لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمره؟

طباعة

لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمره؟

83


ونتناول الآن السؤال الثاني ، وهو يقول : لماذا كلّ هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات ، فتُعطّل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخض عنه المستقبل ، وتضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على السلاحة ويمارس دوره المنتظر. وبكلمة أخرى : ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرّر لها؟
وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون ان يسمعوا جواباً غيبياً ، فنحن نؤمن بأنّ الأئمة الاثني عشر مجموعة فريدة (1) لا يمكن التعويض عنأي واحد منهم ، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف ، على ضوء الحقائق المحسوسة
__________________
(1) اشارة الى معتقد الإمامية الاثني عشرية المستند إلى أدلة المعقول والمنقول ، وبالأخص إلى حديث الثقلين المتواتر « إنّي تركتم فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي». راجع : صحيح مسلم 4 : 1873 وراجع الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 89 ، قال : ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً.
وكذلك إلى قوله 6 : « لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..» وإلى قوله 6 : « إلخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش ». ومفاد ذلك كله تقرير هذا المعنى.

84


لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلبات المفهومة لليوم الموعود. وعلى هذا الاساس نقطع النظر مؤقتاً عن الخصائص التي نؤمن بنوفرها في هؤلاء الائمة المعصومين (1) ونطرح السؤال التالي : إننا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود ، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سنن الحياة وتجاربها ، هل يمكن ان نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر عاملاً من عوامل إنجاحها ، وتمكنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر؟ ونجيب عن ذلك بالإيجاب ، وذلك لعدة أسباب منها ما يلي :
إنّ عملية التغيير الكبرى تتطلب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها ، مشحوناً بالشعور .. بالتفوق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أعُدّ للقضاء عليها ، وتحويلها حضارياً إلى عالم جديد.
فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيّر من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها ، وإحساس واضح بأنها مجرد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان ، يصبح أكثر
__________________
(1) تحدّث النبي الأكرم محمد 6 كثيراً عن خصائصهم وأدوارهم ، ووظيفتهم ومهماتهم ، وأنهم حملة الشريعة ، وسفن النجاة ، وأمان الأمّة ، وعصمتها من الضلال ، كما اليه الإشارة في حديث الثقلين ، وحديث لن يفترقا وكلاهما يؤكدان عصمتهم ، إذ لا يعقل أنهم عصمة اُمّة من الضلال ، وأنهم لن يفترقا عن القرآن المعصوم ، وهم غير معصومين!!
راجع في هذا المطلب : الأصول العامة للفقه المقارن / العلامة محمد تقي الحكيم / مبحث حجية السنّة : ص 169 وما بعدها.

85


قدرة من الناحية النفسية (1) على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدها حتى النصر.
ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه ، وما يراد القضاء عليه من حضارة وكيان ، فكلما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلّبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم.
ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور ، تغييراً شاملاً بكل قيمه الحضارية وكياناته المتنوعة ، فمن الطبيعي ان تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله ، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدال حضارة العدل والحق بها ؛ لأنّ من ينشأ في ظل حضارة راسخة ، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وفكارها ، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها ؛ لأنّه ولد وهي قائمة ونشأ صغيراً وهي جبارة ، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة.
وخلافاً لذلك ، شخص يتوغل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور ، ورأى الحضارات الكبير سادت العالم الواحدة تلو الأخرى ثمّ تداعت وانهارت (2) ، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاريخ ..
__________________
(1) أن يكون القائد التاريخي مهيّئاً نفسياً ومعدّاً إعداداً مناسباً لأداء المهمة ، أمرٌ مفروغ منه ، ولو رجعنا الى القرآن الكريم لوجدناه يتحدث عن هذه المسألة في تاريخ الأنبياء بصورة واضحة جداً ، وبخاصة فيما يتعلق بالنبي نوح 7 ، وهو أمر يلفت الانتباه والنظر ، وربما يكون للتشابه والاتفاق في الدور والمهمة التي أوكلت لهما ، كما نبّه الشهيد الصدر رضي الله عنه إليه.
راجع : مع الأنبياء / عفيف عبد الفتاح طبارة.
(2) ويمكن ان وتقرّب هذا المعنى بما عشناه وشاهدناه من صعود الاتحاد السوفيتي وترقية حتى صار

86


ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود ، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبين ..
ثمّ شاهدها وقد اتخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربص الفرصة لكي تنمو وتظهر ..
ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة ويحالفها التوفيق تارة أخرى ..
ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالم بكامله ، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق ـ الذي يريد أن يصارعه ـ من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسّه لا في بطون كتب التاريخ فحسب ، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً ، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) (1) إلى الملكيّة في فرنسا ، فقد جاء عنه انّه كان يرعبه مجرد أن يتصور فرنسا بدون ملك ، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً الى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذٍ ؛ لأنّ (روسو) هذا نشأ في ظل الملكيّة ، وتنفس هواءها طيلة حياته ، وأما هذا الشخص المتوغل في التاريخ ، فله هيبة التاريخ ، وقوة التاريخ ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ ، تهيأت له الأسباب فُوُجِد ، وستتهيأ
__________________
القطب الثاني في العالم ، وتقاسم هو وأمريكا النفوذ الحضاري والهيمنة السياسية ، وركبا معاً أجواء الفضاء ، ثمّ شهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك أوصاله بمثل تلك السرعة القياسية في الانهيار ، فكم كان لذلك من أثر؟ وكم كان فيه من عبرة؟ وكم فيه من دلالة عميقة؟
(1) جان جاك روسو (1712 ـ 1778 م) كاتب وفيلسوف فرنسي اعتبره بعض النقاد الوجه الأبعد نفوذاً في الادب الفرنسي الحديث والفلسفة الحديثة ، وقد مهدت كتاباته ومقالاته للثورة الفرنسية ، وأشهر مؤلفاته العقد الاجتماعي. راجع : موسوعة المورد / منير البعلبكي 8 : 169.

87


الأسباب فيزول ، فلا يبقى منه شيء كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد ، وانّ الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلاّ أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل.
هل قرأت سورة الكهف؟
وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى (1)؟ وواجهوا كياناً وثنياً حاكماً ، لا يرحم ولا يتردد في خنق أي بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك ، فضاقت نفوسهم ودبّ إليها اليأس وسدّت منافذ الأمل أمام أعينهم ، ولجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حائلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول ، وكبر في نفوسهم أنّ يظل الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحق ويصفّى كلّ من يخفف قلبه للحق.
هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم؟
إنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين (2) في ذلك الكهف ، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة ، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوتهم وظلمه قد تداعى وسقط ، واصبح تاريخاً لا يُرعب احداً ولا يُحرّك ساكناً كل ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره ويرو انتهاء امره باعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.
ولئن تحققت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة في كل ما تحمّل من زخم وشموخ نفسيّين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مددّ حياتهم ثلاثمائة سنة ، فإن
__________________
(1) اشارة الى الآية القرآنية المباركة : ( إِنَّهُم فِتيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِم وَزِدنَهُمْ هُدًى ... ) الكهف : 13 ، وراجع تفسيرها في الكاشف / الزمخشري 2 : 706 ، نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت.
(2) إشارة إلى الآية : ( وَلَبِثُوا فِي كَهفِهِم ثَلَـثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازدَادُوا تِسعاً ... ) الكهف : 25.

88


الشيء نفسه يتحقق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة ، والإعصار وهو مجرد نسمة (1).
اضف الى ذلك ان التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارة المتعاقبة ، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوارتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعمير الخبرة القيادية في اليوم الموعود ؛ لأنها تضع الشخص المدّخر امام ممارسات كثيرة للآخرين بكل ما فيها من نقاط الضعف والقوة ، ومن ألوان الخطأ والصواب ، وتعطي لهذا الشخص قدرة اكبر على تقييم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها ، وكل ملابساتها التاريخية.
ثمّ إنّ عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم عى أساس رسالة معينة هي رسالة الاسلام ، ومن الطبيعي ان تتطلّب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الاسلام الاولى ، قد بنيت شخصيته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي يقدر اليوم الموعود أن يحاربها.
وخلافاً لذلك ، الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتح افكاره ومشاعره في إطارها ، فإنّه لا يتخلص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها ، وإن قاد حملة تغييرية ضدّها.
فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي اُعدّ لإستبدالها ، لابدّ أن تكون شخصية قد بنيت بناءاً كاملاً حضارية سابقة هي أقرب ما
__________________
(1) وكلّ ذلك له مدخلية في تربية وإعداده الاعداد الخاص ، بما في ذلك من امتلاكه النظرة الشمولية العميقة ، فضلاً عن شهوده بنفسه ضآلة أولئك المتعملقين الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً وصخباً ، ويسترهبون الناس ، وهذا الشهود يؤهله أكثر فأكثر لأداء مهمته الكونية في التغيير ، أي ملئه للأرض عدلاً بعد ما ملئت ظلماً ، هذه بغمض النظر الى مؤهلاته الذاتية ، والعناية الربانية الخاصة.

89


تكون في الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجه اليوم الموعود الى تحقيقها بقيادته(1).
__________________
(1) ولا ينبغي ان يُشكل أحد بإنّ النبي محمد 6 مع عالمية رسالته ومهمته التغييرة الكبرى إلا أنه عاش في كنف الحضارة الجاهلية ، ولم يتأثر بها ، وكذا الانبياء السابقون ، فما هو الوجه في هذا الرأي؟
فجوابه :
أ ـ إنّ النبي 6 قد أخضع فعلاً إلى حالة عزالة تامة عن الحضارة الجاهلية ، وأنه كما ورد في السيرة النبويّة قد حُبّبَ إليه الخلاء ، وكان يذهب إلى غار حراء يتحنث فيه وكذا الأنبياء كانوا يتنزّهون عما عليه مجتمعهم ، وكانوا يعتزلون ، واليه الاشارة في قوله تعالى : ( فلُمّا اعتَزَلَهُم ومَا يَعبُدُون مِن دون الله وَهَبنا لَهُ إسْحَاقَ ) مريم : 49.
ب ـ إنّ النبي المرسل يوحى اليه ، ويسدّد مباشرة من السماء ، ويبلّغ بالأعمال والخطوات التي يتخذها خطوةً خطوةً ، والإمام7 لا يوحى اليه ـ كما هو عقيدة الامامية ـ ولا يبلّغ بالأمور مباشرةً من السماء ، نعم يكون مسدّداً وتحت العناية الربانية ، ولذلك فهو يحتاج إلى اعداد خاص. ففي نفس الوقت الذي يكون فيه قريباً ومتصلاً بالحضارة الإسلامية ، مستمداً من آبائه: الأصالة والمعرفة والعلم ، يكون مطلّلعاً على التجارب البشرية والحضارات في صعودها وعوامل تكوّنها وقوتها ، وكذلك إخفاقاتها وعوامل ضعفها وانهيارها ، فيستمد الخبرة والقدرة والإحاطة بالأمور جميعاً ، هذا مع اعتقادنا بقدرات الامام العلمية الذاتية التي وهبها الله تعالى له ، وبكونه مسدداً من السماء كما سيتوضح في المبحث الرابع.

90

(( ضمن كتاب بحوث حول المهدي (عج) ))