الرأي السائد بين المتكلمين حول سهو النبي ص
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 200 ـ 208
( 200 )
الرأي السائد بين المتكلمين حول سهو النبي
الظاهر من المتكلمين الأشاعرة والمعتزلة ، تجويزهم السهو على الأنبياء
إجمالاً ، إمّا في مقام إبلاغ الدين ، كالباقلاني(1) ، وإمّا في غيره كما عليه غيره.
قال الإيجي في المواقف :
« أمّا الكبائر عمداً ، فمنعه الجمهور ، والأكثر على امتناعه سمعاً. وقالت
المعتزلة ـ بناء على أُصولهم ـ يمتنع ذلك عقلاً . وأمّا سهواً فجوزه الأكثرون.
وأمّا الصغائر عمداً ، فجوّزه الجمهور إلاّ الجُبّائي. وأمّا سهواً فهو جائز
إتّفاقاً ، إلاّ الصغائر الخسية ، كسرقة حبة أو لقمة»(2).
وجوّز القاضي عبد الجبار صدور الصغائر منهم عمداً ، قال في شرح
الأُصول الخمسة : « وأمّا الصغائر الّتي لا حَظَّ لها إلاّ في تقليل الثواب دون
التنفير ، فإنّها مجّوزة على الأنبياء ، ولا مانع يمنع منها»(3).
فإذا كانت الكبائر من الذنوب جائزة عليهم سهواً عند الأكثر ، أو كان
صدور الصغائر منها جائزاً عليهم سهواً بالإتفاق ، بل عمداً عند القاضي
عبد الجبار كما تقدم في كلامه ، فمن الأولى أن يجوزوا عليهم السهو في غير
الذنوب ، أعني في مجال تطبيق الشريعة أو أعمالهم الفردية والاجتماعية ، كيف لا
وقد روى الجمهور في الصحاح والمسانيد وقوع السهو من النبي ، كما يجيء بيانه
ونقاشه.
وأمّا الإمامية ، فالمحققون منهم متفقون على نفي السهو عن الأنبياء مطلقاً
حتى في تطبيق الشريعة كالصلاة ، وإليك فيما يلي نقل نصوصهم في هذا الشأن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- قد مرّ نصّ كلام صاحب المواقف في هذا المجال عند البحث في المرحلة الثانية من مراحل العصمة ،
وهي عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة ، فلاحظ.
2- المواقف : ص 359.
3- شرح الأُصول الخمسة : ص 575.
________________________________________
( 201 )
قال الشيخ المفيد(1) في رسالته الّتي يرد فيها على مَنْ ذَهَبَ إلى تجويز السهو
على النبي والأئمة في العبادة ما هذا لفظه:
« الحديث الّذي روته الناصبة والمقلّدة من الشيعة أنّ النبي سهى في صلاته
فسلّم ركعتين ناسياً ، فلما نُبِّه على سهوه أضاف إليهما ركعتين ، ثمّ سجد سجدتي
السهو ، من أخبار الآحاد الّتي لا تثمر علماً ولا توجب عملاً»(2).
وقال الشيخ الطوسي(3) بعدما روى حديث أنً رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ
ما سجد سجدتي السهو قطّ ، قال بأنّ الّذي يفتي به هو ما تضمنه هذا الخبر ، لا
الأخبار الّتي قَدَّم ذكرّها وفيها أنّ النبي سهى فسجد(4).
وقال المحقق(5) في المختصر النافع : « والحقُّ رفع منصب الإمامة عن
السهو في العبادة»(6) ورفع منصب الإمامة عن السهو يقتضي رفع منصب النبوة
عنه.
وقال المحقق الطوسي(7) في التجريد : « ويجب في النبي العصمة ليحصل
الوثوق فيحصل الغرض.. و(يجب) كمال العقل ، والذكاء والفطنة ، وقوّة
الرأي ، وعدم السهو»(8).
وقال العلامة(9) في التذكرة ما هذا لفظه : « وَخَبَرُ ذي اليدَيْن عندنا باطل ؛
لأنّ النبي المعصوم لا يجوز عليه السهو»(10).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي ، ( ت 338 ـ م 413 هـ).
2- التنبيه بالمعلوم من البرهان : تأليف الشيخ الحرّ العاملي، ص 7.
3- محمّد بن الحسن الطوسي ، (ت 385 ـ م 460 هـ).
4- التهذيب : ج 2 ص 351.
5- أبو القاسم جعفر بن الحسن الحلي ، (ت 602 ـ م 676 هـ).
6- المختصر النافع : ص 45.
7- نصير الدين محمّد بن محمّد الحسن الطوسي ، (ت 597 ـ م 672 هـ).
8- شرح التجريد : ص 195.
9- الحسن بن يوسف الحلي ، (ت 648 ـ م 726 هـ).
10- تذكره الفقهاء : ج 1، ص 130 ، في مسألة وجوب ترك الكلام بحرفين فصاعداً ممّا ليس بقرآن
ولا دعاء.
________________________________________
( 202 )
وقال أيضاً في الرسالة السَّعْدِيَّة : « لو جاز عليه السهو والخطأ ، لجاز ذلك
في جميع أقواله وأفعاله ، فلم يبق وثوق بإخباراته عن الله تعالى ، ولا بالشرائع
والأديان ، لجواز أن يزيد فيها وينقص ، فتنتفي فائدة البعثة ، ومِنَ المعلوم
بالضرورة أنّ وصف النبي بالعصمة أكمل وأحسن من وصفه بضدها ، فيجب
المصير إليه ، لما فيه من دفع الضرر المظنون بل المعلوم»(1).
وقال الشهيد الأوّل(2) في الذكرى ، بعد ذكره خبر ذي اليدين : « وهو
متروكٌ بين الإمامية لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي عن السهو»(3).
وقال الفاضل المقداد (4) : «لا يجوز على النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ السهو
مطلقاً ، أي في الشرع وغيره . أمّا في الشرع ، فلجواز أنّ لا يؤدّي جميع ما أُمر
به ، فلا يحصل المقصود من البعثة ، وأمّا في غيره ، فإنّه يُنَفِّر»(5).
وقال الشيخ بهاء الدين العاملي(6) ـ عندما سأله سائل عن قول ابن بابويه إنّ
النبي قد سهى ـ : « بل ابن بابويه قد سهى ، فإنّه أولى بالسهو من النبي»(7).
وقد ألّف غير واحد من الأصحاب كتباً ورسائل في نفي السهو عن النبي
منها : رسالة الشيخ المفيد(8) ، ورسالة إسحاق بن الحسن الأقْرائي(9) ، ورسالة
الحر العاملي(10) المُسمّاة بـ« التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو
والنسيان». وقد فصل العلامة المجلسي (م 1111) في البحار ، الكلام فى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة السَّعِديَّة : ص 76، طبعة النجف.
2- محمّد بن مكي العاملي ، (ت 734 ـ م 786 هـ).
3- الذكرى : ص 134.
4- أبو عبد الله المقداد بن عبد الله الأسدي السيوري الحلي ، م 826 هـ .
5- إرشاد الطالبين : ص 305.
6- محمّد بن الحسين بهاء الدين العاملي ، ت 953 ـ م 1030 هـ.
7- التنبيه على المعلوم من البرهان : ص 13.
8- أدرجها العلاّمة المجلسي في البحار ، لاحظ ج 17، ص 122 ـ 129 .
9- رجال النجاشي : رقم الترجمة 178.
10- محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ، المحدث المعروف، م 1104 هـ.
________________________________________
( 203 )
المسألة ، واطنب في بيان شُذوذ تلك الأخبار الّتي استند إليها القائلون بالسهو(1) ،
وناقشها بأدلّة متعددة السيّد عبد الله شُبّر (ت 1188 ـ م 1242 هـ ) في كتابيه :
حقّ اليقين(2) ومصابيح الأنوار(3).
نعم هناك من الإمامية من جوّز السهو على النبي ، وإليك نصوصهم:
1 ـ قال محمدّ بن الحسن بن الوليد(4): «أوّل درجة في الغلو ، نفي السهو
عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، فلو جاز أن تُرَدَّ الأخبار الواردة في هذا المعنى ، لجاز
أن تردّ جميع الأخبار ، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة ، وأنّا أحتسب الأجر في
تأليف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي والرَّدَّ على منكريه إن شاء الله تعالى»(5).
2 ـ قال الصدوق (6): « إنّ الغلاة والمفوضة ـ لعنهم الله ـ ينكرون سهو
النبي ، ويقولون : لو جاز أن يسهو في الصلاة ، لجاز أن يسهو في التبليغ ؛ لأنّ
الصلاة عليه ، فريضة ، كما أنّ التبليغ عليه فريضة».
ثم ردّ عليه بأنّ سهو النبي ليس كسهونا ؛ لأنّ سهوه من الله عزوجل ،
وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق ، فلا يتّخذ ربّاً معبوداً دونه ، وليعلم الناسُ
بسهوِه حُكْمَ السهو متى سهوا ، وسَهْوُنا من الشيطان ، وليس للشيطان على النبي
ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والأئمة ـ عليهم السَّلام ـ سلطان ، (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(7). (8)
3 ـ وقال الطبرسي(9) في تفسير قوله سبحانه: (وإِمّا ينْسيَنَّكَ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- البحار : ج 17، الباب 16، ص 97 ـ 129.
2- حق اليقين : ج 1، ص 124 ـ 129.
3- مصابيح الأنوار : ج 2، ص 133.
4- محمّد بن الحسن بن الوليد القمي ، من مشايخ الصدوق ، متوفى عام 343 هـ.
5- من لا يحضره الفقيه : ج 1، ص 360.
6- محمّد بن علي بن الحسين بن بابوبه، ت 306 ـ م 381 هـ .
7- سورة النحل: الآية 100.
8- من لا يحضره الفقيه : ج 1، ص 360.
9- الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي ، ت 470 ـ م 538 هـ .
________________________________________
( 204 )
الشَّيْطانُ..): نقل عن الجبّائي أنّه قال: في هذه الآية دلالة على بطلان قول
الإمامية في أنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء».
ثمّ أجاب عليه بقوله : « وهذا القول غير صحيح ؛ لأنّ الإمامية لا يجوزون
السهو عليهم فيما يؤدّونه عن الله ، فأمّا ما سواه ، فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو
يسهوا عنه ، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل»(1).
إلى هنا وقفت على أنّ المشهور بين علماء الإمامية هو القول الأوّل دون الثاني
الّذي هجر بعد الطبرسي ، ولم ينبت به أحد ، إلاّ بعض المشايخ المعاصرين(2) ،
فعمد إلى جمع الروايات الدالّة على طروء السهو والنسيان على النبي والأئمة.
ولعلّه جامع غير معتقد به.
والقضاء بين القولين يتوقف على نقل بعض ما أثر من الروايات الدالّة على
سهو النبي ومناقشتها:
1 ـ روى الشيخان ( البخاري ومسلم ) وأبو داود ـ واللفظ للأخير ـ عن
عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ : «إنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان في مسير له ،
فناموا عن صلاة الفجر ، فاستيقظوا بحَرِّ الشمس ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ :
تنحو عن هذا المكان ، ثمّ أمر بلالاً فأذّن ، ثمّ توضأوا وصلّوا ركعتي الفجر (3). ثمّ أمر
بلالاً فأقام الصلاة ، فصلّى بهم صلاة الصبح»(4).
وروى الشيخ الصدوق نَحْوَهُ(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجمع البيان : ج 7، ص 317.
2- وهو العلاّمة الشيخ محمّد تقي التستري مؤلّف قاموس الرجال. وقد أدرج الرسالة في الجزء الحادي
عشر من كتابه.
3- المراد نافلة فريضة الصبح .
4- التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول : ج 1، ص 120.
5- من لا يحضره الفقيه : ج 1 ص 360، رقم الحديث المتسلسل 1031 وفي السند «الرباطي».
فإن كان المراد منه علي بن رباط البجلي الكوفي ، لقرينة رواية الحسن بن محبوب عنه ، فهو ثقة ،
والرواية معتبرة.
________________________________________
( 205 )
2 ـ روى الشيخان وغيرهما عن ابي هريرة قال : « صلّى لنا رسول الله ـ صلى
الله عليه وآله وسلم ـ صلاة الفجر ، فسلّم في ركعتين. فقام ذو اليدين فقال : أقصرت
الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟.
فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : كلُّ ذلك لم يكن.
فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله!.
فأقبل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على الناس فقال : أصدق ذو
اليدين؟.
فقالوا : نعم ، يا رسول الله.
فأتّم رسول الله ما بقي من الصلاة ، ثمّ سجد سجدتين ، وهو جالس بعد
التسليم»(1).
وروى نحوه الكليني بسند معتبر(2).
وبعد تقديم هذين النموذجين من الروايات نقول : إنّ الحق هو نفي
السهو عن النبي ، وعدم الإعتداد بهذه الروايات لوجوه:
الوجه الأوّل : إنّ هذه الروايات معارضة لظاهر القرآن الدالّ على أنّ النبي
مصونٌ عن السهو ، على ما عرفتَ.
الوجه الثاني : إنّ هذه الروايات معارضة لأحاديث كثيرة تدلّ على صيانة
النبي عن السهو. وقد جمعها المحدث الحرّ العاملي في كتابه(3).
الوجه الثالث : إنّ ما روته الإمامية من أخبار السهو ، أكثر أسانيده
ضعيفة ، وأمّا النقي منها فهو خبر واحد لا يصحّ الإعتماد عليه في باب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- التاج : ج 1، ص 196، ولاحظ جامع الأصول : ج 6، ص 350، الرقم المتسلسل 3762.
2- الكافي : ج 3، ص 355، باب من تكلم في صلاته ، الحديث الأوّل.
3- لاحظ التنبيه بالمعلوم من البرهان : ص 26 ـ 44.
________________________________________
( 206 )
الأصول(1).
الوجه الرابع : إنّها معارِضة للأدلّة العقلية الّتي تقدم ذكرها.
وأمّا ما رواه أصحاب الصحاح ، فمع غضّ النظر عن أسناده ، فإنّه
مضطرب جداً في متونه ، وذلك:
1 ـ فقد روى البخاري : صلّى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الظهر
ركعتين فقيل صلّيت ركعتين . فصلّى ركعتين... الخ.
2 ـ وفي رواية أخرى له : صلّى بنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الظهر
والعصر ركعتين ، فسلّم . فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله ،
أنقصت؟...الخ.
3 ـ وروى مسلم عن أبي هُريرة، يقول : صلّى لنا النبي ـ صلى الله عليه
وآله وسلم ـ صلاة العصر ، فسلّم في ركعتين ، فقام ذو اليدين فقال : أقصرت الصلاة
يا رسول الله أم نسيت؟. فقال : كل ذلك لم يكن...الخ.
4 ـ وفي رواية أُخرى له : إنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صلّى ركعتين
من صلاة الظهر ، ثمّ سلّم ، فأتاه رجل من بني سُلَيْم ، فقال: يا رسول الله
أقصرت الصلاة أم نسيت...الخ.
5 ـ وروى البخاري وأبو داود ومسلم عن عمران بن حصين أنّ رسول الله
ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صلّى العصر وسلّم في ثلاث ركعات ، ودخل منزله فقام له
رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول...الخ.
6 ـ أخرج أبو داود ، قال : صلّى بنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أحد
صلاتي العشاء ـ الظهر أو العصر ـ قال فصلّى بنا ركعتين ، ثمّ سلّم ، فقام إلى خشبة
في مقدم المسجد فوضع يده عليها ، إحداهما على الأُخرى ، يعرف في وجهه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- وقد قام الشيخ الحرّ العاملي ـ قدّس سرّه ـ بتحقيق لمسانيد تلك الروايات وبيان ضعفها. لاحظ
ص 64 ـ 66 من المصدر السابق نفسه.
________________________________________
( 207 )
الغضب ، ثمّ خرج سرعان الناس وهم يقولون: قصرت الصلاة ، قصرت
الصلاة . وفي الناس أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه . وقام رجل كان رسول الله
يسمّيه ذا اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال : لم
أنس ولم تقصر الصلاة . قال : بل نسيت يا رسول الله! فأقبل رسول الله على
القوم فقال : أصدق ذو اليدين . فأومأوا : أي نعم . فرجع رسول الله إلى
مقامه ، فصلّى الركعتين الباقيتين ، ثمّ سلّم..الخ.
7 ـ وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: « صلّى النبي ـ صلى الله
عليه وآله وسلم ـ فزاد أو نقص ـ شكّ بعض الرواة ـ والصحيح أنّه زاد ، فلما
سلّم قيل له يا رسول الله ، أَحَدَثَ في الصلاة شيء؟ قال : وما ذاك؟ قالوا:
فإنّك صلّيت خمساً. فانفتل ، ثمّ سجد سجدتين ، ثمّ سلّم».
وفي أُخرى لمسلم قال : « صلّى بنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ خمساً ،
فقلنا يا رسول الله ، أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صلّيت خمساً ،
فقال : إنّما أنا بشر مثلكم ، أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون..الخ.
وروى الترمذي نحوها مع قوله : « صلّى الظهر خمساً». وأخرجه أبو داود
والترمذي.
فيلاحظ فيما ذكرناه ما يلي :
أوّلاً : اضطراب الروايات في تعيين الصلاة الّتي سهى فيها رسول الله ،
فهي بين معيّنة للظهر ( الرواية الأولى والرابعة) ، أو معينة للعصر (الثالثة
والخامسة) ، أو مُرَدّدة بينهما (الثانية والسادسة).
وثانياً : إنّ الرواية الخامسة تدلّ على نسيانه ركعة واحدة ، بخلاف السابعة
فتدلّ على زيادته ركعة ، وبخلاف بقية الروايات فتدلّ على نسيانه ركعتين.
وثالثاً : قوله : « لم أَنْس ولَمْ تَقْصُر الصلاة» ، في الرواية الخامسة. أو قوله
في الثالثة : « كل ذلك لم يكن » ، غير لائق بالرسول ؛ لأنّه لو كان يجوز على نفسه
السهو لما نفاه عن نفسه بنحو القطع ، بل لقال : أظنّ أنّه لم يكن كذلك.
________________________________________
( 208 )
ورابعاً : إنّ إنكاره قول ذي اليدين مستلزم لتجويز سهوين عليه ، مكان
تجويز سهو واحد ، وهو أيضاً عجيب في مورد واحد.
وخامساً : الظاهر أنّ سهو الرسول في الصلاة ، واقعةٌ واحدةٌ ، فاختلاف
السهو بين الزيادة والنقيصة ، واختلاف الإعتراض بين قولهم : « أَقَصَرْتَ الصلاة
أم نسيت؟» ، وقولهم «أَزِيدَ في الصلاة؟» ، كما في رواية الترمذي من القسم
السابع من الروايات ، تناقض واضح.
وسادساً : إضطراب الروايات في بيان زمن التذكير ، فإنّ في بعضها أنّه كان
بعد الصلاة بلا فصل ، وفي أُخرى بعد قيامه من الصلاة واستناده إلى خشبة في
المسجد ، وفي ثالثة بعد دخوله حجرته. فما هذا التناقض مع كون الواقعة واحدة
كما يظهر من مجموع ما تهدف إليه الروايات.
وسابعاً : في ذيل الرواية الخامسة ، أنّه بعدما ذكر ذو اليدين صنيع
رسول الله من السهو : فخرج غضبان يجرّ رِداءه حتى انتهى إلى الناس فقال:
أصدق هذا ، قالوا : نعم . فصلّى ركعة ، ثمّ سجد سجدتين.
ففي هذه الرواية ذكر الغضب بعد تنبيه ذي اليدين ، بينما في الرواية الّتي
أخرجها أبو داود أنّ الغضب كان متقدِّماً على تنبيهه.
وثامناً : ما منشأ غضب رسول الله؟ هل هو تنبيه ذي اليدين؟! لا وجه
له. مع أنّ الغضب لهذا الشأن لا يناسب قوله سبحانه في حق نبيه: (وَ إِنَّكَ
لَعَلَى خُلُق عَظِيم)(1).
وَمُجْمل المقال إنّ هذه الروايات(2) مع ما فيها ممّا ذكرناه ولم نذكره ، لا يصحّ
أن تقع سناداً للعقيدة.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة القلم: الآية 4.
2- لاحظ مجموع ما نقلناه من مقاطع الروايات ، جامع الأصول : ج 6، ص 346 ـ 357.
التعلیقات