حياة الإِنسان و القيم الأَخلاقية
المعرفة
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج1 ، ص 3 ـ 6
(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
نصدر بحوثنا الكلامية بجملة من المقدمات المفيدة التي لا غنى
عنها ، للتعرف على واقع الدين و مفهومه ، و جذوره في الفطرة الإِنسانية ،
و دوره في حياة الإِنسان، و المعرفة المعتبرة في الإِسلام.
1ـ حياة الإِنسان و القيم الأَخلاقية
لا نتصور إنساناً يملك من العقل شيئاً ، يخالف التقدم الصناعي
و يعارضه ، بل يقوده إلى دعم « التكنولوجيا » التي تؤتيه الراحة و الرفاه.
غير أَنَّ المشكلة في هذه الآونة من حياة البشر تنبع من موقع آخر، و هو
استغلال الغرب هذه « التكنولوجيا » لصالح الإنتاج و التوزيع ، و جعله
الأَخلاق و المشاعر الإِنسانية ضحيَّة لهذه الغاية.
نداء يطرق الأَسماع من بعيد:
و في هذه الظروف الحَرِجة بالنسبة للإِنسان المثالي ، ظهر أُناس ذوو
________________________________________
(4)
ضمائر حية ، و قلوب مستنيرة يَشْكون هذه الحالة المحيطة بالإِنسان ، و يطردون
الحياة الآلية المصطنعة . و قد أَحسّوا أَنَّ الإِنسان قد وصل إلى الدَّرَك الأَسفل
من القيم الأَخلاقية ، و أَنَّ الحياة الآلية ( جَعْل الطاقات الإِنسانية و القيم
ضحية الإِنتاج و التوزيع) لا توصله إلى السعادة على الإِطلاق ، بل تقوده إلى
تحصيل المال و الثروة بسرعة ، و في الوقت نفسه إلى تحطيم القيم و المثل
وضياعها . و من هذا المنطلق حاول هؤلاء إضفاء طابع روحي على حياة
الإنسان حتى تتوزان الحياة المادية مع الحياة المعنوية.
و نحن إِذْ نبارك لهؤلاء العلماء خطوتهم نذكّرهم أَنَّ القرآن الكريم قد
وصف الحياة المادَّية الخالية من المعنويات و القيم بأَنّها طيف يدور بين اللَّعب
و اللَّهو و الزينة و التفاخر ، و ينتهي بالتكاثر في الأَموال و الأَولاد:
قال سبحانه: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(1).
ترى أَنّه سبحانه يقسم الحياة المادية إلى أَقسام خمسة ، و كأنها تدور من
بدايتها إلى نهايتها بين هذه المدارج ، و هي :
1ـ اللعب.
2ـ اللهو.
3ـ التزين و التجمل.
4ـ التفاخر.
5ـ التكاثر في الأَموال و الأَولاد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحديد: الآية 20.
________________________________________
(5)
و يعتقد العلماء أَنَّ كل قسم من هذه الأقسام يشغل مقداراً من عمر
الإِنسان ، ثمّ يندفع إلى القسم الآخر حسب تكامل سنه و اشتداد قواه ، و لعل
كل واحد منها يأخذ من عمر الإنسان ثمان سنوات ، ثمّ الخامس يستمر معه
إلى خاتمة حياته ، و لا يفارقه حتى يموت.
ثمّ إِنَّ الآية المباركة تشبّه هذه الحياة الفارغة من القيم ، بنبات مخضرّ
لا دوام لا خضراره و لطافته ، فسرعان ما يتحول النبات الأَخضر إِلى الأَصفر
الذي ينفر منه الإنسان.
فمثل الإنسان الغارق في مستنقع المادة كمثل هذا النبات حيث يبتدئ
حياته بالإِخضرار و اللطافة ، و يستقر في نهاية المطاف جيفة في بطن
الأَرض ، إِلاّ من قرن حياته المادَّية بالحياة المعنوية غير المنقطعة بموته ،
و زهوق روحه.
و إِنَّ القرآن الكريم أَيضاً يصوّر الحياة المادية بشكل آخر و يقول:
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1).
فالحياة المادية في ريعانها تتجلى بصورة شيء واقعي له من الزهو
و الجمال ما يغري به كالسراب الذي يخدع العطشان ، فإذا انتهى إلى نهاية
المطاف من عمره ، يقف على أَنّها لم تكن شيئاً واقعياً يسكن إليه.
إِنَّ الحياة الإِنسانية إنَّما تأخذ المنحى السليم إذا تفاعلت مع الجانب
الروحي ، ليكون للدين والقيم والأخلاق مكانة مرموقة في حياته ، كما أنَّ
لحاجاته الماديه ذاك المقام المنشود ، و إنَّما تتجلى هذه الحقيقة ، أي لزوم
التوجه إلى الدين ، إذا وقفنا على أمرين:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النور: الآية 39.
________________________________________
(6)
1ـ ما هو الدّين؟ وما واقعه؟
2ـ ما هو دوره في حياة الإنسان؟
التعلیقات