فقه الحوار.. ونبذ العنف في حركة الإمام المهدي عج

طباعة

لم أجد فيما أحسب تعريفاً واضحاً للحركة المهدوية سوى تعريفات العنف والقتل والانتقام، ويبدو أن هذا الاتجاه قد أخذ مساحاته من الذهنية العامة المتلقية لهذه الحركة المباركة، بل وجد هذا الاتجاه زحفه لدى الأوساط الثقافية التي تعثرت في قراءتها المتصفة ما لم تجد من حركة الإمام حركة البطش والتنكيل، حتى سار الاتجاه العام بأن تعصف لغة العنف بكل مبتنيات الحركة المهدوية من خلال التركيز على لغة العنف التي تضبب هذه المفاهيم المهدوية، أو الهواجس تحيط بهذه الحركة ليصفها البعض بحركة الانتقام دون التركيز على الطابع العام الذي سيسود هذه الحركة الإلهية.
(حركة الإسلام) التعريف الأكثر واقعية لحركة الإمام المهدي عليه السلام، ونبذ العنف والانتقام هو المحور الأساس الذي ستسير على أساسه هذه الثورة المباركة، ولعل توصيفها بالثورة يتناقض مع تعريفنا بحركة إسلام، إلاّ أن التأمل في تفاصيل هذه الحركة الإصلاحية يلمس أن الحوار هو الأسلوب السائد لهذه النهضة المهدوية، وسيكون الحوار هو التعاطي الأمثل مع الجميع وطابع العنف هو الأسلوب المرفوض من قبل الإمام عليه السلام.
إن حركته المباركة ستشهد قتماً عظيماً في تغيير جميع المباني الثورية في هذا الشأن، فالإنسان سيكون الشعار الأكمل إذن والعنف ليس هو الأصل في هذه الحركة بل هو الطارئ والاستثناء، وعلى أساس ذلك قد يتساءل البعض ما الذي دعى الذهنية العامة أ، تحيل حركة السلام هذه إلى حركة عنف وانتقام؟!
التقسيم الموضوعي:
لغرض الوقوف على حركة الإمام عليه السلام وما يصاحبها من عنف أو حوار وإمكانية توصيفها بأحد الوصفين ينبغي أن نقسّم الروايات الواردة في هذا الشأن إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى:
روايات العنف والانتقام:
ولغرض الوقوف على واقع هذا الاتجاه لابدَّ من استعراض هذه الروايات ومناقشتها دلالةً وسنداً.
أولاً: الإمام لا يستتيب أحداً:
علي بن الحسين عن محمد العطار بن الحسن الرازي عن محمد بن علي الكوفي عن النزنطي عن ابن بكير عن أبيه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:
قلت له: صالح من الصالحين سمه لي _اريد القائم عليه السلام_(1) فقال اسمه إسمي، قلت: أيسير بسيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سار في أمته باللين كان يتألف الناس، والقائم عليه السلام يسير بالقتل بذلك أمر؛ في الكتاب الذي معه: ان يسير بالقتل ولا يستتيب أحداً، ويل لمن ناواه.
(2)
مناقشة السند:
محمد بن الحسن الرازي: مشترك بين الممدوح _دون الوثوق_ وبين المجهول.
ومحمد بن علي الكوفي: وهو ابن أخت خلاد بن عيسى وكان يلقب محمد بن علي أبا سمينة، ضعيف جدا، فأسد الاعتقاد لا يعتمد في شيء وكان ورد قم وقد اشتهر بالكذب في الكوفة ونزل على أحمد بن محمد بن عيسى مدة ثم اشتهر بالغلو فجفي وأخرجه أحمد بن محمد بن عيسى عن قم.
هذا ما ذهب إليه القصباني في مجمع الرجال، إلاّ ان السيد الخوئي في معجمه استبعد ان يكون محمد بن علي الكوفي هو أبا سمينة نفسه واحمتل أن يكون متحدا مع محمد بن علي القرشي الثقة الذي روى في تفسير القمي، إلاّ ان اتحاده مع الثقة غير معلوم، ورجوع السيد الخوئي عن مبنى توثيقاته لبعض الرواة الذين وردوا في تفسير القمي يحتمل قويا ان يكون توثيق القرشي هذا في غير محله، وقد ضعفه الفضل بن شاذان ووصفه من الكاذبين كما في رجال الكشي، وكاد ان يقنت عليه كما في خلاصة العلامة الحلي، ومهما يكن من شيء فإن محمد بن علي الكوفي ان ثبت تضعيفه وهو المشار إليه في قول الفضل بن شاذان أو ظهر غيره فإنه مهمل ليس بشيء فلا يعتمد على روايته.
وبذلك فإن الرواية ساقطة عن الاعتبار سندا.
واما دلالةً: فإن الرواية لعلما حاكية عن ظرف طارئ سيمر به الإمام الحجة عليه السلام، يلجأه إلى القتل واستعمال القوة مع مناوئيه الذي لا يكون لهم هم إلاّ قتله وافشال أطروحته الاصلاحية، وهو أمر طبيعي في ظل مقتضيات معارضة عنيفة تُلجأ الإمام عليه السلام إلى استخدام أمثل السبل في إنجاح حركته، والا ما الذي ينتظره الإمام عليه السلام وهو يواجه حالة التمرد غير المبرر بعد ان يستنفذ مع هؤلاء كل سبل الحوار؟!
والروايات تشير إلى ان حركته عليه السلام لا تخلو من مواجهة حركات رافضة متصدية له بعنف، وليس للإمام إلاّ مواجهة هذه الحركات بنفس القوة والتحدي والا لا يمكن لأن تكتب لحركته المباركة نجاحها المرجو، والرواية تالية تشير إلى ما نذهب إليه من ضرورة وجود القوة واستخدام السطو على كل الحركات المسلمة التي من شأنها اسقاط أو افشال هذه الحركة الإلهية.
فعن صفوان عن بشير قال: لما قدمت المدينة انتهيت إلى منزل أبي جعفر عليه السلام فإذا انا ببغلته مسرجة بالباب فجلست حيال الدار فخرج فلسمت عليه فنزل عن البغلة وأقبل نحوي فقال لي: ممن الرجل؟ قلت: من أهل العراق.
قال: من أيها؟ قلت: من الكوفة، قال: من صحبك في هذا الطريق؟ قلت: قوم من المحدثة، قال: وما المحدثة؟ قلت: المرجئة، فقال: ويح هذه المرجئة، إلى من يلجئون غدا إذا قام قائمنا؟ قلت: انهم يقولون لو قد كان ذلك كنا ونحن وأنتم في العدل سواء، فقال: من تاب؛ تاب الله عليه، ومن أسر نفاقا فلا يبعد الله غيره، ومن أظهر شيئا يريق الله دمه.
ثم قال: يذبحهم والذي نفسي بيد كما يذبح القصاب شاته _وأومأ بيده إلى حلقه_ قلت: انهم يقولون: انه إذا كان ذلك استقامت له الأمور، فلا يريق محجمة دم، فقال: كلا والذي نفسي بيده حتى نمسح وأنتم العرق والعلق، وأومأ بيده إلى جبهته.
(3)
وبسند آخر عن بشير _وهو بشير النبال_ مثله إلاّ انه قال: لما قلت لأبي جعفر عليه السلام: انهم يقولون ان المهدي لو قام لاستقامت له الأمور عفوا ولا يريق محجمة دم، فقال: كلا والذي نفسي بيده لو استقامت لأحد عفوا لاستقامت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أدميت رباعيته، وشبح في وحهه، كلا والذي نفسي بيده حتى نمسح نحن وأنتم العرق والعلق، ثم مسح جبهته.
(4)
وعن المفضل قال: سمعت ابا عبد الله عليه السلام وقد ذكر القائم عليه السلام فقلت: اني لأرجو ان يكون أمره في كهوله فقال: لا يكون ذلك حتى تمسحوا العرق والعلق.
(5)
ومن هنا نعلم ان هناك قوى متصدية لحركة الإمام عليه السلام تلجأه أن يستخدم القوة والسيف وهو أمر معقول في ظل الظروف السياسية المعارضة للامام عليه السلام.
إذن كان من المفروض ان تكون حركة الإمام السليمة مسددة بحالة التصدي لأية محاولة من شأنها ان تربك حركته المباركة، وسيأتي بعض الكلام في ذلك لاحقا.
ثانيا: الإمام عليه السلام لا يسير بسيرة علي عليه السلام في الحرب:
محمد بن علي الكوفي عن عبد الرحمن بن أبي هاشم عن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ان عليا عليه السلام قال: كان لي أن أقتل المولي وأجهز على الجريح، ولكن تركت ذلك للعاقبة من أصحابي ان جرحوا لم يقتلوا، والقائم له ان يقتل المولي ويجهز على الجريح.
(6)
السند:
محمد بن علي الكوفي: وقد مر الكلام فيه.
وعبد الرحمن بن أبي هاشم المتحدثين الثقة وغيره.
فالرواية غير معتبرة ودلالة:
فالرواية عللت بأن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إنما ترك الاجهاز على الجريح وعدم قتل المولي حفاظا على أصحابه حينما يقعون بأيدي أعدائهم جرحى، وتعليل الإمام حقيقي وواقعي وليس من باب لعل المفيدة للمتن، فإن بناء الحكم الواقعي عند المعصوم لا يختص لأدنى احتمال بل هو الواقع بعينه ويستثنى من ذلك ما لا تدرك مقاصد المعصوم والمعروف ان اعداء علي لم يكونوا بمستوى الوفاء والخلق الكريم إذ انهم انتزعوا كل القيم والمبادئ التي يجب ان يتحلى بها الغيور، وما يوم كربلاء ببعيد فإنهم أسوأ من حفظ الذمار والأعراف، فضلا عن أن أصحاب أهل البيت عليهم السلام لم يولوا الأدبار فهذه معارك صفين وتحشدات الإمام الحسن عليه السلام قبالة معاوية، وهذه معركة الطف لم يبلغنا عن أحد انه ولى دبره نعم ((إلاّ متحرفاً لقتال» ومع ذلك حتى هذا الاستثناء لم يمارسه أصحاب علي والحسين وعلي أعلم بأصحابه فلا معنى لأن يجعل لأعدائه مندوحة العفو عن أصحابه عند ذاك.
ولربما لغريز آخر دفع علي عليه السلام أن يعفي عن الجريح والمولي، أو هي من مختصاته عليه السلام.
والرواية ساكتة عن سبب قتل الإمام الحجة عليه السلام للمولي والجريح مع انها اعدرت الإمام علي عليه السلام عمله ولم تبرر إجراءات القتل للإمام عليه السلام سيما يجهز على الجريح والمولي.
نعم؛ ربما توجه الرواية بأن الإمام عليه السلام سيرى من المصلحة تصفية هؤلاء الخصوم الذين سيحملون بذور الفتنة والشقاق في مجتمع ينبغي ان يكون سليما ومعافى من فتنة وخلاف.
ثالثا: ليس هذا من آل محمد:
علي بن الحسين عن محمد العطار عن محمد بن الحسن عن محمد بن علي الكوفي عن البزنطي عن العلا عن محمد قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم ان لا يروه مما يقتل من الناس أما انه لا يبدء إلاّ بقريش فلا يأخذ منها إلاّ السيف ولا يعطيها إلاّ السيف حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم.
(7)
مناقشة السند:
محمد العطار: لعله محمد بن يزيد العطار الكوفي من أصحاب الصادق عليه السلام مجهول.
محمد بن الحسن: مشترك؛ والتمييز إنما هو بالراوي والمروي عنه، كما عن السيد الخوئي في معجمه.
ذي هو مشترك بين الثقة وغيره.
ومحمد بن علي الكوفي في حاله معروف كما تقدم.
فالرواية غير معتبرة.
ودلالة الرواية تشير إلى ان الإمام عليه السلام سيكون اعتماده على السيف في تعامله مع قريش، وقريش مصطلح يشير إلى المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ولعل هؤلاء سيقفون موقفهم العدائي مع حركة الإمام عليه السلام الاصلاحية وسيقطعون الطريق على تقدم هذه الحركة المباركة ومن المناسب جدا ان يتخذ الإمام عليه السلام اجراء القوة والتنكيل بهم حفاظا على اطروحته الإلهية.
إلاّ ان الرواية تشعر بأن اسلوب القتل والبطش هو السائد في حركته الاصلاحية وهو أمرٌ غير مقبول، إذ أشرنا إلى ان الإمام عليه السلام سيدعو إلى فتح حوار يكلل حركة السلام هذه، والعنف لم يكن هو الاصل في حركته إذن، ومن غير الصحيح ان يواجه الإمام عليه السلام في تعامله هذا نقدا من قبل الناس ليرفضوا هذا التحرك بقولهم ((ليس هذا من آل محمد، ولو كان من آل محمد لرحم» وهذا الموقف يصدر من اناس يعرفون آل محمد بالرحمة والتسامح وأعدائهم لم يرتز لديهم هذا التصور، فلذا نتحفظ مما ورد في الرواية المشعرة ان الإمام سيكون أسلوبه فقط القتل حتى ان الناس يشكون في انتسابه لآل البيت عليهم السلام بسبب ما يمارسه من عنف وقتل.
من هنا فإن الرواية بعيدة عن حركة الإمام السليمة وطابع الحلم والعفو.
رابعا: لا يستثيب أحداً:
بنفس الاسناد المتقدم عن البزنطي عن عاصم بن حميد الحناط عن أبي بصير قال:
قال أبو جعفر عليه السلام: يقوم القائم بأمر جديد، وكتاب جديد، وقضاء جديد على العرب شديد، ليس شأن إلاّ السيف، لا يستثيب أحدا ولا يأخذه في الله لومة لائم.
(8)
وسندها: كسابقتها لا يمكن الاعتماد عليه لوجود محمد بن علي الكوفي الضعيف ومحمد بن الحسن المشترك وبذلك تسقط عن الاعتبار.
ودلالتها: غير تامة إذ ورود عبارة ((لا يستتب أحدا» مشعر بأنه عليه السلام لا يجد للحوار وإلقاء الحجة مكانا في حركته وشأناً في أطروحته وإلا ما معنى ان الروايات تشير إلى ان الإمام عليه السلام يبذل جهده في إلقاء الحجة قبل مقاتلتهم فإن أمل منهم الرشد استثابهم وأفاؤا إلى الحق وهو مبتغاه صلوات الله عليه، وان يأس من صلاحهم وخشي فتنتهم وضع فيهم السيف كما كان عليه آباؤه الطاهرون من قبل.
وما ورد في الرواية ان أمره جديد وكتابه جديد وقضاءه جديد في محله إذ سيأتي بكل ما لم يألفه الناس نتيجة لاعراضهم عن الحق بتركه أحكام الله وكتابه.
خامسا: ما هو إلاّ السيف:
وبنفس الاسناد عن محمد بن علي الكوفي عن ابن محبوب عن البطائني عن أبي بصير عن ابي عبد الله عليه السلام انه قالك ما تستعجلون بخروج القائم؟ فو الله ما لباسه إلاّ الغليظ، ولا طعامه إلاّ الخشب، وما هو إلاّ السيف، والموت تحت ظل السيف.
(9)
والسند: فضلا عن سابقته ففيه البطائني وهو علي بن ابي حمزة البطائني كداب متهم كما قاله ابن فضال وأحد أعمدة الواقعة يل أصلهم لم يعترف بإمامة الرضا عليه السلام، والتفصيل في معجم رجال الحديث للسيد الخوئي قدس سره.
ودلالتها: توحي بأن لا هم للإمام عليه السلام إلاّ السيف نافية بذلك الحوار الذي يسعى إليه الإمام عليه السلام لإلقاء الحجة على الناس، والرواية فيها من التشاؤم ما لا ينبغي له في حركةٍ هي للسلام أقرب منها إلى القتل، وللعفو أقرب منها إلى عدم الاستتابة، وللسعادة أقرب منه إلى الحرمان، كما ان خروج الارض بركاتها كما في نصوص بعض الروايات لا يستقيم أمرها مع ما ورد هنا من أن الحرمان والفاقة تسيطران على الوضع الاقتصادي لعصره الشريف، ولعل ذلك دفع به أحكام الامويين والعباسيين الذين يصورون حركة الإمام عليه السلام إلى اليأس والقنوط، ويظمرون طابع الحرمان والعوز والفقر مع ان الروايات التي تشير بأنه عليه السلام يحثوا المال حثواً لا يستقيم مع ما أوردته هذه الرواية، نعم إلاّ ان يقال ان الزهد هو الأنسب في سلوكية الإمام عليه السلام وأصحابه الميامين ولمصلحة تقتضي أظمار الأصلح وهو الزهد، لكن يبقى التساؤل وهو هل ان الزهد هو الاوفق في حركة الاصلاح العالمية التي يرنو اليها الملايين من محرومي القوت وكل متطلبات العيش الكريمة أم أن الحرمان هو ما يصبو إليه الحطام لإفشال حركة الإمام عليه السلام واحياط أمل المستضعفين المحرومين؟!!
سادساً: قتل بعض أصحابه: ابن عقدة عن علي بن الحسن التيملي عن أبيه عن الحسن بن علي بن يوسف ومحمد بن عي عن سمران بن مسلم عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: بينا الرجل على رأس القائم عليه السلام يأمره وينهاه إذ قال أديروه فيديرونه إلى قدامه فيأمر بضرب عنقه فلا يبقى في الخافقين شيء إلاّ خافه.
(10)
السند: علي بن يوسف: مجهول، ومحمد بن علي مشترك بين الثقة وغيره، فضلا عن ارسالها ببعض رجال سعدان بن مسلم الثقة.
وبذلك لا يمكن الاعتماد على الرواية سنداً.
الجبهات الرافضة:
لا يعني قولنا ان الإمام عليه السلام حركته حركة السلام والحوار بأن هناك حالة من الترحيب تنتظر الإمام عليه السلام من لدن الجميع دون استثناء، بل ان هناك رفض لهذه الاطروحة المهدوية من البعض خصوصا إذا عرفنا ان حالة الرفض هذه ستنطلق من تلك الحركات المناوئة في فكرها لآل البيت عليهم السلام، واذا عرفنا ان العالم ستعمه هذه الحركات بكل صراعاتها الفكرية والسياسية المخالفة لأهل البيت عليهم السلام، ومن غير المتصور أن تقبل هذه الحركات بأية أطروحة أصلاحية خصوصاً وأطروحة الإمام عليه السلام هي أطروحة البديل التي من شأنها ان تلفي كل هذه الحركات وتظهر زيفها بكل قوة، ولابد لهذه العملية ((عملية البديل» تتطلب جهدا وتضحية متميزين يقدمه أصحاب أطروحة الاصلاح فضلا عن التضحيات الجسام التي يتكبدها جيش الإمام عليه السلام إثر تلك المعارضات السياسية المناوئة، والتغيير الاصلاحي سوف لا يكون مقبولاً في ظل الحملات الاعلامية المزيفة والكاذبة التي من شأنها التمويه على الحقائق وستقوم الانظمة السياسية المناوئة للإمام بهذا الجهد الإعلامي الذي يحمل معه الأكاذيب المعادية لأطروحة أهل البيت عليهم السلام والتي من شأنها تزييف الحقائق وقلبها بما يضمن التقييم غير المبرر على كثير من الناس، وهو الداعي الذي يدفع البعض للوقوف ضد حركة الإمام عليه السلام، فضلا عن عدم تقبل الاطروحة المهدوية في ظل هذه الظروف الفكرية المتهرنة التي تسيطر لى أكثر المجتمعات البعيدة حقيقة عن أهل البيت.
والروايات تشير إلى هذا الاتجاه.
روى ابن عقدة بسنده عن الفضيل قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ان قائمنا إذا قام استقبل من جهلة الناس اشد مما استقبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهال الجاهلية فقلت: وكيف ذلك؟ قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى الناس وهم يعبدون الحجارة والصخور والعيدان والخشب والمنحوتة، وان قائمنا إذا قام أتى الناس وكلهم يتأول عليه كتاب الله، ويحتج عليه به، ثم قال: أما والله ليدخلن عليهم عدله جوف بيوتهم كما يدخل الحر والقه.
(11)
ومعنى ذلك ان المعارضة التي يواجهها الإمام عليه السلام هي المعارضة التي واجهها جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل جهال قومه، بل المعارضة التي تنتظر الإمام عليه السلام هي أشد من تلك المعارضة التي عاناها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك لأن معارضة الجاهلية إيان عدن البعثة المباركة كانت معارضة بدائية ساذجة لا تجد غير الرفض المبرر وان دين محمد هو تحول عن دين الآباء وإصباءٌ عن اعتقاد أجدادهم وهو شيء يرونه غير صحيح على أساس الفهم القبلي والتعصب الذي يحمله الشخص الجاهلي إزاء عقيدة آبائه كون أن ذلك يُعد تجاوزا لعقيدة أكابر القوم وأسلافهم وهو أمر غير أخلاقي حين يخالف الولد أبيه في عقيدته، وكون العدول إلى عقيدة غير عقيدة الآباء يعد تخطئة لآبائهم، إذن النفس القبلي والعصبة الأسرية تدعو هؤلاء الجهال إلى عدم قبول أطروحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم السماوية وسيكون رد هذه المعارضات ((القبائلية» أيسر من المعارضات الفلسفية والفكرية التي يلتزمها معارضوا الإمام الحجة عليه السلام، إذ ان الحركة التأويلية هي حركة متمردة في واقعها غير يسيرة في الخضوع إلى الغير، أو قل: ان المعارضات التي يواجهها الإمام عليه السلام هي معارضات تنظيمية غير خاضعة لإرادة المبادئ والقيم بل خاضعة لإرادة السياسة والمنصب فقط، والتأويل هي إحدى الأطر التي تؤطر هذه المعارضات، علما ان هذه الحركات أطروحات تنظيرية وضعت من أول الامر للتصدي لحركة الإمام عليه السلام وعملت منذ عقود طوال على احباط المشروع المهدوي وبذلك فستكون ناضجة بشكل كبير من حيث التنظيم والمعارضة وستعمل على طاقة الجبهات خصوصاً وهي تعمل على المستوى الاعلامي لتهيئة النفوس للوقوف أمام حركة الإمام المهدي عليه السلام، في حين لم تعهد الجهود الرافضة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثقافة التنظيمية المعارضة، بل هي حركات وأفكار بدائية ساذجة لا تتصدى عن التساؤلات والرفض القبلي غير المبرر كما قلنا، ولذلك في تعبير الإمام الصادق عليه السلام وردت كلمة ((أشد» إشارة إلى قوة الجهد المضاد الذي سيواجهه الإمام عليه السلام في حركته، ولعل ذلك يبرره الإمام عليه السلام بقوله أنه ((ليدخلن عليهم عدله جوف بيوتهم» إشارة إلى عنف التغيير الذي سيلاحق هؤلاء ليقتص منهم بالعدل كل مظلمة وحق.
وفي رواية ابن حمزة نفس اللفظ إلاّ انه بدل قوله ((أشد» ان القائم يلقي في حربه ما يلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والرواية تنفي أساليب المعارضة التي عاناها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما سيعانيه ولده القائم لنفس السبب وهو مشكلة التأويل والاصدار على رفض التغيير.
بل رواية أبان أصرح من سابقها إذ لم يكتف هؤلاء الرافضون للإمام عليه السلام بالوقوف أمامها وعدم قبولها بل ستكون هنا حالة التكفير والبراءة الذي يوجب اللعن بعد ذلك من هؤلاء الرافضين لحركة الإمام عليه السلام وإشاعته بين أوساط الناس تماما كما يفصل هؤلاء الرافضون لأطروحة أهل البيت عليهم السلام والذين يكفرون ويلعنون أتباعهم بحجية انحرافهم وخروجهم عن الاسلام بل يستحلون دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وإليك نص هذه الرواية.
روى علي بن أحمد بسنده عن أبان بن تقلب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا ظهرت راية الحق لعنها من أهل الشرق والغرب، أتدري لم ذلك؟ قلت: لا، قال: للذي يلقى الناس من أهل بيته قبل خروجه.
(12)
وعلة اللعن هنا لا تعني أنها مشروعة يقرها الإمام ويعطي تبرير لهذا الرفض، بل أن الإمام عليه السلام اراد ان يشير إلى أن حالات خرق فكري لبعض الحركات المنتسبة لآل البيت عليهم السلام تعطي انعكاسا سيئاً للذهنية العامة حتى أنها لا تود استقبال الإمام عليه السلام بحركته الاصلاحية هذه، وهو أمرٌ مرفوض إذ من غير الصحيح ان تلقى لائمة الانحراف السلوكي لبعض التيارات والاتجاهات على الحركات الاصلاحية التي يتزعمها الإمام عليه السلام والتبرأ بسبب ذلك غير مبرر وان كان السبب يرجع إلى أولئك المنتسبين لآل البيت عليهم السلام في فكرهم وأطروحاتهم إلاّ ان انحرافهم السلوكي سيكبد الناس حالة إحباط شديد يرفضون بسببه حركة الإمام عليه السلام.
ورواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: إذا رفعت راية الحق لعنها أهل الشرق والغرب، قلت له: مم ذلك ؟ قال: مما يلقون من بني هاشم.
(13)
ويمكن تعليل الرفض المعبر عنه باللعن لأن بني هاشم أو المنتسبين في أطروحتهم لبني هاشم (أي أتباع أهل البيت عليهم السلام_ لشدة ما يمارسونه من العدل والانصاف فإن كثيرا من أهل الشرق والغرب يرفضون هذا الاتجاه إذا ما عرفنا أن أهل الشرق والغرب يرفضون هذا الاتجاه إذا ما عرفنا أن أهل الشرق والغرب هم أولئك الرافضون لأطروحة آل البيت عليهم السلام.
ولعل رواية يعقوب السراج ستكون اكثر وضوحا إذا ما عرفنا أنها تعتمد إلى تسمية هذه الجبهات الرافضة وسيزيدنا ذلك قناعة بأن هذه التوجيهات الرافضة هي توجهات تقليدية رافضة لأطروحة أهل البيت عليهم السلام بل توجهات معادية ثقافاتها الخلافية.
روى علي بن أحمد بسنده إلى يعقوب السراج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
ثلاثة عشر مدينة وطائفة يحارب القائم أهلها ويحاربونه: أهل مكة، وأهل المدينة، وأهل الشام، وبنو أمية، وأهل البصرة وأهل دميسان، والاكراد، والاعراب، وضبة، وغنى، وباهلة، وأزد، واهل الري.
(14)
ومعلوم أن أهل مكة يرفضون الإمام وحركته وهو ما صرحت به روايات النفس الزكية بقوله عليه السلام: ان اهل مكة لا يقبلونني.
فيرسل إليهم الغلام الذي سيحاورهم إلاّ ان مصيره سيكون القتل، واما أهل المدينة فهي نفس الوسط الثقافي الذي ترتضع من ثقافات موحدة هي في طبيعتها معادية لأهل البيت عليهم السلام ولأتباعهم، والواقع العملي الحالي شاهد على ذلك وهو ما يؤسفنا حقان كما أن أهل الشام يتميزون في عدائهم لآل البيت ولأتباعهم والحركات الشامية التي استباحت أتباع آل البيت عليهم السلام  _خصوصا في العراق_ وممارساتهم العدائية شاهدة على ذلك، كما أن ضبة وغنى وباهلة هي قبائل موالية للحركات المناوئة للامام أمير المؤمنين عليه السلام، فحرب الجمل كان لهذه القبائل حضورها في الجانب المعادي للإمام علي عليه السلام ومن غير المستعبد ان تبقى هذه الثقافة أو تترعرع في أوساط الاجيال القادمة.
ولعل تساؤلا يطرحه البعض عن شأن المدن التي عرفت بولائها لأهل البيت عليهم السلام كالبصرة والري _وميسان وهي الاقرب من لفظ دميسان ولعل دميسان تصحيف ميسان_ وبالرغم من مشهورية هذه المناطق في فكرها وثقافتها الموالية لآل البيت عليهم السلام إلاّ ان تحولا لعله سيحصل فميا يعد يواجه الإمام عليه السلام بالرفض وهذا التحول ناتج عن الفراغ الفكري الذي ستعانيه هذه الأوساط وحالة الجهل والاصرار على رفض قبول الأطروحات الإصلاحية تنشأ من أوساط هذه المدن ثقافات رافقت الإمام ولعله لجهل وليس لوعي وتكامل في الرؤية وان الاصرار الذي سيستشري بين هؤلاء يدفعهم إلى العناد والرفض والانصياع إلى دعوات حرب الإمام عليه السلام، وبالرغم من أن الإمام عليه السلام يرفض البدأ بالقتال ويحرص على حوارهم واقناعهم أملاً منه برجوعهم إلاّ أن جهلهم يودي بهم بعدم القبول والمواجهة غير المشروعة للإمام عليه السلام.
الحوار في حركة الإمام عليه السلام:
يحتل الحوار في حركة الإمام المهدي عليه السلام مساحة واسعة من الاهتمام الكبير ضمن أطروحته المباركة، ويعمل الحوار في هذه الحركة على تمتين الثقة بهذه الأطروحة لدى الاوساط من الناس الذين يعيشون هواجس الخوف والقلق من حلول هذه الحركة بين ظهرانيهم، وهم لا يزالون يعيشون حالة الخزين الاعلامي المعاكس الذي تحتفظ بها أذهانهم المشبعة بتلك الرؤية المتشائمة حيال الإمام، وسيلعب الاعلام المضاد دور المحرض كذلك وليس المثبط فقط ضد هذه الاطروحة ولذا فإن تحركات الإمام عليه السلام ستتوج بحالة من التعريف يقدمه الإمام لبيان مبررات الثورة ومقتضيات الاصلاح.
ففي بيانه الأول يقدم الإمام عليه السلام رؤية متكاملة إزاء ثورته ودواعي حركته، وسيتمكن من حوار يميط من خلاله كل هواجس المحذور التي تأخذ بهؤلاء إلى مدياتٍ واسعة من التحرك غير المبرر ضد الإمام، وسيبين الإمام عليه السلام علاقته بالانبياء عليهم السلام وأن ثورته هذه تنتسب إلى حركتهم كما ينتسب هو اليهم فكرا ومنهاجا.
أولا: فعن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي خالد الطابلي قال: قال أبو جعفر عليه السلام: والله لكأني أنظر إلى القائم عليه السلام وقد أسند ظهره إلى الحجر ثم ينشد الله حقه ثم يقول: يا أيها الناس من يحاجني في الله فأنا أولى بالله، أيها الناس من يحاجني في آدم فأنا أولى بآدم، أيها الناس من يحاجني في نوح فأنا أولى الناس بنوح، أيها الناس من يحاجني في إبراهيم فأنا أولى بإبراهيم أيها الناس من يحاجني في موسى فأنا اولى بموسى، أيها الناس من يحاجني في عيسى فأنا أولى بعيسى، أيها الناس من يحاجني في محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنا أولى بمحمد، أيها الناس من يحاجني في كتاب الله فأنا أولى بكتاب الله ثم ينتهي إلى المقام فيصلي ركعتين وينشد الله حقه.
ثم قال أبو جعفر عليه السلام: هو والله المضطر في كتاب الله في قوله: (( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَْرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)).
فيكون أول من يبايعه جبرئيل ثم الثلاث مائة والثلاثة عشر، فمن كان ابتلي بالمسير وافى، ومن لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه، وهو قول أمر المؤمنين صلوات الله عليه: هم المفقودون عن فرشهم، وذلك قول الله: (( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ)).
قال: الخيرات الولاية.
والرواية تشير إلى ان الإمام عليه السلام يسعى لبيان أطروحته ودواعي نهضته هذه، وأنه عليه السلام يبين للملأ الذين اجتمعوا هناك بأ، ثورته هذه هي خلاصة جهود الانبياء الاصلاحية، وأن كل ما طرحه الانبياء من دعاوي الاصلاح وسعوا في انتشال الانسانية من كل أسباب الذل والبطش والحرمان.
ان انتساب الإمام عليه السلام للأنبياء هو انتساب لخطهم وأطروحتهم، فالعلاقة بينه عليه السلام وبين الانبياء علاقة منهج وفكر وأطروحة، وكونه أولى بالناس من الناس يجمع الانبياء كونه عليه السلام يطمح لإتمام كل جهودهم التي مُنعت بسبب التصدي والمعارضة من جهال قومهم، وما عاتوه من الصدود والمقاطعة مما أدى إلى ان لا تأخذ هذه القيم والمبادئ الإلهية طريقها في المجتمع، والامام عليه السلام عازم على إعادة هذا الطموح وإنجاحه بثورته الاصلاحية.
ان لغة الحوار التي دأب الإمام عليه السلام على تعاطيها في خطابه يثبت حرصه على ثقافة الحوار وإشاعتها في حركته، فقد أعطى في بادئ الامر مبررات هذه الحركة وانتسابها إلى الانبياء عليهم السلام، وإذا كانت هذه الحركة تنتسب في أصولها إلى الانبياء فإنها حركة سماوية صرفة وإذا كانت كذلك فهي حركة لا تهدف إلاّ إلى انتشال المجتمع الانساني من محنته وتصبو إلى ان ينعم في أمن وسلام ورخاء.
وبهذا لم نجد في خطاب الإمام عليه السلام أية إشارة إلى الانتقام والقتل والتنكيل، ولم يكن خطابه سوى حالة اطمئنان للجميع الذين يتوجسون من هذه الحركة وتوجهاتها.

ثانيا: روى المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا أذن الله عز وجل للقائم في الخروج، صعد المنبر، ودعا الناس إلى نفسه وناشدهم بالله ودعاهم إلى حقه، وان يسير فيهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعمل فيهم بعمله، فيبعث الله جل جلاله جبرئيل عليه السلام حتى يأتيه فينزل على الحطيم ثم يقول له: إلى أي شيء تدعو؟ فيخبره القائم عليه السلام فيقول جبرائيل عليه السلام انا أول من يبايعك ابسط يدك، فيمسح على يده، وقد وافاه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فيبايعونه ويقيم بمكة حتى يتم أصحابه عشرة آلاف أنفس ثم يسير منها إلى المدينة.
(15)
والرواية لسانها ظاهر في أن الدعوة التي يوجهها الإمام عليه السلام إلى الناس تحمل في ثناياها حوارا معرفيا يعمل على إزالة هذه الحواجز النفسية التي خلقتها وسائل الاعلام المضاد من أجل إرعاب المجتمع الإنساني واضطراب رؤيته حيال الإمام عليه السلام، فوسائل الاعلام ستقدم قراءة غير صحيحة عن حركة الإمام وكونها حركة سفك دماء وثأر وانتقام لذا فإن موقف البعض سيكون سلبيا معارضا لهواجس الخوف التي تهيمن على المرتكز العام الإنساني، لذا فالخطاب يدعو في حواره إلى السلام وتأصيل المعرفة التي من أجلها انطلقت حركة الإمام.
ثالثا: عن ابن بكير قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوله (( وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)) قال نزلَت في القائم عليه السلام إذا خرج باليهود والنصارى والصابئين والزنادقة وأهل الردة والكفار في شرق الارض وغربها، فعرض عليهم الإسلام فمن أسلم طوع أمره بالصلاة والزكاة وما يؤمر به المسلم ويجب الله عليه ومن لم يسلم ضرب عنقه حتى لا يبقى في المشارق والمغارب أحد إلاّ وحّد الله.
قلت له: جعلت فداك ان الخلق أكثر من ذلك؟ فقال: ان الله إذا اراد امرا قلل الكثير، وكثّر القليل.
(16)
ومن الواضح ان عبارة ((عرض عليهم الإسلام» مشعر بان عرضا معرفيا سيوجده الإمام عليه السلام من خلال آليات حواره مع هؤلاء، إذ سيفتح باب الحوار والاستعلام والمعرفة الجديدة عن الدين الجديد بالنسبة إلى هؤلاء المدعوون وسيتم تلقي المعرفة الجديدة هذه بواسطة آلية الحوار المختارة وكل بحسبه، ومعنى هذا أن الإمام لم يفرض عليهم دعوته هكذا دون حوار يتضمن من خلاله الوقوف على معالم الدين الجديد وليس من شأنه ان يقتل من عرض عليهم دون دعوة معرفية _ حوارية.
وفي بيانه الأول لأهل مكة يفتح الإمام عليه السلام معهم آفاق الحوار التفاهم المعرفي ويوصيهم بقراءة جديدة أخرى للمواقف ويطالبهم باتخاذ الموقف الشجاع الذي من شانه ان يستنقذهم من هذا التخبط وعدم الوضوح في الرؤية وسيتعهد الإمام عليه السلام بنصيحتهم وإزالة الغموض عن حركته هذه.
فقد روى نعيم بن حماد قال: حدثنا سعيد أبو عثمان عن جابر عن أبي جعفر قال: ثم يظهر المهدي بمكة عند العشاء ومعه راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقميصه وسيفه وعلامات ونور وبيان، فإذا صلى العشاء نادى بأعلى صوته يقول: أذكركم الله أيها الناس ومقامكم بين يدي ربكم، فقد اتخذ الحجة وبعث الانبياء وأنزل الكتاب، وأمركم ان لا تشركوا به شيئا، وان تحافظوا على طاعة رسوله، وأن تحيوا ما أحيا القرآن وتميتوا ما أمات وتكونوا أعوانا على الهدى ووزرا على التقوى، فإن الدنيا قد دنا فناؤها وزوالها آذنت بالوداع.
فإني أدعوكم إلى الله عز وجل والى رسوله والعمل بكتابه وامامتة الباطل و الخبر.
(17)
فالامام عليه السلام حاججهم بمقامهم بين يدي الله كونهم سدنة بيته والقائمين بشأنه، فينبغي لهم ان يكونوا في مقام القدوة في الهداية إلى سبل الله ودعوة الحق والهدى وذكرهم بالقرآن الذي يقرأوه صباح ومساء، فقراءته لا تكفي بقدر التعامل مع معانيه وحقائقه، وليس قراءته وترتيله بصوت حسن لكسب إعلامي مبرمج معروف، ثم عرض عليهم النصرة والعمل بكتاب الله تعالى.
والظاهر ان للإمام عليه السلام بيانات في بدء دعوته المباركة أحدهما يستنهض فيه أهل مكة والآخر يوجه بخطابه العالمي إلى الناس ليكون منه انطلاقة حركته وثورته.
فقه الحوار:
والمقصود منه الدعورة إلى الإسلام قبل القتال كما هو الاجماع عليه، بل ظهر منهم الوجوب كما في خبر مسمع بن عبد الملك عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقال: يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه، ؟؟؟؟ الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي».
(18)
ورواه الكليني بأسناده عن علي بن إبراهيم عن أبيه ن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام مثله.

وان كان ظاهره الندب  والارشاد إلى فعل الاولى، فهو يرشد إلى ان الدعوة قبل القتال لمن سمع ووعى، نعم القتال من غير دعوة أصلاً خلاف الداعي وهو نشر الإسلام وتأكيد الحجة.

وما عن الجواهر: وكيف كان فلا يبدؤون أي الكفار الحربيون بالقتال مع عدم بلوغ الدعوة اليهم إلاّ بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام وهي الشهادتان وما يتبعهما من أصول الدين وامتناعهم عن ذلك وعن إعطاء الجزية ان كانوا من أهلها بلا خلاف أجده بل ولا إشكال.

وفي تعليقه على خبر مسمع السابق قال بعد وروده النص: ونحوه غيره من النصوص، مضافا إلى الاصل وغيره بعد ظهور الادلة في الامر بجهادهم وقتلهم كي يسلموا، فلابد من اعلامهم ان المراد ذلك لا طلب المال والملك ونحوهما مما يستعمله الملوك، ولكن لو بدر أحد من المسلمين إلى أحد من الكفار وقتله قيل الدعوة أثم ولا ضمان، خلافا للشافعي فحكم بالضمان للقياس على الذمي الذي هو مع بطلانه في نفسه عندنا مع الفارق، بل ربما حكي عن الشيخ نفس الامرين معا، ولكن قيه أنه مناف لما عرفت من عدم جواز قتالهم قبل الدعوة إلى الإسلام.
(19)
ولعل النهي عن الجهاد من غير امر الإمام أو معه هو أحد أسباب الحث على الدعوة قبل القتال فإن بعض علة الجهاد هو الدعوة إلى الإسلام وهو ما يطلق عليه بعضهم بالجهاد الابتدائي، فإن الإمام أولى بحفظ هذا الداعي وعدم العبث في تجاوزه وتخطيه _فضلا عن تشخيص المصلحة من قبل الإمام والظفر بمقتضيها الناجم عن علم الإمام دون الركون إلى جهل غير العادل وإيكال الامر إليه.
فعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبن أبي عمير عن الحكم بن مسكين عن عبد الملك بن عمرو قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج اليها أهل بلادك؟ قال: قلت وأين؟ قال: جدة وعبادان والمصيصة وقزوين، فقلت: انتظارا لأمركم والاقتداء بكم فقال: أي والله لو كان خيرا ما سبقونا إليه، قال: قلت له: فإن الزيدية يقولون ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلاّ انه لا يرى الجهاد فقال: انا لا اراه؟! بلى والله اني لأراه ولكن أكره ان ادع علمي إلى جهلهم.
(20)
وظاهره الحذر من الوقوع في محذور الجهل ومبغة القتال دون الدعوة وإلقاء الحجة، وما ذهب إليه صاحب الجواهر من بيان الموجب لقتال الكفار هو اعلامهم ان المراد ليس طلب الدنيا والملك والمال، بل القتال لأجل نشر كلمة لا إله إلاّ الله وهو ما أكدته رواية الزهري عن علي بن الحسين عليهما السلام فسألوه كيف الدعوة إلى الدين؟ فقال: تقول: بسم الله الرحمن الرحيم: ادعوك إلى الله عز وجل والى دينه وجماعه  أمران: أحدهما معرفة الله عز وجل والآخر العمل برضوانه، وان معرفة الله عز وجل؛ ان يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزة والعلم والقدرة  والعلو على كل شيء، وأنه النافع الضار القاهر لكل شيء، الذي لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير، وان محمّداً عبده رسوله وان ما جاء به هو الحق من عند الله عز وجل، وما سواه هو الباطل، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
وعلق الحر العاملي بقوله: الظاهر ان هذه افضل الكيفيات.
(21) ومن ظاهر الحر وغيره ان الدعوة غير مقيدة بلفظ مخصوص أو بتعبير منصوص بل هو الاكمل والافضل كما ورد، فللإمام ان يدعو ما يشاء بما يشاء نعم الدعوة ليس على عمومها تجب علي الإمام عند بدء القتال، فقد تسقط في حق من عرفها سابقا إلاّ فيما يكون تأكيد للحجة وتذكير للدعوة فيستحب وليس الوجوب على إطلاقه كما يظهر من الجواهر وما حكاه عن النهاية والسرائر والتبصرة.
وفي استحباب الدعاء بالمأثور تظهر الرغبة في استجلاب النفوس للدخول إلى الإسلام ودعوتهم إليه قبل قتالهم، ففي خبر الميمون عن أبي عبد الله عليه السلام أن امير المؤمنين عليه السلام كان إذا أراد القتال قال هذه الدعوات: اللهم إنك اعلمت سبيلا من سبلك جعلت فيه رضاك، وندبت إليه أوليائك، وجعلته أشرف سبلك عندك ثوابا وأكرمها لديك مآباً وأحبها اليك مسلكا، ثم اشتريك فيه من المؤمنين انفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليك حقا، فاجعلني ممن يشتري فيه منك نفسه، ثم وفي لك ببيعه الذي بايعك عليه غير ناكث ولا ناقض عهدا، ولا مبدل تبديلا بل استيجابا لمحبتك، وتقربا به اليك، فاجعله خاتمة عملي، وصير فيه فنا عمري، وارزقني فيه لك وبه مشهدا توجب لي به منك الرضا، وتحط به عني الخطايا، وتجعلني في الاحياء المرزوقين بأيدي العداة والعصاة تحت لواء الحق، وراية الهدى ماضيا على نصرتهم قدما، غير مول دبرا، ولا محدث شكا، اللهم وأعوذ بك عند ذلك من الجين عند موارد الاهوال، ومن الضعف عند مساورة الابطال، ومن الذنب المحيط للأعمال، فاحجم من شك أو أمضى بغير يقين فيكون سعيي في تباب وعملي غير مقبول.
(22)
ومنه يظهر ان في أصل الدعاء بيان الداعي من القتال والدعوة إلى الإسلام وأن الإمام لا يسعه القتال دون الارشاد إلى محبوبية الدين ومعرفة التوحيدة لتكتمل الحجة وتتم الدعوة.
وبهذا ظهر ان القتال ليس لأجله ذاتاً بل ان المصلحة هو الدعوة لى الإسلام ودونها لم يتم الفرض ولم تتأتى المصلحة.

الهوامش:
(1)  الراوي يحذر من ذكر اسمه الشريف للمنع من ذلك تبعاً للروايات الواردة، ويبدو أن مسألة تحريم الاسم الشريف مرتكز عند الراوي وغيره وهو أمر يتسالم عليه الجميع، وظاهر الحكمة من المنع حذرا من تشخيص الإمام عليه السلام في حياته وملاحقة الظالمين له، وكأن أئمة أهل البيت عليهم السلام أرادوا تثقيف شيعتهم على عدم ذكر اسمه عليه السلام ليكون أمرا مركوزا في الأذهان وعلى هذا قامت سنة أهل البيت عليهم السلام، إلاّ أن البحث هل المنع من ذكر الاسم الشريف ساريا حتى بعد الغيبة الكبرى وتطاول العهد ومعرفته لدى الناس، أم أن المحذور مرتفع بعد إشاعة الاسم ومعرفته أي هل ان حرمة ذكر الاسم في زمن الغيبة تعبدية أم إرشادية؟ وعلى هذا يقوم النزاع بين العلماء من اباحة الذكر أم حظره؟
(2)  البحار 52: 353.
(3)  البحار 52: 357.
(4)  نفس المصدر السابق.
(5)  المصدر نفسه.
(6)  البحار 52: 353.
(7)  المصدر السابق.
(8)  المصدر نفسه.
(9)  البحار 52: 354.
(10)  نفس المصدر.
(11)  البحار 52: 362.
(12)  البحار 52: 363.
(13)  نفس المصدر.
(14)  البحار 52: 363.
(15)  المصدر السابق.
(16)  المصدر نفسه.
(17)  الفتن لابن حماد 1: 345.
(18)  وسائل الشيعة للحر العاملي كتاب الجهاد باب 10 وجوب الدعاء إلى الاسلام حديث 1.
(19)  جواهر الكلام كتاب الجهاد 21: 52.
(20)  وسائل الشيعة  كتاب الجهاد باب 12 اشتراط وجوب الجهاد بأمر الإمام واذنه حديث: 2.
(21)  نفس المصدر.
(22)  كتاب الجهاد ابواب جهاد العدو باب 55 استحباب الدعاء بالمأثور.حديث: 1.