبٍ قتيل و إنّمـا الأمـر إلى الجلل
كم لك بالإشراق والأصيل والدهـر لا يقنـع بالبديل وكلّ حـي سـالكٌ سبيلي


فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ، حتّى فهمتُها ، وعَرفت ما أراد ، فخَنَقتني العبرة ، فرددتها ، ولَزِمتُ السكوت ، وعلِمت أنّ البلاء قد نزل .
وأمّا عمتي : فإنّها سَمِعت ما سمعتُ ، وهي إمرأة ، ومن شأنها النساء : الرقّة والجزع ، فلم تِملِك نفسها ، إذ وَثَبت تجرّ ثوبها ، حتى انتهت إليه فقالت
واثكلاه ! ليتَ الموت أعدَمَني الحياة ، اليوم ماتت أُمّي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثِمال الباقين !
فنظر إليها الإمام الحسين فقال لها : يا أُخيَّة ! لا يُذهِبنّ حِلمَك الشيطان .
وتَرقرَقَت عيناه بالدموع ، وقال : يا أُختاه ، " لو تُرك القَطا لغَفا ونامَ".
فقالت : يا ويلتاه ! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ؟ فذاك أقرَحُ لقلبي ، وأشدّ على نفسي ، ثمّ لطمت وجهها ! وأهوَت إلى جيبِها فشقّته ، وخرّت مغشيّاً عليها .
فقام إليها الإمام الحسين (عليه السلام) فَصَبّ على وجهها الماء ، وقال لها : إيهاً يا أُختها ! إتّقي الله ، وتَعزّي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأنّ أهل السماء لا يَبقون ، وأنّ كلّ شيء هالِك إلا وجه الله ، الذي خلق الخلق بقُدرته ، ويَبعث الخلق ويعيدهم وهو فردٌ وحده .
جدّي خيرٌ مني ، وأبي خيرٌ منّي ، وأُمّي خيرٌ منّي ، وأخي [الحسن] خيرٌ منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أُسوة .
فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : " يا أُختاه إني أقسمتُ عليكِ ، فأبِرّي قَسَمي ، لا تَشُقّي عَلَيّ جَيباً ، ولا تَخمشي عليّ وجهاً ، ولا تَدعي عليّ بالويل والثُبور إذا أنا هلكتُ".
ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي ، وخرج إلى أصحابه (6)

.



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 133 ـ 167 .
2 ـ كتاب "نفس المهموم" للشيخ عباس القمي ، ص 179.
3 ـ الحديث مرويّ عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، مذكور في كتاب " أمالي الصدوق " ص 129 ، حديث 1 ، وذكره الشيخ المجلسي في " بحار الأنوار" ج 44 ص 310.
4 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ص 139.
5ـ الملهوف على قتلى الطفوف : ص 139.
6 ـ الإرشاد للشيخ المفيد ، ص 232 . وذكره الطبري ـ المتوفّى عام 310 هـ ـ في تاريخه ج 5 ص 420 .


كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) تَشعر باقتراب الخطر يوماً بعد يوم ، وساعةً بعد ساعة ، وكيف لا ؟ والسيل البشري يتدفّق نحو أرض كربلاء لقتل ريحانة رسول الله وسبطه الحبيب ؟
وآخر راية وصلت إلى كربلاء : راية شمر بن ذي الجوشن في ستّة آلاف مقاتل ، ومعه الحُكم الصادر مِن عبيد الله بن زياد ، يأمر فيه ابن سعد أن يُخيّر الإمام الحسين بين أمرين :
1 ـ الإستسلام.
2 ـ الحرب.

فزحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد ( عليهم السلام ) ونظرت السيدة زينب إلى أسراب من الذئاب تتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة.

ليلة عاشوراء :
فزحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمّد ( عليهم السلام ) ونظرت السيدة زينب إلى أسراب من الذئاب تتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة.
ويعلم الله تعالى مدى الخوف والقلق والإضطراب الذي استولى على قلوب آل رسول الله.
وأقبلت السيدة زينب تبحث عن أخيها ، لتُخبره بهذا الهجوم المُفاجئ في تلك السويعات الأخيرة من اليوم التاسع من المحرّم ، قريب الغروب.
وأخيراً ، وصلت إلى خيمة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وإذا بالإمام جالس ، وقد احتضن ركبتيه ، ووضع رأسه عليهما ، وقد غلبه النوم.
واستيقظ الإمام على صوت أخته الحوراء تُخاطبه ـ بصوت مليء بالرُعب ، مزيج بالعاطفة والحنان ـ .. قائلةً: أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟
فرفع الإمام الحسين رأسه وقال : أُخيّه ! إنّي رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الساعة في المنام ، وقال لي : " إنّك تروح إلينا ".
أو " إنّي رأيت ـ الساعة ـ محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبي عليّاً ، وأمّي فاطمة ، وأخي الحسن وهم يقولون : يا حسين إنّك رائحٌ إلينا عن قريب " (2).
فلطمت السيدة زينب وجهها ، وصاحت : واويلاه ، وبكت.
فقال لها الإمام الحسين : ليس لك الويل يا أخيّة ، لا تُشمِتي القوم بنا ، أُسكتي رحمك الله (3).
فنهض الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأرسل أخاه العبّاس ابن علي مع عشرين فارساً من أصحابه ، وقال : " يا عباس إركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم مالكم وما بدا لكم ؟؟ وتسألهم عمّا جاء بهم ؟
فأتاهم العباس وقال لهم : ما بَدا لكم وما تريدون ؟
قالوا : قد جاء أمر ابن زياد أن نَعرِض عليكم : أن تنزلوا على حُكمه ، أو نُناجزكم !
فقال العباس : لا تَعجَلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله ، فأعرض عليه ما ذكرتم.
فتوقّف الجيش ، وأقبل العباس إلى أخيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأخبره بما قاله القوم.
فقال الإمام إرجع إليهم .. فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدٍ وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلّنا نُصلّي لربنا الليلة وندعوه .. فهو يعلم أني أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه ؟
فمضى العباس إلى القوم فاستمهلهم ، وأخيراً .. وافقوا على ذلك (4).



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 169 ـ 172 .
2ـ كتاب ( الملهوف على قتلى الطفوف ) للسيّد ابن طاووس ، طبع ايران ، عام 1414 هـ ، ص 151.
3 ـ كتاب " معالي السبطين " للمازندراني ، ج 1 ، ص 204 ، الفصل الثامن ، المجلس الأوّل.
4 ـ كتاب " معالي السبطين " للمازندراني ، ج 1 ، ص 332.


أصبح الصباح من يوم عاشوراء ، واشتعلت نار الحرب وتوالت المصائب ، الواحدة تلو الأخرى ، وبدأت الفجائع تترى! فالأصحاب والأنصار يبرزون إلى ساحة الجهاد ، ويستشهدون زرافات ووحدانا ، وشيوخاً وشباناً.
ووصلت النوبة إلى أغصان الشجرة النبوية ، ورجالات البيت العلوي ، الذين ورثوا الشجاعة والشهامة ، وحازوا عزة النفس ، وشرف الضمير ، وثبات العقيدة ، وجمال الاستقامة.
ووصلت النوبة إلى أولاد السيدة زينب عليها السلام وأفلاذ كبدها. .
أولئك الفتية الذين سهرت السيدة زينب لياليها ، وأتبعت أيامها ، وصرفت حياتها في تربية تلك البراعم ، حتى نمت وأورقت.
إنها قدمت أغلى شيء في حياتها في سبيل نصرة أخيها الإمام الحسين عليه السلام .
وتقدم أولئك الأشبال يتطوعون ويتبرعون بدمائهم وحياتهم في سبيل نصرة خالهم ، الذي كان الإسلام متجسداً فيه وقائماً به ، وغريزة حب الحياة إنقلبت ـ عندهم ـ إلى كراهية تلك الحياة.

ومن يرغب ليعيش في أرجس مجتمع متكالب ، يتسابق على إراقة دماء أطهر إنسان يعتبر مفخرة أهل السماء والأرض ؟! وكان عبد الله بن جعفر ـ زوج السيده زينب ـ قد أمر ولديه : عوناً ومحمداً أن يرافقا الإمام الحسين ) عليه السلام ) ـ لما أراد الخروج من مكه ـ والمسير معه ، والجهاد دونه.
فلما انتهى القتال إلى الهاشميين برز عون بن عبد الله بن جعفر ، وهو يرتجز ويقول :

إن تنكروني فأنا ابن جعفر يطيـر فيها بجناح أخضر
شهيد صدق في الجنان أزهر كفى بهذا شـرفاً في المحشر

فقتل ثلاثة فرسان ، وثمانية عشر راجلاً ، فقتله عبد الله بن قطبة الطائي.
ثمّ برز أخوه محمّد بن عبد الله بن جعفر ، وهو ينشد :

أشكـو إلى الله من العدوان قـد بدلـوا معـالم القرآن
فعال قوم في الردى عميان ومحكـم التنزيـل والتبيان
وأظهروا الكفر مع الطغيان

فقتل عشرة من الأعداء ، فقتله عامر بن نهشل التميمي (2).
أقول : لم أجد في كتب المقاتل أن السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) صاحت أو ناحت أو صرخت أو بكت في شهادة ولديها ، لا في يوم عاشوراء ولابعده ، ومن الثابت أن مصيبة ولديها أوجدت في قلبها الحزن العميق ، بل والهبت في نفسها نيران الأسى وحرارة الثكل ، ولكنها ( عليها السلام ) كانت تخفي حزنها على ولديها ؛ لأنّ جميع عواطفها كانت متجهة إلى الإمام الحسين عليه السلام.



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 195 ـ 201 .
2ـ كتاب (مناقب آل ابي طالب) لابن شهر آشوب ، ج 4 ص 106 ، وبحار الأنوار ج 45 ص 33 .


لقد كانت العلاقات الودية بين السيدة زينب وبين أخيها أبي الفضل العباس ( عليهما السلام ) تمتاز بنوع خاص من تبادل المحبة والإحترام ، فقد كانت السيدة زينب تكن لإخوتها من أبيها كل عكاطفة وود ، وكان ذلك العطف والتقدير يظهر من خلال كيفية تعاملها مع إخوانها الأكارم.
وكان سيدنا أبو الفضل العباس ـ بشكل خاص ـ يحترم أخته زينب احتراماً كثيراً جداً.
وفي طوال رحلة قافلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) من مكة نحو العراق .. كان العباس هو الذي يقوم بشؤون السيدة زينب ، من مساعدتها حين الركوب أو النزول من المحمل ويبادر إلى تنفيذ الأوامر والطلبات بكل سرعة .. ومن القلب.
فالسيدة زينب ( عليها السلام ( محترمة ومحبوبة عند الجميع ،
يحبونها لعواطفها وأخلاقها المثالية ، يضاف إلى ذلك : أنها عميدة الأسرة ، وعقيلة بني هاشم ، وابنة فاطمة الزهراء ، وسيدة نساء أهل البيت.
ومنذ وصول قافلة الإمام الحسين إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم ، إختار سيدنا العباس بن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) لنفسه نوعاً خاصاً من العبادة : وهي أنه كان إذا جن الليل يركب الفرس ويحوم حول المخيمات لحراسة العائلة.
وفي يوم عاشوراء ، لما قتل أكثر أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) أقبل العباس إلى أخيه الحسين واستأذنه للقتال ، فلم يأذن له ، وقال : " أخي أنت صاحب لوائي ، فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات ".
فقال العباس : يا سيدي لقد ضاق صدري وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين.
فقال له الإمام الحسين ( عليه السلام ) : " إذن .. فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء" .
فأقبل العباس وحمل القربة وتوجه نحو النهر ليأتي بالماء ... ، وإلى أن وصل إلى الماء وملأ القربة ، وتوجه نحو خيام الإمام الحسين ( عليه السلام ). فجعل الأعداء يرمونه بالسهام ـ كالمطر ـ حتى صار درعه كالقنفذ ، ثم قطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب ، فحاربهم وقاتلهم قتال الأبطال ، وكان جسوراً على الطعن والضرب.
فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وضربه بالسيف على يمينه فقطعها ، فأخذ السيف بشماله واستمر في القتال ، فضربه لعين على شماله فقطع يده ، وجاءته السهام والنبال من كل جانب ، وجاء سهم وأصاب القربة فأريق ماؤها ، وضربه الأعداء بعمود من حديد على رأسه ، فسقط على الأرض صريعاً ، ونادى ـ بأعلى صوته ـ : أدركني يا أخي !
وكان الإمام الحسين ( عليه السلام ) قد وقف على ربوة عند باب الخيمة .. وهو ينظر إلى ميدان القتال ، وكانت السيدة زينب واقفة تنظر إلى وجه أخيها ، وإذا بالحزن قد غطى ملامح الإمام الحسين ! فقالت زينب : أخي مالي أراك قد تغير وجهك ؟ فقال : أخيه لقد سقط العلم وقتل أخي العباس !
فكان السيدة زينب إنهد ركنها ، وجلست على الأرض وصرخت : وا أخاه ! وا عباساه !
وا قلة ناصراه ، واضيعتاه من بعدك يا أبا الفضل !
فقال الإمام الحسين : " إي والله ، من بعده وا ضيعتاه ! وا إنقطاع ظهراه !
وأقبل الحسين ـ كالصقر المنقض ـ حتى وصل إلى أخيه فرآه صريعاً على شاطئ الفرات ، فنزل عن فرسه ووقف عليه منحنياً ، وجلس عند رأسه ، وبكى بكاءً شديداً ، وقال : " يعز ـ والله ـ علي فراقك ، الآن إنكسر ظهري ، وقلت حيلتي ، وشمت بي عدوي " .



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 203 ـ 206 .


إن مشكلة كبيرة واحدة تحدث في حياة الإنسان قد تسلبه القرار والاستقرار ، وتورثه الأرق والقلق والسهر ، وترفض عيناه النوم ، فكيف إذا أحاطت به عشرات المشاكل الكبيرة ؟!
من الواضح أن أقل ما يمكن أن تسببه تلك المشاكل هو : الإنهيار العصبي ، وفقدان الوعي ، واختلال المشاعر وتبلبل الفكر ، وتشتت الخاطر.
فهل نستطيع أن نتصور كيف انقضت ليلة عاشوراء على آل رسول الله ؟!
فالهموم والغموم ، والخوف والتفكر حول الغد ، وما يحمله من الكوارث والفجائع ، وبكاء الأطفال من شدة العطش ، ـ وغير ذلك من المميزات تلك الليلة ـ جعلت الليلة فريدة من نوعها في تاريخ حياة أهل البيت ( عليهم السلام .( وفي ساعة من ساعات تلك الليلة خرج الإمام الحسين ( عليه السلام ) من منطقة المخيم ، راكباً جواده ، يبحث في تلك الضواحي حول التلال والربووات ـ المشرفة على منطقة المخيم ـ التي كان من الممكن أن يمكن العدو خلفها غداً ، إذا اشتعلت نار الحرب.
ويرافقه في تلك الجولة الإستطلاعية نافع بن هلال ، وهو ذلك البطل الشجاع المقدام ، وكان من أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له ، فلنستمع إليه:
إلتفت الإمام خلفه وقال : من الرجل ؟ نافع ؟
قلت : نعم ، جعلني الله فداك !! أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معسكر هذا الطاغي.
فقال : يا نافع ! خرجت أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون. ثم رجع ( عليه السلام ) وهو قابض على يساري ، وهو يقول : " هي ، هي ، والله ، وعد لا خلف فيه ".
ثم قال : يا نافع ! ألا تسلك ما بين هذين الجبلين من وقتك هذا ، وتنجو بنفسك ؟
فوقعت على قدميه ، وقلت : إذن ثكلت نافعاً أمه!!
سيدي : إن سيفي بألف ، وفرسي مثله ، فو الله الذي من علي بك لا أفارقك حتى يكلا عن فري وجري.
ثم فارقني ودخل خيمة أخته ، فوقفت إلى جنبها رجاء أن يسرع في خروجه منها.
فاستقبلته زينب ، ووضعت له متكئاً ، فجلس وجعل يحدثها سراً ، فما لبثت أن اختنقت بعبرتها ، وقالت : وا أخاه ! أشاهد مصرعك ، وأبتل برعاية هذه المـذاعيرمن النساء ؟ والقوم ـ كما تعلم ـ ما هم عليه من الحقد القديم.
ذلك خطب جسيم ، يعز علي مصرع هؤلاء الفتية الصفوة ، وأقمار بني هاشم!
ثم قالت : أخي هل إستعلمت من أصحابك نياتهم ؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، واصطكاك الأسنة !
فبكى ( عليه السلام ) وقال : أما والله لقد لهزتهم وبلوتهم ، وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل بلبن أمه.
قال نافع بن هلال : فلما سمعت هذا منه بكيت ، واتيت حبيب بن مظاهر ، وحكيت له ما سمعت منه ومن أخته زينب. فقال حبيب : والله لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة !
قلت : إني خلفته عند أخته وهي في حال وجل ورعب ، وأظن أن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة والزفرة ، فهل لك ان تجمع اصحابك وتواجههن بكلام يسكن قلوبهن ويذهب رعبهن ؟ فلقد شاهدت منها ما لا قرار لي مع بقائه. فقال لي : طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية ، ونافع إلى ناحية ، فانتدب أصحابه.
فتطالعوا من مضاربهم فلما اجتمعوا قال ـ لبني هاشم ـ : إرجعوا إلى منازلكم ، لا سهرت عيونكم !!
ثم خطب أصحابه وقال : يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة !
هذا نافع يخبرني الساعة بكيت وكيت ، وقد خلف أخت سيدكم وبقايا عياله يتشاكين ويتباكين. أخبروني عما أنتم عليه ؟
فجردوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم ، وقالوا : يا حبيب ! والله الذي من علينا بهذا الموقف ! لئن زحف القوم لنحصدن رؤوسهم ، ولنلحقنهم بأشياخهم أذلاء ، صاغرين ولنحفظن وصية رسول الله في أبنائه وبناته !
فقال : هلموا معي.
فقام يخبط الأرض ، وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ، ونادى : " يا أهلنا ويا سادتنا ! ويا معشر حرائر رسول الله ! هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبغي السوء بكم ، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلا في صدور من يفرق ناديكم !
فقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : أخرجهن عليهم يا آل الله ! فخرجن ، وهن ينتدبن ويقلن : حاموا أيها الطيبون عن الفاطميات ، ما عذركم إذا لقينا جدنا رسول الله ، وشكونا إليه ما نزل بنا ؟
وكان حبيب وأصحابه حاضرين يسمعون وينظرون ، فو الله الذي لا إله إلا هو ، لقد ضجوا ضجة ماجت منها الأرض ، واجتمعت لها خيولهم وكان لها جولة واختلاف صهيل ، حتى كأن كلاً ينادي صاحبه وفارسه (2).
وروي عن فخر المخدرات السيدة زينب ( عليها السلام ) أنها قالت : " لما كانت ليلة عاشر من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده ، يناجي ربه ، ويتلو القرآن.
فقلت ـ في نفسي ـ : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده ؟ والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك.
فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها همهمة ودمدمة ، فوقفت على ظهرها فنظرت فيها ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة ، وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته ؛ فخطب فيهم خطبة ـ ما سمعتها إلا من الحسين ـ : مشتملة على الحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي وآله.
ثم قال ـ في آخر خطبته ـ : يا إخوتي ! وبني إخوتي ! وبني عمومتي ! إذا كان الصباح فما تقولون ؟
قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا نتعدى لك قولاً.
فقال العباس : إن هؤلاء ( أعني الأصحاب ) قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلا بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم.
نحن نقدمهم إلى الموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة فقامت بنو هاشم ، وسلوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه!
قالت زينب : فلما رأيت كثرة إجتماعهم ، وشدة عزمهم ، وإظهار شيمتهم ، سكن قلبي وفرحت ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين وأخبره بذلك ، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ، ونظرت فيها ، فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم ، مجتمعين كالحلقة ، بينهم حبيب بن مظاهر ، وهو يقول : " يا اصحابي ! لم جئتم إلى هذا المكان ؟ أوضحوا كلامكم ، رحمكم الله".
فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة !
فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟
قالوا : لذلك
قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون ؟
فقالوا : الرأي رأيك ، لا نتعدى قولاً لك.
قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ، وبخلوا عليهم بأنفسهم.
فهزوا سيوفهم على وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه.
قالت زينب : ففرحت من ثباتهم ، ولكن خنقتني العبرة ، فانصرفت عنهم وأنا باكية ، وإذا بأخي الحسين قد عارضني ، فسكنت نفسي ، وتبسمت في وجهه.
فقال : أخيه.
قلت : لبيك يا أخي
فقال : يا أختاه ! منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة ، أخبريني : ما سبب تبسمك ؟
فقلت له : يا أخي ! رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا.
فقال لي : يا أختاه ! إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم)
هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم ؟
فقلت : نعم
فقال : عليك بظهر الخيمة
قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين : " إين إخواني وبنو أعمامي " ؟
فقال الحسين : أريد أن أجدد لكم عهداً.
فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن ، وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس ، فجلسوا ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين نافع بن هلال ؟ أين الأصحاب ؟
فأقبلوا ، وتسابق منهم حبيب بن مظاهر ، وقال : لبيك يا أبا عبد الله!
فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا.
فخطب فيهم خطبةً بليغة ، ثم قال :
" يا أصحابي ! إعملوا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حل من بيعتي ، ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في سواد هذا الليل فعند ذلك قامت بنو هاشم ، وتكلموا بما تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم ".
فلما رأى الحسين حسن إقدامهم ، وثبات أقدامهم ، قال : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم ، وانظروا إلى منازلكم في الجنة.
فكشف لهم الغطاء ، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين : العجل العجل ! فإنا مشتاقات إليكم.
فقاموا بأجمعهم ، وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبد الله ! إئذن لنا أن نغير على القوم ، ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء.
فقال : إجلسوا رحمكم الله ، وجزاكم الله خيراً.
ثم قال : ألا ومن كان في رحله إمرأة فلينصرف بها إلى بني أسد.
فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟
فقال : إن نسائي تسبى بعد قتلي ، وأخاف على نسائكم من السبي.
فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته وتبسمت في وجهه.
فقال لها : دعيني والتبسم !
فقالت : يا بن مظاهر ! إني سمعت غريب فاطمة ! خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة ، فما علمت ما يقول ؟
قال : يا هذه ! إن الحسين قال لنا : ألا ومن كان في رحله إمرأة فليذهب بها إلى بني عمها ، لأني غداً أقتل ، ونسائي تسبى.
فقالت : وما أنت صانع ؟
قال : قومي حتى ألحقك ببني عمك : بني أسد
فقامت ، ونطحت رأسها بعمود الخيمة ، وقالت:
" والله ما انصفتني يا بن مظاهر ، أيسرك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي ؟"
أيسرك أن تسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري ؟
أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء ؟
والله أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي النساء".
فرجع علي بن مظاهر إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهو يبكي.
فقال له الحسين : ما يبكيك ؟
قال : سيدي .. أبت الأسدية إلا مواساتكم
فبكى الإمام الحسين ، وقال : جزيتم منا خيراً (3)



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 175 ـ 188 .
2 ـ كتاب ( الدمعة الساكبة ) ج 4 ص 273 ، المجلس الثاني : فيما وقع في ليلة عاشوراء ، نقلاً عن الشيخ المفيد ، رضوان الله عليه ، وكتاب ( معالي السبطين ) للشيخ محمّد مهدي المازندراني ، المجلس الرابع : وقائع ليلة عاشوراء.
3ـ معالي السبطين للمازندراني ج 1 ، المجلس الثالث في وقائع ليلة عاشوراء.


يعتبر التوديع نوععاً من التزود من الرؤية ، فالمسافر يتزود من رؤية من سيفارقهم ، وهم يتزودون من رؤيته ، والوداع يخفف ألم البعد والفراق ؛ لأنّ النفس تكون قد استوفت قسطاً من رؤية الغائب ، وتوطنت على المفارقة ومضاعفاتها .
ولهذا جاء الإمام الحسين (عليه السلام) ليودع عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة ، وودائع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ( ، ليودع النساء والأخوات والبنات وأطفاله الأعزاء ، وليخفف عنهم صدمة مصيبة الفراق ، قد تحدث في هذا العالم حوادث وقضايا يمكن شرحها ووصفها ، وقد تحدث أمور يعجز القلم واللسان عن شرحها ووصفها ، بل لا يمكن تصورها .
فبعد أن قتل جميع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وبنو هاشم ، ولم يبق من الرجال أحد ، عزم الإمام على لقاء الله تعالى ، وعلى ملاقاة الأعداء بنفسه المقدسة ، فأقبل إلى المخيم للوداع ، ونادى : " يا سكينة ويا فاطمة ، يا زينب ويا أم كلثوم : عليكن مني السلام ، فهذا آخر الإجتماع ، وقد قرب منكن الإفتجاع!".
فعلت أصواتهن بالبكاء ، وصحن : الوداع . . الوداع ، الفراق . . الفراق ، فجاءته عزيزته سكينة وقالت : يا أبتاه إستسلمت للموت ؟ فإلى من أتكل ؟
فقال لها : " يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ، ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة ، فاصبري على قضاء الله ولا تشكي ، فإن الدنيا فانية ، والآخرة باقية .
قالت : أبه ردنا إلى حرم جدنا رسول الله ؟
فقال الإمام الحسين : هيهات ، لو ترك القطا لغفا ونام .
فبكت سكينة فأخذها الإمام وضمهما إلى صدره ، ومسح الدموع عن عينيها .
ثمّ إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) دعى النساء بأجمعهن ، وقال لهن : " إستعدوا للبلاء ، واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم" .
ثمّ أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن ، فسألته السيدة زينب عن سبب ذلك ، فقال : " كأني أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب !!".
فلما سمعت السيّدة زينب ذلك بكت ونادت : واوحدتاه ، واقلة ناصراه ، ولطمت على وجهها !
فقال لها الإمام الحسين : " مهلاً يا بنة المرتضى ، إنّ البكاء طويل !! ".
ثمّ أراد الإمام أن يخرج من الخيمة فتعلقت به السيّدة زينب وقالت : " مهلاً يا أخي ، توقف حتى أتزود منك ومن نظري إليك ، وأودعك وداع مفارق لا تلاقي بعده" ؟ فجعلت تقبل يديه ورجليه .
فصبرها الإمام الحسين ، وذكر لها ما أعد الله للصابرين .
فقالت : يا بن أمي طب نفساً ، وقر عيناً ، فإنك تجدني كما تحب وترضى .
فقال لها الإمام الحسين : " أخيه إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد ، اجعله تحت ثيابي لئلا أجرد بعد قتلي ، فإني مقتول مسلوب" ، فارتفعت اصوات النساء بالبكاء.
ولما أراد الإمام أن يخرج نحو المعركة نظر يميناً وشمالاً ونادى : هل من يقدم إلي جوادي ؟
فسمعت السيّدة زينب ذلك ، فخرجت وأخذت بعنان الجواد ، وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ؟(2)
وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه السلام) أوصى أخته السيّدة زينب قائلاً : "يا أختاه ! لا تنسيني في نافلة الليل" (3).
الإمام الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد
كانت تلك اللحظات من أصعب الساعات في حياة السيدة زينب ، من هول قرب الفاجعة والمستقبل المخيف المرعب .
وهل يستطيع القلم واللسان من وصف تلك الدقائق ، وتأثيرها على قلب السيدة زينب عليها السلام ؟ لقد توجه أخوها إلى ساحة القتال بعد أن قدم أعز أصحابه ، وأشرف شبابه ، وأكرم عشيرته ضحايا في سبيل الله ، ولم يبق له ومعه أحد من الرجال سوى ولده العليل .
ونتيجة الذهاب إلى المعركة معلومة : القتل والشهادة ! ! لقد ترك الإمام الحسين (عليه السلام) أغلى ما عنده ، وهم عائلته الذين هم أشرف عائلة على وجه الأرض ، وأكثرها عفافاً وخفارة ، وهن مخدرات الرسالة وعقائل النبوة ، اللاتي كانت حياتهن مشفوعة بالعز والإحترام . تركهم في وسط البر الأقفر ، قد أحاط بهن سفلة المجتمع ، وأراذل الناس ، من باعة الضمائر ، والهمج الرعاع ، وفاقدي الفضيلة . أولئك الذين سلموا أنفسهم واستسلموا لأقذر سلطة في التاريخ ، وأرجس جهاز حاكم في العالم . والعائلة المكرمة تعرف إتجاه أولئك الأشرار الأوباش ، ونفسياتهم ، فالمخاوف والأخطار تهاجم قلوب العائلة الشريفة من كل جانب .
فمن ناحية : الإحساس باقتراب الخطر من حياة الإمام الحسين (عليه السلام( . ومن ناحية أخرى : ترقب إستيلاء العدو الشرس المتوحش على سرادق الوحي ومخيمات النبوة.
ومضاعفات هذه الاحتمالات من العواصف والأعاصير التي سوف تجتاح حياة السيدات . . كلها أمور تدعو إلى القلق والخوف والوحشة.

عودة فرس الإمام الحسين إلى المخيم

وكان فرس الإمام الحسين . . فرساً أصيلاً من جياد خيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وقد بقي حياً إلى ذلك اليوم ـ فلما رأى ما جرى على صاحبه (أي سقوط الإمام عن ظهره إلى الأرض) جعل يحمهم ويصهل ويشم الإمام الحسين ويمرغ ناصيته بدمه ، ثمّ توجه نحو خيام الإمام (عليه السلام) بكل سرعة . . وهو هائج هياجاً شديداً ، وقد ملأ البيداء صهيلاً عظيماً ، فلما وصل إلى المخيم جعل يضرب الأرض برأسه عند خيمة الإمام الحسين ، وكأنه يريد إخبار العائلة بما جرى على راكبه ، حتى سقط على الأرض عند باب الخيمة .
فخرجت النساء والأطفال من الخيام فرأين الفرس خالياً من راكبه ، فارتفعت صياح النساء ، وخرجن حافيات باكيات ، يضربن وجوههن ، لما نزل بهن من المصيبة والبلاء ، وهن يصحن : "وا محمداه ، واعلياه ، وافاطماه ، واحسناه ، واحسيناه" .
وصاحت سكينة : " قتل ـ والله ـ أبي الحسين ، ونادت : واقتيلاه ، وا أبتاه ، واحسيناه ، واغربتاه" (5).

ذهاب السيدة زينب إلى المعركة
ولما سقط الإمام الحسين ( عليه السلام ) على الأرض خرجت السيدة زينب من باب الخيمة نحو الميدان ، وهي تنادي : وا أخاه ، واسيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل.
ثم وجهت كلامها إلى عمر بن سعد ، وقالت : يا بن سعد ! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟!
فلم يجبها عمر بشيء.
فنادت : ويحكم !! ما فيكم مسلم ؟
فلم يجبها أحد بشيء.
ثمّ انحدرت نحو المعركة وهي تركض مسرعةً ، فتارةً تعثر بأذيالها ، وتارةً تسقط على وجهها من عظم دهشتها حتى وصلت إلى وسط المعركة ، فجعلت تنظر يميناً وشمالاً ، فرأت أخاها الحسين)عليه السلام) مطروحاً على وجه الأرض ، وهو يخور في دمه ، ويقبض يميناً وشمالاً ، ويجمع رجلاً ويمد أخرى ، والدماء تسيل من جراحاته ، فجلست عنده وطرحت نفسها على جسده الشريف ، وجعلت تقول :
ءأنت الحسين ؟!
ءأنت أخي ؟!
ءأنت ابن أمي ؟!
ءأنت نور بصري ؟!
ءأنت مهجة فؤادي ؟!
ءأنت حمانا ؟!
ءأنت رجانا ؟!
ءأنت ابن محمد المصطفى ؟!
ءأنت ابن علي المرتضى ؟!
ءأنت ابن فاطمة الزهراء ؟
كل هذا ، والإمام الحسين لا يرد عليها جواباً ؛ لأنّه كان مشغولاً بنفسه ، وقد استولى عليه الضعف الشديد بسبب نزف الدم وكثرة الجراحات .
فقالت : أخي ! بحق جدي رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبتني.
فقالت : أخي ! بحق جدي رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبتني.
يا ضياء عيني كلمني .
يا شقيق روحي جاوبني .
فعند ذلك جلست خلفه ، وأدخلت يديها تحت كتفه ، وأجلسته حاضنةً له بصدرها .
فانتبه الإمام الحسين من كلامها ، وقال لها ـ بصوت ضعيف ـ : " أخيه زينب ! كسرتي قلبي ، وزدتيني كرباً على كربي ، فبالله عليك إلا ما سكنت وسكت" .
فصاحت : " وايلاه ! يا أخي وابن أمي ، كيف أسكن وأسكت ، وانت بهذه الحالة ، تعالج سكرات الموت ؟ !
روحي لروحك الفداء ! نفسي لنفسك الوقاء" .
فبينما هي تخاطبه ويخاطبها ، وإذا بالسوط يلتوي على كتفها ، وقائل يقول : تنحي عنه ، وإلا الحقتك به ، فالتفت وإذا هو شمر بن ذي الجوشن ( لعنه الله( .
فاعتنقت أخاها ، وقالت : والله لا أتنحى عنه ، وإن ذبحته فأذبحني قبله .
فجذبها عنه قهراً ، وقال : والله إن تقدمت إليه لضربت عنقك بهذا السيف.
ثمّ جلس اللعين على صدر الإمام ، فتقدمت السيّدة زينب إليه ، وجذبت السيف من يده .
وقالت : يا عدو الله ! إرفق به لقد كسرت صدره ، واثقلت ظهره ، فبالله عليك إلا ما أمهلته سويعةً لا تزود منه . ويلك ! أما علمت أنّ هذا الصدر تربى على صدر رسول الله ، وصدر فاطمة الزهراء ؟ !
ويحك ! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهز مهده ميكائيل!! ... دعني أودعه ، دعني أغمضه ، . . . فلم يعبأ اللعين بكلامها ، ولا رق قلبه عليها (6).
ويستفاد من بعض كتب المقاتل أن السيّدة زينب (عليها السلام) لم تكن هناك حين مجيء الشمر ، بل أسرعت إلى المخيم ، إمتثالاً لأمر الإمام الحسين (عليه السلام) حيث أمرها بالرجوع إلى الخيام .
ووقعت الفاجعة العظمى والرزية الكبرى ، ألا وهي : مقتل الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). فبدأت الأرض ترتجف تحت أرجل الناس ، وانكسفت الشمس ، وأمطرت السماء دماً عبيطاً وتراباً أحمر .
فاقبلت العقيلة زينب إلى مخيم الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت : يا بن أخي : ما لي أرى الكون قد تغير ؟ والشمس منكسفة ؟ والأرض ترجف ؟ !
فقال لها : يا عمة : أنا عليل مريض لا أستطيع النهوض إرفعي جانب الخيمة وسنديني إلى صدرك لا نظر ما الذي جرى !، فنظر إلى المعركة وإذا بفرس أبيه الحسين يجول في الميدان خالي السرج وملقى العنان ، ورأي رمحاً عليه رأس الإمام الحسين ! ، فقال يا عمة : إجمعي العيال والأطفال ، لقد قتل أبي الحسين ، قتل أسد الله الباسل ، قتل إبن سيد الأوصياء ، قتل إبن فاطمة الزهراء ، ثم غشي عليه وسقط على الأرض مكبوباً على وجهه.
فأخذت السيّدة زينب رأسه ووضعته في حجرها ونادت :
إجلس تفديك عماتك.
إجلس تفديك أخواتك .
إجلس يا بقية السلف .
إجلس يا نعم الخلف .
وهو لا يجيب نداها ، ولا يسمع شكواها ، فعند ذلك إنكبت عليه ومسحت التراب عن خديه ونادت : يا زين العباد ، يا مهجة الفؤاد ، ففتح عينيه . . . (7).

لهجوم على المخيمات لسلب النساء
وبعد ما قتل الإمام الحسين (عليه السلام) بمدة قصيرة . . هجم جيش الأعداء بكل وحشية على خيام الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهم على خيولهم ! ! حتى سحق سبعة من الأطفال تحت حوافر الخيل . . ساعة الهجوم (8) وقد سجل التاريخ أسماء خمسة منهم ، وهم :
بنتان للإمام الحسن المجتبى عليه السلام.
طفلان لعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب ، وإسمهما : سعد وعقيل.
عاتكة بنت مسلم بن عقيل ، وكان عمرها سبع سنوات.
محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب وكان له من العمر سبع سنوات.
نعم ، لقد كان الهجوم على العائلة ـ المفجوعة لتوها ـ بعيداً عن الرحمة والإنسانية ، وقد وصف التاريخ ذلك الهجوم بقوله :
وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرة عين الزهراء البتول ، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها!! وكانت المرأة تجاذب على إزارها وحجابها . . حتى تغلب على ذلك.

إحراق خيام الإمام الحسين عليه السلام
فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء.
فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ..
وذكر في بعض كتب المقاتل : أن زينب الكبرى (عليها السلام) أقبلت إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت :
يا بقية الماضين وثمال الباقين ! قد أضرموا النار في مضاربنا فما رأيك فينا ؟
فقال (عليه السلام( :عليكن بالفرار.
ففررن بنات رسول الله صائحات باكيات .
قال بعض من شهد ذلك.
رأيت امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة ، والنار تشتعل من جوانبها ، وهي تارةً تنظر يمنة ويسرة ، وتارةً أخرى تنظر إلى السماء ، وتصفق بيديها ، وتارةً تدخل في تلك الخيمة وتخرج.
فأسرعت إليها وقلت : يا هذي ! ما وقوفك ها هنا والنار تشتعل من جوانبك ؟ ! وهؤلاء النسوة قد فررن وتفرقن ، ولم لم تلحقي بهن ؟ ! وما شأنك ؟ !
فبكت وقالت : يا شيخ إن لنا عليلاً في الخيمة ، وهو لا يتمكن من الجلوس والنهوض ، فكيف أفارقه وقد أحاطت النار به ؟ (9)
وعن حميد بن مسلم قال : رأيت زينب ـ حين إحراق الخيام ـ قد دخلت في وسط النار ، وخرجت وهي تسحب إنساناً من وسط لهيب النار ، فظننت أنها تسحب ميتاً قد احترق ، فاقتربت لأنظر إليه ، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين.
أيها القارئ الكريم : أنظر إلى هذه العملية الفدائية ، وهذه التضحية بالحياة!! كيف تقتحم هذه السيدة الجليلة المكان المشحون بلهيب النار ، لتنقذ ابن أخيها ـ، وإن شئت فقل : إمام زمانها ـ من بين أنياب الموت ؟ ! فهل تعرف نظيراً لهذه السيدة فيما قامت به من الخطوات والأعمال ؟!إنّها مغامرة بالحياة من أجل الدين ، إنّها إبنة ذلك البطل العظيم الذي كان يخوض غمار الموت ـ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للدفاع عن الإسلام والمحافظة على حياة نبي الإسلام ، إنّها إبنة أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) .

السيدة زينب تجمع العيال والأطفال

لقد أوصى الإمام الحسين أخته السيدة زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده (عليه السلام) ، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصية أمراً صعباً ، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على مخيمات الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد إحراق الخيام وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء!
ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيدة زينب ، وتخفي أنفسهن خلفها ، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي ، فكانت السيدة زينب (عليها السلام) تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال ، وقد إسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها !
وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيدة زينب تتفقد النساء والأطفال ، وتنادي كل واحدة منهن باسمها ، وتعدهم واحدةً واحدة ، وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال!

ليلة الوحشة :

باتت العائلة المفجوعة ليلة الحادية عشرة من المحرم بحالة لا يستطيع أي قلم شرحها ووصفها ، ولا يستطيع اي مصور أن يصور جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة .
قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرمة وهي تملك كل شيء ، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً .
رجالها صرعى مرملون بدمائهم ، وأطفالها مذبحون ، والأموال قد نهبت ، والأزر والمقانع سلبت ، والظهور والمتون قد سودتها السياط وكعاب الرماح .
ليس لهم طعام حتى يقدموه إلى من تبقى من الأطفال ، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جف اللبن في صدورهن جوعاً وعطشاً .
واستولت على العائلة ـ وخاصةً الأطفال ـ حالة الفواق ، وهي حالة تشنج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً ، فتتشنج الرئة ، ويخرج النفس متقطعاً .
يا للفاجعة ، يا للمأساة ، يا للمصائب.
لا غطاء ، ولا فراش ، ولا ضياء ، ولا أثاث ، ولا طعام.
قد أحدقت السيدات بالإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وهو بقية الماضين ، وثمال الباقين ، وهن يتفكرن بما خبأ لهن الغد من أولئك السفاكين.

ترحيل العائلة من كربلاء

لقد جاءوا بالنياق المهزولة لترحيل آل رسول الله ، فلا غطاء ولا وطاء!! آل رسول الله ، أشرف أسرة وأطهرها وأتقاها على وجه الأرض ، وكأنهن سبايا الكفار والمشركين!! لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى القساوة والفظاظة وكأنهم يحاولون الإنتقام منهن ، ويطلبون بثارات بدر وحنين ! وهل أستطيع أن أكتب ـ هنا ـ شيئاً من مواقف بني أمية تجاه آل رسول الله ؟! والله . . إنها وصمة خزي وعار لا تمحى ولا تزول بمرور القرون ، لقد وصموا بها جبهة التاريخ الإسلامي النزيه المشرق الوضاء .
عن كتاب (أسرار الشهادة) للدربندي : ثم أمر عمر بن سعد بأن تحمل النساء على الأقتاب (10) ، بلا وطاء ولا حجاب ، فقدمت النياق إلى حرم رسول الله (صلى الله علهي وآله وسلم) وقد أحاط القوم بهن ، وقيل لهن : تعالين واركبن ، فقد أمر إبن سعد بالرحيل (11) .
فلما نظرت زينب (عليها السلام) إلى ذلك نادت وقالت : سود الله وجهك يا بن سعد في الدنيا والآخرة ! تأمر هؤلاء القوم بأن يركبونا ونحن ودائع رسول الله ؟ ! فقل لهم : يتباعدوا عنا ، يركب بعضنا بعضاً .
فتنحوا عنهن ، فتقدمت السيدة زينب ، ومعها السيدة أم كلثوم ، وجعلت تنادي كل واحدة من النساء باسمها وتركبها على المحمل ، حتى لم يبق أحد سوى زينب (عليها السلام !( فنظرت يميناً وشمالاً ، فلم تر أحداً سوى الإمام زين العابدين وهو مريض ، فأتت إليه وقالت : قم يابن أخي واركب الناقة . قال : يا عمتاه ! إركبي أنت ، ودعيني أنا وهؤلاء القوم . فالتفتت يميناً وشمالاً ، فلم تر إلا أجساداً على الرمال ، ورؤوساً على الأسنة بأيدي الرجال ، فصرخت وقالت : واغربتاه ! وا أخاه ! وا حسيناه ! وا عباساه ! وا رجالاه ! وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله . . . فأقبلت فضة وأركبتها . . (12).



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 219 ـ 238 .
2ـ كتاب "معالي السبطين" ج 2 ص 13 ـ 14 ، المجلس السادس .
3 ـ كتاب " زينب الكبرى" للشيخ جعفر النقدي ، ص 58 .
4 ـ معالي السبطين ، ج 2 ص 5 ، الفصل العاشر ، المجلس الثاني
5 ـ معالي السبطين ، ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر ، رواه عن كتاب (تظلم الزهراء( .
6 ـ كتاب " تظلم الزهراء" للسيد رضي بن نبي القزويني ، ص 232 ، طبع بيروت ـ لبنان ، عام 1420 هـ
7 ـ كتاب " تظلم الزهراء" ص 233 ـ 234.
كتاب "تظلم الزهراء" ص 233 ـ 234.
8 ـ معالي السبطين : ج 2 ص 135 ـ 140، الفصل الخامس عشر ، المجلس الثاني عشر .
9 ـ معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثالث.
10 ـ أقتاب ـ جمع قتب ـ : وهو وشيء يصنع من خشب ، يشد على ظهر البعير ، ويغطى بقماش سميك ، لراحة الراكب ، وحفظه من السقوط . قال في "المعجم الوسيط" : القتب : الرحل الصغير على قدر سنام البعير .
11 ـ لقد ذكر السيد ابن طاووس في كتاب "الملهوف" ص 189: إنّ ترحيل العائلة كان بعد الزوال من اليوم الحادي عشر من المحرم .
12 ـ أسرار الشهادة : الشيخ الدربندي .


وفي يوم الحادي عشر من المحرم .. لما أراد الأعداء أن يرحلوا بقافلة نساء آل رسول الله من كربلاء إلى الكوفة ، مروا بهن على مصارع القتلى ـ وهم جثث مرملة ومطروحة على التراب ـ فلما نظرت النسوة إلى تلك الجثث صحن وبكين ولطمن خدودهن. وأما السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) فقد كانت تلك الساعة من أصعب الساعات على قلبها ، وخاصةً حينما نظرت إلى جثة أخيها العزيز الإمام الحسين وهو مطروح على الأرض بلا دفن ، وبتلك الكيفية المقرحة للقلب !!
يعلم الله تعالى مدى الحزن الشديد والألم النفسي الذي خيم على قلب السيدة زينب وهي ترى أعز أهل العالم ، وأشرف من على وجه الأرض بحالة يعجز القلم واللسان عن وصفها.

مدينة الكوفة
لقد كانت الكوفة : مدينة موالية للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكان أهلها ـ رجالاً ونساءً ـ قد تطبعوا بأحسن الإنطباعات في ظل حكومة الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بسبب المناهج الصحيحة التي انتهجها الإمام لتربية وإدارة شعبه.
وكانت لدى أهل الكوفة أحسن الإنطباعات عن الإمام ، نظراً لسيرته الشخصية والإجتماعية والحكومية ، وأسلوب تعامله مع أفراد الشعب إبان حكومته عليهم ، فعواطفه التي شملت جميع طبقات الشعب ، وتوفير لوازم الحياة لهم ، ومواساته معهم في السراء والضراء ، وعدله الواسع الشامل وعطاياه السنية ، وسخاؤه وكرمه ، وعلمه الجم ، وغير ذلك من الفضائل التي تركت إنعكاساتها الإيجابية في نفوس أهل الكوفة ، وأثرت فيهم أحسن الأثر.

قافلة آل الرسول تصل الكوفة
وذكر الطريحي في كتاب ( المنتخب ) عن مسلم الجصاص قال :
دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة ، فبينما أنا أجصص الأبواب ، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة (1) ، فأقبلت على خادم كان يعمل معنا ، فقلت : ما لي أرى الكوفة تضج ؟
قال : الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد بن معاوية.
فقلت : من هذا الخارجي ؟
قال : الحسين بن علي !
فتركت الخادم حتى خرج ، ولطمت على وجهي ، حتى خشيت على عيني أن تذهبا ، وغسلت يدي من الجص ، وخرجت من ظهر القصر ، وأتيت إلى الكناس فبينا أنا واقف ، والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبلت نحو أربعين شقة ، تحمل على أربعين جملاً ، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة.
وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير وطاء، وأوداجه تشخب دماً ، وهو مع ذلك يبكي ويقول:

يا أمة السوء لا سقياً لربعكم يـا أمة لـم تراع جدنـا فينا


السيدة زينب الكبرى في طريق الشام (2)
ومن الثابت ـ تاريخياً ـ أنه كان للسيدة زينب ( عليها السلام ) الدور الكبير في : إدارة العائلة ، والمحافظة على حياة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وحماية النساء والأطفال ، والتعامل معهم بكل عاطفة وحنان .. محاولة منها ملأ بعض ما كانوا يشعرون به من الفراغ العاطفي ، والحاجة إلى من يهون عليهم مصائب الأسر ومتاعب السفر.
وروي عن الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) أنه قال :إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها : الفرائض والنوافل .. من قيام ، عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام !
وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس ! فسألتها عن سبب ذلك ؟
فقالت : أصلي النوافل من جلوس لشدة الجوع والضعف ، وذلك لأني منذ ثلاث ليال ، أوزع ما يعطونني من الطعام على الأطفال ، فالقوم لا يدفعون لكل منا إلا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة

السيدة زينب الكبرى في الشام
ووصل موكب الحزن والأسى إلى دمشق : عاصمة الأمويين ، ومركز قيادتهم ، وبؤرة الحقد والعداء ، ومسكن الأعداء الألداء.
وقد إتخذ يزيد التدابير اللازمة لصرف الأفكار والأنظار عن الواقع والحقيقة ، محاولا بذلك تغطية الأمور وتمويه الحقائق ، فأمر بتزيين البلدة بأنواع الزينة ، ثم الإعلان في الناس عن وصول قافلة أسارى وسبايا ، خرج رجالهم من الدين فقضى عليهم يزيد وقتلهم وسبى نساءهم ليعتبر الناس بهم ، ويعرفوا مصير كل من يتمرد على حكم يزيد !
ومن الواضح أن الدعاية والإعلام لها دورها في تمويه الحقائق ، وخاصة على السذج والعوام من الناس.

الدخول في مجلس الطاغية يزيد
روي عن الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) أنه قال : " لما أرادوا الوفود بنا على يزيد بن معاوية أتونا بحبال وربطونا مثل الأغنام (1) وكان الحبل بعنقي وعنق أم كلثوم ، وبكتف زينب وسكينة والبنيات ، وساقونا وكلما قصرنا عن المشي ضربونا ، حتى أوقفونا بين يدي يزيد ، فتقدمت إليه ـ وهو على سرير مملكته ، وقلت له : ما ظنك برسول الله لو يرانا على هذه الصفة " ؟!
فأمر بالحبال فقطعت من أعناقنا واكتافنا.
وروي ـ أيضاً ـ أن الحريم لما أدخلن إلى يزيد بن معاوية ، كان ينظر إليهن ويسأل عن كل واحدة بعينها وهن مربطات بحبل طويل ، وكانت بينهن امرأة تستر وجهها بزندها ، لأنها لم تكن عندها ما تستر به وجهها.
فقال يزيد : من هذه ؟
قالوا : سكينة بنت الحسين.
فقال : أنت سكينة ؟
فبكت واختنقت بعبرتها ، حتى كادت تطلع روحها !!
فقال لها : وما يبكيك ؟
قالت : كيف لا تبكي من ليس لها ستر تستر وجهها ورأسها ، عنك وعن جلسائك ؟!

لماذا خطبت السيدة زينب في مجلس يزيد ؟
لقد شاهدت السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) في مجلس يزيد مشاهد وقضايا ، وسمعت من يزيد كلمات تعتبر من أشد أنواع الإهانة والإستخفاف بالمقدسات ، وأقبح أشكال الإستهزاء بالمعتقدات الدينية ، وأبشع مظاهر الدناءة واللؤم .. في تصرفاته الحاقدة !!
مظاهر وكلمات ينكشف منها إلحاد يزيد وزندقته وإنكاره لأهم المعتقدات الإسلامية.
مضافاً إلى ذلك .. أن يزيد قام بجريمة كبرى ، وهي أنه وضع رأس الإمام الحسين ( عليه السلام ) أمامه وبدأ يضرب بالعصا على شفتيه وأسنانه ، وهو ـ حينذاك ـ يشرب الخمر !!
فهل يصح ويجوز للسيدة زينب أن تسكت ، وهي إبنة صاحب الشريعة الإسلامية ، الرسول الأقدس سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
كيف تسكت .. وهي تعلم أن بإمكانها أن تزيف تلك الدعاوى وتفند تلك الأباطيل ، لأنها مسلحة بسلاح المنطق المفحم ، والدليل القاطع ، وقدرة البيان وقوة الحجة ؟!
ولعل التكليف الشرعي فرض عليها أن تكشف الغطاء عن الحقائق المخفية عن الحاضرين في ذلك المجلس الرهيب ، لأن المجلس كان يحتوي على شخصيات عسكرية ومدنية ، وعلى شتى طبقات الناس. فقد كان يزيد قد أذن للناس إذناً عاماً لدخول ذلك المجلس ، فمن الطبيعي أن تموج الجماهير في ذلك المكان وحول ذلك المكان ، وقد خدعتهم الدعايات الأموية ، وجعلت على أعينهم أنواعاً من الغشاوة ، فصاروا لا يعرفون الحق من الباطل ، منذ أربعين سنة طيلة أيام حكم معاوية بن أبي سفيان على تلك البلاد.

ترحيل عائلة آل الرسول من دمشق إلى المدينة المنوّرة (4)

المُستفاد من مجموع القضايا التاريخية أنّ خطبة السيدة زينب الكبرى في مجلس يزيد ، والوقائع التي حدثت في ذلك المجلس ، ثمّ خطبة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في الجامع الاموي في دمشق ، أوجَدَت في الناس وعياً وهياجاً ، واستياءً عاماً ضدّ الحكم الأموي في الشام.
وخاصّة : أنّ بلاط يزيد لم يَسلَم من التوتّر والإضطراب.
والعجيب : أنّ يزيد ـ الذي كان يحكم على بلاد الشام وغيرها ـ شَعر بأنّ كرسيّه قد تضعضع ، بل وأنّ حياته صارت مهدّدة ، حتى زوجته إنقلب حبّها إلى عداء ، كلّ ذلك من نتائج خطبة امرأة أسيرة ، وشابٍ
أسير عليل !! فاستشار يزيد جلساءه حول إتّخاذ التدابير اللازمة لدفع الخطر المُتوقّع ، فأشار عليه أصحابه بترحيل العائلة من دمشق ، وإرجاعهم إلى المدينة المنوّرة.



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 261 ـ 275 .
2 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 363 ـ 380 .
3 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 391.
4 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 509 .


يوم الأربعين : هو اليوم العشرون من شهر صفر ، وفيه وصلت عائلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى كربلاء ، قادمين من الشام ، وهم في طريقهم إلى المدينة المنورة.
وسُمّيَ بـ " يوم الأربعين " لأنّه يصادف إنقضاء أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.
كان من طريق الأردن إلى المدينة المنورة ، فحينما وصلوا إلى مفترق الطرق طلبوا من الحَرَس ـ الذين رافقوهم من دمشق ـ أن يجعلوا طريقهم نحو العراق وليس إلى المدينة. ولم يستطع الحرس إلا الخضوع لهذا الطلب والتوجه نحو كربلاء.
وحينما وصلوا أرض كربلاء صادف وصولهم يوم العشرين من شهر صفر.
وكان الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري قد جاء إلى كربلاء يرافقه عطاء ـ أو عطيّة ـ العوفي.. وجماعة مِن بني هاشم ، جاؤوا جميعاً لزيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام.
واجتمع جماعة من أهل السواد وهم أهل القرى والأرياف التي كانت في ضواحي كربلاء يومذاك ، فصار هناك اجتماع كبير ـ نِسبيّاً ـ من شتّى الطبقات ، فالجميع حضروا عند قبر ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة ، يزورون قبره ويسلّمون عليه ، والكآبة تخيّم على وجوههم ، والأسى والأحزان تَعصِر قلوبهم.
كانت القلوب تشتعل حزناً ، والدموع مستعدّة لتجري على الخدود ، ولكنّهم ينتظرون شرارة واحدة ، حتى تضطرم النفوس بالبكاء ، وترتفع أصوات النحيب والعويل.
في تلك اللحظات وصلت قافلة العائلة المكرمة إلى كربلاء ، فكان وصولها في تلك الساعات هي الشرارة المترقّبة المتوقّعة ، " فتلاقَوا ـ في وقت واحد ـ بالبكاء والعويل ".
ونقرأ في بعض كتب التاريخ : أنّ قافلة آل الرسول مكثت في كربلاء مدّة ثلاثة أيام ، مشغولة بالعزاء والنياحة ، ثم غادرت كربلاء نحو المدينة المنوّرة.

الرجوع إلى مدينة الرسول :
وصلت السيدة زينب الكبرى إلى وطنها الحبيب ، ومسقط رأسها ، ومهاجَر جدّها الرسول وكانت قد خرجت من المدينة قبل شهور ، وهي في غاية العز والإحترام بصُحبة إخوتها ورجالات أسرتها ، واليوم قد رجعت إلى المدينة وليس معها من أولئك السادة الأشاوس سوى ابن أخيها الإمام علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) فرأت الديار خالية مِن آل الرسول الطاهرة.

وترى ديارَ أميّةٍ معمورةً وديار أهل البيت منهم خالية

وجاء في التاريخ : أنّ السيدة زينب ( عليها السلام ) لمّا وصلت إلى المدينة توجّهت نحو مسجد جدّها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعها جماعة من نساء
بني هاشم ، وأخذت بعُضادَتي باب المسجد ونادت : " يا جدّاه ! إنّي ناعية إليك أخي الحسين " !! ، وهي مع ذلك لا تجفّ لها عبرة ، ولا تفتُـرُ عن البكـاء والنحيـب.
إنّ الأعداء كانوا قد منعوا العائلة عن البكاء طيلة مسيرتهنّ من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ، وهنّ في قيد الأسر والسَبي ، حتى قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) " إن دمعت من أحدنا عينٌ قُرع رأسه بالرمح " .
والآن .. قد وصلت السيدة إلى بيتها ، وقد ارتفعت الموانع عن البكاء ، فلا مانع أن تُطلق السيدة سراح آلامها لتنفجر بالبكاء والعويل ، على أشرف قتيل وأعزّ فقيد ، وأكرم أسرة فقدتهم السيدة زينب في معركة كربلاء.
وخاصةً إذا اجتمعت عندها نساء بني هاشم ليُساعدنها على البكاء والنياحة على قتلاها ، وحضرت عندها نساء أهل المدينة ليُشاركنها في ذرف الدموع ، ورفع الأصوات بالصراخ والعويل.



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 515 ـ 517 .


إنّ المشهور أنّ وفاة السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) كان في يوم الأحد مساء الخامس عشر من شهر رجب، مِن سنة 62 للهجرة
وهناك أقوال أخرى ـ غير مشهورة ـ في تحديد يوم وسنة وفاتها.
ولقد أهمل التاريخ ذكر سبب وفاتها !
أم أنّها قُتِلَت بسبب السُمّ الذي قد يكون دُسّ إليها من قِبَل الطاغية يزيد ، حيث لا يَبعُد أن يكون قد تمّ ذلك ، بسرّيةٍ تامّة ، خَفيَت عن الناس وعن التاريخ.
وعلى كل حال ، فقد لَحِقَت هذه السيدة العظيمة بالرفيق الأعلى ، وارتاحت من توالي مصائب ونوائب الدهر الخؤون.
لقد فارقت هذه الحياة بعد أن سجّلت إسمها ـ بأحرف من نور ـ في سجل سيدات النساء الخالدات ، فصارت ثانية أعظم سيدة من سيدات البشر ، حيث إنّ أمّها السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) هي : أولى أعظم سيّدة من النساء ، كما صرّح بذلك أبوها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث قال : " وأمّا ابنتي فاطمة .. فهي سيدة نساء العالمين ، من الأوّلين والآخرين "



1 ـ زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ، للسيّد محمّد كاظم القزويني: ص 591 ـ 592 .



 
نسخة الجوال للمكتبة الإسلامية
نسخة الجوال للمكتبة الإسلامية
شاهد المكتبة الإسلامية في جوالك بشكل يلائم جميع أجهزة المحمولة.
خدمة الأوقات الشرعية
يمكنك باستخدام هذه الخدمة ، مشاهدة اوقات الصلاة واستماع صوت الأذان لمدينة خاصة في موقعك.