رأي الاِسفراييني في تفسير الزمخشري والبيضاوي لقراءة الجر
المصدر : نـهـايـة الاقـدام في وجوب المسح على الاقدام ، تأليف : السيّد نور الله التستري ، تحقيق : هدى جاسم محمّد ابو طبرة ص 420 ـ 430
________________________________________ الصفحة 420 ________________________________________
[رأي الاِسفراييني في تفسير الزمخشري والبيضاوي لقراءة الجر]
قال الفاضل الاِسفراييني في هذا المقام: وقد أجرى هذه النكتة صاحب الكشّاف(5) في العطف على (رؤوسكم)، وجعله تحت المسح(6) ـ لا في جر الجوار(7)، إذْ استفادته بجر الجوار، لكونه في صورة العطف
____________
(5) إلى هنا انتهى السقط الاَوّل في «م» واشرنا لبدايته قبل هامش واحد.
(6) من هنا بدأ السقط الثاني في «م».
(7) أي: جعل غسل الاَرجل مستفاداً من قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بُرِؤوسِكُمْ)! وليس من جر
=
________________________________________ الصفحة 421 ________________________________________
ضعيف جداً(1)، بخلاف جعله(2) في تحت المسح ـ إذْ (3) في تعبير الغسل بالمسح فائدة جليّة(4)؛ لاَنّ هذا الغسل ينبغي أنْ يكون بمنزلة المسح في تقليل الماء.
وكأنّه عدل عن توجيهه، أو أوّل توجيهه بهذا(5)، وحمل قوله: (وعُطفت على الممسوح)(6) على العطف صورة بجر الجوار(7)، كما أوّله غيره(8)، هرباً(9) مما يلزمه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، حيث يراد بالمسح حقيقة للرؤوس، والغسل الضعيف للاَرجل(10)! حتى أوّله بعض آخر، بأنّه أراد بالعطف على الممسوح: العطف صورة، وإلاّ فحقيقة العطف عطف الجملة على الجملة، لوجوب تقدير (امْسَحُوا) بمعنى الغسل؛ لئلا
____________
=
الاَرجل بمجاورتها للرؤوس الممسوحة في الاِعراب مع اختلاف الحكم.
(1) أي: أنّ الزمخشري لم يقل باستفادة غسل الاَرجل من الجر بالمجاورة؛ لعلمه بضعف هذا الجر وعدم وقوعه في القرآن الكريم.
(2) أي: الغسل.
(3) إلى هنا انتهى السقط الثاني في «م» وقد عيّنا بدايته قبل ثلاثة هوامش: على أنّ الساقط هنا غير مهم، لكونه استطراداً غايته التوضيح.
(4) في «م»: «عليه».
(5) أي: وكأنَّ البيضاوي عدل عن توجيه الزمخشري بجعل الغسل تحت المسح، أو أوّل توجيهه لمسح الاَرجل بالغسل الخفيف كما مر في ص415.
(6) الكشاف 1/597، وفيه: «فعطفت على الرابع الممسوح» وقد مر هذا القول في ص376.
(7) أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1/264، وقد مر هذا عن البيضاوي في ص410 علماً بأنّ الزمخشري لا يقول بجر الجوار.
(8) تقدم مَنْ أوّلَ الجر بالمجاورة في الامر السادس من الهامش رقم4 ص411.
(9) في «م»: «عما يلزمه» والصحيح مافي «ر»؛ لتعدي الفعل (هرب) بالحرف (من) لغة.
(10) لم يلتفت اغلبهم إلى تلك الملازمة، فزعموا أنّ المراد بمسح الاَرجل في قراءة الجر عطفاً على الرؤوس هو الغسل الشبيه بالمسح كما في فتح الباري 1/215، وتفسير ابن كثير 2/26، وتفسير الوسيط ـ للواحدي ـ 2/159، ونسبه لاَبي حاتم، وابن الاَنباري.
________________________________________ الصفحة 422 ________________________________________
يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.
فإنّ فيه ـ مع بعد استفادة التنبيه حينئذ أيضاً ـ: أنّه يلزم الجرَّ بإضمار الجار، وهو ضعيف.
ولو حمل التعبير ـ عن الغسل بالمسح ـ على التغليب، لم يرد الاشكال؛ لاَنّ التغليب مما لا يُنكر.
وَإنْ لم يكن بدٌّ(1) من ذلك الجمع، فلا بُدّ أن يقال: الجمع مفتقر مع التغليب، انتهى كلامه(2).
[ما يَرِدُ على رأي الاِسفراييني]
وأقول:
يُستفاد من تقريره ـ مضافاً إلى(3) ما أوردناه على القاضي من الانظار الثمانية(4) ـ إيرادان آخرآن:
أحدهما: بُعد استفادة النكتة المذكورة من توجيه القاضي.
والآخر: لزوم الجر باضمار الجار.
فـ (تِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلَةٌ)(5) لا يخفى وقعها على النظّار.
وأمّا ما استحسنه هذا الفاضل في مقام التوجبه، من بناء الكلام على التغليب.
____________
(1) في «ر»: «ولو لم يكن له بدُّ». والصحيح مافي «م»؛ لخلو الجملة من جواب (لو).
(2) في «ر»: «انتهى»!
(3) في «ر»: «على»، والصحيح: «إلى».
(4) تقدمت تلك الانظار في ص416 ـ 420.
(5) سورة البقرة: 2: 196.
________________________________________ الصفحة 423 ________________________________________
فمردود بمثل ما أوردناه سابقاً على النكتة التي ذكرها الزمخشري والقاضي(1)؛ لاَنَّ البناء على التغليب، فرع ثبوت وجوب غسل الاَرجل، وذلك لم يثبت بعد، والتمسك بقراءة النصب يستلزم الدور كما مرّ مفصلاً(2).
[حملهم قراءة الجر على المسح على الخفين!!]
هذا، وأمَّا حمل قراءة الجر على المسح بالخفين(3)!! فأقبح وأبعد من
____________
(1) النكتة التي ذكرها الزمخشري في وقع التعارض بين قراءة الجر والنصب في (وأرجلكم) خلاصتها: التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، وهي نكتة باطلة لا اصل لها كما اتضح في ما سبق مفصلاً.
انظر كلام الزمخشري في ص375 والردّ عليه في ص379 وص385 وقد مرّت تلك النكتة على لسان البيضاوي أيضاً في ص 415، ووجَّهَها الاِسفراييني بالتغليب بعد أْن أشكل عليها في ص 420، فراجع.
(2) مرّ ذلك في ص385 ـ 386.
(3) حمل قراءة الجر على المسح على الخفين كلٌ من:
الجصاص في أحكام القرآن 2/347، والسمرقندي في تفسيره 1/419، والبغوي في معالم التنزيل 2/217، والرازي في التفسير الكبير 11/163، والقرطبي في الجامع لاَحكام القرآن 6/93، وابن تيمية في تفسيره الكبير 4/52، والسّمين الحلبي الشافعي في الدر المصون 2/495، وابن كثير في تفسيره 2/27، وابن حجر في فتح الباري 1 / 215، والجمل الشافعي في الفتوحات الاِلهية 1/167، وذكر في المجموع شرح المهذب 1/420 أنّ من حمل قراءة الجرّ على مسح الخفّ، والنصب على غسل الرجلين هو الشيخ أبو حامد الغزالي، والدارمي، والماوردي، والقاضي أبو الطيب، وآخرون. قال: ونقله أبو حامد في باب المسح على الخف عن الاَصحاب، من أنّ الجرِّ محمول على مسح الخفّ، والنصب على الغسل إذا لم يكن خفٌّ!!
وصرّح المراغي في تفسيره 6/63 بأنَّ غسل الرجلين المكشوفتين، والمسح على الخف حال استتارهما به، هو الموافق لحكمة هذه الطهارة!!.
=
________________________________________ الصفحة 424 ________________________________________
كلِّ ما تقدم؛ لاَنَّ الخُفَّينِ لم يجرِ لهما ذكر، ولا عليهما دليلٌ، ولا إيماء، وعدم لبسهما ـ وهو الاَغلب(1) ـ خصوصاً في الحجاز.
فكيف تختص(2)بك الآية بهما وقد وردت لتعليم جميع المكلفين؟ وتسمية الخفّ رجلاً، أو تقدير محذوف بغير دليل، ترويج للمدعى بالتخمين.
والحاصل: إنَّ الحَمْلَ على ذلك عدول عن ظاهر القرآن إلى التجوّز والاستعارة من غير أنْ تدعو إليه ضرورة، أو توجيه دلالة. وذلك خطأ(3) لا محالة.
والظاهر يتضمن ذكر الاَرجل بأعيانها، فوجب أنْ يكون المسح متعلقاً بها أنفسها دون أغيارها(4).
____________
=
ولا شك في تجاوز هذا الكلام الحدود المعقولة في التعامل مع النص القرآني، إذ لقائل أنْ يقول: لو كانت حكمة الطهارة كذلك! فلم لا يكون حال الرؤوس كالاَرجل! تُغسل في حال كونها مكشوفة، ويمسح على ما تستتر به من قلنسوة ونحوها؟!! مع أنّ الآية محكمة لا تحتاج إلى حكمة المراغي؛ ولهذا نجد من أنكر هذا الحمل، كابن همام الحنفي في شرحه على هداية المرغيناني بكتابه المسمى: فتح القدير، قال فيه 1/11 عن حمل قراءة الجر على مسح الخفين: «قال في شرح المجمع: فيه نظر؛ لاََنِّ الماسح على الخفّ ليس ماسحاً على الرجل حقيقة ولا حكماً؛ لاَن الخف اعتبر مانعاً سراية الحدث إلى القدم، فهي طاهرة، وما حلّ بالخف اُزيل بالمسح، فهو على الخف حقيقة وحكماً».
وقال السخاوي في جمال القرّاء وكمال الاِقراء 2/42: «وقيل: قراءة الخفض معناها مسح الخفين! وقراءة النصب لغسل الرجلين. والصحيح: إنّها محكمة».
وقد مرّ ماله علاقة بالمقام في الهامش رقم4 ص401، فراجع.
(1) في «م»: «وعدمهما هو الاَغلب».
(2) في «ر»: «يختص».
(3) في «م»: «خطاء».
(4) في «م»: «أعيانها».
________________________________________ الصفحة 425 ________________________________________
ولا خلاف في أنَّ الخفاف لا يعبر عنها (بالاَرجل، كما أنَّ العمائم لا يعبر عنها)(1) بالرؤوس، ولا البراقع بالوجوه.
فوجب أْن يكون الفرض متعلقاً بنفس المذكور(2) دون غيره على جميع الوجوه، ولو ساغ سوى ذلك في الاَرجُلِ حتى تكون(3) هي المذكورة والمراد سواها!! لساغ نظيره في الوجوه والرؤوس، ولجاز مثله أيضاً في قوله تعالى: (إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الاَرْضِ فَسَاداً أن يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِم وَأرْجُلُهم مِنْ خِلاَفٍ..)(4).
فَإنَّ هذه الآية دالة بظاهرها على قطع الاَيدي والاَرجل بأعيانها، مع أنّه لا يجوز أنْ [تصرف](5) عن ظاهرها.
فكذلك آية الطّهارة؛ لاَنَّها مثلها في الظهور والتبيين.
(إنَّ في ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إن كُنْتُم مُؤْمِنينَ)(6).
[خلاصة القول في قراءة (وأرجلكم) وبيان فرضها]
ثم أقول:
تلخيص الكلام في تحقق المرام، إنَّ الراجح في المقام:
____________
(1) ما بين القوسين لم يرد في «م».
(2) المقام إنْ كان مقام التوكيد (بالنفس)، فالتعبير (بنفس المذكور) ـ وهو الاَرجل ـ لا يفيده وإنّما الصحيح: بالمذكور نفسه. وظاهر العبارة، أن المراد هو تعلق الفرض بشخص المذكور فقط دون غيره.
(3) في «ر»: «يكون».
(4) سورة المائدة: 5: 33.
(5) في «ر» و«م»: «يصرف».
(6) سورة البقرة 2: 248، وسورة آل عمران 3: 49.
________________________________________ الصفحة 426 ________________________________________
إمّا المصير إلى قراءة نافع(1)، وابن عامر(2)، والكسائي(3)، وحفص(4) بنصب الاَرجل عطفاً على محل (برؤوسِكم)(5).
وإمّا المصير إلى قراءة غيرهم بالجر عطفاً على (رؤوسكم)(6).
وعلى التوجيهين يُستفاد وجوب المسح كما لا يخفى(7).
____________
(1) هو نافع بن عبدالرحمن بن أبي نعيم المدني، مولى جعونة بن شعوب الليثي، يكنى: أبا رويم، وقيل غير ذلك، أصله من اصبهان، وهو أحد القرّاء السبعة، كان اسود اللون حالكاً، مات سنة 169هـ على اصح الاَقوال وعاش ما يقرب من مائة عام.
التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ 8/87 رقم2281، مشاهير علماء الاَمصار: 141، تهذيب الكمال 39/381 رقم6364، سير أعلام النبلاء 7/336 رقم121، غاية النهاية 2/330 رقم3718.
(2) هو عبدالله بن عامر اليحصبي الشأمي، قاضي دمشق في زمن الوليد بن عبدالملك، يُعد من التابعين، انتهت إليه رئاسة الاِقراء بالشام وليس من القرّآء السبعة أحد من العرب غيره وغير أبي عمرو، والباقون من الموالي، مات بدمشق سنة 118هـ.
طبقات ابن سعد 7/449، التيسير في القراءات السبع: 5 ـ 6، تهذيب الكمال 5/ 143 رقم3354، وسير أعلام النبلاء 5/292 رقم138، غاية النهاية 1/423 رقم1790.
(3) تقدمت ترجمته في الهامش رقم 4 ص: 415.
(4) هو حفص بن سليمان، أبو عمرو بن أبي داود الاَسدي الكوفي الغاضري البزاز، يعرف بحفيص، أخذ القراءة عرضا وتلقيناً عن عاصم وكان ربيبه، ولد سنة 90هـ، نزل ببغداد وجاور مكة فأقرأ بهما، ومات سنة 180هـ على الصحيح.
الكنى والاسماء: 2/40، التيسير في القراءات السبع: 6، الكامل في التاريخ 5/394، تهذيب الكمال 7/10 رقم1390، تاريخ الاِسلام 5/137، العِبر 1/276، الكاشف 1/240.
(5) انظر الهامش رقم 2 ص381 الخاص ببيان العطف على المحل.
(6) تقدم تفصيل اسماء الصحابة والعلماء والقرّاء الذين قرأوا بهذه القراءة في الهامش رقم 1 ص370 ـ 373.
(7) لاَخذ الرِّجلين حكم المعطوف عليه وهو (الرؤوس)، فتكون ممسوحة على كل حال. سواء قلنا بأنّها نُصبت عطفاً على محل الرؤوس وهو النصب، لدخول الفعل (وامسحوا) عليها، أو
=
________________________________________ الصفحة 427 ________________________________________
وهذان التوجيهان، وإنْ كانا غير ظاهرين في حد ذاتهما، لكنهما مرجّحان على عطفهما على مفعول (اغسلوا)(1):
لموافقة قراءة الجر.
ولقرب المعطوف عليه إلى المعطوف(2).
والعامل إلى المعمول(3)(4) .
وبأنَّ العطف على المحل، مع عدم الفصل (بين المعطوف والمعطوف عليه، أظهر من العطف على اللفظ مع الفصل)(5) بينهما بجملة أجنبية(6)،
____________
=
قلنا بأنّها جُرّت بالعطف على لفظ الرؤوس المجرورة بدخول الباء عليها بعد أنْ كان محلها النصب.
(1) وهو: الوجوه والاَيدي، للتوجيه الاَوّل وهو العطف على المحل، كما مر في ص381 من هذه الرسالة، وقد مرّ آنفاً ـ في الهامش السابق ـ استفادة وجوب المسح على كلا التوجيهين.
(2) المعطوف عليه (الرؤوس)، والمعطوف هو (الاَرجل) وهما متقاربان لم يفصل بينهما فاصل، وقد تقدم في ص377 أنّ من جملة مرجحات عطف الاَرجل على الرؤوس هو قربها منها.
(3) كما مرّ في الهامش رقم 5 ص377، والمراد: قرب العامل (وامسحوا) إلى المعمول (وأرجلكم) ما يقتضي اعماله فيه بخلاف العامل (اغسلوا) البعيد.
(4) في حاشية «ر»: «وقد يقال في وجه الترجيح: إنّه لو كان المراد في الآية الغسل، لزم:
إمّا الاِضمار، أو الاِبهام. وهما على خلاف الاَصل.
أمّا الملازمة:
فلاَنّ العامل في نصب الرجلين: إمّا ظاهر، أو متعدد.
والثاني: إضمارٌ.
والظاهر: إمّا (اغسلوا)، أو (امسحوا).
فإذا لم يكن الاِعمال لـ (امسحوا)، لزم إجمال العاملين؛ إذ ليس الاَبعد أوْلى من الاَقرب، وهو إبهام.
فثبت أنّه يلزم من إرادة الغسل أحد الاَمرين، وكلاهما منفي بالاَصل، «منه سلّمه الله».
(5) ما بين القوسين لم يرد في «ر».
(6) الجملة الاَجنبية هنا هي جملة (وامْسَحُوا بِرؤُوسِكُمْ)، وهي قرينة على أن المراد بقوله ـ قبل ذلك ـ: «اظهر من العطف على اللفظ» أي: أنَّ عطف الاَرجل في قراءة النصب على محل الممسوح أوْلى من عطفها على لفظ الوجوه للفصل بينهما بجملة أجنبية.
________________________________________ الصفحة 428 ________________________________________
من غير فائدة مهمة(1)، أو تقدير فعل بلا قرينة كما عرفت(2).
والحاصل: إنّ التوجيهين المذكورين ـ مع كونهما شايعين ذائعين في كلام العرب ـ ليسا بعيدين بعداً تاماً، بخلاف توجيه قراءة الجر بحيث يوافق وجوب الغسل، فإنَّه ـ بعد تسليم صحة الحمل عليه ـ بعيدٌ نادر جداً كما سبق(3). ومن البَيْن، أنّ حمل القرائتين على معنىً لا يكون بعيداً عن شيء منهما، أوْلى من حمله على معنىً يكون بعيداً(4) عن أحدهما.
وبعبارة اُخرى، تقول: على تقدير عطف (الاَرجل) ـ في قراءة وقراءة الجر واحداً، وهو وجوب المسح.
وأمّا على تقدير عطفهما ـ على هذه القراءة ـ على لفظ (وجوهكم) فلا؛ لاقتضاء النصب ـ على ذلك التقدير ـ الغسل، والجر(5) المسح، والجمع بينهما خلاف الاِجماع، وكذا التخيير بينهما كما مضى(6).
على أنَّ القرآن قد فرّق بين الاَعضاء المغسولة والممسوحة، والتفصيل قاطع(7) للشركة، وتعيين(8) أحدهما ترجيح من غير مرجح.
____________
(1) هذا إشارة منه قدس سره إلى من زعم أنَّ ذكر الرؤوس الممسوحة بين المغسولات ـ الوجوه والاَيدي من طرف، والاَرجل من طرف آخر ـ فيه فائدة وهي التنبيه على وجوب الترتيب في أفعال الوضوء! وقد تقدم بطلان هذا الزعم في ص379 من هذه الرسالة، متناً وهامشاً، فراجع.
(2) هذا إشارة لما مرّ في ص383، وقد مرّ بطلانه في ص384 متناً وهامشاً، فراجع.
(3) إشارة إلى حمل قراءة الجر على المجاورة، وقد تقدم الرد على ذلك مفصلاً في الهامش رقم 4 ص412 الاَمر السابع، وكذلك في هامش رقم11 ص418 زيادة على ما مر في ص416 تحت عنوان: (بطلان الجر بالمجاورة)، فراجع.
(4) «بعيداً»: لم ترد في متن «م» واستُظهرت في الحاشية.
(5) في «ر»: «وبالجر» والصحيح ما في «ر»، والمعنى: ولاقتضاء الجر المسح.
(6) تقدم القول بالجمع، في ص367، والقول بالتخيير في ص 365، فراجع.
(7) في «م»: «القاطع».
(8) في «ر»: «وتعيُّن».
________________________________________ الصفحة 429 ________________________________________
وقد عرفت: إنّ دفع التنافي بحمل الجر على الجوار، لا يليق بالاعتبار(1). وإنّ من من حَمَلهُ على مسح الخفين (رجع بِخُفَّيْ حُنَيْن)(2).
وإنَّ حمل الغسل على الخفيف منه الشبيه بالمسح ـ كما فعله الزمخشري ـ يشهد ببطلانه(3) القطع بأنّ أهل الشرع لا يعدونه مسحاً حقيقة، ويفرقون بين مفهومه ومفهوم المسح باشتراط الجريان فيه خاصة(4).
____________
(1) راجع هامش رقم 3 ص428، ففيه بيان المواضع الخاصة بالرد على الجر بالمجاورة في هذه الرسالة.
(2) في حاشية «ر»: «قال الجوهري: قولهم: (بِخُفَّيْ حُنَيْن). قال ابن السكيت، عن أبي اليقضان: كان حُنَيْنُ رجلاً شديداً، ادّعى إلى أسد ابن هاشم بن عبد مناف، فأتى عبدالمطلب وعليه خفّان أحمران، فقال يا عم أنا ابن أسد بن هاشم! فقال عبدالمطلب: لا وثياب هاشم، ما اعرف شمائل هاشم فيك، فارجع. فقالوا له: رَجَعَ حُنيْنٌ بُخِفَّيْهِ، [انظر: ترتيب اصلاح المنطق لابن السكيت: 135 ـ حُنين (باختلاف يسير)] فصار مثلاً.
وقال غيره: هو اسم أسكافٍ من أهل الحيرة، ساومه أعرابيٌّ بخفيّن، فلم يشترهما، فغاضه ذلك، وعلّق أحد الخفين في طريقه، وتقدم فطرح الآخر، وكمن له، وجاء الاَعرابي فرأى الخفين، فقال: ما أشبه هذا بخفِّ حُنين! لو كان معه آخر لاشتريته، فتقدم فرأى الخف الثاني مطروحاً في الطريق، فنزل وعقل بعيره ورجع إلى الاَوّل، فذهب الاَسكاف براحلته، وجاء [الاَعرابي] إلى الحي بِخُفَّيْ حُنين. انتهى. منه سلمه الله».
انظر: الصحاح للجوهري 5/2105 مادة «حُنَيْن»، ومجمع الاَمثال، الطبعة القديمة 1/296 رقم1568 ـ حرف الراء ـ والطبعة المحققة في بيروت 2/40 والمستقصى في أمثال العرب ـ للزمخشري ـ 2/100 رقم355 ـ الراء مع الجيم ـ 1/105 رقم419 ـ الهمزة مع الخاء ـ.
والمثل المذكور يضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة، وهو كما ترى، منطبق تمام الانطباق على من يقول بمسح الخفين في قراءة الجر! فكما أنّ الاَعرابي الجلف رجع بخفيه دون راحلته، فهذا أسوء منه حالاً إذْ طَهَّرَ جلد غيره دون رجله!! فكلاهما راجع بالخيبة والخسران، إلاّ أنّ ماسح الخفّ أشدّ وأوْلى.
(3) في «م»: «يشهد بطلانه».
(4) وقد مر هذا مفصلاً في موضعين وهما في ص387 مع الهامش رقم 5، وص 392 مع الهامش رقم 6، فراجع لا سيما الموضع الثاني منهما.
________________________________________ الصفحة 430 ________________________________________
وأيضاً، يأباه صريح الآية؛ لاشتمالها على التفصيل القاطع للشركة، إذْ لو أراد الله سبحانه من لفظ المسح ـ بعد أنِ انْتَقَل عن جملة الغسل ـ لزم الاِغراء بالجهل، ووضع الظاهر بإزاء الخفي!!
ومعلوم أنّه لا يجوز وقوعه في الحكمة، فكيف يجوز أنْ ينسب صدوره منه سبحانه؟ مع علو حكمته، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
التعلیقات