شارع القصص
احسن القصص
شارع القصص >احسن القصص > سيرة الأنبياء > ايوب
 
 

قصة سيدنا أيوب ( عليه السلام )

انّه أوّاب - قصة سيدنا أيوب ( عليه السلام )

كمال السيد

قبلَ أكثرَ من 2500 سنة عاشَ في أرضِ حُوران رجلٌ من ذرّية سيّدنا يوسف عليه السّلام، انّه سيّدُنا أيّوب عليه السّلام: كانَ رجلاً طيّباً تَزوّج من فتاةٍ اسمُها ( رَحمَة ) هي أيضاً من ذرّية يوسف عليه السّلام.

عاشَ الزوجانِ سعيدَين بحياتِهما، وكانا مؤمنينِ بالله ورُسُلهِ.

اللهُ سبحانه أنعَمَ علي أيوبَ ورَزَقَهُ أولاداً وبَناتٍ، وكانت عنده أرضٌ واسعةٌ مليئةٌ بالحُقولِ والمَراعي، وتَرعي فيها قِطعانُ المَاشيةِ مِن بَقَرٍ وأغنامٍ وماعز.

كانَ أيوبُ يَعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشرِكُ به أحَداً، فهو علي دِينِ آبائه ابراهيمَ واسحاقَ ويعقوب.

وذاتَ يومٍ هَبَطت الملائكةُ وبَشّرته بالنبوّةِ، وسَجَدَ أيّوبُ للهِ شُكراً.

كلّ الناسِ كانوا يُحبّونَ أيّوب.. الرجلَ الطيّبَ الذي أكرمَهُ اللهُ بالنبوّة.

كانَ منزلُ أيوبَ كبيراً، فَلَديهِ أولادٌ كثيرونَ وبَنات، وفيه الحُبوبُ والطّعام.

سيّدُنا أيوبُ كانَ يُحبّ الفقراءَ.. يُطعِمُهم، ويَكسُوهُم. وكانَ لا يأكُلُ طَعاماً الاّ وعلي مائدتهِ يَتيمٌ أو بائسٌ أو فقير.

الناسُ الفقراءُ كانوا يَقصدونَ منزلَ أيوبَ مِن مناطقَ بعيدة، وكانوا يَعودونَ الي ديارهِم وهم يَحمِلونَ مَعهم الطعامَ والكِساءَ والفَرَحَ لأطفالِهم وأهلِهم.

الناسُ أحَبّوا نبيّ اللهِ أيّوبَ، الذي لا يَرُدّ أحداً ولا يَمُنّ علي أحد.

منزل أيوب

ذاتَ يومٍ جاءَ شيخٌ طاعِنٌ في السّنّ.. جاءَ الي منزلِ أيّوب. الشيخُ حَيّي أيوبَ قائلاً:

ـ السلامُ علي أيوّبَ نَبيّ الله.

ـ وعليكَ السلامُ ورحمةُ الله... تَفضّل أنتَ في بيتِكَ وأهلِك.

ـ زادَ اللهُ في كرامةِ أيّوب.. أنا كما تَري شيخٌ عاجز وعندي أبناءٌ جِياعٌ، ونبيّ اللهِ يُطعِمُ الجِياعَ ويَكسُو العُراة.

تألّمَ سيدُنا أيوبُ وقال:

ـ أُظنّكَ غريباً أيّها الشيخ ؟

ـ لا يا نبيّ الله، أنا مِن بلادِ حُوران.

تألّمَ سيدُنا أيوب أكثَر وقال:

ـ ما أقساني.. بَيتي مليءٌ بالطعامِ وأنتَ جائع؟!

الشيخ قال:

ـ انّه ذَنبي أنا.. لم أعرِض حاجَتي عليك مِن قَبل.

قال أيوب:

ـ الحقّ علَيّ أنا لأنّني لم أبحَث عنكَ بنفسي.

التَفتَ أيوبُ الي أبنائه وقال:

ـ ألا تَخافونَ من غَضَبِ الله ؟! كيف تَرضَونَ لأنفسِكُم أن تَبيتوا شِباعاً وفي حُورانَ أطفالٌ وشُيوخٌ جِياع ؟!

الأبناءُ اعتَذروا وقالوا:

ـ لقد بَحَثنا كثيراً ولكنّنا لم نَجد أحداً في حُورانَ مُحتاجاً..

قال الأب بألم:

ـ وهذا الشيخ ؟ ؟

ـ عَفواً يا أبانا.

ـ هَيّا احمِلوا من الطعامِ والكِساءِ وأوصِلُوه الي منزلهِ.

ـ سَمعاً وطاعةً للنبيّ.

هكذا كانَ يعيشُ سيدُنا أيوبُ.. في ذلك البيتِ المَبنيّ من الصّخور. هو يَتفقّدُ العَمَلَ في الحُقولِ والمَزارع، وزَوجتُه تَطحَنُ ومعها بناتُها وجَواريها يُساعدونها.

وأبناءُ أيوبَ يَحمِلونَ الطعامَ والكِساءَ ويَبحثونَ عن الفقراءِ والمُحتاجينَ في حُوران، والخَدَمُ يَعملونَ في المَزارعِ ويَحمِلونَ الثّمارَ والحُبوبَ الي المَخازن.

والرعاةُ يَسُوقونَ المَواشي الي المَراعي، وكان أيوبُ يَشكرُ الله الذي بارَكَ له في أموالهِ وأولادهِ.

الناسُ كانوا يُحِبّونَ أيوبَ النبيّ.. لأنّه مؤمنٌ باللهِ يَشكرُ اللهَ علي نِعَمِه.. ويُساعدُ الناسَ جميعاً.. لم تُبطِرهُ الأموال، من مَزارعَ وحُقولٍ وماشيةٍ وأولادٍ كثيرين.. كان يعمل.

كانَ يُمكنهُ أن يعيشَ في راحة، ولكنّه كانَ يَعملُ بيدهِ؛ وزَوجتُه رحمةٌ هي الأخري كانت تَعمل.. كانا يعتقدانِ أنّ كلّ ما عندَهما هو من الله سبحانه؛ لهذا كانا يَذكُرانهِ دائماً ويَشكُرانهِ كثيراً.

الناسُ أحبّوه واعتَقدوا أنّه رجلٌ مُبارَك، وأنه نبيٌّ من أنبياءِ الله. لهذا آمَنوا باللهِ سبحانه الذي يَبسُطُ الرّزقَ لِمَن يَشاء ويَقدِر.

الشيطان

الشيطانُ حسَدَ سيدنَا أيوّب، أيوبُ يريدُ الهدايةَ والخيرَ للناس، والشيطانُ يريدُ لهم الشّرورَ والضّلال، لهذا راحَ يُوَسوِسُ للناسِ، يقولُ لهم: انّ أيوبَ يَعبدُ اللهَ لأنّهُ يخافُ علي أموالهِ وحُقولهِ أن يأخُذَها منه... لو كانَ أيوبُ فقيراً ما عَبدَ الله ولا سَجَدَ له...

الناسُ أصغَوا الي وَساوِسِ الشيطانِ وصَدّقوا.. تَغَيرّت نَظرتُهم الي أيوبَ: انّه يَعبدُ اللهَ لأنّ الله أنعَمَ عليهِ ورَزَقهُ وهو يَخافُ مِن أن يَسلبَهُ نِعمتَه... انّ أيوبَ لو حَلّت به مصيبةٌ لَتَركَ العبادة... لو أحرَقَت الصّواعِقُ حُقولَه لَجَزِع!! لَو سَلَبهُ الله نِعمتَهُ لَما سَجَد!

هكذا راحَ الشيطانُ يُوَسوِسُ في نفوسِ أهلِ حُوران...

الامتحان

الله سبحانه أرادَ أن يُظهِرَ للناسِ كذبَ الشيطان.. أرادَ أن يُظهرَ للناسِ صدقَ أيّوبَ وصبرَهُ وايمانَه.. لهذا بَدَأت المِحنة.. سوف تَحلّ بأيوّبَ المَصائبُ الواحدةُ بعد الأخري... لِنرَي مدي ايمانِ سيدِنا أيوّبَ وصبرِه.

كلّ شئ كانَ يَمضي هادئاً.. أيّوبُ كانَ ساجِداً لله يَشكرُهُ علي نعمهِ وآلائه.. وأبناؤه كانوا يَحمِلونَ أجرِبَةَ الطّعام ويَبحَثونَ عن فقيرٍ أو مِسكينٍ أو رجُلٍ مُسافرٍ انقَطَعت به السّبل..

الخَدَمُ والعَبيدُ كانوا يَعملونَ في الأرض، ويَحملونَ حُبوبَ القمحِ الي المَخازن.

( رحمةٌ ) زوجةُ سيدِنا أيوبَ كانت تَطحَنُ في الرّحي..

والبعضُ كانوا يَحملونَ حُزَمَ الحَطَب وآخرون يَجلِبونَ الماءَ من النّبع.

والرّعاةُ كانوا يَسُوقونَ قِطعانَ الماشِيةِ الي المُروج.. كلّ شئ كانَ يَمضي هادئاً وجميلاً...

وفي تلك اللحظاتِ.. برَزَ الشيطان يُعَربِدُ ويُدَمّر. يُريدُ أن يُدمّرَ ايمانَ أيّوب.

فجأةً جاءَ أحدُ الرّعاة مَبهورَ الأنفاس... هَتَف:

ـ اينَ نبيّ الله أيّوب ؟!!

ـ ماذا حَصَل ؟! تَكَلّم.

ـ لقد قَتَلوهُم.. قَتَلوا جميعَ رِفاقي.. الرّعاةَ والفَلاّحين... جَميعهم قُتلوا.. جَرَت دِماؤهُم فوقَ الأرض...

ـ ماذا ؟!

ـ هاجَمَنا الأشرار.. واخَتَطفوا قِطعانَ الماشيةِ، أخَذوا أبقارَنا وخِرافَنا وذَهَبوا!

الجبلُ لا يَهتزّ أمامَ العاصفةِ.. سيدُنا أيوبُ تألّم ولكنّه تَحمّل، قالَ بثبات:

ـ انّا للهِ وانّا اليهِ راجعون...

انّ اللهَ سبحانَهُ شاءَ أن يَمتَحِن أيوبَ.. يَمتحنَ ايمانَهُ بِرَبّ العالَمين.. أيَصبِرُ أم يَكفُر ؟

في اليومِ التالي حَدَثَ أمرٌ عجيب.. تَجَمّعت سُحُبٌ سَوداء في السماء.. وانفَجَرت الصّواعِقُ ودَوّت الرّعود... وجاء أحدُ الفلاّحين.. كانت ثيابهُ مُحترقةً وجهُه أسوَد من الحرُوقِ والدّخان.. هتَفَ سيدُنا أيوب:

ـ ماذا حَصَل ؟!

ـ النار! يا نبيّ اللهِ النار!!

ـ أهِي مُصيبةٌ أخري ؟!

ـ نعم يا نبيّ الله، لقد احترَقَ كلّ شيء.. لقد نَزَل البلاء.. الصّواعقُ أحرَقَت الحُقولَ والمَزارع.. أصبَحَت أرضُنا رَماداً يا نبيّ الله.. كل رفِاقي ماتُوا احتَرَقوا.

قالت رحمة:

ـ ان مصائبَ العالَم كلّها ستَنزِلُ علينا!

ـ اصبِري يا رحمة.. هذه مشيئةُ الله.

ـ مشيئةُ الله!!

أجل.. لقد حانَ وقتُ الامتحان.. ما مِن نبيٍ الاّ وامتَحَنَ اللهُ قلبَه.

نظرَ أيوبَ الي السماء وقال بِضَراعة:

ـ الهي، امنَحني الصّبر.

في ذلك اليوم أمَرَ سيدُنا أيّوبُ الخَدَمَ والعبيدَ بمغادرةِ مَنزلهِ.. قالَ لهم باشفاق:

ـ عُودوا الي أهليكم أو ابحَثوا عن مكانٍ آخر، انّ الله سبحانه يَمتَحِنُني.

قالَ أحد الخَدَم:

ـ سنَعملُ علي اصلاحِ الحقولِ والمَزارع... انّني لا أُحبّ أن أُفارِقَكَ، نحن نؤمنُ بكَ ونُحبّكَ يا نبيّ الله.

ـ يا أبنائي أعرِفُ ذلك.. ولكنّ البلاءَ سيَتَضاعَفُ، وأنا لا أُريدُ أن أري أن تَحتَرقوا أمامي.. اذهَبوا يا أبنائي.. دَعُوني أواجِهُ الامتحانَ لوحدي.

يا صبرَ أيوب!

لم تَنتَهِ مِحنةُ أيوبَ عند هذا الحدّ، لم تَحترَق حُقولُه وتَتحوّل الي رمادٍ، لم تَفنَ ماشيتُه جميعاً فقط. انّه يُواجهُ محنةً أخري.. لقد ماتَ جميعُ أولادِه وبناته، لم يَبقَ معه سوي رحمة زوجتهِ الطيّبة.. بعد ذلك أيضاً ابتُليَ أيّوب في جسده.. أصابه المرض، وتقرّح جِلُده، فزاد ابتعاد الناس عنه خوفاً من العَدوي.

أصبَحَ منزلهُ خالياً، ليس فيه وَلَدٌ واحدٌ من أولاده.. وهو شيخٌ مُسِنٌّ وزوجتُهُ المسكينةُ تبكي..

هذه مشيئةُ الله وعلَينا أن نُسَلّمَ لأمره..

الشيطانُ لم يَترُكه لحالهِ، جاء اليه ليوسوسَ له:

ـ يا لها مِن مصيبةٍ كُبري.. سَبَعةُ بنينَ وثلاثُ بناتٍ في لحظةٍ واحدةٍ ماتوا.. كانوا أملاً.. بماذا يُسلّي الانسانُ نفسَه ؟.!

نَظَر أيوبُ الي السماءِ الزاخرةِ بالنجوم:

ـ يا الله... أعرِفُ أنكَ مصدرٌ للخيرِ، كلّ الخير..

الهي وربّي، امنَحني الصّبر.

الشيطانُ فَرّ بعيداً.. لا شيءَ يُرهِبُ الشيطانَ أكثرَ مِن ذِكرِ الله.. لا شيءَ يُخيفُ الشيطانَ أكثرَ مِن اسمِ الله.

فاذا قال الانسان: أعوذُ باللهِ من الشيطان.. فانّ الله يَحفَظُه ويَحميهِ ويَجعَلُ قَلبَهُ طاهراً.. اللهُ سبحانه يُحِبّ عِبادَهُ ويُريدُ لهم الخير..

من أجلِ هذا كان سيّدنُا أيوبُ لا يزدادُ علي البلاءِ الاّ صبراً. يَعرفُ أن الله هو مصدرُ الخيرِ ويُريد له الخير.. أمّا الشرّ فمِن الشيطانِ الذي يُريدُ للانسانِ أن يَكفُر.

أهل حُوران

الشيطانُ لم يَكُفّ عن وَسوَسَتهِ، انّه يريدُ أن يَقهَرَ أيّوبَ.

ذهبَ الشيطانُ الي أهل القريةِ وقال لهم: انّ الله قد غَضِبَ علي أيوب.. فصَبّ عليه البلاء.. لقد أذنَبَ أيّوبُ ذنباً كبيراً فحَلّت بهِ اللعنة.. انّ في بقائه خَطَراً عليكم.. ربّما تَشمَلُكُم اللعنة.. مِن الأفضلِ أن تُخرِجوه مِن قريَتِكم.

أهالي حُورانَ أصغَوا لوسوسةِ الشيطانِ، وجاءوا الي منزلِ أيّوب.. لم يكن في منزلهِ أحدٌ سوي زوجتهِ رحمة..

قالَ رجلٌ منهم:

ـ نحنُ نَظُنّ أن اللعنةَ قد حَلّت بك، ونخافُ أن تَعُمّ القريةَ كلّها.. فاخرُج من قَريتِنا واذهب بعيداً عنّا، نحن لا نُريدكَ أن تَبقي بيننا.

غَضِبَت رحمةٌ من هذا الكلام، قالت:

ـ نحنُ نعيشُ في مَنزلنا ولا يَحِقّ لكم أن تُؤذوا نبيّ الله..

أهالي القرية قالوا بِوَقاحَة:

ـ اذا لم تَخرُجا فسنُخرِجُكما بالقوّة.. لقد حَلّت بكما اللعنةُ وستعمّ القريةَ كلّها بسببكما..

قال لهم أيوبُ باشفاق!

في العَراء

ـ يا أبنائي، ما هذا الذي تَقولونه ؟! انّ ما حَدَث لي هو امتحانٌ الهي... الله سبحانه قد امتَحَنَ الأنبياء قبلي.. خافُوا الله يا أهلَ حُوران، ولا تُؤذوا نبيّكم.

قال رجلٌ أحمَق:

ـ ولكنّك عَصَيتَ الله، وهو الذي غَضِبَ عليك.

قالت رحمة:

ـ أنتم تَظلِمونَ نبيّكم.. هل نَسِيتُم احسانَهُ اليكُم ؟! هل نَسِيتُم يا أهلَ حُورانَ الكِساءَ والطعامَ الذي كانَ يأتيكم من منزلِ أيوب ؟!

نظر أيوبُ الي السماء وقالَ بحزن:

ـ يا الهي، اذا كانت هذه مَشيئتُك فسَأخرُجُ من القرية، وأسكُنُ في الصحراء.. يا الله سامِح هؤلاءِ علي جَهلِهم.. لو كانوا يَعرفونَ الحقّ ما فَعَلوا ذلك بنبيّهم.

الجوع

هكذا وَصَلت مِحنةُ سيّدِنا أيوبَ؛ أن جاء أهلُ حُورانَ وأخرَجوه من منزلهِ.

كانوا يَظنّون أنّ اللعنَة قد حَلّت به، فخافوا أن تَشمَلَهُم أيضاً..

نَسُوا كل احسانِ أيوبَ وطيبتهِ ورحمتهِ بالفقراءِ والمساكين!

لقد سَوّلَ الشيطانُ لهم ذلك فاتّبعوه وتَركوا أيّوبَ يُعاني آلامَ الوحدةِ والضعفِ.. لم يَبقَ معه سوي ( رحمة ) زوجتهِ الوفيّة.. وحدَها كانت تُؤمن بأن أيوبَ في محنةٍ تُشبهِ محنةَ الأنبياءِ، وعليها أن تَقِفَ الي جانبهِ ولا تَترُكَه وحيداً.

كان علي رحمة أن تَعملَ في بيوتِ حُوران، تَخدِمُ وتَكدَحُ في المَنازِل لقاءَ لُقمةِ خُبزٍ لها ولزوجها..

وفي كلّ مرّةٍ كانت تعودُ الي أيوّبَ وهي قَلِقَةٌ عليه، فالصحراءُ لا تَخلو من الذئابِ والضّباع، وأيّوب لا يَقوي علي النهوضِ والدفاعِ عن نفسهِ.

كان أيوبُ صابراً يَتحمّلُ الألمَ بايمانه العميقِ بالله، وكانت رحمةٌ تَستمدّ صبرَها من صبرِ زوجها وتَحَمّلِه.. وفي تلك المدّةِ صَنَعَت رحمة لزوجِها عَريشاً يُظِلّه من الشمسِ ويَحميهِ من المطرِ. وهكذا تمرّ الأيام وفي كلّ يومٍ كانت مِحنةُ أيوبَ تزداد.

وكانت رحمة تَشقي في منازلِ حُوران.

ربيع الحياة

ذات يومٍ بَحَثت رحمة عمّن يَستَخدِمُها في العمل، ولكن لا أحَد! كلّ أهلِ حُورانَ أغلَقوا الأبوابَ في وجهِها.. ومع ذلك فرحمةٌ لم تَمُدّ يدها الي أحدٍ ولم تَستَجدِ أحداً.

كان أيّوبُ يَنتظرُ عودةَ زوجتهِ؛ لقد تأخّرت هذه المرّة.

زوجتُه بَحثَت عن عملٍ في منازلِ حُورانَ، فوَجَدت الأبوابَ دونها مُوصَدَة... لهذا اضطُرّت أن تَقصّ ضَفيرتَيها لِتبيعَهُما مُقابِلَ رَغيفَينِ من الخُبز.

عادَت رحمةٌ الي زوجِها وقَدّمت له رغيفَ الخبز. عندما رأي أيوبُ ما فعَلَت زوجتُه بنفسِها شَعَرَ بالغضب.

حَلَف أيوبُ أن يَضرِبَها اذا قَوِيَ علي ذلك، لم يَأكُل رغيفَه، كانَ غاضباً مِن تَصَرّفِ رحمة، ما كانَ يَنبغي لها أن تَفعلَ ذلك.

بَكَت رحمةٌ كثيراً، لم تَعُد تَتَحمّلُ هذا العذابَ والألم.. لم تَعُد تَتَحمّلُ الحياةَ القاسيةَ وشَماتَةَ الناس.. ومع ذلك فكلّما كانَ الشيطانُ يُوسوسُ في قلبِها أن تَترُكَ زوجَها، كانت تَستعَيذُ باللهِ، لهذا ظَلّت وفيّةً لزوجِها تَرعاهُ وتَسهَر علي راحتِه.

انّ سيدَنا أيوبَ يُحبّ زوجَته كثيراً؛ لأنها امرأةٌ مؤمنةٌ صابرةٌ راضيةٌ بقضاء الله.

من أجلِ ذلك قالت له زوجته:

ـ أنتَ نبيّ اللهِ.. أُدعُ اللهَ لِيُنقِذَكَ من هذه المِحنة!

قال أيوب:

ـ لقد عِشتُ سنواتٍ طويلةً في رَفاهٍ من العَيش، بَنونَ وأموالٌ ومَزارعُ وحُقول.. أفَلا أصِبرُ علي حياةِ الفقرِ بقدرِ ذلك.

قالت رحمةٌ وهي تبكي:

ـ أكثَرُ ما يُحزِنُني شَماتَةُ الأعداء..

ـ اللهُ سبحانه يُراقِبُ حالَنا وهو أرحمُ الراحمين.

ـ ليسَ لدينا ما نأكُلُ هذا اليوم.. سأذهَبُ الي أهلِ حُورانَ فلعلّ أحدَهُم يتذكّرُ احسانَنا اليه.. مَن يدري فلعلّ قلبَ أحدِهم يَخفِقُ لِحُبّ الخير.

بسم الله الرحمن الرحيم

ذَهَبت رحمة الي القريةِ لتحصَلَ علي كِسرةِ خبزٍ لزوجها.. وظَلّ أيوبُ وحيداً تحتَ أشعّةِ الشمس..

كانَ يَعبدُ اللهَ ويَشكُرهُ. لم يَجزَع أبداً ولم يَفقِد ايمانَه بالله.. انّ الله مصدرُ الخيرِ والرحمةِ والبركة، وهو وحده القادرُ علي كل شيء.

في الأثناءِ مَرّ رجُلانِ من أهل حُورانَ. تَوقّفا عند أيّوبَ ونظرا اليه. قال أحدهما:

ـ ماذا أذنَبتَ لكي يَفَعلَ اللهُ بك هذا ؟!

وقال الاخر:

ـ انكَ فَعَلت شيئاً كبيراً تَستُرهُ عنّا، فعاقَبَك اللهُ عليه.

تألمّ سيدُنا أيّوبُ. انّ البعض يَتّهمُه بما هو بريء منه. قال أيوبُ بحزن:

ـ وعِزّةِ ربّي انّه لَيَعلَمُ أنّي ما أكَلتُ طعاماً الاّ ويتيمٌ أو ضعيفٌ يأكُلُ معي.

ونظر الي السماء وقال:

الهي أنا راضٍ بقضائك... بِيدِكَ الخيرُ انّك علي كلّ شيء قدير، الهي بيدِك شفائي.. بيدكَ مَرَضي.. أنتَ وحدَك تَستطيعُ أن تُعيدَ اليّ سلامتي.. ويا الهي! انّي مَسّنيَ الشيطانُ بِنُصبٍ وعَذاب.

تَعجّبَ الرجلانِ من صبرِ أيّوب، وانصَرَفا عنه في طريقهِما وهما يفكّرانِ في كلماتِ أيّوب!

بسم الله الرحمن الرحيم

فجأةً أضاءَ المكانُ بنورٍ شفّافٍ جميل، وامتلأ الفضاءُ برائحةٍ طيبّة، ورأي أيّوبُ مَلاكاً يَهبِطُ من السماءِ ويقول له:

السلامُ علي أيّوبَ أعزّ عبادِ الله.. نِعمَ العبدَ أنتَ يا أيّوب، انّ الله يُقرئك السلامَ ويقول: لقد أُجِيبَت دَعوتُك، وأنّ الله يُعطيكَ أجرَ الصابرين. اضرِب برِجلكَ الأرضَ يا أيّوب! واغسِل في النّبعِ المقدّس.

1 ـ سورة الأنبياء: الايات 83، 84.

غابَ المَلاك، وشَعَرَ أيوبُ بالنور يُضيء في قلبهِ، فضَرَب بقدمهِ الأرض، فجأة انبثَقَ نبعٌ باردٌ عَذبُ المَذاق.. ارتَوي أيّوبُ من الماءِ الطاهر، وتَدفّقت دماءُ العافية في وجهه، وغادَره الضعفُ تماماً.

عاودته العافية و القوّة، فاذا هو انسان جديد أقوي ممّا كان عليه قبل أيامَ المحنةِ والمرض.

خَلَعَ أيوبُ ثَوَب المرضِ والضّعف وارتَدي ثياباً بيضاءَ ناصعةً مُضَمّخةً برائحةِ الفِردوس.

وشيئاً فشيئاً ازدَهَرتِ الأرضُ مِن حولِ أيوبَ وأعشَبَت.

عادَت رحمة تَبحَثُ عن زوجِها، فلم تَجِده، ووَجَدَت رجلاً يَفيضُ وجهُه نعمةً وصِحّةً وعافية. فقالت له باستعطاف:

ـ ألم تَرَ أيوب.. أيوبَ نبيّ الله ؟!

ـ أنا أيوبُ يا رحمة!

ـ أنت ؟! ان زوجي رجلٌ عجوزٌ وضعيف.. ومريض أيضاً!

ـ المَرَضُ من الله، والصّحّةُ والسلامةُ منه أيضاً.. وهو سبحانه بيده كلّ شيء.

ـ أنتَ أيوبُ حقاً ؟!

ـ نعم يا رحمة، لقد شاءَ اللهُ أن يَمُنّ علَيّ بالصحةِ والعافية، وأن تَنتهي مِحنتُنا. هيّا يا رحمة! اغتَسِلي في النّبع، انّ الله يُكافئك علي صبرِك ووفائكِ وسيُعيدُ اليكِ شَبابَكِ.

اغتَسَلت رحمةُ في مياه النّبعِ، وخَلَعَت ثوبَ الفقرِ والحاجةِ، وألبَسَها اللهُ ثوبَ الشبابِ والعافية.

كانت مياهُ النّبع تتدفّق وتَسقي الحقولَ المُحترقةَ المليئة بالرمادِ، فتعيد اليها الخُضرةَ والبَهجةَ. وراحت المياهُ الطاهرةُ المقدّسةُ تَجري في الأرض فترَوي قبورَ أولادِ أيوبَ الذين ماتوا قبلَ سنينَ طويلة.

وانبَعَث أبناءُ أيّوبَ ليعودوا الي أبوَيهم.. عادَ كلّ شئ كما كان عليه قبل سَبعِ سنوات يومَ كانَ أيّوبُ صَحيحاً مُعافي.

لقد أرادَ الله امتحانَ أيوبَ لِيَعبدَهُ عبادةَ الصبرِ، كما عَبَدهُ عبادةَ الشّكر من قبل..

اللهُ سبحانه أرادَ للناسِ أن يَعرفوا أن المَرَضَ والصحةَ مِن اللهِ، وأن الفقرَ والثّراءَ من الله..

الله أرادَ للناس أن لا يَطرُدوا الفقيرَ لفقرِه، ولا الضعيفَ لمرِضه أو شيخوختِه.

وهكذا أصبَحَت قصّةُ سيدِنا أيوبَ آيةً للناس وعِبرة، ودليلاً علي أن الله هو القادرُ علي كلّ شيء، هو الذي سَلَبَ أيوبَ نِعمَتَهُ وكلّ ما يَملكهُ حتّي سلامَته، وهو الذي أعادَ اليه جميعَ أُسرتهِ بل وباركَ فيها، فنَمَت حُقولُه وتَكاثرت ماشيتُه وعادَ اليه شبابُه وصحتُه ورزقَه الله بَنيَن وحَفَدَة، وآمنَ الناسُ باللهِ الواحدِ الأحد وآمَنوا بنبوّةِ سيدِنا أيوبَ ورسالِته.

وأيّوبَ اذ نادي ربّه أنّي مَسّنيَ الضّرّ وأنتَ أرحمُ الرّاحمين * فآستَجَبنا له فكَشَفنا ما بهِ مِن ضُرٍّ وآتيناه أهلَه ومِثلَهم مَعَهم رحمةً مِن عندنا وذكري للعابِدين (1).

وآذكُر عبدَنا أيّوبَ اذ نادي ربّه أنّي مَسّنيَ الشيطانُ بنُصبٍ وعذاب * اركُض برِجلِكَ هذا مُغتَسَلٌ باردٌ وشراب * ووَهَبنا له أهلَه ومِثلَهم مَعَهم رحمةً مِنّا وذكري لأُولي الألباب * وخُذ بيدِك ضِغثاً فآضرِب به ولا تَحنث انّا وَجَدناه صابراً نِعمَ العبدُ انّه أوّاب (2).

2 ـ سورة ص: 41 ـ 44.