آل عمران
معجزة الخلق - قصة آل عمران (عليهم السلام)
كمال السيد 
 
بلغ عمران من العمر عتياً اصبح شيخاً طاعناً في السنّ لم يرزقه الله طفلاً . 
و كانت ” حنّة ” امرأته عقيماً لا تلد ، و كانت تتمنى أن يرزقها الله ولداً . 
و أوحى الله سبحانه الى عمران : اني واهب لك ولداً مباركاً ! 
فرح عمران و بشّر امرأته قائلاً : 
ـ أن الله استجاب دعاءنا و سيرزقنا صبيّاً مباركاً . 
و فرحت المرأة الصالحة عندما شعرت بالحمل في بطنها . 
و ذات صباح انطلقت حنّة الى المعبد و نذرته لله ، قالت : 
ـ ربّ اني نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبل مني انك انت السميع العليم . 
 
 
النذر : 
و كان زكريا النبي ( عليه السلام ) في المعبد فرح عندما سمع بذلك ، ان الله قادر على كل شيء يرزق من يشاء . 
دخل المحراب و راح يصلّي لله ، ثم انطلق الى دكانه في السوق . 
و مضت أيام و أسابيع و شهور ، توفي عمران قبل أن يرى وجه الطفل الذي رزقه الله ، و جاءت ساعة المخاض كانت حنّة تعتقد ان الله سيرزقها صبياً ذكراً مباركاً و لكنها فوجئت بان الوليد لم يكن سوى فتاة جميلة . 
و الآن كيف ستفي بنذرها لله ، كيف يمكن للفتاة أن تخدم في المعبد ؟! 
قالت و هي تنظر الى السماء : 
ـ ربّ اني وضعتها انثى . . و ليس الذكر كالانثى . 
الله سبحانه القى في روعها ان لهذه الفتاة شأن و انها ستلج المحراب و المعبد ، قالت حنّة بخشوع ! 
ـ و اني سميتها مريم ، و اني اعيذها بك و ذرّيتها من الشيطان الرجيم . 
سمت المرأة الصالحة ابنتها ” مريم ” أي العابدة ، أو خادمة المعبد . 
 
 
كبرت مريم اصبحت بنتاً و آن لها أن تذهب الى المعبد لتخدم فيه . 
و حدثت المشكلة من الذي سيكفل مريم ؟ جميع الكهنة أرادوا كفالتها لأنها ابنة عمران الرجل الصالح و ابنة حنّة المرأة التقية . 
اتفق الكهنة على اجراء القرعة أيهم يكفل مريم ، و خرجت القرعة على زكريا ( عليه السلام ) . 
كان زكريا رجلاً تقياً ، و كان يحبّ مريم فقد توسم فيها الخير و البركة . 
زكريا زوج خالتها ، اصبح كافلاً لها مشرفاً على تربيتها . . 
 
 
البتول : 
في غرفة صغيرة في أعلى البيت المقدّس عاشت مريم منقطعة عن العالم . . 
لا أحد يستطيع الدخول اليها أو دخول غرفتها سوى زكريا . 
كبرت مريم في عزلتها ، مثل قطرة الندى طاهرة ، مثل شمس وراء الغيوم ، مثل قمر منير . 
نمت مريم مثل زهرة ندية . . مثل وردة بنفسج ، يملأ عطرها الفضاء دون أن يراها أحد . 
كانت مريم تمضي وقتها في المحراب تصلّي لله بخشوع و في كل يوم كانت الحقائق تسطع في روحها ، و الملائكة تطوف حولها تبشرها بان الله قد اصطفاها و طهرها من الرجس ، انها لؤلؤة في صدفة ، لا يعلم سرّها إلاّ الله سبحانه . 
 
 
رَطَبٌ في الشتاء ! 
في يوم شتائي قارس البرد ارتقى زكريا السلّم الطويل ، ليذهب الى غرفة مريم ، يحمل اليها طعاماً ، كسرة خبز و قليلاً من اللبن . 
سمع زكريا صوتاً مثل خرير الجداول لم يكن سوى مريم تناجي ربّها الذي اجتباها فطهرها . 
دخل زكريا الغرفة بهدوء ، فرأى شيئاً عجيباً . . رأى إناءً مليئاً بالرطب ، كانت نكهة الرطّب تملأ فضاء الغرفة . 
تعجب زكريا و قال : 
ـ من أين لك هذا ؟! 
قالت مريم و وجهها الملائكي يشرق بخشوع : 
ـ هو من عند الله ان الله يرزق بغير حساب . 
امتلأت نفس زكريا بالايمان و قال في نفسه : 
ـ فاكهة الصيف يرزقها الله المؤمن في قلب الشتاء !! 
و تمرّ الايام و يأتي فصل الصيف ، و زكريا يتفقد مريم البتول فرآها تسجد لله في محرابها و رأى إناءً مليئاً بالبرتقال امتلأت نفسه احتراماً لهذه الفتاة التي بلغت منزلة جليلة عند الله . 
الله سبحانه أكرم مريم ، يرزقها بغير حساب ، تجد رزقها في غرفتها ، لأنها انقطعت اليه ، حتى لو ماتت من الجوع فأنها لن تغادر غرفتها وفاءً لنذر امّها المرأة الصالحة . 
 
 
هنالك دعا زكريا ربّه : 
رأى زكريا كرامة مريم عند الله و كيف يرزقها الله فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف ، ان الله قادر على كل شيء يرزق من يشاء بغير حساب . 
و وقف زكريا الرجل الصالح العجوز يصلّي لله بخشوع قال : 
ـ ربّ هب لي من لدنك ذرّية طيبة . 
فجأة غمر نور سماوي المحراب ، و سمع زكريا الملاك يناديه : 
ـ ان الله يبشرك بيحيى . . لم يجعل له من قبل سميا . 
و تحققت أمنية زكريا ، كان يتمنى ولداً مثل مريم في طهره و صدقه و ايمانه . و لكنه قال : 
كيف يكون لي ولد وأمرأتي عقيم ، وقد أصبحت شيخاً طاعناً في السنّ . 
قال الملاك : 
ـ كذلك قال ربّ هو علي هيّن . 
قال زكريا : 
ـ و كيف اعرف ان الله قد رزقني يحيى ؟ 
قال الملاك : 
ـ ان علامة ذلك أن تفقد قدرتك على الكلام ثلاث ليال . 
كان المساء قد حلّ و غمر كل شيء بالظلام ، و شعر زكريا بان لسانه مثل الخشبة ، لا يستطيع القدرة على النطق أبداً ، و سجد زكريا لله الحنّان ، المنّان . 
الله سبحنه رزق زكريا ولداً طاهراً سيكون له شأن ، و خرج زكريا من المعبد أراد أن يعظ الناس ، أن يقول لهم لا تنسوا الله . . اسجدوا لله . . اذكروا الله دائماً . . 
لكن لسانه لم يعد مِلكاً له . . راح زكريا يشير لهم باتجاه السماء ، ان هناك يا بني اسرائيل من يراقبكم . . سبحوا الله يا قومي و اذكروه . 
ثلاث ليالٍ تمرّ و زكريا ما يزال عاجزاً عن الكلام ، و في اليوم الرابع قال لزوجته الصالحة اليصابات : 
ـ لقد بشرني الله بولد اسمه يحيى . 
قالت المرأة الصالحة : 
ـ يحيى ياله من اسم عجيب !! ثم كيف لي أن ألد و أنا عقيم ! 
قال زكريا : 
ـ ان الله قادر على كل شيء . . 
الله سبحانه بيده قوانين الخلق . . في قبضته السماء و الأرض و هو خلق أبانا آدم من تراب . 
 
 
المعجزة : 
اصبح اليهود في ذلك الزمان قساة لا يؤمنون إلاّ بما يشاهدون ، لجأ بعضهم الى السحر ، و أصبح بعضهم يشتغل في صياغة الذهب ، و لكنهم جميعاً كانوا يحبّون المال أكثر من كل شيء . 
كانوا يبتعدون عن تعاليم موسى يوماً بعد آخر . 
من أجل هذا أراد الله سبحانه أن يوقظهم من غفلتهم ، وهب الله زكريا ولداً ، حملت زوجته العقيم و انجبت صبياً ، وجهه يضيء بالايمان و المحبّة . 
و انجبت حنّة بنتاً هي مريم . 
الله سبحانه كان قد وعد عمران بميلاد صبي له شأن ، و لكنّه توفي و لم ير ابنته مريم . 
الله سبحانه طهّر مريم ليجعل منها آية للناس ، و سيجعل منها آية أخرى . 
 
 
البشارة : 
كانت مريم في خلوتها تتعبد ، وجهها يتألق نوراً و كان قلبها الطاهر يسافر بين النجوم ، يطوف في السماوات . 
مثل قطرة ندى في الصباح ، كانت الفتاة الطاهرة تتألق . 
قلبها يضيء ، و روحها شفافة ، تكاد تحلّق بعيداً في عوالم مفعمة بالنور . 
مريم منقطعة عن العالم ليس بينها و بين الدنيا سوى نافذة صغيرة تطلّ على الافق الازرق الذي يلامس التلال الخضراء . 
فجأة امتلأت غرفتها بالنور ، و في قلب هالة النور رأت شاباً . 
ذعرت مريم خافت قالت : 
ـ إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً . 
قال الشاب : 
لا تخافي يا مريم ” انما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً ” . 
قالت مريم و هي تطرق حياءً : 
ـ كيف يكون لي طفل و لم اتزوّج بعد ؟! 
كانت مريم معجزة و ها هي تصبح أمّا لمعجزة كبرى سوف تنجب و هي ما تزال عذراء ! 
قال الملاك : 
ـ كذلك يا مريم قال ربّك : هو عليّ هيّن ، و لنجعله آية للناس و رحمة منّا ، و كان أمراً مقضياً . 
و تقدم الملاك من مريم لينفخ في قميصها ، و شعرت مريم ان روحاً عظيمة نفّاذة تنفذ في اعماقها . 
و غاب الملاك ، و أدركت مريم انّها مقبلة على أيام عصيبة ، انها تتحمّل مسؤولية كبرى . 
 
 
انها تحمل في أحشائها روح الله و كلمته ، و لكنها كانت تشعر بالقلق من يصدّق حملها المبارك ، و كيف يصدّق الناس أن طفلاً يولد دون أب ؟! 
كان الحمل المبارك ينمو في أحشاء مريم الطاهرة ، و ذات صباح مشرق ، انطلقت مريم الى التلال القريبة ، كانت حائرة خائفة قلقة ، و لكنّ ايمانها بالله يقوّي عزيمتها و إرادتها . 
مريم متعبة جلست عند جذع نخلة ، و شعرت بالآم شديدة ، آلام الولادة . . هتفت مريم : 
ـ يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسياً ! 
كانت مريم تفكر من يصدّق انها تنجب طفلاً دون أب !! 
و سمعت مريم الجنين يخاطبها : 
ـ لا تحزني يا أمي . . الله هيّأ لك جدول ماء فاشربي منه ، و هزّي جذع النخلة سوف تنثر عليك رطباً فكلي و اشربي و قرّي عينا . 
شعرت مريم بالهدوء يترقرق في قلبها مثل مياه الجدول ، و لكنها قالت بقلق : 
ـ والناس يا بني . . ماذا أقول للناس يا روح الله ؟ 
قولي لهم نذرت لله صوماً فلن اكلّم اليوم انساناً . 
 
 
و ولد عيسى المعجزة . . ولد طفل بلا اب ليكون آية للناس على قدرة الله . . ليكون رحمة للناس . .
 الطفل الطاهر يبتسم لأمه وضعته أمه في احضانها ، ثم حملته عائدة الى قومها ! 
و انحدرت مريم من التلال الى المعبد ، و شاهد الناس منظراً عجيباً ! ان مريم تحمل طفلاً ! مريم ابنة عمران تحمل طفلاً !! مريم بنت حنّة لم تتزوج بعد و لكنها تحمل طفلاً ! 
ـ ماذا ؟ !! كيف ؟ أين هي ؟! 
ـ تلك مريم انها تتجه الى غرفتها في المعبد . 
و انتشر الخبر المثير في كل مكان ، و اصبح حديثاً للجميع . 
الجميع كانوا يتعجبون ، و الناس المؤمنون كانوا ساكتين ، أما البعض فكان يثرثر بكلمات سيئة . . 
و سمع زكريا ما يثرثر به الناس ، و سمع الكهنة بعض الشائعات من أجل هذا انطلق زكريا و مع كهنة المعبد الى مريم . . 
 
 
قال أني عبد الله ! 
كانت مريم تصلّي في المحراب ، و عيسى في مهده مثل كوكب مضيء . . مثل برعم يتفتح للربيع . 
و دخل زكريا الغرفة و دخلها رجال المعبد : 
قال احدهم و مخاطباً مريم بقسوة : 
ـ لقد جئت شيئاً فريّا . 
و قال آخر : 
ـ يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوءٍ و ما كانت أمّك بغيّاً . 
وقفت مريم تنظر الى قومها و قد تألق وجهها بنور سماوي لم تقل شيئاً أشارت الى الطفل . 
تعجب الرجال قالوا : 
ـ كيف نكلم من كان في المهد صبياً ؟! 
كيف نكلم طفلاً ، و هل يستطيع طفل في المهد أن يتحدّث ؟! 
و في هذه اللحظة و فيما كان الرجال يحدّقون في الطفل متسائلين ، حدثت المعجزة ! 
إن الطفل يتكلم يكشف عن حقيقة كبرى : 
ـ اني عبد الله ! آتاني الكتاب و جعلني نبياً . . إنّ الله ربّي و ربكم فاعبدوه . . 
لقد جعلني الله مباركاً . . و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيّاً . . 
أوصاني ببرّ والدتي و لم يجعلني جبّاراً شقياً . 
و السلام عليّ يوم ولدت و يوم أموت و يوم ابعث حيّاً . 
و امام هذا المشهد المثير . . سجد زكريا لله مصدّقاً بعيسى بن مريم ، روح الله و كلمته القاها الى مريم ! 
بعض الرجال خشعوا و امتلأت قلوبهم بالايمان ، و بعض ظلّ ينظر بقسوة غير مصدّق بالمعجزة . 
البيت الكريم : 
وعد الله زكريا أن يرزقه ولداً ، و حدثت المعجزة ولد يحيى و كانت أمه ” اليصابات ” عقيماً و لكن الله الذي خلق عيسى دون أب ، قادر على أن يرزق المرأة العقيم طفلاً ففرح . 
ولد يحيى و كان طفلاً طاهراً مؤمناً يحبّ الله ، و الله يحبّه كانت أُسرة زكريا أُسرة كريمة ، أب صالحٌ و أمٌ مؤمنة و طفل يبرّ والديه ، و يحبّ الخير للناس . 
و في ذلك المجتمع ولد عيسى و كانت ولادته معجزة و كان آية للناس على قدرة الله . 
و ولد يحيى بمعجزة كانت أمه عقيماً ، قرزقها الله ولداً صالحاً ليكون آية للناس و رحمة . 
كانا آيتين و دليلين على قدرة الله و رحمته ، فماذا حصل لهما عند أصبحا شابيّن ؟ 
هذا ما سنعرفه في الكتاب القادم . . الى اللقاء . .
  
     |