ما معنى السعادة والشقاء الذاتيين ؟
العدل الإلهي
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 372 ـ 382
(371)
السؤال الثاني
ما معنى السعادة و الشقاء الذاتيين؟
قد اشتهر في ألسن الباحثين عن الجبر و الإِختيار القول بأنَّ الناس على
صنفين سعيد وشقي ، و أنَّ سعادة كلٍّ و شقاءه مكتوب في علمه الأزلي سبحانه
أولا ، و محكوم بأحدهما آن كونه جنيناً في بطن أُمّه ، و هذا يكشف عن أنَّ
الشقاء و السعادة ذاتيان ، فكيف يمكن الحكم بالإِختيار معهما .
أمّا الأوّل: أي كون كل واحد مكتوباً بأحد الوصفين في علمه
الأزلي ، فيستظهر من قوله سبحانه: { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا
يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ
إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}(1).
قال الرازي في تفسير الآية : إِعلم أنَّه تعالى حكم الآن على بعض
أهل القيامة بأنَّه سعيد ، و على بعضهم بأنَّه شقي ، و مَن حكم اللّه عليه بحكم
و علم فيه ذلك الأمر ، امتنع كونه بخلافه ، و إلاَّ لزم أن يصير خبر اللّه تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة هود: الآيات 105 ـ 108.
________________________________________
(372)
كذباً ، و علمه جهلاً و ذلك محال . فثبت أنَّ السعيد لا ينقلب شقياً ، و أنَّ
الشقي لا ينقلب سعيداً » . ثمّ استشهد لكلامه بما روي عن عمر أنَّه قال :
« لما نزل قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } . قلت : يا رسول اللّه فعلى ماذا
نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه ، فقال : على
شيء قد فُرِغَ منه يا عُمَر ، وجَفَّت به الأقلام ، و جرت به الأقدار ، ولكن كل
مُيسّر لما خلق له ». قال : و قالت المعتزلة: نقل عن الحسن أنَّه قال :
فمنهم شقي بعمله و سعيد بعمله . قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات ،
وأيضاً فلا نزاع أنَّه إنّما شقي بعمله و إنّما سعد بعمله . ولكن لما كان ذلك
العمل حاصلاً بقضاء اللّه وقدره ، كان الدليل الذي ذكرناه باقياً » (1). فقد
استفاد الرازي من الآية أنَّ السعادة و الشقاء من الأمور الذاتية للموصوف بهما
حتى قال إنَّ السعيد لا ينقلب شقياً.
وأمَّا الثاني : فقد روى المحدثون عن رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه
و آله ـ أنَّه قال: « الشَّقِيُّ مَنْ شَقِىَ في بَطْنِ أُمّه ، و السعيد مَن سَعِدَ في بطن
أُمِّهِ » (2).
تحليل الشقاوة و السعادة في الآية و الحديث
إنَّ البحث في هذا المجال يتم في ضمن جهات:
الجهة الأولى : في تقسيم الناس إلى شقي و سعيد.
إنَّ الناظر في الآيات الماضية لا يدرك سوى أنَّ هناك جماعة متصفون
بالسعادة ، و أخرى بالشقاوة ، و أمَّا كونهما ذاتيين لموصوفيهما أو ثابتين بإرادة
أزلية لا يتخلف مرادها عنها ، أو يثبتان لهما عن اكتساب و عمل مع كون
الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتيهما ، فلا نظر في الآيات إلى شيء
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير « مفاتيح الغيب » : للرازي ، ج 5 ص 93، الطبعة الأولى 1308 هـ .
(2) التوحيد : باب السعادة و الشقاوة، الحديث 3، ص 356.
________________________________________
(373)
من ذلك ، لو لم نقل إنّها إلى الثالثة أقرب ؛ لأنّ الآيات واقعة في سياق
الدعوة إلى الإِيمان و الندب إلى الطاعة و ترك المعصية ، فيدل على تيسير
سبيل الوصول إلى كل واحد منهما . قال سبحانه : { ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ}(1) . و بذلك يظهر أنَّ القول بدلالة الآيات على الذاتيين منهما ، قول
بلا دليل.
وأمَّا ما اعتمد عليه الرازي من قوله : « إنَّه تعالى حكم الآن على بعض
أهل القيامة بأنَّه سعيد و على بعضهم بأنَّه شقي » ، و أسماه دليلاً قاطعاً ، فهو
بالمغالطة أشبه منه بالدليل ؛ و ذلك لأنَّه أخذ زمان الحكم زماناً لنتيجته
و أثره ، فالحكم منه سبحانه و إن كان في زمن نزول الآية لكن زمان الإِتصاف
هو يوم القيامة ، فكيف قال إنَّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنَّه
سعيد ( فعلاً ) ، و على بعضهم بأنَّه شقي ( كذلك) ، و إنّما حكمت الآية في
زمن النزول بأنَّ الناس يتصفون في المستقبل بأحدهما لا في زمان الحكم
القائم بالحاكم . فاستفادة كون الأشخاص سُعَداء أو أشقياء بالفعل و في زمن
نزول الآية ناشئ عن الخلط بين زماني الحكم و الإتصاف ، فالحكم فعلي
والإِتصاف استقبالي . فعندئذٍ لا تدل على ما يتبناه من كون السعادة أو الشقاء
حليف الإِنسان و أليفه في الدنيا ، و أنّه بالفعل من زمن طفولته إلى كهولته
و هرمه ، محكوم بأحد الحكمين.
و أمّا إرادته سبحانه أو علمه الأزلي ، فلا شكّ في عمومهما لكل حادثة
و ظاهرة ، و من المعلوم أنَّه لا يتطرق التغير إليهما و إِلاَّ عاد جَهْلاً . ولكنَّ
سَبْقَ تلك الإِرادة و العلم لا يستلزم الجبر لو لم نقل إنَّه يؤكد الإِختيار ، لما
علمت من أنّهما لم يتعلقا بصدور الفعل مجرداً عن مبادئهما و الخصوصيات
المكتنفة بهما ، و إنّما تعلقا على أن يصدر كل منهما من الإنسان بالخصوصيات
الموجودة فيه ، و منها الإِختيار . فقد تعلقت إرادته و قضى بعلمه سبحانه على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة عبس: الآية 20.
________________________________________
(374)
اتصاف صنف بالسعادة ، و صنف آخر بالشقاء من خلال اختيارهما أحد
الأمرين.
قال العلاَّمة الطباطبائي : « لو تعلق علمه تعالى مثلاً بأن خشبة كذا
ستحترق بالنار ، لا يوجب ذلك العلم وجوب تحقق الإِحتراق مطلقاً ، سواء
أكانت هناك نار أم لم تكن ؛ إذ لم يتحقق علم بهذه الصفة ، و إنّما يوجب
وجوب تحقق الإِحتراق المُقَيّد بالنار ؛ لأنَّه الذي تعلق به العلم الحق ، و كذا
علمه تعالى بأنَّ الإِنسان سيعمل بإرادته و اختياره عملاً أو سيشقى في ظل
عمل إختياري ، يوجب وجوب تحقق العمل من طريق إختيار الإِنسان لا
وجوب تحقق عمل كذا سواء أكان هناك اختيار أو لم يكن ، كان هناك إنسان
أو لم يكن ، حتى تنقطع به رابطة التأثير بين الإِنسان و عمله ، و نظيره علمه
سبحانه بأنّ إنساناً كذا ، سيشقى بكفره اختياراً يستوجب تحقق الشقوة التي
هي نتيجة الكفر الإِختياري دون الشقوة مطلقة سواء أكان هناك كفر أو لا ،
و سواء أكان هناك اختياراً أو لا » (1).
و أمّا الرواية التي استشهد بها الرازي فقد أوعزنا عند البحث عن القضاء
و القدر إلى أنّها أشبه بالإِسرائيليات منها بالإِسلاميات . و القرآن ينص على
عدم الفراغ من العلم ، قال سبحانه: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}(2) . و قال
سبحانه : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(3). على أنَّه
يمكن توجيه قوله ـ عليه السَّلام ـ : « إعملوا فكل مُيَسَّر لما خُلق له » ، بأنّ
المراد من الموصول في قوله : « لِما خُلِقَ له » ، هو معرفة اللّه سبحانه
و عبادته ، لا الكفر به و إنكاره قال سبحانه: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ
لِيَعْبُدُونِ}(4) . فإذا كانت الغاية من الخلقة هي العبادة ، يكون كلام
الرسول : « اعملوا فكل مُيَسّر لما خلق له » ، ناظراً إلى هذه الغاية فقط ، لا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الميزان : ج 11، ص 21.
(2) سورة الرحمن: الآية 29.
(3) سورة الرعد: الآية 39.
(4) سورة الذاريات: الآية 56.
________________________________________
(375)
إلى السعادة و الشقاء ، و يؤيد ذلك ما ورد في بعض الروايات أنَّه ـ صلى اللّه
عليه و آله ـ قرأ قوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى }(1) . و قد ورد هذا التفسير في كلام الإِمام الطاهر موسى بن جعفر
حيث يقول بعدما سُئِلَ عن قول رسول اللّه : « إعملوا فكل مُيَسّر لما خُلِقَ
له » : إنَّ اللّه عزوجل خلق الجن و الإِنس ليعبدوه ، و لم يخلقهم ليعصوه ؛ و ذلك
قوله عزّوجلّ: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، فَيَسَّر كُلاً لِما
خُلِقَ له ، فالويل لمن استحب العمى على الهدى » (2).
نعم حاول العلاَّمة الطباطبائي تصحيح الرواية بوجه خاص ، فمَن أراد
الإِطّلاع عليه فليرجع إلى كلامه (3).
الجهة الثانية : في معنى الرواية المروية عن النبي (صلى اللّه عليه و آله(
إنَّ السعادة و الشقاء من المفاهيم الواضحة و لا يحتاجان إلى التفسير ،
ولكنهما يتشعبان و يختلفان حسب اختلاف متعلقهما ، فسعادة كل شيء أن ينال
ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه ، فهي في الإِنسان ـ و هو مركب من
روح و بدن ـ أن ينال الخير حسب قواه الجسمانية و الروحية فيتنعم به ويلتذ ،
و شقاؤه أن يفقد ذلك و يحرم منه . و على ضوء ذلك فالإِنسان من حيث
الصحة و السقم ينقسم إلى سعيد و شقي ، و من حيث الغنى و الفقر في حوائج
الحياة يتصف بأحدهما ، كما هو كذلك إذا قيس إلى الزوجة و الرفيق و غير
ذلك من ملابسات الإِنسان ، فيوصف بأنَّه سعيد من هذه الجهة أو شقي.
وعلى ذلك فليس معنى السعيد على الإِطلاق الخالد في الجنَّة ،
و الشقي الخالد في النار ، و إنّما هما من أقسامهما و مصاديقهما . نعم ، المراد
منهما في الآية المتقدمة هو ذاك بشهادة قوله سبحانه: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا
فَفِي النَّارِ } و { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ } . ولكنه معلوم من سياق
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الليل: الآيات 5 ـ 7.
(2) التوحيد : باب السعادة و الشقاء، الحديث الثالث.
(3) الميزان : ج 11، ص 37 ـ 38.
________________________________________
(376)
الآية ، لا أَنَّهما موضوعان للسعيد و الشقي في الآخرة ليس غير.
وعلى ضوء ذلك فالخبر المروي عن النبي ـ صلى اللّه عليه و آله ـ ليس
إلاَّ قوله : « الشقي مَن شقي في بطن أُمّه ، و السعيد مَن سعد في بطن أُمّه » ،
و هو كلام مطلق لا قرينة فيه على أنَّ المراد منه هو القسم الوارد في الآيات
الكريمة ، بل يمكن أن يقال إنَّ المراد منه هو السعادة و الشقاء من حيث
الخلقة و المزاج بقرينة قوله : « في بطن أُمّه » . فمن المحتمل إذا صحّ سند
الحديث و ثبت صدوره من النبي أن يكون المراد إنَّ الإِنسان في بطن أُمه على
صنفين : شقي وسعيد.
فالجنين المتكون من نطفة و بويضة لأبوين سالمين روحاً و جسماً يتصف
بالسعادة في بطن أُمه و ترافقه في حياته الدنيوية ، و هذا بخلاف الجنين المتكوّن
من نطفة و بويضة لأبوين عليلين و مريضين جسماً و روحاً ، فهو من هذا الآن
محكوم بالشقاء ، و إذا تولد رافقهُ إلى آخر عمره: { إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ }.
فالرواية لا صلة لها بالسعادة و الشقاء الأُخرويين . و بالنتيجة لا ترتبط ببحث
الجبر و الإِختيار ، و إنّما حملوها عليهما لأجل كون السعادة و الشقاء في الآية
راجعين إلى الحياة الأُخروية ، ولكنه ليس بدليل.
نعم روى الصدوق عن محمّد بن أبي عمير ( م 217 ) قال: سألت
أبا الحسن موسى بن جعفر ـ عليه السَّلام ـ عن معنى قول رسول اللّه :
« الشقي مَنْ شقي في بطن أُمّه ، و السعيد مَنْ سعد في بطن أُمّه ». فقال : « الشقي مَن علم
اللّه و هو في بطن أُمّه أنَّه سيعمل أعمال الأشقياء . و السعيد مَن علم اللّه و هو
في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال السُعَداء » (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد : باب السعادة و الشقاوة ، الحديث 3، ص 356.
________________________________________
(377)
الجهة الثالثة : في تحليل السعادة و الشقاء من حيث الذاتية و الإِكتسابية
الذاتي قد يطلق و يراد منه ذاتي باب « الإِيساغوجي» (1). و أخرى
يراد منه ذاتي باب « البرهان » . أمّا الأوّل فالمراد منه ما لا يكون خارجاً عن
ذات الشيء و يقابله العَرَضي ، فالجنس و الفصل و النوع ذاتيات بهذا المعنى ،
و العَرَض الخاص و العام عَرَضيان بالنسبة إليها ، و ذلك واضح لا يحتاج إلى
البيان ، فالحيوانية و الناطقية و الإِنسانية تُعَدُّ ذاتيات بالنسبة إلى كل فرد من
أفراد الإِنسان ، و التعجب و المشي عرضيان بالنسبة إليه.
و أما الثاني ، أعني ذاتي باب البرهان ، فالمراد منه ما لا يكون جنساً
و لا فصلاً و لا نوعاً ، ولكنه ينتزع من نفس ذات الشىء ، و فرض حصوله في
ظرف من الظروف من دون حاجة إلى ضم ضميمة خارجية إليه ، بل يكفي
وضع الموضوع في وضع المحمول . و هذا كالإِمكان بالنسبة إلى ماهية
الإِنسان ، و الزوجية بالنسبة إلى الأربعة . ففرض الإِنسان في أي ظرف من
الظروف ، ذهناً كان أو خارجاً ، يصحح انتزاع الإِمكان منه و حمله عليه ،
كما أنَّ فرض الأربعة بالنسبة إلى الزوجية كذلك . فالإِمكان و الزوجية ليسا
جنسين و لا فصلين و لا نوعين بالنسبة إليهما ، ولكن يكفي فرض الموضوع
في فرض المحمول من دون حاجة إلى انضمام شيء وحيثية إلى جانب
الإِنسان أو الأربعة . فيطلق على كل واحد تارة « ذاتي باب البرهان » ، وأخرى
« المحمول بالضميمة » .
و يقابله ما لا يكون كذلك ، أي يحتاج في توصيف الشيء به و حمله
عليه إلى انضمام شيء إلى الموصوف حتى يصحّ في ضوئه حمله عليه ،
و ذلك كحمل الأبيض على الجسم ؛ فإن توصيفه به يتوقف على انضمام عرض
كالبياض إليه ، و إلاَّ ففرض الجسم في ظرف من الظروف لا يصحح الحمل
كما لا يصحح اتصاف الجسم به . و مثله حمل الوجود على الماهية و اتصافها
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإِيساغوجي في مصطلح المنطقيين اليونانيين يعادل « الكليَّات الخمس » في مصطلح منطق
الإِسلاميين.
________________________________________
(378)
به ، فإن فرضها بما هي هي ، لا يكفي في اتصافها به بل يحتاج إلى ضم
حيثية إلى الماهية تخرجها من حالة التساوي إلى أحد الجانبين . و هذه
الحيثية هي الحيثية العلّية ، ولولاها لما صح حمل الموجودة عليها ، فيطلق
على البياض المنضم إلى الجسم « حيثية تقييدية » ، كما يطلق على العلّة
المخرجة للماهية من كتم العدم إلى الوجود « حيثية علية ».
ولذلك اشتهر في كلامهم أنَّ الذاتي في باب البرهان ما لا يحتاج في
الحمل و الإِتصاف إلى إحدى الحيثيتين ، و غيره يتوقف صحة الحمل
والإِتصاف فيه على ضم إحداهما (1).
إذا عرفتَ ذلك ، فاعلم أنَّه لا يصحّ توصيف السعادة و لا الشقاء
بالذاتي بكلا المعنيين .
أمَّا الأوّل : فإنّ السعادة و الشقاء ليسا من مقولة الجنس و لا الفصل و لا
النوع بالنسبة إلى الفرد المحكوم بأحدهما ، و ذلك واضح لا يحتاج إلى
بيان.
وأمَّا الثاني : أعني « ذاتي باب البرهان » فقد عرفتَ أنَّه عبارة عن
الخارج عن ماهية الشيء ( ليس جنساً و لا فصلاً و لا نوعاً ) ، ولكن يحمل عليه
بلا ضم ضميمة . ولكنهما ليسا كذلك ؛ إذ لا يكفي فرض فرد من الإِنسان في
اتصافه بأحدهما ، بل يحتاج إلى ضم ضميمة إلى جانبه ككونه ذا عقائد حقّه
و أعمال صالحة ، أو ما يقابلها من العقائد الباطلة و الأعمال الطالحة ، فيصحّ
أن يطلق أنَّه سعيد أو شقي ، و في ضوء ذلك يجب أن يقال : إنَّ السعادة
و الشقاء من الأمور العَرَضية التي يكتسبها الإِنسان في مُدّة حياته.
و إن أريد أنَّ مبادئَهما و مناشئَهما من الأُمور الذاتية التي تنتقل إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) و إلى هذا التقسيم يشير الحكيم السبزواري في منظومته بقوله:
والخارج المحمولُ من صَمِيَمه * يُغايرُ المحمُولَ بالضَّميمة
كذلك الذاتِىُّ بِذا المَكانِ * ليس هو الذاتي في البرهاني
________________________________________
(379)
الإِنسان بالوراثة و الثقافة و البيئة ، فإن ما تتركه هذه الأُمور من الآثار بما أنّها
خارجة عن اختيار الإِنسان يطلق عليها الذاتي . فقد عرفتَ أنَّ تأثير كل واحد
من هذه العوامل الثلاث تأثير اقتضائي غير مفروض على الإِنسان ، بل فوقه
حرية الإِنسان واختياره ، فله أن يزيل ما تركته و فرضته هذه العوامل بقوة
وشدة . وقد اشبعنا الكلام في ذلك فيما مضى فلاحظ.
أضف إلى ذلك : إنَّ كثيراً من الملكات الصالحة أو الطالحة لا تحصل
في الإنسان إلاَّ بتكرار العمل ، فالشرير الذي يسهل عليه قتل الأبرياء ، لم
يكن يوم ولد بهذه الدَّرجة من الجناية ، و إنّما أوجد تكرار العمل تلك الدرجة
الخاصة التي يكون قتل الإِنسان و قتل البق عنده سواء . و هذا إن دلّ على شيء
فإنّما يدلّ على أنَّ الملكات الصالحة أو الخبيثة التي يعبّر عنها بالسَّعادة
والشقاء ، الباعثة إلى الأعمال المناسبة لها ، إنّما يكتسبها الإِنسان عن طريق
تكرار العمل ، و مع ذلك فكيف تعد تلك الملكات أموراً ذاتية .
تقسيم الإِنسان إلى شقىّ وسعيد
إنَّه سبحانه يقسم مجموع الإِنسان إلى شقي وسعيد حيث يقول:
{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}(1) . ولكنها لا تدل
على أنَّ الشقاء و السعادة من الأمور الذاتية اللاّزمة للإِنسان لما عرفتَ من أنَّ
ظرف الحكم هو الدنيا ، ولكن ظرف الإِتصاف في الآخرة. فاتصاف كل واحد
بأحد الأوصاف لأجل الأعمال التي ارتكبها في حياته الدنيوية أو العقائد
الباطلة التي اتصف بها فيها ، ولأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه يرتب على كون
الإِنسان شقياً بأنَّ له في الحياة الأُخروية ، زفير و شهيق ، و على السعيد بأنّ له
الجنة (2) .
وهذا يعرب عن أنَّ الزفير و الشهيق ، أو النعمة و الجنة من آثار الشقاء
والسعادة ، كما أنّهما من آثار تكذيب الأنبياء أو قبول دعوتهم إلى غير ذلك من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة هود: الآية 105.
(2) سورة هود: الآيتان 106 و 107.
________________________________________
(380)
الأعمال التي توجب الشقاء و السعادة ، ويدلّك على ذلك قوله سبحانه في
الآية المتقدمة: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ
الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ
تَتْبِيبٍ}(1).
وبذلك يظهر ضعف ما اعتمد عليه المحقق الخراساني في معالجة
مسألة العقاب حيث قال : « العقاب إنّما يتبع الكفر و العصيان التابعين
للإِختيار ( الإِرادة ) الناشيء عن مقدماته ، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية ،
اللازمة لخصوص ذاتهما ؛ فإنَّ السعيد سعيد في بطن أمه ، و الشقي شقي في
بطن أُمّه» (2).
كيف وقد دلّت التجارب العلمية على أنَّ كثيراً من الملكات و الصفات
يكتسبها الإِنسان على مدى حياته بممارسة الأعمال والأفعال ، وإلاَّ فالإِنسان
يخلق على الفطرة الصحيحة السالمة قال سبحانه : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(3) ، فالآية تفسّر الدين الذي يجب التوجه
إليه بقوله: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ، و « الفطرة » بمعنى
الخلقة بقرينة قوله سبحانه: { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } . و تشير الجملة إلى أنَّ
الذي يجب التوجّه إليه لقوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا } ، هو ممّا جبل
الإِنسان عليه ، فإصغاؤه لدعوة الدين تلبية لنداء الفطرة ، و من خلق على
فطرة الدين كيف يكون شقياً بالذات؟
تحليل لآية أُخرى
ربما يتمسك في إثبات الشقاء الذاتي بقوله سبحانه ، حاكياً عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة هود: الآية 101.
(2) كفاية الأصول : ج 1، بحث إتحاد الطلب و الإرادة ، ص 100.
(3) سورة الروم: الآية 30.
________________________________________
(381)
المجرمين يوم القيامة : { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ *
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}(1) . فيستظهر من إضافة الشقوة إلى
أنفسهم أنَّ شقاء المجرمين كان أمراً نابعاً من ذواتهم ، ولكنه ظهور بدوي
يزال عن الذهن بعد التدقيق في مفاد الآيتين ، إذ لقائل أن يقول إنَّ في إضافة
الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أنَّ لهم صنعاً في شقوتهم من جهة اكتسابهم
ذلك بسوء إختيارهم ، و الدليل على ذلك قولهم : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ
عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ؛ إِذ هو وعد منهم بالإِتيان بالحسنات بعد الخروج من
النار ، فلو لم تكن الشقوة مكتسبة لهم بالإِرادة و الإِختيار لم يكن للوعد
معنى ، لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبله . و هذا يدل على أنَّ
المجرمين كانوا واقفين على أنَّ السعادة و الشقاء بأيديهم ، فقد اكتسبوا الشقاء
بسوء الإِختيار . فلما رأوا نتيجة أعمالهم ، صاروا يعدونه سبحانه بأنّهم إن
خرجوا يكتسبون السعادة بصالح أعمالهم.
على أنَّ الإِستدلال بكلام المجرمين في يوم القيامة ، بكون الشقاء
ذاتياً ، غير تام جداً ، مع دلالة الآيات على أنّهم يكذبون يومئذٍ ، و ينكرون
أشياءً مع ظهور الحق و معاينته ، لاستقرار ملكة الكذب و الإِنكار في
نفوسهم. قال تعالى: { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا
ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا }(2). و قال سبحانه: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}(3) . فإذا كان المجرم يكذب
على اللّه سبحانه بهذا النحو ، فلا عتب عليه أن يسند ضلالته إلى شقوته تبرئة
لنفسه .
و نختم البحث برواية الصدوق في ( الأمالي ) عن علي ـ عليه السَّلام ـ
أنَّه قال : « حَقيقَةُ السعادةِ أَن يَخْتِم الرجل عمله بالسعادة ، و حقيقة الشقاء أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المؤمنون: الآيتان 106 ـ 107.
(2) سورة غافر: الآيتان 73 و 74.
(3) سورة الأنعام: الآية 23.
________________________________________
(382)
يَخْتِمَ المرء عمله بالشقاء» (1).
ثمّ إنَّ العلاَّمة الطباطبائي ( ره ) طرح البحث عن الروايات الواردة
حول الشقاء و السعادة في تفسيره عند البحث عن قوله سبحانه: { كَمَا بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ}(2) . فمَن أراد الوقوف على مضامين هذه الروايات ، و علاج
اختلافها فعليه أن يرجع إليه (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنور : ج 5 ، باب السعادة والشقاء ، ص 154، الحديث 5. و في هذا الباب
روايات لا توافق محكمات القرآن و الأحاديث ، فلابدّ من التوجيه إن صحّت أسنادها.
(2) سورة الأعراف: الآية 29.
(3) الميزان : ج 8 ، ص 95 ـ 109.
التعلیقات