التقيّة في الكتاب والسّنة
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةالتقيّة في الكتاب والسّنة
إنّ ممّا يشنع به على الشيعة ويُزدرى به عليهم ، قولهم بالتقيّة وعملهم بها في أحايين وظروف خاصّة. ولكن المشنعين لم يقفوا على مغزاها. ولو تثبّتوا في الأمر ، وتريثوا في الحكم ، ورجعوا إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، وسألوا أهل الذكر ، لوقفوا على أنّها ممّا تحكم به ضرورة العقل ونصّ الكتاب والسنّة.
إنّ ها هنا أمرين مختلفين ربما يخلط الجاهل أحدهما بالآخر ، وهما :
1 ـ النِّفاق.
2 ـ التقيّة.
وقد ضربوهما بسهم واحد ، وأعطوهما حكماً واحداً فقالوا إنّ التقيّة فرع من النفاق تجلّى في الشيعة باسم التقية. ولو رجعوا إلى الكتاب العزيز لعرفوا أنّه بينما يندد بالنفاق والمنافقين ويقول : ( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ) (1) ، ويقول : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) (2) ، يحرّض على التقيّة في ظروف خاصّة ويقول : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّـهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّـهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّـهِ الْمَصِيرُ ) (3).
فقوله : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا ) ، استثناء من أهمّ الأحوال ، أيّ إنّ ترك موالات الكافرين حتم على المؤمنين في كلّ حال ، إلّا في حال الخوف من شيء يتّقونه منهم ، فللمؤمنين حينئذ أنْ يوالوهم بقدر ما يُتّقى به ذلك الشيء ، لأنّ درء المفاسد مُقَدّم على جلب المصالح.
والاستثناء منقطع ، فإنّ التقرب من الغير خوفاً بإظهار آثار التولّي ظاهراً ، من غير عقد القلب على الحبّ والولاية ، ليس من التولّي في شيء. لأنّ الخوف والحُبّ أمران قلبيّان ، ومتنافيان أثراً في القلب ، فكيف يمكن اجتماعهما. فاستثناء الإتقاء استثناء منقطع.
فلو كانت التقيّة من فروع النفاق ، فلماذا دعا إليها الكتاب الحكيم ؟
روى السيوطي في الدرّ المنثور قال : أخرج إبن إسحاق وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ، قال : كان الحَجّاج بن عمرو ، حليف كعب الأشرف ، ابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ، وقد بطنوا بنفر من الأنصار ، ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خيثمة لأُولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء النفر من اليهود ، واحذروا مباطنتهم لا يفتنونكم عن دينكم. فأبى أُولئك النفر ، فأنزل الله فيهم : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ ) إلى قوله ( وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (4).
وقال سبحانه : ( مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (5). فترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كُرْهاً ، ومجاراة الكافرين خوفاً منهم بشرط أنْ يكون القلب مطمئناً بالإيمان. فلو كانت مداراة الكافرين في بعض الظروف نفاقاً ، فلم رخّصه الإسلام وأباحه ، وقد اتّفق المفسّرون على أنّ الآية نزلت في جماعة أُكرهوا على الكفر ، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمُّه سُميّة ، وقتل أبو عمّار وأُمُّه ، وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه. ثمّ أخبر سبحانه بذلك رسول الله ، فقال قومٌ كَفَرَ عمّار ، فقال صلوات الله عليه وآله : « كلاّ ، إنّ عماراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ». وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي ، فقال : « ما ورَاءَكَ » ؟ فقال : « شَرٌ يا رسول الله ، ما تُركْتُ حتّى نِلْتُ مِنْكَ ، وذكرت آلهتهم بخير ». فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول : « إنْ عادوا لك فَعُدْ لَهُمْ بما قُلْتَ » فنزلت الآية (6).
نعم، شذت عن المسلمين جماعة الخوارج فمنعوا التقيّة في الدين مطلقاً ، وإن أُكره المؤمن وخاف القتل ، زاعمين أنّ الدين لا يُقدّم عليه شيء (7).
وما ذكروه اجتهاد في مقابل النصّ ، فإنّ الآية تصرح بأنّ من نطق بكلمة الكفر مُكْرَهاً ، وقايةً لنفسه من الهلاك ، لا شارحاً بالكفر صدراً ولا مستحسناً للحياة الدنيا على الآخرة ، لا يكون كافر بل يُعذّر ، كما عُذّر الصحابي الّذي قال له مسيلمة الكذّاب : أتشهد أنّي رسول الله ، قال : نعم ، فتركه ، وقَتَلَ رفيقه الّذي سأله هذا السؤال ورفضه (8).
كيف ، وربّما يترتّب على التقيّة ومجاراة أعداء الدين ومخالفي الحق ، حفظ مصالح الإسلام والمسلمين. وبذلك يظهر الفرق بين النفاق والتقيّة ، فإن بين الأمرين فرقاً جوهريّاً لا يخلط أحدهما بالآخر.
إنّ التقيّة والنفاق يختلفان من وجهين ، وربّما يكون الفرق أكثر من ذلك ، ولكن نكتفي بهما :
1 ـ اختلافهما من حيث المبادئ النفسية
إنّ المتقي مؤمن بالله سبحانه وكتبه ورسله ، غير أنّه يرى صلاح دينه ودنياه في عدم التظاهر بما آمن به ، والتظاهر بخلافه في بعض الأحايين. ولكن المنافق هو من يُبْطن الكفر ، وعدم الإيمان بالله سبحانه ، وكتبه ، ورسله ، أو ما دونها من المبادئ الدينيّة ، ولكنّه يتظاهر بالإيمان حتّى يتخيّل المؤمنون أنّه منهم.
وهذا مؤمن آل فرعون ، يكتم إيمانه ، تقيّة من قومه ، وربّما يتظاهر بأنّه على دين قومه ، ولكنّه بهذا الغطاء يخدم دينه ونبيّه فيُرشِدُ قومه إلى رصانة دينه ، ببيان بليغ صادر عن رجل محايد ، كما يخدم نبي زمانه بإبلاغه مؤامرة قومه للفتك به ، وتظهر تلك الحقيقة في الآيتين التاليتين :
قال تعالى : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (9).
ويقول أيضاً : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (10).
2 ـ اختلافهما من حيث الغايات والأغراض
إنّ مستعمل التقيّة لا يهدف من استعمالها ، إلّا صيانة نَفْسِهِ عن الأذى والقتل ، وعِرْضِهِ عن الهَتْك ، ومالِهِ عن النّهْب ، أو ما يؤوّل إليها بالنتيجة. فلو كان هناك طمأنينة بالنسبة إلى ما يرجع إليه من هذه الأُمور ، لما استعمل التقيّة ، ولا لجأ إليها. حتّى أنّ التقيّة لأجل التحابب والتوادد ، ترجع غايتها إلى درء الشرّ عن النفس والنفيس.
وأمّا المنافق فإنّما يلجأ إلى النفاق ، لا لتلك الغايات المقدّسة ، وإنّما يريد أنْ يتدخل في شؤون المسلمين ، ويقلب ظهر المجن عليهم في الظروف القاسية أو يشترك معهم في المناصب ، والمقامات والغنائم والأموال وغير ذلك ممّا تلتذ به النفوس الحريصة ، ولأجل ذلك يعدّ سبحانه عبد الله بن أُبَيّ وأنصار حزبه من المنافقين وإنْ تظاهروا بالإيمان. يقول سبحانه : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّـهِ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّـهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (11).
ويقول سبحانه : ( وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (12).
سؤال وجواب
أمّا السؤال ، فهو : إنّ الآيتين راجعتان إلى تقيّة المسلم من الكافر ، ولكن الشيعة تتقي إخوانهم المسلمين ، فكيف يستدلّ بهما على صحّة عملهم ؟
وأمّا الجواب ، فهو : إنّ الآيتين وإن كانتا لا تشملان تقيّة المسلم من أخيه المسلم بالدلالة اللفظيّة ، ولكنّهما تشملان غير موردهما بنفس الملاك الّذي سوَغ تقيّة المسلم من الكافر فإن وجه تشريع التقيّة هو صيانة النفس والعرض والمال من الهلاك والدمار ، فإن كان هذا الملاك موجوداً في غير مورد الآية فيجوز ، أخذاً بوحدة المناط. وقد كان عمل الشيعة على التقيّة منذ تغلّب معاوية على الأُمّة ، وابتزازه الإمرة عليها بغير رضاً منها ، وصار يتلاعب بالشريعة الإسلاميّة حسب أهوائه ، وجعل يتتبّع شيعة علي ويقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، ويأخذ على الظنّة والتهمة. وسارت على طريقته العوجاء الدولة المروانيّة ، ثمّ العباسيّة ، فزادتا الطين بلة ، والطنبور نغمة. هذا وذاك ، اضطرّ الشيعة إلى كتمان أمرها تارة ، والتظاهر به أُخرى ، زنة ما تقتضيه مناصرة الحقّ ، ومكافحة الضلال ، وما يحصل به إتمام الحجّة.
التقية المُحَرّمة
إنّ التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة ، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال ، ربّما تحرم إذا ترتب عليها مفسدة أعظم ، كهدم الدين وخفاء الحقيقة عن الأجيال الآتية ، وتسلّط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم. ولأجل ذلك نرى أنّ كثيراً من عظماء الشيعة وأكابرهم رفضوا التقيّة في بعض الأحايين وتهيّؤا للشَّنق على حبال الجور ، والصلب على أخشاب الظلم. وكلٌّ ممّن استعمل التقيّة ورفضها ، له الحُسنى ، وكلٌّ عمل بوظيفته الّتي عينتها ظروفه.
إنّ التاريخ يحكي لنا عن الكثير من رجالات الشيعة الذين سحقوا التقيّة تحت أقدامهم ، وقدّموا هياكلهم المقدّسة قرابين للحقّ ، منهم شهداء مرج عذراء ، وقائدهم الصحابي العظيم الّذي أنهكته العبادة والورع ، حِجْر بن عدي الكِنْدي ، الّذي كان من قادة الجيوش الإسلاميّة الفاتحة للشام.
ومنهم ميثم التمّار ، ورُشيد الهجري ، وعبد الله بن يقطر ، الذين شنقهم ابن زياد في كناسة الكوفة ، هؤلاء والمئات من أمثالهم هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل الحقّ ، ونطحوا صخرة الباطل ، وما عرفوا أين زرعت التقيّة وأين واديها ، بل وجدوا العمل بها حراماً ، ولو سكتوا وعملوا بالتقيّة ، لضاعت التقيّة من الدين ، وأصبح دين الإسلام دين معاوية ويزيد ، وزياد وابن زياد ، دين المَكْر ، ودين الغدر ، ودين النفاق ، ودين الخداع ، دين كلّ رذيلة ، وأيْنَ هو من دين الإسلام الحقّ ، الّذي هو دين كلّ فضيلة ، أُولئك هم أضاحي الإسلام وقرابين الحق.
وفوق أُولئك ، إمام الشيعة ، أبو الشهداء الحسين وأصحابه الّذين هم سادة الشهداء ، وقادة أهل الإباء.
خزاية التاريخ
كيف لا يتّقي شيعة عليٍّ في أيّام حكومة الأُمويين ، وهذا معاوية كتب إلى عمّاله في جميع الآفاق : « انظروا إلى من أُقيمت عليه البيّنة أنّه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه ». وشفع ذلك بنسخة أُخرى فيها : « من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره ». فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة.
روى أبو الحسن علي بن محمّد المدائني قال : قامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر ، يلعنون عليّاً ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة مَنْ بها مِن شيعة عليّ ، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة ، وضمّ إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيّام علي ـ عليه السلام ـ ، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم » (13).
وهناك رسالة قيّمة لأبي الشهداء ، الحسين بن علي ـ عليه السلام ـ حول الدماء الجارية والنفوس المقتولة بيد ابن أبي سفيان ، بذنب أنّهم شيعة علي ومحبّوه ، رسالة تُعدّ من أوثق المصادر التاريخيّة وممّا جاء فيها :
« أو لَسْت قاتلَ حِجْر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكّدة ، جرأةً على الله واستخفافاً بعهده » ؟
« أَلَسْت قاتلَ عمرو بن الحمق الّذي أخْلَقَت وأبْلَتْ وجهه العبادة ، فقتلته من بعدما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من سقف الجبال » ؟
« أولست قاتل الحضرمي (14) الّذي كتب إليك فيه زياد : إنّه على دين عليّ كرم الله وجهه ، ودين علي هو دين ابن عمّه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الّذي أجلسك مجلسك الّذي أنت فيه ، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين : رحلة الشتاء ورحلة الصيف ، فوضعها الله عنكم بنا ، مِنّةً عليكم » (15).
نعم الرزيّة كلّ الرزيّة تقيّة المسلم من المسلم ، وخوف الأخ من أخيه، ولولا الظلم الّذي أوْرَدَتْه طائفة منهم على الأُخرى ، لما احتاجت إلى التقيّة ، فلا ذنب للشيعة حينئذ. ولو سادت الحريّة في العالم الإسلامي على الطوائف الإسلاميّة كلّها ، لما كان هناك وجه لتقيّة الأخ من الأخ ، ولكن للأسف إنّ السلطة رأت أنّ مصالحها لا تقوم إلّا بالضغط على الشيعة ليتركوا عقيدتهم وعملهم ويذوبوا في الطوائف الإسلاميّة الأُخرى ، فما ذنب الشيعة عندئذ من أنّ تَتّقي السلطة وجلاوزتها وتتظاهر على خلاف ما تعتقد لئلّا يقتلوا أو يصلبوا ، أو تهتك أعراضهم أو تنهب أموالهم.
وكم شهدت أوساط الشيعة من مجازر عامة بيد السلطات الغاشمة ، فقُتِل الآلاف منهم بلا ذنب إلّا اتّباعهم لأئمّة أهل بيت نبي الإسلام ، واقتفائهم آثارهم. ونكتفي من ذلك بكلمة موجزة ـ لكي لا نخرج عن موضوع البحث ـ تُصَوِّر جانباً من تلك الجرائم الفظيعة.
لم يفتأ شيخ الشيعة ، أبو جعفر الطوسي ، إمام عصره وعزيز مصره بغداد ، حتّى ثارت القلاقل وحدثت الفتن بين الشيعة والسنّة ، ولم تزل تنجم وتخبو بين الفينة والفينة ، حتّى اتّسع نطاقها بأمر طغرل بك أوّل القادة السلجوقيين ، فورد بغداد ، عام 447 ، وشنّ على الشيعة حملة شعواء وأمر بإحراق مكتبة الشيعة الّتي أنشأها أبو نصر ، وزير بهاء الدولة البُوَيْهي ، وكانت من دور العلم المهمّة في بغداد ، بناها هذا الوزير في محلّة بين السورَيْن ، في الكرخ ، عام 381 ، على مثال بيت الحكمة الّذي بناه هارون الرشيد. وكانت مهمّة للغاية فقد جمع فيها هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم ، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ، ومهام الأسفار ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين قال ابن الجوزي في حوادث سنة 448 : « وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره » ، ثمّ قال في حوادث سنة 449 : « وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة بالكَرخ ، وأُخذ ما وجد من دفاتره وكرسي يجلس عليه للكلام ، وأخرج إلى الكرخ ، وأُضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة ، وأُحرق الجميع » (16).
هذا غيض من فيض ، ونزر من كثير ، حول اضطهاد الشيعة وقتلهم ، وهتك أعراضهم ، جئنا به ليقف القارئ على أنّ لجوء الشيعة إلى هذا الأصل لم يكن إلّا لظروف قاسية مرّت عليهم ، وهي بعد سائدة ، فما ذنب الشيعة إذا أرادوا صيانة أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ؟
بالله عليكم أيُّها الاخوان ، لو كنتم أنتم مكان الشيعة ، وكنتم تواجهون هذه الأحداث المؤلمة ، هل كنتم تسلكون غير هذا المسلك ، وهل كنتم تضنون بالنفس والنفيس ، أو كنتم تهدون دماءكم وتهتكون أعراضكم وتبيدون أموالكم ؟
أظنّ أنّ من يملك شيئاً من العقل والإنصاف يحكم بالثاني ، إلّا إذا كان هناك مصلحة أهمّ منها ، وتوقف إعلاء الحقّ وإبطال الباطل على التضحية ، وهو أمر آخر خارج عن الموضوع. وبعد هذا كلّه ، أفيصح أن يقال إنّ التقيّة نفاق ؟ (17).
الهوامش
1. سورة التوبة : الآية 97.
2. سورة النساء : الآية 145.
3. سورة آل عمران : الآية 28.
4. الدرّ المنثور ، ج 2 ، ص 16.
5. سورة النحل : الآية 106.
6. مجمع البيان ، ج 3 ، ص 388 ، ونقله غير واحد من المفسّرين.
7. المنار ، ج 3 ، ص 280.
8. المصدر السابق ، ص 281.
9. سورة غافر : الآية 28.
10. سورة القصص : الآية 20. وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون على ما في التفاسير.
11. سورة المنافقون : الآية 1.
12. سورة التوبة : الآية 98.
13. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 3 ، ص 15.
14. يعني شريك بن شداد الحضرمي ، كان من أصحاب حجر الذين بعث بهم زياد إلى معاوية وقتل مع حجر.
15. الغدير ، ج 10 ، ص 160 ـ 161 لاحظ المصدر هناك.
16. الحادثة مذكورة في أكثر الكتب التاريخيّة الّتي تعرضت لحوادث عامي 447 و 448 للهجرة. وقد ذكرها شيخنا الطهراني في مقدّمة « التبيان » ، ص 5.
17. نعم ، هنا بحث آخر وهو أنّه إذا عمل الشيعي على مقتضى التقيّة ، كما إذا غسل رجليه مكان مسحهما أو سجد على غير ما يصحّ عليه السجود ، كالسجاجيد ، فكيف يحكم بصحة عمله مع أنّه لم يمتثل ما على ذمّته ؟ وهذه مسألة فقهيّة ، لها بحثها ، وإجمال الجواب أنّ أدلّة التقيّة حاكمة على الأدلّة الواقعيّة ، موسعة لها في ظروفها كالتيمّم في مواقع فقد الماء ، فإجزاؤهما من باب واحد ، والتفصيل يطلب من محله.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيات على هدى الكتاب والسُّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 429 ـ 437
التعلیقات