قالوا ما الوجه في غيبته ( عليه السلام )؟

قالوا: ما الوجه في غيبته ( عليه السلام ) علي الاستمرار والدوام ، حتّي صار ذلک سبباً لانکار وجوده ، ونفي ولادته ، وآباؤه ( عليهم السلام ) وإن لم يظهروا الدعاء إلي نفوسهم في ما يتعلّق بالامامة ، فقد کانوا ظاهرين يفتون في الاحکام ، فلا يمکن لاحد نفي وجودهم؟

الجواب :

قد ذکر الاجلّ المرتضي - قدّس الله روحه - في ذلک طريقة لم يسبقه إليها أحدٌ من أصحابنا ، فقال: إنّ العقل إذا دلّ علي وجوب الامامة فإنّ کلّ زمان - کلّف المکلّفون الذين يقع منهم القبيح والحسن ، ويجوز عليهم الطاعة والمعصية - لا يخلو من إمام ، لانّ خلوّه من الامام إخلال بتمکينهم ، وقادح في حسن تکليفهم.
ثمّ دلّ العقل علي أنّ ذلک الامام لا بدّ أن يکون معصوماً من الخطأ ، مأموناً منه کلّ قبيح ، وثبت أنّ هذه الصفة - التي دلّ العقل علي وجوبها - لا توجد إلاّ فيمن تدّعي الامامية إمامته ، ويعري منها کلّ من تدّعي له الامامة سواه.
فالکلام في علّة غيبته وسببها واضح بعد أن تقرّرت إمامته ، لا نّا إذا علمنا أنّه الامام دون غيره ، ورأيناه غائباً عن الابصار ، علمنا أنّه لم يغب مع عصمته وتعيّن فرض الامامة فيه إلاّ لسبب اقتضي ذلک ومصلحة استدعته ، وضرورة حملت عليه ، وإن لم يعلم وجهه علي التفصيل لانّ ذلک ممّـا لا يلزم علمه.
وجري الکلام في الغيبة ووجهها مجري العلم بمراد الله تعالي من الايات المتشابهات في القرآن التي ظاهرها الجبر أو التشبيه.
فإنّا نقول: إذا علمنا حکمة الله سبحانه ، وأنّه لا يجوز أن يخبر بخلاف ما هو عليه من الصفات ، علمنا - علي الجملة - أنّ لهذه الايات وجوهاً صحيحة بخلاف ظاهرها ، تطابق مدلول أدلّة العقل ، وإن غاب عنّا العلم بذلک مفصّلاً ، فإن تکلّفنا الجواب عن ذلک ، وتبرّعنا بذکره ، فهو فضل منّا غير واجب.
وکذلک الجواب لمن سأل عن الوجه في إيلام الاطفال ، وجهة المصلحة في رمي الجمار والطواف بالبيت ، وما أشبه ذلک من العبادات علي التفصيل والتعيين ، فإنّا إذا عوّلنا علي حکمة القديم سبحانه ، وأنّه لا يجوز أن يفعل قبيحاً ، فلا بدّ من وجه حسن في جميع ذلک وإن جهلناه بعينه.
وليس يجب علينا بيان ذلک الوجه وأنّه ما هو ، وفي هذا سدّ الباب علي مخالفينا في سؤالاتهم ، وقطع التطويلات عنهم والاسهابات ، إلاّ أن نتبرّع بإيراد الوجه في غيبته ( عليه السلام ) علي سبيل الاستظهار وبيان الاقتدار ، وإن کان ذلک غير واجب علينا في حکم النظر والاعتبار.
فنقول: الوجه في غيبته ( عليه السلام ) هو خوفه علي نفسه ، ومن خاف علي نفسه احتاج إلي الاستتار ، فأمّا لو کان خوفه علي ماله أو علي الاذي في نفسه لوجب عليه أن يتحمّل ذلک کلّه لتنزاح علّة المکلّفين في تکليفهم ، وهذا کما نقوله في النبيّ في أنّه يجب عليه أن يتحمّل کلّ أذي في نفسه حتّي يصحّ منه الاداء إلي الخلق ما هو لطف لهم ، وإنّما يجب عليه الظهور وإن أدّي إلي قتله کما ظهر کثير من الانبياء وإن قتلوا ، لانّ هناک کان في المعلوم أنّ غير ذلک النبيّ يقوم مقامه في تحمّل أعباء النبوّة ، أو أنّ المصالح التي کان يؤدّيها ذلک النبيّ قد تغيّرت.
وليس کذلک حال إمام الزمان ( عليه السلام ) ، فإنّ الله تعالي قد علم أنّه ليس بعده من يقوم مقامه في باب الامامة والشريعة علي ما کانت عليه ، واللطف بمکانه لم يتغيّر ، ولا يصحّ تغيّره ، فلا يجوز ظهوره إذا أدّي إلي القتل.
وإنّما کان آباؤه ( عليهم السلام ) ظاهرين بين الناس يفتونهم ويعاشرونهم ، ولم يظهر هو لانّ خوفه ( عليه السلام ) أکثر ، فإنّ الائمة الماضين من آبائه ( عليهم السلام ) أسرّوا إلي شيعتهم أنّ صاحب السيف هو الثاني عشر منهم ، وأنّه الذي يملا الارض عدلاً ، وشاع ذلک القول من مذهبهم حتّي ظهر ذلک القول بين أعدائهم ، فکانت السلاطين الظلمة يتوقّفون عن إتلاف آبائه لعلمهم بأنّهم لا يخرجون بالسيف ، ويتشوّقون إلي حصول الثاني عشر ليقتلوه ويبيدوه.
ألا تري أنّ السلطان في الوقت الذي توفّي فيه العسکري ( عليه السلام ) وکّل بداره وجواريه من يتفقّد حملهنّ لکي يظفر بولده ويفنيه؟
کما أنّ فرعون موسي لمّـا علم أنّ ذهاب ملکه علي يد موسي ( عليه السلام ) منع الرجال من أزواجهم ، ووکّل بذوات الاحمال منهنّ ليظفر به.
وکذلک نمرود لمّـا علم أنّ ملکه يزول علي يد إبراهيم ( عليه السلام ) وکّل بالحبالي من نساء قومه ، وفرّق بين الرجال وأزواجهم ، فستر الله سبحانه ولادة إبراهيم وموسي ( عليهما السلام ) کما ستر ولادة القائم ( عليه السلام ) لما علم في ذلک من الحکمة والتدبير ، مع أنّ حکمة الله في ذلک لا تجب معرفتها علي التفصيل کما قدّمنا ، ويجوز اختلاف تکليفه مع تکاليفهم لاختلاف المصالح باختلاف الازمان ، کما کان تکليف أمير المؤمنين مرّة السکوت ومرّة الجهاد بالسيف ، وتکليف الحسن الصلح ، وتکليف الحسين الخروج ، وتکليف باقي الائمة السکوت والتقيّة صلوات الله عليهم أجمعين.
وأمّا کون غيبته سبباً لنفي ولادته ، فإنّ ذلک لضعف البصيرة والتقصير عن النظر ، وعلي الحقّ دليل واضح لمن أراده ، ظاهر لمن قصده [1] .
قال الفقير إلى الله تعالى علي بن عيسى أثابه الله تعالى و مما يؤيد ما ذكره الشيخ عن السيد رحمهما الله تعالى أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) احتمل الأذى في نفسه الكريمة و كذب فيما ادعاه و بالغ كفار قريش و اليهود في ذمه و الوقيعة فيه بأنواع من الأذى حتى قال ما أوذي نبي مثل ما أوذيت و كان يحتمل ذلك و يصبر عليه فلما أرادوا قتله و إعدامه أمره الله بالهجرة ففر إلى الغار و نام علي ( عليه السلام ) على فراشه و إنما لم يصبر و لو قتل كما صبر غيره من الأنبياء و قتلوا لأنه كان ( عليه السلام ) خاتم الأنبياء و لم يكن له بعده من يقوم مقامه في تأدية الرسالة و التبليغ فلهذا غاب عنهم و هذه أشبه الأحوال بحال الإمام ( عليه السلام ) في غيبته و العجب إخلال السيد رحمه الله به مع دلالته على ما أصله .

الهوامش

[1] إعلام الوري : 466 ، کشف الغمّة 3 : 343 ـ 346 ، وراجع أعيان الشيعة 2 : 62 ، في رحاب أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) 5 : 71.