في جواز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة
الشفاعة
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 357 ـ 362
(357)
الأمر الثامن : هل يجوز طلب الشفاعة؟
قد تعرفتَ على أنّ أصل الشفاعة أمر مفروغ منه ، وأنّ المخلصين من عباده
يشفعون يوم القيامة بعد إذنه وارتضائه ، لكن يقع الكلام في جواز طلب الشفاعة
من الأولياء في هذه النشأة .
فذهب ابن تيمية وتبعه محمّد بن عبدالوهاب ـ مخالفين الأمة الإسلامية
جمعاء ـ إلى أنّه لا يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة ، ولا يجوز للمؤمن
إلاّ أن يقول : اللّهم شفّع نبيّنا محمّداً فينا يوم القيام ، ولا يجوز أن يقول : يا
رسول اللّه ، اشفع لي يوم القيامة.
واستدلا على ذلك بوجوه ، لابأس بذكرها ، والإجابة عنها على وجه
الاجمال.
الوجه الأوّل : إنّه من أقسام الشرك ، أي الشرك بالعبادة ، والقائل بهذا
الكلام ، يعبد الولي (1).
والجواب : إمّا نقضاً
فبأنّه لو كان طلب الشفاعة في هذه النشأة من الأنبياء والأولياء شركاً ،
لوجب أن لا يكون هناك فرق بين حياتهم ومماتهم ، مع أنّ القرآن يدعو المؤمنين
إلى أن يلجأوا إلى حضرة الرسول في حال حياته ، ويطلبوا منه أن يستغفر لهم ، يقول
سبحانه : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (2). وليس طلب الاستغفار من النبي إلاّ طلباً
للشفاعة ؛ إذ ليس معنى قولنا : يا رسول اللّه إشفع لنا عند اللّه ، إلاّ أدع لنا عند
ربك بالخير والمغفرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - الهدية السنية : ص 42.
(2) - سورة النساء : الآية 64 .
________________________________________
(358)
وإمّا حلاً :
فقد عرفتَ إنّ طلب شيء من أي شخص كان ، إنّما يعد عبادة ، إذا اعتقد
أنّه إله أو ربّ ، أو أنّه مَفوّض إليه فعل الخالق وتدبيره وشؤونه ، وأمّا طلب من
الشخص بما أنّه عبد صالح محبوب عند اللّه ، فلا يعدّ عبادة للمدعو سواء أكان
نافعاً أولا ، و قد أوضحنا معنى العبادة عند البحث عن التوحيد في العبادة (1).
الوجه الثاني :
إنّ طلب الشفاعة من النبي يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من
آلهتهم الكاذبة ، وقد حكى القرآن ذاك العمل منهم ، وقال :
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا
عِنْدَ اللَّهِ } (2).
وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه ، عبادة لهذا الغير (3).
والجواب :
إنّ المعيار في القضاء ليس هو التشابه الصوري ، بل المعيار هو البواطن
والعزائم ، ولو صحّ ما ذكره لوجب أنْ يكون السعي بين الصفا والمروة ، والطواف
حول البيت ، شركاً ، لقيام المشركين به في الجاهلية ، و قد عرفتَ أنّهم كانوا
يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد أنّها آلهة ، أو أشياء فوّض إليها أفعال اللّه سبحانه
من المغفرة والشفاعة.
وأين هذا من طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء بما أنّهم عباد اللّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - لاحظ الجزء الأوّل من الكتاب : ص 429-447 .
(2) - سورة يونس : الآية 18 .
(3) - كشف الشبهات : لمحمّد بن عبد الوهاب ، ص 6 .
________________________________________
(359)
الصالحون . فعَطْفُ هذا على ذلك ، جَوْر في القضاء ، وعناد في الاستدلال .
وأمّا الاستدلال بالآية الثانية ، فهو ضعيف من وجهين:
الأوّل: إنّ الآية على خلاف ما يدّعيه أدلّ ؛ لأنّ عطف : { وَيَقُولُونَ } ،
على قوله: { وَيَعْبُدُونَ } ، دليل على أنّ العمل الثاني ليس عبادة ، أخذاً بحكم
العطف الدال على المغايرة . وبعبارة أخرى : إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين ،
العبادة أوّلاً ، وقولهم هم شفعاؤنا ، وطلب الشفاعة منهم ثانياً ، وعلة اتّصافهم
بالشرك هو الأوّل لا الثاني .
الثاني : لو فرضنا أنّ الجملة الثانية ، جملة تفسيرية للأُولى ، فنقول : إنّ
توصيف طلب الشفاعة من الأوثان بالعبادة لا يستلزم توصيف طلب الشفاعة من
الأولياء بها أيضاً ، لما عرفتَ من الاختلاف في العقيدة ، وأنّ الشافعين كانوا عند
عَبَدَةِ الأصنام آلهة ، وعند المؤمنين عباداً صالحين ، وأين هذا من ذلك؟!
الوجه الثالث :
إنّ طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام ، فإنّ ذلك دعاء لغير اللّه ، وهو
حرام
قال سبحانه: { لاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1).
ويدل على أنّ الدعاء في الآية عبادة، قوله سبحانه : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (2). فقد عبّر
عن العبادة في الآية بلفظ « الدعوة » في صدرها ، وبلفظ العبادة في ذيلها ، وهذا
يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى . وقد ورد عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ:
« الدعاء مخ العبادة » .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة الجن : الآية 18 .
(2) - سورة غافر : الآية 60 .
________________________________________
(360)
والجواب :
إنّ القول بأنّ دعاء الغير في جميع الظروف مساوق للعبادة ، شيء لا أساس
له ، وإلا يلزم أنْ لا يُسَجّل اسم أحد في سجل الموحدين ، فإنّ الناس لا ينفكّون
عن التعاون ، واستعانة بعضهم ببعض ، ودعوة الواحد منهم الآخر ، وعلى ذلك
فيجب أن يقال إنّ قسماً- فحسب - من الدعاء مساوق للعبادة ، وهو دعاء
الشخص بما أنّه إله ، وبما أنّه رب ، أو بما أنّه مفوّض إليه أفعاله سبحانه ، فدعاؤه
بهذه الخصوصيات مساوق لعبادته.
والآية ناظرة إلى هذ القسم من الدعاء بقرينة قوله : { مَعَ اللَّهِ} ، معرباً عن
أنّ الداعي يرى المدعو مشاركاً للّه سبحانه في مقام أو مقامات ، ومن المعلوم أنّ
الدعاء بهذه الخصوصية شرك بلا إشكال ، والمشركون في الجاهلية ، كانوا يسوون
بين الأوثان وربّ العالمين ، ويدل عليه قوله سبحانه - حاكياً قولهم يوم القيامة ـ :
{ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (1).
فأي كلمة أظهر من التعبير عن عقيدة المشركين في حق الأوثان بأنّها كانت
عندهم وربّ العالمين ، سواسية .
فقياس دعوة الصالحين من الأنبياء والأولياء ، بدعوة الأصنام والأوثان ،
قياس مع الفارق البالغ ، لا يعتمد عليه إلا من سبق له الرأي في هذا المجال ،
ويريد التمسك بالطحلب والحشيش .
الوجه الرابع :
إنّ الشفاعة حق مختص باللّه لا يملكه غيره ، وعلى ذلك فطلبها من غير
مالكها أمر غير صحيح ، قال سبحانه : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ
أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا...} (2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة الشعراء : الآيتان 97 ـ 98 .
(2) - سورة الزمر : الآيتان 43 ـ 44 .
________________________________________
(361)
والجواب : إنّ المراد من قوله سبحانه : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } ، ليس
أنّه هو الشفيع دون غيره ؛ إذ من الواضح أنّه سبحانه لا يشفع لأحد عند الغير ،
بل المراد أنّه المالك لمقام الشفاعة دون غيره ، فليس في الوجود من يملك المغفرة
والشفاعة وغيرهما ممّا هو من شؤونه سبحانه ، غيره.
ولكن هذا لا ينافي أنْ يملكها الغير بتمليك منه سبحانه ، وفي طول ملكه ،
كما هو صريح قوله سبحانه: { وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) ، فإنّ الاستثناء في قوله : { إِلاَّ } يرجع إلى
قوله : { لاَ يَمْلِكُ } . فتكون النتيجة أنّه يملك من شهد بالحق ، الشفاعة ، لكن
بتمليك منه سبحانه : فهو المالك بالأصالة ، وغيره مالك بالتمليك والعَرَض .
وليس هذا مختصاً بالشفاعة المصطلحة بل الشفاعة التكوينية أيضاً كذلك ؛
لأنّ الأثر الطبيعي لجميع الأسباب التكوينية ، يرجع إليها لكن بتسبيب منه
سبحانه ، فلولا أنّه جعل النار حارة ، والشمس مضيئة ، والقمر نوراً ، لا تجد
فيها تلك الآثار.
الوجه الخامس :
أنّ طلب الشفاعة من الميت أمر باطلٌ .
والجواب : إنّ هذا آخر سهم في كنانة القائلين بحرمة طلب الشفاعة من
أولياء اللّه الصالحين ، والإشكال ناجم من عدم التعرف على مقام الأولياء في كتاب
اللّه الحكيم . وقد عرفتَ أنّ القرآن يصرّح بحياة جموع كثيرة من الشهداء
وغيرهم ، كما عرفتَ أنّه يصرح بكون النبي شهيداً على الأمة في قوله سبحانه:
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} (2). فهل
تعقل الشهادة بدون الحياة ، والاطّلاع على ما يجري بينهم من الأُمور ، من كفر
وإيمان ، وطاعة وعصيان؟. فلو كان النبي ميّتاً كسائر الأموات ، فما معنى التسليم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة الزخرف : الآية 86 .
(2) - سورة النساء : الآية 41 .
________________________________________
(362)
عليه في كل صباح و مساء ، وفي تشهد كل صلاة : « السلام عليكَ أيها النبي
ورحمة اللّه و بركاته » ؟ ، وما معنى خطابه بـ« عليك » ؟. وحمل ذلك على الشعار الخالي
والتحية الجوفاء ، تأويل بلا دليل.
وأمّا قوله سبحانه في حقّ الموتى : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ
الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (1). فهو لا يدلّ إلا على أنّ الأموات المدفونين في القبور ،
لا يسمعوه ولا يفهموه ، وأنّهم كالجماد ، ولذلك شبّه المشركين بهم في عدم
التعقل ، وهو أمر غير منازع فيه ؛ فأنّ الأبدان بعد الموت ، جمادات محضة ، من
غير فرق بين جسد النبي وغيره.
غير أنّ المؤمنين لا يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين وأبدانهم ، بل
يطلبونها من أرواحهم المقدسة الحية عند اللّه سبحانه ، بأبدان برزخية.
فالزائر القائل : « يا محمّد إشفع لي عند اللّه » ، لا يشير إلى جسده ، بل إلى
روحه الزكية ، غير أنّ الوقوف عند قبره الشريف يدفع له استعداداً لأن يتصل
بروحه ويخاطبها.
إلى هنا تمّ عرض الإشكالات الضئيلة التي استدل بها على تحريم طلب
الشفاعة من الأولياء ، والإجابة عليها بما لا يدع مجالاً بعدها للشك في الجواز.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة النمل : الآية 80 .
التعلیقات