المحن التي تعرض لها الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام
المحن التي تعرض لها الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام
لو سرّحنا النظر في صفحات التاريخ الإسلامي والدور الجهادي والرسالة للأئمة الاثني عشر في قيادة الأمة الإسلامية ومواجهتهم الحكومات اللاشرعية التي تنهج الاستبداد والجور والظلم. نجد جُلّ الثورات والقيادات الحكومية تعلن بادئ الأمر باسم العلويين ثورتها وباسم أهل البيت عليهم السلام وباسم آل النبي المصطفى صلّى الله عليه وآله ولكن بمجرد أن تنجح ثورتهم وتتحقق أهدافهم ينقضّون على آل النبي صلّى الله عليه وآله وأهل بيته بالسجن والقتل والتشريد والتنكيل والتبعيد والضغط على الحريات وتتميز الفترات رخاءً وشدة حسب مزاج الحاكم والتبدلات السياسية في حياة الإمام الكاظم عليه السلام فعلينا أن نعرف السمات السياسية الرئيسية للعصر الذي عاشه الإمام الكاظم عليه السلام حيث كانت ولادته أواخر الحكم الأموي الدموي الجائر حيث لاحق هذا الحكم بشتى وسائله ليعذب ويشرد ويقتل كلّ من ينتمي الى أهل بيت رسول الله أو محبيهم فاستعملوا شتى وسائل التعذيب والتقتيل والقسوة مبتدئين من واقعة الطف ومقتل الحسين عليه السلام وأهل بيته الكرام وفاجعة كربلاء حتى نهاية حكمهم الدموي حيث كانت الأرضية مهيئة وبوادر الانتقام معدّة وبالخصوص آل علي والطالبين والثائرين بدم الحسين عليه السلام فهؤلاء كانوا أداة قلق للحكومة الأموية فكثرت ثوراتهم على الأمويين ومطالبتهم بالاستقامة وعدم الانحراف عن جادة الإسلام والتقيد بالمبادي الإسلامية العتيدة والتي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وآله ولكن انحراف الأمويين ولهوهم وانشغالهم باللهو والطرب والقيان مما سبب في ضعفهم وتمكن الفرقاء منهم فاخذ الثوار بجمعهم يهتفون باسم أهل البيت عليهم السلام وأحقيتهم بالخلافة والحكومة ومطالبة الدولة بإنصاف الناس وإرجاع الحقوق المغصوبة الى أهلها لذا كانت هذه الفترة الزمنية ومساحتها التاريخية اشد صعوبة من غيرها حيث العلويين والتشديد عليهم ومراقبتهم ورصد حركاتهم بشتى الوسائل ومحاربتهم بصور مختلفة إعلامياً وقسرياً من تشويه سمعتهم ونسب فضائلهم الى غيرهم حتى أشاعوا الإرهاب بين الناس لاستعمالهم أساليب بربرية مثل بناء العلويين في اسطوانات البناء وهم أحياء الى غير ذلك من الأمور فأخذت ترصد حركاتهم ولم تدع لهم تجمع ولعل هذه الفترة من أصعب الفترات مقارنة بالفترة التي عاشها الإمام محمّد الباقر عليه السلام والإمام جعفر الصادق عليه السلام حيث أتيحت في ذلك الوقت بناء مدرستهم ونشر علومهم وبث كوادرهم في الأمصار وبناء الكتلة الصالحة بكل الأبعاد والحدود والإمكانات من المفهوم الإسلامي.
أما الحقبة التي عاشها الإمام الكاظم عليه السلام فكانت حقبة صعبة خنقت فيها الحريات وبالخصوص على طلائع الطالبيين والعلويين لما كان لهم من وقع عميق في نفوس العامة من الناس وهذا مما شدد عليهم الخناق من قبل السلطة الحاكمة ويمكن أن تدعى هذه الفترة بالفترة المظلمة من الناحية السياسية وذلك لحبس الحريات وكبت الأنفاس وملاحقة الأحرار ونشر الإرهاب بين الناس والقتل الفردي والجماعي الى جانب ذلك استفحال بني العباس وانفرادهم بالحكم والاستهانة بكرامة الناس الآخرين ودكتاتورية الحكم فالولاة كله للأقارب والأباعد يعبثون ويظلمون ويفسدون وبين هذه الفترة وتلك التي سبقت عاش الإمام الكاظم عليه السلام وشاهد تبدلات سياسية وفكرية واجتماعية على صعيد الدولة وعلى صعيد المجتمع الإسلامي وأنظمة الحكم وقد مثّل هذا الانعطاف التاريخي انقطاعاً عن الحكم الأموي ونقيضاً له على كافة المستويات فبالنسبة للإمام عليه السلام واصل سيرة آبائه وأجداده الى ما يقابلها من استمرار السلطة في قمع الشيعة والعلويين فهي فترة قلق وتخلخل المطلوب هو الطاعة للخليفة الحاكم وما عداه يهون إلّا العدل والإصلاح لم يجد محلّاً في قاموسهم.
لقد عاصر الإمام الكاظم عليه السلام فضلاً عن آخر خليفة أموي وهو مروان ابن محمّد المشهور بالحمار الذي تولى السلطة سنة 127 هـ وقتل على يد العباسيين سنة 132 هـ فالإمام عليه السلام يكون قد عاصر خمسة من ملوك بني العباس (أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور والمهدي وموسى الهادي هارون الرشيد).
في هذه الحقبة الزمنية كثر اقتناء الجواري ، وساد بيع المجوهرات والحلي بين بيوت الأمراء والحكام وغصت بيوت الوزراء والولاة بالحواشي والخدم والجواری والمطربين والمطربات وبالشعراء وأقامت الليالي الحمراء يتبعهم المتملقون والمتزلفون وعابدوا الدراهم والدنانير وصارت الهدايا بين الأمراء وأصحاب الأقاليم بوسائل اللهو والعبيد ومواد الترف والزينة ضربت رقماً قياسياً هذا ما يحدثنا تأريخهم حتى صارت الخزانة التي تمتلي من شرابين الكادحين والفقراء تهدر في طرق غير مشروعة ، والى جانب هذا الوضع السياسي المتأزم استحدث شيء جديد هو تنشيط الفرق والمذاهب الكلامية والفلسفية وكان لهذا الأمر أثر سلبي وذلك لتفرقة المسلمين الى مذاهب وفرق متعددة مزقت المجتمع الإسلامي الموحد وقد ساعدت هذه الحقبة أيضاً على ظهور فرق متعددة غايتها تشويه الفكر الإسلامي وبث الشكوك في نفوس العامة وانحرافهم عن مسار الإسلام الواقعي وفي هذه الفترة لا بد أن يظهر الإمام الكاظم عليه السلام وموقفه الحازم تجاه هذه التيارات المفسدة الذي ساعد على إيجادها الحكم العباسي ومهد الى وجودها وظهورها فبالرغم من كل المضايقات التي كانت تحيط بالإمام الكاظم عليه السلام كما بينا وملاحقته وحبسه ومراقبة حركاته ولكنه لم يترك الجهاد والعمل السياسي ولا لحظة واحدة ودوره في مسؤولياته في صدّ هذا العدوان والخطر الذي يهدد كيان الإسلام.
لقد ذكر المؤرخون أن الإمام الكاظم عليه السلام وهو في سجنه في زنزانة تعذيبه لم ينقطع ذلك الحبل المتصل بينه وبين كوادره ومحبيه وشيعته فلذا نشاهد انه ربّى جيلاً من العلماء الذين ينطقون باسمه وبعلمه وجهاده وبهذه الروح أوقف أو حاول إيقاف التيارات الفلسفية والعقائدية التي سادت في تلك الفترة ، وإذا دققنا النظر في هذه الحقبة بالذات والتي عاشها الإمام الكاظم عليه السلام وما رافقه من الوضع السياسي المتأزم ومقارنته بالفترة الزمنية التي سبقته نجد ان دوره الكفاحي كان بارزاً وجهاده السياسي كان متواصلاً لذا كان يعكس ما يقابلها وهي معاناته في السجون حيث قضى مدة غير قليله بها والصراع السياسي الغير مسلح « العلمي » يتمثل الصراع بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال فلذا كان أتباع أهل البيت عليهم السلام يقودون خط المعارضة على طول التاريخ وامتداده فهم دائماً وفي كل الأدوار والعصور يحملون لواء الجهاد ضد التحلل والظلم والاضطهاد والطغيان ومن اجل احقاق الحق وضمان تطبيق القانون الإسلامي الذي جاء به سيد المرسلين الرسول الأمين من قبل ربّ العالمين والالتزام بأخلاقية الإسلام وبناء المجتمع الإنساني الإسلامي القويم وتغليب مبادئ الحق والرشاد وبناء حياة الإنسان على أساس الإسلام.
ومن هذه النقطة حيث المرحلة التاريخية عصيبة من حياة الإمام الكاظم عليه السلام والذي تمثل مرحلة تاريخية بارزة وذات أهمية كبيرة من قيادة الأمة ويمكن تقسيمها الى ثلاثة أدوار رئيسة أو بعبارة أخرى ثلاثة عصور « عصر المنصور ، وعصر الهادي وعصر الرشيد » ومن الملاحظ أن ما كتبه الكتاب عن هذه الفترة هو زيف للحقائق حيث الكتاب هم خدمة للسلاطين وكتاباتهم ما توافق رغبة الحاكم فلذا استبدل الحق بالباطل وبالعكس فكل الكرامات والأخلاق الحميدة الرشيدة التي كانت تمثل أخلاق أهل البيت أخذت تلصق بأعدائهم والى حكام الجور والاستبداد ويصفون أهل البيت بشتى النعوت. ومن المعروف أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور وقد عرفته البشر بشحّه وبخله وسخطه على البشر حيث كان يبتز أموال المسلمين ويسفك دماء الأبرياء ويكبت الحريات لم يذكر المؤرخون أن الإمام الكاظم عليه السلام تعرض من قبل المنصور الى الحبس والحال أن الشرطة ظلّت تطارد العلويين وتلاحقهم وتذيقهم الويلات في كل منطقة أو محل يتواجدون فيها.
وقد جاء دور المهدي وكان الناس يترقبون تغير السياسة لما عانوه من ذاك ورفع الإجحاف عن الناس وقد أحس المهدي بذلك بنفسه فحاول أن يمتص غضب ونقمة الناس فأطلق سراح البعض من السجناء ورد بعض الأموال المغصوبة الى أهلها فشمل قراره الطالبيين حتى قال بعض المؤرخين أن هناك شيئاً من الأموال تعود للإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام ردت الى ولده الإمام الكاظم عليه السلام ويمكن تسمية هذه الفترة فترة انفتاح أو فترة يُسر ولكن ذلك لم ينزع الخوف والحقد من قلب المهدي والولاة المتسلطين على رقاب العامة وأعداء السلطة لآل علي ولعل هاجساً في نفوسهم كان يوحي إلى الخليفة وأتباعه بوجود تخطيط للثورة لذا أرسل المهدي على الإمام الكاظم عليه السلام بعد فترة من توليه السلطة للشخوص الى بغداد وقد تم له ذلك وقد توقع الشيعة والمحبون وأنصار الإمام أن الإمام الكاظم عليه السلام ستصل إليه يد الشؤم والإيذاء من قبل المهدي ولكن الإمام اخبر شيعته بعدم هذا التوقع بمجرد إدخاله السجن ولعل هذا الإخبار بعلم الإمام بما يؤول إليه نوع من الإخبار الغيبي وبعد إيداع الإمام عليه السلام السجن يرى المهدي في منامه أن النبي صلّى الله عليه وآله يوبخه على فعله وعلى سجنه لحفيده.
وفي اليوم الثاني يطلق سراح الإمام وعلى أثرها يعود الى مدينة جده ، المدينة المنورة.
وقد جاء دور موسى الهادي أعلى درجاته حيث أعلنت الثورة على الحاكم الجائر سنة 169 هـ ، وتحدث واقعة « فخ » والتي عبرت عن الفداء والتضحية لهذه الكوكبة الخيّرة من الطالبيين بقيادة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب عليهم السلام وعادت واقعة كربلاء مرة أخرى في عهد الإمام الكاظم عليه السلام وكيف كانت وقع هذه الواقعة المؤلمة على قلب الإمام الكاظم عليه السلام في الوقت الذي هو قائد الأمة والمثل الأعلى للشيعة فبعد قيام هذه الثورة في عهد الخليفة موسى الهادي ما هو رد الفعل من قبل الدولة على الإمام الكاظم عليه السلام وأصحابه وشيعته ومن سينجو من هذه المذابح والملاحقات بعد أن شعر النظام أن وراء هذه الثورات عميد الأسرة في ذلك العصر هو الامام الكاظم عليه السلام فلذا كان السؤال الوحيد من الامام الكاظم عليه السلام وخصوصاً بعد ما وقعت هذه الواقعة وقطعت الرؤوس وجيء بها الى الحاكم الظالم والى الأمير الذي لا ينشد الحقيقة ولا يتحرى عن الواقع بنفسه قتل الأبرياء على الظن وزجهم في السجون على التهمة هكذا هو ديدن الحكّام الظلمة الجائرين ولعل هناك جملة من الأحداث نشير إلى ذلك ، هو ما فعله المنصور العباسي مع الامام الصادق عليه السلام لثورة « محمّد ذو النفس الزكية » وما فعله هشام الأموي مع الامام الباقر عليه السلام في ثورة زيد بالرغم من علمهم الغيبي بنتائجها وعدم نجاحها ولكن الطلايع الثائرة عندما تجد الظلم والاستبداد لا ترضى على الهوان ولا تسمح للحكام أن تتمادى في غيّها وهتك الحرمات والمقدرات هذا جانب وجانب آخر يلاحظون أن الناس ملتفين حول إمامهم والعامة قلوبهم معهم لأحقيتهم بالحكم ولهذه الأسباب نشاهد ملاحقة الحكام وأعوانهم للعلويين والطالبيين وعلى رأسهم عميدهم حتى قال مراراً موسى الهادي قتلني الله إن لم اقتل ذلك ويقصد الامام.
وجاء دور هارون الرشيد في هذه الفترة الزمنية صارت الدكتاتورية الفردية جليّة وواضحة فصار الناس كلهم وما يملكون عبيداً للخليفة الحاكم وذلك لتسلط الحكام على الرقاب ومعاملة الناس بالقسوة وسوء العذاب من اجل تثبيت حكمهم فلذا المقرب للحاكم هو أكثر ولاءً إليه ويعلن عداءه لأهل بيت النبي عليهم السلام وفعلاً أودع الامام الكاظم عليه السلام في هذه الفترة أكثر من مرّة السجون ورفض الخروج منها ليعلن الى الملأ والأمة انه لا زال في صراع مستمر من الحكام ويعدّهم غير شرعيين فلذا كابد ما كابد من صنوف التعذيب هو وشيعته من أنصار الهدى والصلاح والخير وهكذا كان صراع أهل بيت النبي عليهم السلام مع الحكام طيلة هذه الفترات حتى ضاقت المحابس بهم وقد تفنن الحكام في اضطهادهم والقضاء عليهم حتى قيل انه بنوهم أحياء داخل اسطوانات فهذه محنة العلويين وظلم العباسيين وكان الامام الكاظم عليه السلام ضحية طيش الرشيد وبطشه والقصة معروفة بقتله ونستخلص من هذه الفترة السياسية من حياة الامام الكاظم عليه السلام ما يلي :
1 ـ استمرار لمنهجيّة والده الامام الصادق عليه السلام وجده الامام الباقر عليه السلام في التخطيط الفكري والتوعية العقائدية ومواجهة الاتجاهات المعاكسة المنحرفة والنحل الدينية التي نشأت ضد تلك المدرسة وكانت تحمل أفكاراً هدامة ملحدة تبث سمومها بين الناشئة فكان له الموقف المتصدي وعلى كافة المستويات على مستوى الحكومة أو على مستوى العامة فهو القوي الذي لا تأخذه في الله لومة لائم والناقد بالأدلة العلمية الدامغة والبراهين الواضحة الدقيقة والحجج الثابتة عندما يواجه تلك التيارات.
2 ـ نشر قواعده وكوادره العاملة في كل الأمصار والإشراف المباشر بنفسه بينه وبين كوادره والتنسيق للعمل المستمر الدؤب مع ملاحظة الظروف المحيطة والإمكانات الممكنة لأداء العمل الإسلامي بشكله الصحيح وإيصال المعلومات سليمة الى محبّيه وشيعته ومريديه الى جانب ذلك بث روح الألفة بين الشيعة وحملهم على مقاطعة السلطة الحاكمة الظالمة الجائرة وذلك لإضعاف الدولة بابتعاد الناس عنها في الوقت الذي شاهد التفاف الناس حوله على المستوى القواعد الشعبية بينما يعاكس ذلك تماماً هو ملاحقة السلطة لهذه القواعد والحدّ من نشاطاتها فلذا كانت السلطة تعلم بواسطة عيونها وجواسيسها وقوف الناس مع الامام الكاظم عليه السلام وذلك لأحقية أهل البيت عليهم السلام بالخلافة فلذا كانت تتخذ أساليب القمع والتشديد على الامام عليه السلام وأصحابه وأشياعه.
3 ـ هناك موقف الصراحة والتحديات العلنية والمجابهة الفعلية نظير التي ظهرت جليّه وواضحة عند مرقد النبي صلّى الله عليه وآله واحتجاجه مع هارون الرشيد مع وجود كبار رجال الدولة وقادة الجيش وجمع غفير من الناس الحضور حيث أقبل هارون الرشيد على ضريح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بقوله « السلام عليك يا ابن العم معتزاً مفتخراً على غيره بصلته مع النبي صلّى الله عليه وآله وانه إنما وصل الخلافة لقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وفي حينها كان الامام الكاظم عليهالسلام حاضراً لزيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وآله قائلاً « السلام عليك يا أبت » وقد سمع الرشيد سلامه وصوته وذهل منه وساوره شيء من الحقد والامتعاض من هذا المشهد حيث سبقه الامام القرابة والى ذلك المجد والافتخار فقال له الرشيد بلهجة الحاقد المغضب لم قلت بهذه اللهجة تدل على انك اقرب الى رسول الله منا فأجاب الامام الكاظم بلهجة المطمئن الهادي وبرد مفحم قائلاً له يا هارون لو بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله حيّاً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه الى ذلك أو تمتنع ؟ فقال هارون وكنت افتخر بذلك على العرب والعجم فانبرى الامام الكاظم عليه السلام قائلاً ولكنه بالنسبة لي لا يخطب مني ولا أزوجه لان والدنا لا والدكم لذلك نحن أقرب إليه منكم وهنا بان على هارون الرشيد الخذلان بعد ما أعياه الدليل الی منطق الاحتقار والعجز هو اصدر أمره باعتقال الامام عليه السلام وزجه في السجن وهناك محاجة أخرى عندما سأله الرشيد عن فدك وما هي حدودها وفي ظنّي إن كانت قطعة صغيرة يردها عليه فأبى الامام الكاظم عليه السلام ذلك إلا بحدودها الواقعية وقد سأله الرشيد بإصرار ما هي حدودها فقال الامام الكاظم عليه السلام الحدّ الأول فعدن فلما سمع الرشيد ذلك تغير لونه واستمر الامام مترسلاً والحدّ الثاني سمرقند الحدّ الثالث إفريقيا وأما الحدّ الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية. فقال الرشيد لم يبق لنا شيء وقد علمت انك لا تردها هذه الاحتجاجات أوغرت قلب الرشيد وأخذ يحسب لها ألف حساب للإمام الكاظم عليه السلام وأتباعه وأشياعه.
4 ـ بث الوعي الثوري لدى الناشئة ولدى طلائع العلويين وشباب الطالبيين وتحريك روح الانتفاضة لديهم كل ذلك من اجل الحفاظ على الإرادة الإسلامية وإسنادها بوسائل التشجيع والترغيب مما جعل العلويون مع اضطهادهم لكنهم مرفوعي الرأس لا يرضخون للحكام فكانوا يتمردون على الحكام ولا ينصاعون لأوامرهم فلما وقعت واقعة فخ بقيادة الحسين ابن علي بن الحسن كانت نتيجة لإذلال الحكومة ورجالها الى كل علوي او طالبي او شيعي او من يوالي الامام الكاظم فكانت هذه الواقعة رد فعل لأعمال الحكومة وسيرتها اتجاه العلويين وفعلاً قبل أن يقوم الحسين بن علي بن الحسن بثورته عرض الفكرة على الامام الكاظم عليه السلام فقال الامام عليه السلام « انك مقتول فأحدّ الضراب » وان القوم فساق يظهرون إيمانا ولكنهم يضمرون نفاقاً وشركاً « فانا لله وإنا إليه راجعون وعند الله احتسبكم من عصبة » إن دلّ هذا الكلام على شيء يدل على رغبة الامام بالثورة ضد الطغاة وفعلاً وبعدما سمع بمقتل الحسين وما آلت إليه الواقعة يكاد الامام يترحم عليه وقال مضى والله مسلماً صالحاً صواماً قواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله أي كان يجيب فعله.
لقد كانت هذه الانتفاضات والثورات والمصادمات ترتبط بشكل او بآخر بالإمام فهي حصيلة عمل الخلايا التي كانت عليها نشر التشيع وأفكاره في جميع الأقاليم الإسلامية وتسليح كل مسلم موالٍ لأهل البيت عليهم السلام بعقيدة الإيمان ليقف صلباً قوياً إمام الزعامات القائمة التي شوهت رسالة الإسلام فلذا كانت الكوادر تعمل مرة بشكلها العلني حيث تكتب شعاراتها على الجدران وفي التجمعات وكشف مظلومية أتباع أهل البيت في الوقت الذي هم اقرب الناس إلى رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلم وإنهم خلفاءه على أمته ولا شك أن هذه المجريات التي مرت هي جزء من العمل الوظيفي للإمامة الدينية والزعامة الروحية لقيادة الأمة نحو طريق السليم والهدف السامي.
5 ـ هناك سؤال يطرح نفسه هو كثرة الذرية للإمام الكاظم عليه السلام وتقاريرهم التي يرفعونها الى هارون الرشيد مما أوغر صدره واخذ الحقد يستفحل عنده ويعتقد أن الملك سينتقل للإمام الكاظم عليه السلام بعدما اخبروه أن هناك أموالا تجبى للإمام ومبالغ طائلة تصله من كافة أقطار العالم الإسلامي واخذوا يهولون الأمور عن ممتلكات الامام وبالخصوص عندما وشى يحيى البرمكي على أن الامام يعمل في طلب الخلافة لنفسه وقد كتب الى قواعده وكوادره في سائر الأقطار الإسلامية يدعوهم الى نفسه ويحفزهم ويشجعهم على الثورة والتمرد ضد السلطة الحاكمة وكان من جراء ذلك أن سجن الامام الكاظم عليه السلام ليعزله عن شيعته ومحبيه فلذا بقي الامام لعله أكثر من ست عشرة سنة يعاني الحبوس ينتقل من حبس الى آخر حتى سئم الامام من الحبوس ومراقبة الشرطة وإجراءات الدولة الظالمة حتى مرض وهزل جسمه كل ذلك لا يثنيه من مواصلة سيرته الجهادية ومصارعة الزعامة المنحرفة.
وقد أرسل عليه السلام من السجن رسالة الى هارون الرشيد يعرب فيها عن سخطه هذا نصها : « يا هارون انه لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً الى يوم ليس له انقضاء وهناك يخسر المبطلون ».
وكما بينا انه عانى من السجن وهو ينتقل من سجن لآخر حتى انتهت الحياة بسقيه السم وهو في السجن فقضى عليه لينتهي دوره ونشاطه السياسي المعارض للدولة والحكومة ورجالها وقد مضى وهو مطمئن القلب انه أدى رسالته وبكل أمانة فعاش مظلوماً ومات سعيداً شهيداً وكانت وفاته سنة 183 هـ في الخامس والعشرين من شهر رجب.
فسلام عليك يا مولاي يا باب الحوائج يا موسى بن جعفر
مقتبس من كتاب : الإمام الكاظم عليه السلام وذراريه / الصفحة : 227 ـ 237
التعلیقات