الفرضية الثامنة : نشوء التشيع خلال مراحل ثلاث
الأراء حول نشوء التشيع
منذ 15 سنةالمصدر : أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ص 88 ـ 90
(88)
زلّة لا تستقال:
إنّ الدكتور عبد الله فياض زعم أنّ التشيّع بمعني الموالاة لعليّ _عليه السلام_ نضج في مراحل ثلاث:
1 ـ التشيّع الروحي، يقول: إنّ التشيّع لعليّ بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبيّ وتمّت قبل تولّيه الخلافة. ثمّ ساق الاَدلّة على ذلك وجاء بأحاديث يوم الدار أو بدء الدعوة وأحاديث الغدير وما قال النبيّ في حقّ عليّ من التسليم على عليّ بإمرة المؤمنين.
2 ـ التشيّع السياسي، ويريد من التشيّع السياسي: كون عليّ أحق بالاِمامة لالاَجل النص بل لاَجل مناقبه وفضائله، ويقول: إنّ التشيّع السياسي ظهرت بوادره ـ دون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية (يريد النصّ) ـ في سقيفة بني ساعدة، حين أسند حقّ عليّ بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير والعبّاس وغيرهما، وبلغ التشيّع السياسي أقصى مداه حين بويع عليّ بالخلافة بعد مقتل عثمان.
3 ـ ظهوره بصورة فرقة، فإنّما كان ذلك بعد فاجعة كربلاء سنة (61هـ) ولم يظهر التشيّع قبل ذلك بصورة فرقة دينية تعرف بالشيعة. ثمّ استشهد بكلام المقدسي حيث قال: إنّ أصل مذاهب المسلمين كلّها منشعبة من أربع: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة. وأصل افتراقهم قتل عثمان، ثمّ تشعّبوا(1).
وأيّد نظريته بما ذكره المستشرق «فلهوزن» من قوله: تمكّن الشيعة أوّلاً في العراق ولم يكونوا في الاَصل فرقة دينية، بل تعبيراً عن الرأي السياسي في هذا الاِقليم كلّه، فكان جميع سكان العراق خصوصاً أهل الكوفة شيعة عليّ على
____________
(1) أحسن التقاسيم: 38 ط ليدن 1906م.
________________________________________
(89)
تفاوت بينهم(1).
وهذا التصوّر المذكور يمكن تثبيت جملة من الملاحظات عليه:
أوّلاً: انّ التفكيك بين المرحلتين الاَوليين، وإنّ الاَُولى منهما كانت في عصر النبيّ، وظهرت بوادر المرحلة الثانية بعد رحلة النبيّ، قد نقضه نفس الكاتب في كلامه حيث قال: كان روّاد التشيّع الروحي يلتزمون بآراء عليّ الفقهية إلى جانب الالتزام بإسناده سياسياً(2).
وثانياً: إنّ ما ذكره من النصوص في مجال التشيّع الروحي كما يدلّ على أنّ عليّاً هو القائد الروحي، فإنّه يدلّ بوضوح على أنّه القائد السياسي، وقد نقلالكاتب جلّ النصوص الواردة في هذا المبنى، فمعنى التفكيك بينهما هوأنّ الصحابة الواعين أخذوا ببعض مضامينها وتركوا بعضها، ولو صحّ إسناد ذلك إلى بعض الصحابة فلا يصح إسناده إلى سلمان، وأبي ذر، وعمّـار، الذين لا يتركون الحق وإن بلغ الاَمر ما بلغ.
وبما أنّ النبيّ كان هو القائد المحنَّك للمسلمين، فإنّه لم تكن هناك حاجة لظهور التشيّع السياسي في حياته، بل كان المجال واسعاً لظهور التشيّع الروحي ورجوع الناس إلى عليّ في القضايا والاَحكام الفقهية، وهذا لا يعني عدم كونه قائداً سياسياً وإنّ وصايا النبيّ لم تكن هادفة إلى ذلك الجانب.
وثالثاً: إنّ التشيّع السياسي ظهر في أيّام السقيفة في ظل الاعتراف بإمامته الروحية؛ فإنّ الطبري وغيره وإن لم يذكروا مصدر رجوع الزبير والعباس إلى عليّ، ولكن هناك نصوص عن طرق الشيعة وردت في احتجاج جماعة من الصحابة على أبي بكر مستندين إلى النصوص الدينية.
فقد روى الصدوق عن زيد بن وهب أنّه قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر
____________
(1) تاريخ الاِمامية: 38 ـ 47.
(2) تاريخ الاِمامية: 45.
________________________________________
(90)
تقدّمه على عليّ بن أبي طالب اثني عشر رجلاً من المهاجرين والاَنصار؛ فمن المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الاَسود، وأُبيّ بن كعب، وعمّـار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وبريدة الاَسلمي.
ومن الاَنصار: زيد بن ثابت، وذو الشهادتين، وابن حنيف، وأبو أيّوب الاَنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان.
وبعدما صعد أبو بكر على المنبر قال خالد بن سعيد: يا أبا بكر اتقّ الله... ثمّ استدل على تقدم عليّ بما ذكره النبيّ فقال: « معاشر المهاجرين والاَنصار، أُوصيكم بوصيّة فاحفظوها، وانّي مؤدّ إليكم أمراً فاقبلوه: ألا إنّ علياً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم» ـ إلى آخر ما ذكره ـ ثمّ قام أبو ذر وقال: يا معاشر المهاجرين والاَنصار... طرحتم قول نبيّكم وتناسيتم ما أوعز إليكم. ثمّ ذكر مناشدة كل منهم مستندين في احتجاجهم على أبي بكر بالاَحاديث التي سمعوها من النبيّ الاَكرم(1) . وهذا يعرب عن أنّ التشيّع السياسي ـ الذي كان ظرف ظهوره حسب طبع الحال بعد الرحلة ـ كان مستفاداً من نصوص النبيّ_ صلى الله عليه وآله وسلم _.
رابعاً: ماذا يريد من الفرقة وأنّ الشيعة تكوّنت بصورة فرقة بعد مقتل الاِمام الحسين؟ فهل يريد الفرقة الكلامية التي تبتني على آراء في العقائد تخالف فيها الفرق الاَُخرى؟ فهذا الاَمر لم يعلم له أيّ وجود يذكر إلى أواسط العقد الثالث من الهجرة، ولم تكن يومذاك أيّة مسألة كلامية مطروحة حتّى تأخذ شيعة عليّ بجانب والآخرون بجانب آخر، بل كان المسلمون متسالمين في العقائد والاَحكام حسب ما بلغ إليهم من الرسول، ولم يكن آنذاك أيّ اختلاف عقائدي إلاّ في مسألة القيادة، فالفرقة بهذا المعنى لم تكن موجودة في أوساط المسلمين.
وإن أراد من الفرقة الجماعة المتبنّية ولاية عليّ روحيّاً وسياسياً وأنّه أحقّ بالقيادة على جميع الموازين، فإنّها كانت موجودة في يوم السقيفة وبعدها.
نعم إنّ توسّع الرقعة الجغرافية للدولة الاِسلامية وما رافق ذلك من احتكاك مباشر بكثير من الفرق والجماعات صاحبة الاَفكار العقائدية المختلفة، وتأثّر بعض الفرق الاِسلامية ومفكّريها بجملة من تلك الآراء والتصوّرات، ساعد بشكل كبير في إيجاد مدارس كلامية متعدّدة في كيان المجتمع الاِسلامي، ولمّا كان الشيعة أشد تمسّكاً بحديث الثقلين المشهور، فقد رجعوا إلى أئمّة أهل البيت فصاروا فرقة كلامية متشعّبة الاَفنان، ضاربة جذورها في الكتاب والسنّة والعقل.
وهكذا فلا مرية من القول بخطأ كلّ الافتراضات السابقة وعدم حجّيتها في محاولة تثبيت كون التشيّع ظاهرة طارئة على الاِسلام، وإنّما هو نفس الاِسلام في إطار ثبوت القيادة لعليّ بعد رحلة النبيّ بتنصيصه، وتبنّاه منذ بعثة النبيّ الاَكرم جملة من الصحابة والتابعين وامتدّ ذلك حسب الاَجيال والقرون، بل وظهر بفضل التمسّك بالثقلين علماء مجاهدون، وشعراء مجاهرون، وعباقرة في الحديث، والفقه، والتفسير، والفلسفة، والكلام، واللغة، والاَدب، وشاركوا جميع المسلمين في بناء الحضارة الاِسلامية بجوانبها المختلفة، يتّفقون مع جميع الفرق في أكثر الاَُصول والفروع وإن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر. وسيوافيك تفصيل عقائدهم في مبحث خاصّ بإذن الله.
كما يظهر لك أيضاً وهن ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز الدوري من أنّ التشيّع باعتباره عقيدة روحية ظهر في عصر النبيّ وباعتباره حزباً سياسياً قد حدث بعد قتل عليّ(2).
____________
(1) الخصال :461 ط مكتبة الصدوق لاحظ المناشدة إلى آخرها ترى فيها دلائل كافية لإثبات الخلافة للإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ .
(2) لاحظ الصلة بين التصوّف والتشيّع : 18 .
التعلیقات