عدالة الصحابة في الكتاب والسنّة
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 15 سنةعدالة الصحابة في الكتاب والسنّة
المشهور بين أهل السنّة عدالة الصحابة جميعاً ، قال ابن عبد البرّ : « تثبت عدالة جميعهم » (1).
وقال ابن الأثير : « والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلّا في الجرح والتعديل ، فإنّهم كلّهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح » (2).
وقال الحافظ ابن حجر : « اتّفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلّا شذوذ من المبتدعة » (3).
هذه بعض كلمات القوم ، وقد زعموا أنّ من يتتبّع أحوال الصحابة لجرحهم ، أو تعديلهم ، فإنّما يريدوا أن يجرحوا شهود المسلمين ليُبطلوا الكتاب والسنّة.
غير أنّ الشيعة الإماميّة ، عن بكرة أبيهم ، على أنّ الصحابة كسائر الرواة ، فيهم العدول وغير العدول ، وأنّ كون الرجل صحابيّاً لا يكفي في الحكم بالعدالة ، بل يجب تتبع أحواله حتّى يوقف على وثاقته.
والدليل الوحيد للقوم هو ما رووه عن النبي الأكرم أنّه قال : « مَثَلُ أصحابي كالنجوم بأيّهم اهتديتم اقتديتم » (4).
ولكن الإستدلال بالحديث باطل من وجوه :
1 ـ إنّ نصوص الكتاب تردّ صحّة الإهتداء بكلّ صحابي أدرك النبي ، فإنّه يقسمهم إلى طائفتين ، طائفة صالحة عادلة ، مرفوعة المقام والمكانة ، وهؤلاء وصفوا بالسابقين الأوّلين ، المبايعين تحت الشجرة ، وغير ذلك (5).
وطائفة غير صالحة ولا عادلة ، بل جامحة على النبي والمسلمين ، وهم بين منافق عرف المسلمون نفاقه (6) ; ومن أخفى نفاقه وتمرّن عليه إلى حدّ لا يعرفه المسلمون حتّى النبي الأكرم (7) ; ومُشرف على الإرتداد يوم دارت على المسلمين الدوائر ، واشتدّت الحرب بينهم وبين قريش (8) ; وفاسق يكذب في إخباره على النبي ، يعرّفه الكتاب بأنّه فاسق لا يقبل قوله (9) ; ومريض القلب قد فقد الثقة بالله ورسوله فهو يؤيّد المنافقين من غير شعور (10) ; وسَمّاع للمنافقين يقبل كلّ ما سمع منهم (11) ; ومُوَلٍّ في ميدان الحرب أمام الكفّار ، لا يصغي لنداء النبي ولا يهمّه إلّا نفسه (12) ; ومسلم بلسانه دون قلبه فخوطب بأنّ الإيمان لم يدخل في قلبه (13) ; وجماعة أُلّفت قلوبهم بإعطاء الزكاة حتّى يتّقى شرّهم (14) ; وخالط عملاً صالحاً بعمل سيَّء (15).
فهذه طوائف عشر من الصحابة الذين يمجدهم أهل السنّة بوصف العدالة ، وأنّ في الاقتداء بكلّ واحد منهم ، الهداية إلى الصراط المستقيم. ولا أظنّ أنّ مَنْ سبر هذه الآيات وأمعن فيها يجرؤ على ذلك الإدّعاء ، بل سوف يرجع ويقول إنّ كثيراً ممن تشرّفوا بصحبة النبي ، ما عرفوا قَدْرها ، وكفروا بنعمة الله تبارك وتعالى ، فبدلاً من أنْ يستثمروا هذه النعمة ، فيكونوا في الجبهة والسنام من العدالة ، خسروا أنفسهم وخسر من تبعهم.
إنّ التشرف بصحبة النبي لم يكن بأشدّ ولا أقوى من صحبة إمرأة نوح وامرأة لوط لزوجيهما ، فما أغنتاهما عن الله شيئاً ، قال سبحانه : ( ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (16).
وإن التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بالزواج من النبي وقد قال سبحانه في أزواج النبي : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرًا ) (17). وليس الخطاب من قبيل إياكَ أعني واسمعي باجارة ، بل الخطاب خاصّ بهنّ بشهادة قوله : ( يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) ، فإن غيرهن لا يضاعف لهنّ العذاب.
إنّ تأثير الصحبة لم يكن تأثيراً كيميائيّاً ، كتأثير بعض المواد في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب ، بل كان تأثيرها تأثيراً شبيهاً بتأثير المعلّم في التلميذ ، والمرشد في المسترشد ، ومن المعلوم أنّ مثل هذا يؤثّر في جمع من الأُمّة لا في كلّهم. فمن البعيد جدّاً أن يكون للصحبة ثورة عارمة في قَلْب شخصيّات الصحابة الّتي نشأت وترعرعت في العصر الجاهلي ، وتربّت على السنن السيّئة ، إلى شخصيّات تُعَدّ مُثُلاً للفضل والفضيلة ، من دون أن يشذّ منهم شاذّ ، فتصبح الألوف المؤلّفة الّتي تربو على مائة ألف مع اختلافهم في الأعمار والقابليّات ، رجالاً عدولاً يستدر بهم الغمام ويؤتمر بهم في العقائد والشرايع ، وغير ذلك من مجالات الإقتداء.
2 ـ إنّ السنّة المتضافرة عن النبي الأكرم ، على إرتداد الصحابة بعده ، تردّ كون كلّ واحد منهم نجماً لامعاً يقتدى به. ومؤلّفو الصحاح ، وإن أفردوا أبواباً في فضائل الصحابة ، إلّا أنّهم لم يفردوا باباً بل ولا عنواناً في مثالبهم ، وإنّما لجأوا إلى إقحام ما ورد من النبي في هذا المجال ، في أبواب أُخر ستراً لمثالبهم ، ذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحيحه في باب الفتن ، وأدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض. كلّ ذلك ستراً لأفعالهم وأوصافهم غير المرضية.
ولكن الصبح لا يخفى على ذي عيني ، ففيما أوردوا من الأحاديث في هاتيك الأبواب شاهدٌ على أنّ صحابة النبي لم يكونوا مرضيين بل أنّ كثيراً منهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.
روى البخاري ومسلم أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « يَرِدُ عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ـ أو قال : من أُمّتي ـ فيحلئون عن الحوض ، فأقول : يا ربّ ، أصحابي. فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، أنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ».
وفي بعض النصوص أنّ الناجي منهم ليس إلا همل النعم ، وهو كناية عن العدد القليل.
هذا قليل من كثير ، ذكرناه ، وكفى في تنديد النبي بهم قوله : « سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي » (18).
3 ـ إنّ التاريخ المتواتر يشهد على ظهور الفسق من الصحابة في حياة النبي وبعده ، وهذا الوليد بن عقبة نزل في حقّه قوله سبحانه : ( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (19) ويشهد التاريخ على أنّه شرب الخمر ، وقام ليصلّي بالناس صلاة الفجر ، فصل أربع ركعات ، وكان يقول في ركوعه وسجوده : إشربي واسقيني. ثمّ قاء في المحراب ، ثم سلّم ، وقال : هل أزيدكم إلى آخر ما ذكروه.
وهذا البخاري يروي مشاجرة سعد بن معاد ، سيّد الأوس وسعد بن عبادة سيّد الخزرج ، في قضيّة الإفك ، فقد قال سعد بن عبادة لابن عمّه : كذبت لعمرو الله. وأجابه ابن العمّ بقوله : كذبت لعمرو الله ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين (21).
أوَ لا تعجّب أنّ هؤلاء يصف بعضهم بعضاً بالكذب والنفاق ، ونحن نقول إنّهم عدول صلحاء. والإنسان على نفسه بصيرة.
إنّ الحروب الدائرة بين الصحابة أنفسهم لأقوى دليل على أنّهم ليسوا جميعاً على الحقّ ، فقد ثاروا على عثمان بن عفّان وأجهزوا عليه. فكيف يمكن أن يكون القاتل والمقتول كلاهما على الحقّ والعدالة.
وهذا هو طلحة وذاك الزبير ، جهّزا جيشاً جراراً لمحاربة الإمام ، وأعانتهما عائشة ، الّتي أُمرت مع سائر نساء النبي بالقرار في بيوتهن وعدم الظهور والبروز.
وهذا خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، الباغي على الإمام المفترض الطاعة بالنصّ أوّلاً ، وبَيْعة المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثانياً ، فاهدر دماءً كثيرة لا يحصيها إلّا الله سبحانه.
ومن العذر التافه تبرير أعمالهم الإجراميّة بأنّهم كانوا مجتهدين في أعمالهم وأفعالهم ، مع أنّه لا قيمة للإجتهاد أمام النصّ وإجماع الأُمّة ، ولو كان لهذا الإجتهاد قيمة ، لما وجدت على أديم الأرض مجرماً غير معذور ، ولا جانياً غير مجتهد ; ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ) (22).
هذا قُدامه بن مظعون ، صحابي بدري شرب الخمر ، وأقام عليه عمر الحدّ (23).
وهؤلاء الصحابة الذين خضبوا وجه الأرض بالدماء ، فاقرأ تاريخ بسر بن أرطأة ، فإنّه قتل مئات من المسلمين ، وما نقم منهم إلّا أنّهم كانوا يحبّون علي بن أبي طالب ، ولم يكتف بذلك حتّى قتل طفلين لعبيد الله بن عباس (24).
4 ـ أنّ تشبيه الصحابة بالنجوم ، وأنّ الإقتداء بكلّ واحد منهم سبب للإهتداء ، يعرب عن أنّ القائل يعتمد في ذلك على الذكر الحكيم ، فإنّه سبحانه قال ( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (25). ولكن شتان ما بين المشبه والمشبه به ، إذ ليس كلّ نجم هادياً للضالّ ، وإلّا لقال تعالى : « وبِالنجومِ هُمْ يَهْتَدُونَ ». فأيّ معنى ـ عندئذٍ ـ لهذا التشبيه.
5 ـ إنّ هذا الحديث موضوع على لسان النبي الأكرم ، وصرحّ بذلك جماعة من أعلام أهل السُّنة.
قال أبو حيان الأندلسي ـ في معرض ردّه على الزمخشري الّذي أورد هذا الحديث ـ وقوله : « وقد رضي رسول الله لأُمّته اتّباع أصحابه والإقتداء بآثارهم في قوله : أصحابي كالنجوم الخ » ، لم يقل ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وهو حديث موضوع لا يصحّ بوجه عن رسول الله ».
ثمّ نقل قول الحافظ ابن حزم في رسالته في إبطال الرأي والقياس والإستحسان والتعليل والتقليد ، ما نصّه : « وهذا خبر مكذوب باطل لم يصحّ قطّ ».
ثمّ نقل عن البزاز صاحب المسند قوله : وهذا كلام لم يصحّ عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وشرع بالطعن في سنده (26).
ورد ابن قيم هذا الحديث وضعف أسانيده وقال ردّاً على من استدلّ في صحّة التقليد ، بهذا الحديث : كيف استجزتم ترك تقليد النجوم الّتي يُهتدى بها وقلّدتم مَنْ هم دونهم بمراتب كثيرة ، فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي » (27) ؟
وقال الذهبي في جعفر بن عبد الواحد ، ومن بلاياه ، عن وهب بن جرير ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيء منه اهتدى » (28).
كلمة الإمام زين العابدين في الصحابة
إنّ الشيعة ، تبعاً للدلائل المتقدّمة ، واقتداءً بأئمّتهم ، يقدّسون الصحابة الذين عملوا بكتاب الله سبحانه وسنّة نبيّه ، ولم يتجاوزوهما ، كما أنّهم يتبّرأون ممّن خالف كتاب الله وسنّة رسوله ، وفي هذا المقام كلمة مباركة للإمام زين العابدين قال في دعاء له :
« أللّهم وأصحاب محمّد خاصّة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته ، وانتصروا به ، ومن كانوا منطوين على محبّته ، يرجون تجارة لن تبور في مودّته ، والذين هجرتهم العشائر ، إذا تعلّقوا بعروته ، وانتفت منهم القربات ، إذا سكنوا في ظلّ قرابته ، فلا تنس اللهم ما تركوا لك وفيك ، وأرضهم من رضوانك ، وبما حاشوا الخلق عليك ، وكانوا مع رسولك ، دعاة لك إليك. واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم ، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم. اللّهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا » (29).
تحليل الإستدلال بآيتين على عدالة الصحابة
وربّما يستدل على عدالة الصحابة بآيتين :
الأُولى : قوله سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (30) فإنّ ظاهره أنّه سبحانه رضى عنهم ، والرضا آية كونهم مطيعين غير خارجين عن الطاعة ، وليس للعدالة معنى إلّا ذلك.
ويلاحظ عليه : أوّلاً : إنّ الآية نزلت في حق مَنْ بايَعَ النبي تحت الشجرة في غزوة الحديبيّة ، لا في حقّ جميع الصحابة ، وقد كانوا في ذاك اليوم ألفاً وأربعمائة.
أخرج مسلم وابن جرير وابن مردوية عن جابر ـ رضي الله عنه ـ ، قال : « كنّا يوم الحديبيّة ، ألفاً وأربعمائة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة ، وهي سمرة ، وقال بايعناه على أنْ لا نفر ولم نبايعه على الموت » (31). فأقصى ما يثبته الحديث هو رضاه سبحانه عن العدد المحدود. وأين هو من رضاه سبحانه عن الآلاف المؤلّفة من الصحابة.
وثانياً : إنّ ظرف الرضا مذكور في الآية ، وهو وقت البيعة حيث يقول : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، ومن المعلوم أنّ الرضا في ظرف خاصّ لا يدلِّ على الرضا بعده إلّا إذا ثبت أنّهم بقوا على الحالات الّتي كانوا عليها ، وهو غير ثابت. وإثباته بالإستصحاب ، أوهن من بيت العنكبوت.
وليس هذا مختصّاً بهؤلاء ، فإن الإيمان والأعمال الصالحة ، إنّما تفيد إذا لم يرتكب الإنسان ما يبطل أثرهما ، سواء أقلنا بالإحباط أو لا.
وثالثاً : إنّه سبحانه يقول في نفس السورة : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) (32).
وهذا يعرب عن أنّ بعض المبايعين كانوا على مظنة النكث بما عاهدوا وبايعوا عليه ، وأنّ البعض الآخر كانوا على مظنة الوفاء به وإلّا فلو كان الوفاء معلوماً منهم ، فما معنى هذا الترديد. وليست الآية خطاباً قانونيّاً حتّى يقال إنّها من قبيل إيّاك أعني واسْمعي يا جارة ، بل قضيّة خارجيّة مختصّة بأُناس معيّنين.
ورابعاً : إنّ السُّنّة تدلّ على أنّ نزول السكينة كان مختصّاً بمن علم منه الوفاء ، وبالتالي يكون الرضا أيضاً مخصوصاً بهم. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) ، قال : إنّما أُنْزلت السكينة على من علم منه الوفاء » (33).
وخامساً : إنّ الرضا تعلّق بالمؤمنين. ومن المعلوم أنّه بايع النبي في غزوة الحديبيِّة جماعة من المنافقين أيضاً ، بلا خلاف. وبما أنّهم كانوا مختلطين غير متميّزين فلا يحكم على كلّ واحد بالرضا والعدالة ، إلّا إذا ثبت أنّه مؤمن غير منافق.
وكيف يمكن أنْ يكون للآية عموم أفرادي وأزماني يعمّ جميع المبايعين إلى آخر أعمارهم ، مع أنّ طلحة والزبير ممّن بايعا بيعة الرضوان ، وقد وقع منهما من قتال عليٍّ ما خرجا به عن الإيمان وفسقاً عند جمع من المسلمين ، كالمعتزلة ومن جرى مجراهم ، ولم يمنع وقوع الرضا في تلك الحال من وقوع المعصية فيما بعد ، فماذا الّذي يمنع من مثل ذلك في غيرهم (34).
الآية الثانية : قوله سبحانه : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (35).
والاستدلال مركّز على قوله : ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) ، وهم موصوفون بأوصاف سبعة : 1 ـ أشدّاء على الكفّار ، 2 ـ رحماء بينهم ، 3 ـ تراهم ركعاً ، 4 ـ سجداً ، 5 ـ يبتغون فضلاً من الله ، 6 ـ ورضواناً ، 7 ـ سيماهم في وجوههم من أثر السجود.
وكأنّ المستدلّ يستظهر من الآية أنّها بصدد بيان أنّ كلّ من كان مع النبي كان على هذه الصفات السبع الّتي لا تنفكّ عن العدالة ، وأنّ مضمونها قضيّة خارجيّة راجعة إلى الجماعة الّتي كان الزمان والمكان يجمعانهم والنبي الأكرم.
يلاحظ عليه : أوّلاً : إنّ الآية على خلاف المقصود أدلّ ، فإنّها ، وإن كانت قضيّة خبريّة بظاهرها ، ولكنّها بمعنى الإنشاء ، فهي بصدد أمر من كان معه على أن يكونوا بهذه الصفات ، وهذا نحو قولك : « ولدي يصلّي » ، فهو بمعنى : « صلّ يا ولد » فالآية تُزَيّف منطق من يدّعون أنّ الصحابة مصونون عن كلّ قبيح ، فهم لصحبتهم الرسول ، نبراس منير ، لأنّ الآية تحمل صورة رائعة عن سيرة الذين كانوا مع الرسول وأنّهم يجب أن يكونوا على هذه الصفات السبع ، فيكونون في سلبيّتهم ( أشدّاء على الكفّار ) مثل سلبيّته ، وإيجابيّتهم بين أنفسهم ( رحماء بينهم ) كإيجابيّته ، وهكذا سائر صفاتهم من الركوع والسجود وابتغاء الفضل والرضوان. والآية وإن كانت نازلة في حقّ جماعة خاصّة كانوا مع الرسول ، ولكنّها ليست قضيّة خبريّة ، بل تحمل قضيّة إنشائيّة ، وطلباً وإيجاباً منهم لأن يكونوا على هذه الصفات السبع.
ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه يخصّص وعد المغفرة وإعطاء الأجر العظيم. بعدّة منهم ، ويقول في آخر الآية : ( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ). وهذا التبعيض والتخصيص إيعاز إلى أنّ هذه الصفات السبع ، ربّما تتحقّق في صورها وظواهرها دون حقيقتها وواقعيّتها الّتي هي الإيمان بالله والعمل الصالح.
وثانياً : إنّه يمكن أنْ يراد من قوله : ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) ، غير المعية الزمانيّة والمكانيّة ، حتّى يقال بأنّها مختصّة بصحابته المعاصرين ، منحسرة عمّن بعده من التابعين ، وأتباعهم إلى يوم الدين ، وإنّما يراد الذين معه في رسالته الإلهيّة تصديقاً وإيماناً وتطبيقاً ، ومعه في حملها كما حملها ، ومعه في جهاده وصبره كما جاهد وصبر.
وعند ذلك تعمّ الآية الأُمّة الإسلاميّة جميعاً ، إلى يوم الدين ، وتكون أجنبيّة عن مسألة عدالة الصحابة ، وتعرب عن أنّ من كان مع الرسول يجب أنْ يكون بهذه الصفات والسمات ، ومع الإيمان والعمل الصالح.
وثالثاً : إنّ الإستدلال لا يكتمل إلّا بجمع الآيات الواردة في شأن الصحابة حتّى يستظهر من الجميع ما هو مقصوده سبحانه وقد عرفت أنّ آيات كثيرة تندد بأقسام عشرة من صحابة النبي والذين كانوا معه ، وأنّهم كانوا بين معلوم النفاق ومخفيّه ، ومشرفين على شفير هاوية الإرتداد ، إلى غير ذلك من الأقسام ، ومع ذلك كيف يمكن الإستدلال بآية وتناسي الآيات الأخر. كلّ ذلك يعرب عن أنّ المفسّر لا يصحّ له اتّخاذ موقف حاسم في موضوع واحد إلّا بملاحظة جميع الآيات الّتي لها صلة به.
الهوامش
1. الإستيعاب ، ج 1 ، ص 2 ، في هامش الإصابة.
2. أسد الغابة ، ج 1، ص 3.
3. الإصابة ، ج 1 ، ص 17.
4. المصدر السابق.
5. جامع الأصول ، ج 9 ، كتاب الفضائل ، ص 410 ، الحديث 6359.
6. لاحظ سورة المنافقون.
7. لاحظ سورة التوبة : الآية 102 ، وسورة الفتح : الآية 16 والآية 29.
8. سورة التوبة : الآيتان 45 ـ 46.
9. سورة الحجرات : الآية 6.
10. سورة الأحزاب : الآية 12.
11. سورة التوبة : الآية 47.
12. سورة آل عمران : الآية 154.
13. سورة الحجرات : الآية 14.
14. سورة التوبة : الآية 60.
15. سورة التوبة : الآية 102.
16. سورة التحريم : الآية 10.
17. سورة الأحزاب : الآية 30.
18. لاحظ في الوقوف على هذه الأحاديث ، جامع الأُصول ، لابن الأثير ، ج 11 ، كتاب الحوض ، في ورود الناس عليه ، ص 120 ـ 121.
19. سورة الحجرات : الآية 6.
20. الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 42 ، وأسد الغابة ، ج 5 ، ص 190.
21. صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 118 في تفسير سورة النور.
22. سورة الكهف : الآية 5.
23. أسد الغابة ، ج 4 ، ص 199.
24. الغارات ، للثقفي ، ج 2 ، ص 591 ـ 628 ، تاريخ اليعقوبي ، ج 1 ، ص 186 ـ 189 ، الكامل ، ج 3 ، ص 192 ـ 193.
25. سورة النحل : الآية 16.
26. لاحظ جميع ذلك في تفسير البحر المحيط ، ج 5 ، ص 528.
27. لاحظ أعلام الموقعين ، ج 2 ، ص 223.
28. ميزان الاعتدال ، للذهبي ج 1 ، ص 413.
29. الصحيفة السجادية الدعاء الرابع مع شرح « في ظلال الصحيفة السجاديّة » ، ص 55 ـ 56.
30. سورة الفتح : الآية 18.
31. الدر المنثور ، ج 6 ، ص 74.
32. سورة الفتح : الآية 10.
33. الدر المنثور ، ج 6 ، ص 73.
34. لاحظ التبيان ، ج 9. ص 329.
35. سورة الفتح : الآية 29.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / الجزء : 4 / الصفحة : 438 ـ 448
التعلیقات