العصمة في الكتاب العزيز
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 178 ـ 181
( 178 )
العصمة في الكتاب العزيز
يصف الذكر الحكيم الأنبياء بالعصمة بلطائف البيان ودقائقه ، ممّا يحتاج في
الوقوف عليه إلى التدبّر بإمعان ، ولأجل إيقاف الباحث على نماذج من هذه
التوصيفات مع مراعاة ما يقتضيه المقام ، نكتفي بالبحث عن آيتين منها(1).
الآية الأولى : قال عزّ وجل: ( وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا
وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيَْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسَى وَ هَارُونَ
وَ كَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ * وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيَى وَ عِيسَى وَ إِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *
وَ إِسْمَاعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ
وَ إِخْوَانِهِمْ وَ اجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم * ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ... * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعَالَمِينَ)(2).
وجه الدلالة
إنّ الآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهدّيون بهداية الله سبحانه ، على وجه
يجعلهم القُدوة والأُسوة ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر ، نرى أنّه سبحانه يُصرّح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا
مُضِلَّ له ، يقول تعالى: ( وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد * وَ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ
مُضِلٍّ....)(3).
وفي آية أخرى يُصرِّح بأنّ حقيقة العصيان ، الضلالة والإنحراف عن الجادة
الوسطى ، يقول عزّ مِنْ قائل: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَ أَنِ اعْبُدُوني هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- راجع في الوقوف على سائر الآيات ودلالتها ، مفاهيم القرآن : ج 4 ص 423 ـ 431.
2- سورة الأنعام: الآيات 84 ـ 90.
3- سورة الزمر: 36 ـ 37.
________________________________________
( 179 )
كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)(1).
وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الاّيات ، تُستَنْتَجُ العصمةُ بوضوح ،
وذلك كما يلي:
إنّ اللّفيف الأوّل من الاّيات يصف الأنبياء بأنّهم القُدوة والأُسوة ،
والمهديّون من الأُمة.
واللَّفيف الثاني يصرّح بأنّ من شملته العناية الإلهية لا ضلالة ولا مُضِلّ له.
واللَّفيف الثالث يصرّح بأنّ العصيان نفسُ الضلالة ، حيث قال: (
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ). وما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانِهم ومخالفتهم
لأوامره تعالى ، ونواهيه.
فإذا كان الأنبياء مهديون بهداية الله ، وَمَنْ هداه الله لا تَتَطَرَّقُ إليه
الضلالة ، وكانت المعصية نفس الضلالة ، فينتج أنّ المعصية لا سبيل لها إلى
الأنبياء.
وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الشكل المنطقي فقل:
* النبي قد شملته الهداية الإلهية.
* ومن شملته الهداية الإلهية ، لا تتطرق إليه الضلالة.
* فينتج : النبي لا تتطرق إليه الضلالة.
وبما أنّ الضلالة والمعصية متساويان ، فيصحّ أن يقال في النتيجة : إنّ النبي
لا تتطرق إليه المعصية.
الآية الثانية : قال عزّ وجل: ( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَدَاءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة يس: الآيات 60 ـ 62.
________________________________________
( 180 )
رَفِيقاً)(1).
ففي هذه الآية المباركة يَعُدّ الله تعالى الأنبياءَ من الذين أنعم عليهم ، هذا
من جانب.
ومن جانب آخر يصف سبحانه من أنعم عليهم بأنّهم غير مغضوب عليهم
ولا ضالّين ، في قوله: ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ
الضَّالِّينَ)(2).
فيستنتج من ضمّ هاتين الاّيتين إلى بعضهما ، عصمة الأنبياء بوضوح ؛ لأنّ
العاصي يشمله غضب الربّ ، ويكون ضالاًّ بقدر عصيانه. فاذا كان الأنبياء ممّن
أنعم الله عليهم ، والذين أنعم الله عليهم لا يشملهم غضب الربّ (غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الخ ) ، فيكونُ الأنبياء منزّهين عن المعصية ، وبريئين عن
المخالفة.
وإنْ شئت إفراغ الاستدلال في قالب الشكل المنطقي ، فقل:
* إنّ الأنبياء ، قد أنعم الله عليهم.
* وكل من أنعم عليه ، فهو غير مغضوب عليه ولا ضالّ.
* فينتج : إنّ الأنبياءَ غيرُ مغضوب عليهم ولا ضالين.
ولما كان العصيان يلازم الغضب والضلال بمقداره ، فمن كان بعيداً عن
جلب غضب الربّ إليه ، والضلالة ، يكون بريئاً عن المعصية.
وستعرف فيما يأتي أنّ جميع الأُمة ليسوا شهداء ، وإنّما عبّر بالجمع وأريد منه
لفيف من الأُمة قد دلّ الدليل على عصمتهم.
وأمّا استلزام هذا الاستدلال ، عصمة غير الأنبياء والشهداء من الصديقين
والصالحين ، فلا إشكال فيه كما عرفتَ عند نقل كلام السيّد المرتضى فيما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النساء: الآية 69.
2- سورة الحمد: الآية 7.
________________________________________
( 181 )
ونظن أنّ الاّيتين كافيتين في إذعان الباحث بعصمة الأنبياء من جهة النقل
أيضاً(1).
نعم إنّ هناك لفيفاً من الآيات ربما يُستظهر منه عدم عصمة الأنبياء على
الإطلاق أوّلاً ، وعدم عصمة عدّة منهم كـ « آدم » ، و « يونس » ثانياً. غير أنّ
دراسة هذه الأصناف من الآيات خروج عن طور البحث ، فإنّها أبحاث قرآنية
تُطلَب من مظانّها(2).
وإلى هنا يتمّ البحث في المرحلة الأُولى من مراحل العصمة ، أَعني العصمة
عن المعصية والمخالفة المولوية ، ويقع الكلام بعدها في المرحلة الثانية ، وهي
العصمة في مقام تبليغ الرسالة.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- ومن أراد البسط فليرجع إلى المصدر الّذي أشرنا إليه.
2- قد بحث الأُستاذ ـ أطال الله بقاءه ـ عن مجموع هذه الآيات في موسوعته القرآنية « مفاهيم
القرآن » : ج 4، ص 431 ـ 450 ، وج 5، ص 19 ـ 134 فلاحظ.
التعلیقات