لإجراء العمليات قم أولاً بتسجيل الدخوللإجراء العمليات قم أولاً بتسجيل الدخول
٥٣٥

الليلة السابعة عشر: الدولة الخاتمة بين الرجعة والمهديين (مكتوبة) - السيد منير الخباز

منذ ١٢ سنة٥٣٥مشاهده
|1
 الدولة الخاتمة بين الرجعة والمهديين
بسم الله الرحمن الرحيم
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [1]
آمنا بالله صدق الله العلي العظيم
 انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محاورَ ثلاثةٍ:
المحور الأول: في تحليل نسبة المجيء إلى الله تبارك وتعالى.
نلاحظ أنّ القرآن الكريم نسب إلى الله كثيرًا من أوصاف الأجسام، كالمجيء، والأخذ، والرمي، يقول القرآن الكريم: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [2], وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، وقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [3], وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [4], وقال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [5]، فهذه الأفعال من الرمي والأخذ والمجيء نسبها القرآنُ إلى الله تبارك وتعالى، ومن الواضح أنّ الله ليس جسمًا حتى يُعْقَل عليه المجيءُ الماديُ أو الأخذ الماديُ أو الرمي الماديُ، لذلك المفسّرون على اتجاهين في تحليل نسبة هذه الأفعال إلى الله تبارك وتعالى:
الاتجاه الأول: أنّ هذه الآيات مؤوّلة ولا تؤخذ على ظاهرها البَدْوي، بمعنى أنّ حكم العقل البديهي بأنّ الله ليس جسمًا حتى يُعْقَل عليه المجيءُ والذهابُ والأخذ وعدمه والرمي وعدمه، هذا الحكم العقلي هو بنفسه قرينة على أنّ مدلول ومفاد هذه الآيات المباركة معنىً آخر غير ما هو ظاهرها البَدْوي, فعندما يقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ} فهنا مقدّرٌ، يعني: وجاء أمرُ ربك، وعندما يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [6] يعني: إلى رحمة ربها ناظرة, وفي هذه الآية التي قرأناها: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} يعني: يأتي أمرُ الله، خصوصًا في آية أخرى قال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [7]، هذا الاتجاه الأول.
الاتجاه الثاني: وهو الذي يركّز عليها علماءُ العرفان، أنّه من المعقول نسبة المجيء والإتيان والأخذ إلى الله بالمعنى التجريدي لا بالمعنى المادي، والمقصود بذلك يبتني على ذكر أمرَيْن:
 الأمر الأول: أنّ الاختلاف هنا في المصداق لا في المفهوم, كيف معنى الاختلاف في المصداق لا في المفهوم؟
يعني: عندما نأتي مثلاً إلى كلمة (المجيء)، أو كلمة (الإتيان)، هذه الكلمة (المجيء) مفهومها واحدٌ، وهو الوصول، غاية ما في الأمر الوصول له مصداقان:
1- مصداق مادي.
2- ومصداق تجريدي.
المصداق المادي هو ما يحصل بين الأجسام، عندما يقال: جاء فلانٌ, فلانٌ جسمٌ، إذن مجيئه يُعْتبر حركة تقطع مسافة معيّنة، فمجيء الجسم حركة تقطع المسافة، ولكن إذا نسبنا المجيء إلى ما ليس بجسم فمجيئه هو وصوله، ليس هناك حركة تقطع المسافة, إذن عنوان المجيء هو عنوانٌ له معنىً واحدٌ، وهو الوصول، لكنّ هذا الوصول له مصداقان: مصداق مادي، وهو الحركة، هذه لا تعْقل في حق الله تبارك وتعالى، ومصداق غير مادي، وهو ما يُعْقل في حق الله.
إذن لا نحتاج أن نؤوّل، نقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، نقول: لا، الله هو الذي جاء لكن مجيئه تبارك وتعالى ليس مجيئًا بالمصداق المادي – وهو حركة قطع المسافة – وإنما مجيئه هو عبارة عن قيموميته وإحاطته تبارك وتعالى، وليس مجيئه بحسب المصداق المادي, إذن من الممكن أن نقول: الله هو الذي أخذ الصدقة, الله هو الذي رمى, الله هو الذي جاء, الله هو الذي أتى، لكنّ المقصود بهذه الألفاظ مصاديقها التجريديّة وليس مصاديقها الماديّة, هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: ربما يقول قائلٌ: بما أنّ الله عز وجل له القيمومة المطلقة على كل شيء {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [8], وقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [9]، بما أنّ له القيمومة المطلقة والإحاطة المطلقة بكل شيء فجميع الأشياء متساوية النسبة بالنسبة إليه، فليس شيءٌ أقرب إليه من شيء آخر، وليس شيءٌ أبعد عنه من شيء آخر، فإذا كانت الأشياء كلها متساوية النسبة إليه جلّ وعلا إذن لا يتصوّر في حقه لا وصول ولا عدمه، ولا يتصوّر في حقه أخذ ولا عدمه، ولا رمي ولا عدمه، لأنّ جميع الأشياء خاضعة لإحاطته وقيمومته بنسبةٍ متساويةٍ, إذن أين الوصول وأين الأخذ وأين الرمي؟! ربما يقال هكذا.
الجواب عن ذلك: هناك نوعان من القرب:
1- قربٌ إحاطيٌ.
2- وقربٌ روحيٌ.
القرب الإحاطي لا كلام لنا فيه، جميع الأشياء قريبة من الله بنسبةٍ واحدةٍ قربًا إحاطيًا، هو محيط بكل شيء بنسبةٍ واحدةٍ، لكن هناك نوعًا ثانيًا من القرب ألا وهو القرب الرّوحي, ما معنى القرب الروحي؟
بمعنى ما يضعه الله في نفوس عباده وفي أرواحهم، هذا القرب الروحي يتفاوت فيه العباد، القرب الإحاطي التكويني تتساوى فيه العباد، ليس أحدٌ أقرب إليه من أحدٍ، ولا أحدٌ أبعد عنه من أحدٍ آخر، هذا نسمّيه القرب الإحاطي التكويني، أما القرب الروحي – يعني: ما يغرسه الله، ما يزرعه الله، ما يضعه الله في أرواح العباد وفي نفوسهم – يتفاوت من عبدٍ لآخر، ومن ظرفٍ لآخر، ومن عملٍ لآخر، لأجل ذلك القرب الروحي على قسمين: قرب رحمة، وقرب نقمة.
أحيانًا الله عزّ وجلّ يضع في نفوس بعض عباده الاطمئنان والبهجة، وهذا قرب رحمةٍ، وأحيانًا يضع في نفوس عبادة الفزع والرعب، وهذا قرب نقمةٍ, إذن القرب الروحي بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى الذي يفيضه على أرواح عباده وعلى نفوس عباده على قسمين: قرب رحمة، وقرب نقمة.
عبّر عن قرب الرّحمة بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [10], أخذ الصدقة إشارة إلى القرب الروحي على نحو قرب الرحمة, أو عندما يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} القرب الإحاطي معلومٌ، لا يحتاج أن يقول: أنا قريبٌ، هو معلومٌ، لا يقصد القرب الإحاطي, القرب الإحاطي التكويني حاصلٌ بنسبةٍ متساويةٍ لجميع خلقه، المشار إليه القرب الروحي، قرب الرحمة، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [11].
وأحيانًا يكون قربَ النقمة الذي يشكّل خوفًا وفزعًا في النفوس كما في قوله عزّ وجلّ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} الرمي ما حصل من الرّعب والرّهبة في نفوس المشركين عندما تصدّى المسلمون للدفاع عن أنفسهم.
إذن الآية المباركة التي قرأناها: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} كيف يعني يأتي الله؟
إمّا أنْ يأخذ بالاتجاه الأول: يأتي الله يعني يأتي أمر الله، أو نأخذ بالاتجاه الثاني: فعلاً يأتي الله، لكن ليس إتيانًا ماديًا وإنما إتيانًا تجريديًا, والإتيان التجريدي ليس معناه القيمومة والإحاطة، فهذه حاصلة من الأول وبنسبةٍ متساويةٍ لجميع العباد، إنما إتيانه ومجيئه جلّ وعلا {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} هو ما يقع من الرّعب والرّهبة في آخر الزمان عندما يصدر الأمرُ الإلهيُ من الله تبارك وتعالى بالصّيحة في آخر الزمان التي تأخذ مجالها من الرّعب والرهبة في نفوس العباد.
المحور الثاني:
الآية المباركة وعدة آيات ترتبط بمسألة الرّجعة، روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السّلام) في تفسير هذه الآية المباركة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} قال: "هي الرجعة", الرجعة عندما تحدث تسبقها صيحة من السماء، صيحة في شكل غمائم تغطي الأرض كلها، هذه الصيحة التي تتجلى للعباد في آخر الزمان بشكل غمائم وسحاب تغطي الأرض كلها هي تكون جرس الإنذار وبداية مسألة الرجعة، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
من هنا نتحدث عن مسألة إمكان الرجعة وعدم إمكانها, هل الرجعة أمرٌ ممكنٌ؟ يعني: هل يمكن أن يرجع العبدُ إلى الحياة الدنيا لا إلى الحياة المادية, الحياة المادية يمكن أن يرجع، يوم القيامة يُبْعَث من جديد بجسمه المادي، هذه ليست هي الحياة الدنيا، هذه حياة أخرويّة, هل يمكن أن يرجع العبدُ إلى الحياة الدنيا بأنْ يعيش في الدنيا مرّة أخرى أم لا؟
هذه مسألة إمكان الرجعة, هناك بعض الفلاسفة قال: الرّجعة أصلاً هذا أمرٌ مستحيلٌ، أصلاً أمرٌ غيرُ معقولٍ أن يرجع الإنسان إلى الحياة الدنيا, لماذا؟ لأنّ لازمها الانقلاب واللغو، وهو محالٌ، كيف؟
علاقة النفس بالجسد علاقة استكماليّة تعني خروج الإنسان من مرحلة الوجود الإجمالي إلى مرحلة الوجود التفصيلي, دعني أشرح لك هذا بالمثال: لا يوجد شيءٌ في هذا الكون إلا وعاش مرحلتين:
1- مرحلة وجود إجمالي.
2- ومرحلة وجود تفصيلي.
يعني الآن مثلاً: عندما تنظر إلى هذه الشجرة، أمامك شجرة مثمرة، هذه الشجرة المثمرة أين كانت؟ كانت مختصرة في نواة، كل هذه الشجرة بثمرها وأغصانها وفروعها كانت موجودة لكنّها كانت موجودة وجودًا إجماليًا مختصرًا ضمن نواةٍ صغيرةٍ، فالنواة تشكّل وجودًا للشجرة، لكن وجود إجمالي، خروج الشجرة من عالم الوجود الإجمالي إلى عالم الوجود التفصيلي يحتاج إلى حركة يعبّر عنها الفلاسفة: الخروج من القوة إلى الفعل، كانت هذه الشجرة موجودة بالقوّة ضمن النواة، الآن خرجت إلى الفعل وأصبحت متجسّدة ومتمثلة بواسطة الحركة, الحركة نقلتها من الوجود الإجمالي إلى الوجود التفصيلي.
الإنسان نفس الشيء، هذا الإنسان العملاق، هذا الإنسان الذي غزا الفضاء وسيطر على الطبيعة، هذا الإنسان العملاق بعلمه، العملاق بمعرفته، كان موجودًا قبل هذا الوجود, أين كان موجودًا؟ كان موجودًا ضمن النطفة، كان موجودًا وجودًا إجماليًا، يعني: هذا الحيوان المنوي المجهري الذي يعلق بجدار الرحم، هذا الحيوان هو إنسانٌ، هذا الحيوان المجهري هو إنسانٌ وليس غير إنسان، هو إنسانٌ لكنه وجودٌ مختصرٌ للإنسان، وجودٌ إجماليٌ للإنسان، وإلا هو إنسانٌ.
القرآن الكريم يقول: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * (هذا الإنسان يرجع مرة أخرى) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [12]، الإنسان موجودٌ ضمن هذا الحيوان المجهري، كان موجودًا وجودًا إجماليًا، يعني: هذا الإنسان الآن صار عنده علم، افترض هذا الإنسان أصبح إنسانًا عالمًا، أصبح بروفسورًا في علم الفلك، هذه الدرجة من العلميّة كانت موجودة عنده منذ أن كان هو في النطفة، إنّما المخبوء يتحول إلى تفصيل، هذه الطاقة التي بها أصبح بروفسورًا في مجال الفلك، هذه الطاقة موجودة عنده من الأول، منذ أن كان نطفة تعلق بجدار الرحم، تلك الطاقة كانت مخبوءة، أصبحت بارزة، كانت موجودة وجودًا إجماليًا، تحرّكت، أصبحت موجودة وجودًا تفصيليًا.
إذن علاقة الإنسان بجسده علاقة استكماليّة، بمعنى أنّ حركة الجسد تنقل الإنسانَ من النقص إلى الكمال، من الوجود الإجمالي إلى الوجود التفصيلي، من الطاقة المكنونة إلى الطاقة البارزة، بحركة الجسد أصبح إنسانًا كاملاً، علماء العرفان يقولون: الإنسان يمر بقوسين:
1- قوس صعود.
2- قوس نزول.
قوس الصعود من أول يوم إلى يوم أربعين سنة، إلى أن يكمل أربعين سنة هو في قوس صعودٍ، بمعنى أنّ الجسد في كل فترة صحيحٌ هو هذا الجسد يتغيّر، يتبدّل من نطفةٍ إلى علقةٍ إلى مضغةٍ إلى جسدٍ كامل إلى جنين إلى طفل إلى شاب إلى.. إلى... الجسد يمر بأطوار، {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [13]، هذه الأطوار التي يمرّ بها الجسدُ هي حركة، وهذه الحركة ليست نقصًا، هي استكمالٌ، هذه الحركة تخرج الطاقاتِ المكنونة في داخل هذا الإنسان وتبرزها، فإذا وصل أربعين سنة برزت كلُ طاقاته المكنونة، وبدت كل مواهبه المخبوءة، وانتقل من مرحلة الوجود الإجمالي إلى مرحلة الوجود التفصيلي، فكان في هذه المدة منذ أول يوم إلى أن صار عمره أربعين سنة كان في حركة استكماليّة وخروج من الوجود الإجمالي إلى الوجود التفصيلي، بلغ أربعين سنة بدأ في قوس النزول، بدأ الإنسان بعد الأربعين ينحدر نحو الهواية، ينحدر نحو النزول.
إذن حركة الجسد وعلاقة النفس بالجسد هي علاقة استكماليّة، طيّب هذا الإنسان الذي وصل أربعين سنة وخرجت كلُ طاقاته إلى الوجود عندما يموت ويرجع حيًا مرة أخرى يرجع لماذا؟! هو استكمل طاقاتِه، بعضُ الفلاسفة الذي يقول: الرجعة أمرٌ مستحيلٌ، هنا شبهة الاستحالة عنده، يقول لك: هذا الإنسان قد استكمل طاقاتِه وخرجت كل طاقاتِه المخبوءة وأصبحت فعليّة، وخاض قوسَ الصّعود وحركة الاستكمال إلى أنْ أصبح إنسانًا متكاملاً، فعندما يموت بعد الأربعين ويرجع مرة أخرى رجوعه مرة أخرى لغوٌ، لِمَ؟
لأنّه لا هدف للإنسان في الحياة الدنيا إلا أنْ يخرج من القوّة إلى الفعل، وهذا قد خرج من القوة إلى الفعل، إلا الاستكمال، وهذا قد استكمل، إلا أن يستفيد من طاقاتِه، وهذا قد استفاد من طاقاته كلها، إذن رجوعه لغوٌ أو انقلابٌ، وكلاهما محالٌ، لذلك بعض الفلاسفة بنى على استحالة الرجعة لهذه الجهة, نحن كيف نجيب عن ذلك؟
أولاً: هذا مخالفٌ لصريح القرآن الكريم الذي يقول: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ – يعني: لم يتغيّر – وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [14].
ثانيًا: هناك فرقٌ بين الموت الاخترامي والموت الطبيعي، هذا موجودٌ حتى في الروايات، لذلك يستحبّ للإنسان إذا مشى خلف جنازة أن يقول: (اللهم لا تجعلنا من السواد المُخْتَرَم)، هناك نوعٌ من الموت يسمّى موتًا اختراميًا، هناك موت اختراميٌ، هناك موتٌ طبيعيٌ، الموت الاخترامي هو أن يخترمك الموتُ بقتل أو بقسر من الخارج قبل أن تستكمل طاقاتِك وحياتك، هذا الإنسان الذي يُقْتَل قبل أن يتم دورُه، قبل أن يكمل دورُه، هذا الإنسان الذي يُقْتل يسمّى موتًا اختراميًا، يعني: قطع القتلُ مسيرته التكامليّة فاخترمه الموتُ، وهناك موتٌ طبيعيٌ: هذا إنسانٌ يعيش له سبعين سنة، ثمانين سنة، ويموت بمرض أو بأي شيءٍ آخر بالشكل الطبيعي.
هذا الإنسان إنما يكتمل طاقاته المخبوءة ومواهبه المكنونة إذا مات موتًا طبيعيًا، أمّا إذا مات موتًا اختراميًا فمازالت هناك طاقات لم تبرز إلى الوجود، مازالت هناك مواهبُ وملكاتٌ يعيشها هذا الإنسانُ لم تسنح لها الفرصة المؤاتية لبروزها وتفعليها وتجليها، إذن هذا الإنسان الذي مات موتًا اختراميًا لو عاد إلى الحياة لم يكن عوده إلى الحياة لغوًا وعبثًا ولا انقلابًا؛ لأنّه عاد إلى الحياة ما لم يستكمله من طاقاته وملكاته المخبوءة في الدورة الأولى أو في الحياة الأولى.
ثالثًا: الكمال لا ينحصر بالكمال المادي، كيف لا ينحصر بالكمال المادي؟
كل طاقةٍ من طاقات الإنسان لها أثرٌ نفسيٌ ولها أثرٌ غيريٌ، نظير الإنسان الذي يتعلم، إذا تعلم العلم فهو كمالٌ له، وإذا علمه غيره فقد أفاض الكمالَ من نفسه إلى غيره، الكمال لا ينحصر بالكمال النفسي، يعني: افترض إنسانًا استخرج طاقاتِه المخبوءة في شخصيته وأصبح إنسانًا عالمًا، لكنه لم ينشر علمه لدى الناس، لم يفض علمه على المجتمع، هذا مازال ناقصًا، مازال لم يستكمل دوره، الكمال هو بالكمال النفسي والكمال الغيري، بأن تبرز طاقاته المخبوءة بتأثيرها على نفسه وعلى غيره.
ولذلك يركّز القرآنُ الكريمُ على صفات المؤمنين ويقول في صفات المؤمنين: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}، في المقابل (مقابل هذا الذي {مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}): {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا – ليس له – نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [15]، هذا النور إنّما يعد نورًا كاملاً إذا كان ضوءًا لشخص الإنسان وضوءًا لغيره أيضًا، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}.
إذن هذا الإنسان لو مات قبل أن يقوم بدوره، قبل أن ينشر علمه، قبل أن ينشر نوره، قبل أن ينشر أثره الغيري فلو عاد إلى الحياة مرة أخرى لا من أجل استكمال الطاقة من حيث أثرها النفسي، لكن من أجل استكمال الطاقة من حيث أثرها الغيري فلا يكون عوده لغوًا ولا عبثًا ولا انقلابًا؛ لأنّ الكمال لا ينحصر في الكمال النفسي بل يشمل الكمال الغيري.
لذلك ركّز القرآنُ والنصوصُ على مسألة الرجعة، لاحظوا مثلاً قوله عزّ وجلّ: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} [16]، نأتي إلى الروايات التي تفسّر هذه الآيات، يعني أنت تحدّى أي مفسّر، قل له: فسّر لي: ما هو معنى دابة من الأرض تكلم؟ كيف دابة تتكلم؟! ما لم يرجع إلى الرواية لا يقدر أن يفسّر الآية، أي إنسان جاء عالمًا أو جاهلاً، أي إنسانٍ له خبرة بالتفسير اسأله عن هذه الآية: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ما هي الدابة التي تكلم الناس؟! لا يقدر أن يصل إليه من دون الرواية، هنا يتبيّن لنا حاجة تفسير القرآن إلى رواياتٍ عِدْل القرآن وهم آل بيت محمّدٍ (صلى الله عليه وآله).
قتادة دخل على الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: يا قتادة بلغني أنّك تفسّر كتابَ الله، قال: بلى، قال: "إنْ كنتَ تفسّره من عندك فقد هلكتَ وأهلكتَ، وإن كنتَ تفسّره من قِبَلِ الرجال فقد هلكتَ وأهلكتَ، إنّما يعرف القرآنَ من خوطب به، وما هو إلا عند الخاصة من ذرية نبينا محمّدٍ صلى الله عليه وآله، وما ورثك اللهُ من كتابه حرفًا"، هناك أمورٌ في القرآن لا يمكن معرفتها إلا من خلال أهل القرآن أهلها.
نرجع إلى الروايات: رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): مرّ الرّسولُ (صلى الله عليه وآله) بأمير المؤمنين وهو في المسجد وقال: قم يا دابة الله، فاستغرب الصحابة، وقالوا: يا رسول الله أيسمّي بعضُنا بعضًا بهذا الاسم؟! يعني: واحد يقول للثاني: يا دابة! يا دابة الله! أيسمّي بعضُنا بعضًا بهذا الاسم؟! فقال: "إنّه اسمٌ له وخاصٌ به لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} فإنّه يخرج آخر الزمان وبيده مَيْسَمٌ يسم به المؤمنين من المنافقين".
نأتي للآية التي بعدها: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} متى هذا الحشر؟ كثيرٌ من المفسّرين عندما يأتي يقول: هذا يوم القيامة! الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية حمّاد يقول: يا حمّاد ما يقول الناس في هذه الآية: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا}؟ قال: يقولون: يوم القيامة، قال: يوم القيامة يُحْشَر الناسُ كلهم لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [17] هذا يوم القيامة، أمّا هذه الآية قالت: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا}، ما قالت: حشرناهم كلهم، قال: إذن متى سيدي؟ قال: "إنّه آخر الزمان حيث يرجع إلى الدنيا من محض الإيمان محضًا أو محض الكفرَ محضًا"، هذا القول بالرجعة.
ولذلك الدليل على أنّ هاتين الآيتين تتحدّثان عن الرجعة أنّ بعد هاتين الآيتين جاءت آية القيامة، قال: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [18] هذه الآية جاءت بعد هاتين الآيتين ببعض الآيات ممّا يدلّ على أنّ هاتين الآيتين – آية كلام الدابة، وآية حشر الفوج – ناظرتان لما قبل مرحلة يوم القيامة ألا وهي مرحلة الرجعة التي تحدث عنها الأئمة الطاهرون (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
المحور الأخير:
هناك خلافٌ في بعض الرّوايات بين الدولة التالية لدولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)، من المعلوم أنّ الدولة الخاتمة التي تملأ الأرضَ قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا دولة المهدي (عجّل الله فرجه)، لكم من يعقب المهديَ؟ المهدي سيموت، هو إنسانٌ سيموت يومًا من الأيام، من يعقب المهديَ في دولته المباركة إلى أن تقوم الساعة؟
هنا ثلاثة آراء:
الرأي الأول: الذي يقول بأنّه يموت المهديُ قبل القيامة بأربعين يومًا، ويحصل الهرجُ والمرجُ، وتعيش الناسُ فوضى، إلى أن تقوم الساعة، فكأنّه لا دولة بعده، وهو آخر الدول، وهذا ما أشار إليه الشيخ المفيد (عليه الرحمة) في كتاب (الإرشاد) قال: وليس بعد دولة القائم (عليه السلام) لأحدٍ دولة إلا ما وردت به بعضُ الروايات من قيام وِلده إن شاء اللهُ ذلك، ولكن لم ترد على القطع والثبات (يعني: ليس رواياتٍ مقطوعة)، وأكثر الروايات أنّه لن يمضي مهديُ هذه الأمّة (عليه السلام) إلا قبل القيامة بأربعين يومًا يكون فيها الهرجُ، وعلامة خروج الأموات، وقيام الساعة للحساب والجزاء، والله أعلم بما يكون.
هذا الرأي طبعًا لا يتفق مع ما هو المعروف من عقيدة الإماميّة أنّ الأرض لا تخلو من حجّةٍ، ما يصير، حتى هذه الأربعين يومًا، حتى ساعة واحدة، حتى يوم واحد، الأرض لا تخلو من حجة، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "بلى والله لابدّ لله من حجّةٍ في الأرض إمّا ظاهرًا مشهورًا أو خائفًا مغمورًا"، وكما ورد عن النبي محمّدٍ (صلى الله عليه وآله): "إنّي مخلفٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي" ثم قال: "فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"، إذن لا يوجد انقطاعٌ بين هذا الوجود وبين القرآن إلى يوم القيامة.
القول الثاني: أنّ بعد المهدي (عليه السلام) يحكم مهديّون، اثنا عشر مهديًا يحكمون بعد المهدي من وِلد المهدي، هناك اثنا عشر مهديًا كما في بعض الروايات يحكمون دولة الإمام بعد وفاته، اثنا عشر مهديًا، طبعًا بناءً على هذا القول... هو موجودٌ في بعض الرّوايات هذا القول، أنّ هناك اثني عشر مهديًا بعد اثني عشر إمامًا، بناءً على هذا القول لابدّ أن يكون المهديّون أئمة؛ لأنّ الأرض لا تخلو عن إمام معصوم، فإذا كان هؤلاء المهديّون هم الحاكمين بعد الإمام المهدي إذن لا محالة لابدّ وأن يكونوا أئمة معصومين، وإلا لخلت الأرضُ من الحجة، وبالتالي هذا القول عليه عدّة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: أنّه منافٍ للضّرورة المتسالم عليها بين الإماميّة أنّ الأئمة اثنا عشر فقط، الأحاديث المستفيضة والضرورة القائمة على أنّ الأئمة اثنا عشر، يعني: من هم أئمة معصومون هم اثنا عشر كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): "لا يزال الدينُ قائمًا حتى تقوم الساعة أو يكون فيكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" أو: "كلهم من هاشم"، الأئمة اثنا عشر وليس أكثر من ذلك، هذا أوّلاً.
ثانيًا: صحيحٌ نحن عندنا روايات تدلّ على أنّ بعد المهدي اثنا عشر مهديًا، يُعْتَبَر في قبول الرواية الوثوق بها، والعلماء إذا أعرضوا عن روايةٍ وهجروها ولم يعملوا بها كان هجرانهم للرّواية مانعًا من الوثوق بها، فلا يؤخذ بها إذا هجرها العلماءُ ولم يعملوا بها، هنا نلاحظ أنّ العلماء لم يعملوا بهذه الروايات التي تتحدّث عن وجود مهديين اثني عشر بعد المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).
مثلاً: نلاحظ الشيخ المجلسي في البحار (بحار الأنوار، الجزء الثالث والخمسين) يقول: هذه الأخبار – يعني: أخبار المهديين – مخالفة للمشهور، يعني: المشهور لم يعملوا بها.
ونلاحظ أنّ الشيخ الحر العاملي في كتابه (الإيقاظ من الهجعة في البرهان على الرجعة) يقول: وأمّا أحاديث الاثني عشر بعد الاثني عشر – يعني: اثنا عشر مهديًا بعد اثني عشر إمامًا – فلا يخفى أنّها غير موجبةٍ للقطع واليقين لندورها وقلتها وكثرة معارضتها، وقد تواترت الأحاديث بأنّ الأئمة اثنا عشر – يعني: ليسوا أكثر – وأنّ دولتهم ممدودة إلى يوم القيامة، وأنّ الثاني عشر خاتم الأوصياء والأئمة والخلف، وأنّ الأئمة هم وِلد الحسين إلى يوم القيامة.
إذن العلماء لم يعملوا بهذه الروايات، هجروها، وهجرانهم لها مانعٌ من الوثوق بها والتعويل عليها، هذه الملاحظة الثانية.
الملاحظة الثالثة على هذا القول: عندنا روايات توضّح من هم المهديّون، المهديّون ليسوا حكّامًا يحكمون بعد الإمام المهدي، لا، لاحظوا هذه الرواية: روى الشيخ الصدوق في (كمال الدين وتمام النعمة) عن أبي بصير: قال: قلتُ للصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام): يا ابن رسول الله إنّي سمعتُ من أبيك – يعني: أبيك الباقر – أنّه قال: يكون بعد القائم اثنا عشر مهديًا، قال: "إنّما قال: اثنا عشر مهديًا، ولم يقل: اثنا عشر مهديًا، لكنّهم قومٌ من شيعتنا – يعني: ليسوا أئمة معصومين – قومٌ من شيعتنا يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقنا"، فهم ليسوا حكّامًا، ولا أنّهم أئمة، ولا أنّهم معصومون، إنّما هم قومٌ من شيعتنا يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقنا.
بعض الأدعية التي نقرؤها: "السّلام عليه وعلى الأئمة من ولده"، "اللهم بلغهم آمالهم وزد في آجالهم"، قد يقول الإنسان: هذا الدعاء واضحٌ أنّه بعد الإمام هناك أئمة وهم من ولده وهم المهديّون، هذه الأدعية لا تعني ما بعد دولته، تعني أثناء دولته، إذا خرج يكون معه من ولده اثنا عشر يسمّون مهديّين، أو يسمّون ولاة، إلا أنّهم وزراؤه وولاة دولته وأركان حكومته لا أنّهم أئمة معصومون يقومون بعده على الحكم كما ذُكِرَ.
القول الثالث هو: القول بالرجعة.
بمعنى أنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) إذا قضى يحكم بعده أحدُ الأئمة من آبائه، لا أنّه يأتي إمامٌ جديدٌ، لا، يحكم بعده بعضُ الأئمة ممّن يرجعون إلى الحياة، وهنا رواياتٌ تدلّ على هذه النقطة.
لاحظوا ما رواه الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد): روى عبد الكريم الخثعمي، قال: قلتُ لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): كم يملك القائم (عليه السلام)؟ قال: "سبع سنين، تطول له الأيامُ والليالي، حتى تكون السنة من سنيه مقدار عشر سنين من سنيكم، فتكون سنين ملكه سبعين سنة من سنيكم هذه، وإذا آن قيامُه – يعني: قبل قيامه – يمطر الناسُ في جمادى الآخرة وعشرة أيام من رجب مطرًا لم يرَ الخلائقُ مثلَه، فينبت اللهُ به لحومَ المؤمنين وأبدانَهم في قبورهم – يعني: يشير إلى قضيّة الرّجعة – فكأنّي أنظر إليهم مقبلين من قِبَلِ جهينة ينفضون شعورَهم من التراب".
واضح أنّ الروايات عندما تقول: القائم، لفظ القائم ينصرف إلى المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).
ومنها هذه الرواية: رواية أحمد بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله: سألته عن الرجعة أحقٌ هي؟ صحيحة الرجعة؟ قال: نعم، فقيل له: من أول من يخرج؟ من أول من يرجع من القبور؟ قال: "الحسين (عليه السلام) يخرج على إثر القائم" يعني: بعد خروج القائم هو يخرج، قلتُ: ومعه الناس كلهم؟ قال: لا، بل كما ذكر اللهُ تعالى في كتابه: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [19] قومٌ بعد قوم.
وأيضًا رواية حمران بن أعين: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "أوّل من تنشقّ الأرضُ عنه ويرجع إلى الدنيا الحسينُ بن علي (عليه السلام)، وإنّ الرجعة ليست بعامةٍ، وهي خاصة، لا يرجع إلا من محض الإيمانَ محضًا أو محض الشرك محضًا".
وعندما نلاحظ الرواياتِ نرى أكثر من 500 رواية تتحدّث عن الرجعة، بما لا يدع للإنسان مجالاً للشك أو الريب في تحقق هذه الرجعة وإن اختلفت الرّواياتُ في بعض التفاصيل.
مثلاً: من بعض التفاصيل أنّ بعض الرّوايات تتحدّث أنّ الحسين يخرج بعد الإمام الذي لا عقب له، دعني أقرأ لك هذه الرّواية قبل أن أنهي الموضوعَ: ذكر الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) بسنده عن الحسن بن علي الخزاز، قال: دخل علي بن أبي حمزة، علي بن أبي حمزة كان رأس الفرقة الواقفيّة الذين وقفوا على الإمام الكاظم ولم يقولوا بإمامة الإمام الرضا (عليه السلام)، دخل على أبي الحسن الرضا، فقال له: أنت إمامٌ؟! قال: نعم، قال: إنّي سمعتُ جدك جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: "لا يكون الإمامُ إلا وله عقبٌ" كل إمام له إمامٌ يعقبه، فقال: "أنسيتَ يا شيخ أو تناسيتَ؟! ليس هكذا قال جعفر، إنّما قال: لا يكون الإمامُ إلا وله عقبٌ إلا الإمام الذي يخرج عليه الحسينُ بن علي" يعني: الإمام الذي يخرج بعد الحسين بن علي للحكم، "إلا الإمام الذي يخرج عليه الحسينُ بن علي فإنّه لا عقب له"، فقال له: صدقتَ جُعِلتُ فداك هكذا سمعتُ جدّك يقول، إذن عندنا إمامٌ لا عقب له يخرج بعده الحسينُ بن علي وهو الذي يحكم بعده، من هو هذا الإمام وقد صرّحت الرّواياتُ بأنّ الإمام القائم له ذرية؟! إذن كيف إمام لا عقب له يخرج بعده الحسين بن علي؟!
الجواب عن هذه النقطة:
أوّلاً: هذا الخبر ضعيف السند – كما يقول علماؤنا – لجهالة علي بن سليمان بن رشيد الواقع في سنده.
ثانيًا: كلمة العقب غير الولد، لغة يقال: لفلانٍ وِلدٌ، ويقال: لفلانٍ عقبٌ، العقب هو الوِلد الباقون بعده، لو إنسان أنجب أولادًا ثم مات كلهم في حياته يقال: فلانٌ لا عقب له لكن له وِلدٌ، هو أنجب لكنه لا عقب له، لِمَ؟ لأنّ أولاده لم يبقوا إلى ما بعده وفاته، كذا ذكر ابن منظور في (لسان العرب) وأبو هلال العسكري في (فروق اللغة) والزبيدي في (تاج العروس): أنّ من له عقبٌ غير من له ولدٌ، فمن المحتمل أنّ المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) عند وفاته لا يبقى له عقبٌ، وإن كان له ولدٌ وذرية يديرون شؤون دولته مادام حيًا.
وثالثًا: لعل المقصود بالإمام الذي لا عقب له يعني: لا عقب له في الإمامة، لا أنّه لا عقب له من الذرّية، الإمام المهدي لعلّ له ذرية يبقون بعد وفاته لكنهم ليسوا أئمة، فالمقصود: "لا عقب له" يعني: لا عقب له في الإمامة، لا أنّه لا عقب له في الذرّية، لذلك هذه الرّواية التي قرأناها لا تنفي ما ذكرنا من خروج الحسين بن علي (عليه السلام) وأنّه يحكم الأرضَ بعد موت المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وأنّ الأرضَ لا تخلو من حجّةٍ إلى يوم القيامة كما نطقت به النصوصُ المتظافرة، ولعلّ هذا خاصة من خصائص الحسين، الحسين له خصائصُ كثيرة، الحسين له خصائصُ تميّز بها من بين الأئمة الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
وفيه   رسولُ   الله   قال   وقولهُ                 صحيحٌ صريحٌ ليس في ذلكم نكرُ
حُبِي   بثلاثٍ ما    أحاط   بمثلها                 نبيٌ فمن زيدٌ هناك ومن عمرو
له   تربة   فيها    الشفاءُ   وقبة                 يجاب بها الدّاعي إذا مسّه الضّرُ
وذرّيّة     ذرّية    منه      تسعة                  أئمة حق لا   ثمانٍ   ولا عشرُ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين


[1]البقرة : 210.
[2]الفجر : 22.
[3]الأنفال : 17.
[4]الفتح : 10.
[5]التوبة : 104.
[6]القيامة : 22 – 23.
[7]النحل : 33.
[8]فصلت : 54.
[9]آل عمران : 2.
[10]التوبة : 104.
[11]البقرة : 186.
[12]الطارق : 5 – 9.
[13]نوح : 13 – 14.
[14]البقرة : 259.
[15]الأنعام : 122.
[16]النمل : 82 – 83.
[17]الكهف : 47.
[18]النمل : 87.
[19]النبأ : 18.

التعلیقات

اکتب التعلیق...