مناظرة الشيخ الصدوق مع ملحد عند ركن الدولة في غيبة الاِمام المهدي عليه السلام
في العقائد
منذ 14 سنةولقد كلمني بعض الملحدين في مجلس الاَمير السعيد ركن الدولة رضي الله عنه فقال لي : وجب على إمامكم أن يخرج فقد كاد أهل الرُّوم يغلبون المسلمين.
فقلت له : إنّ أهل الكفر كانوا في أيّام نبيّنا صلى الله عليه وآله أكثر عدداً منهم اليوم ، وقد أسرَّ صلى الله عليه وآله أمره وكتمه أربعين سنة بأمر الله جلَّ ذكره ، وبعد ذلك أظهره لمن وثق به وكتمه ثلاث سنين عمّن لم يثق به، ثمَّ آل الاَمر إلى أن تعاقدوا على هجرانه وهجران جميع بني هاشم والمحامين عليه لاَجله، فخرجوا إلى الشعب وبقوا فيه ثلاث سنين فلو أنَّ قائلاً قال في تلك السنين : لم لا يخرج محمد صلى الله عليه وآله فإنَّه واجب عليه الخروج لغلبة المشركين على المسلمين ؟ ما كان يكون جوابنا له إلاّ أنّه صلى الله عنه وآله بأمر الله تعالى ذكره خرج إلى الشعب حين خرج وبإذنه غاب ومتى أمره بالظهور والخروج خرج وظهر .
لاَنَّ النبي صلى الله عليه وآله بقي في الشعب هذه المدَّة حتى أوحى عزَّ وجلَّ إليه أنّه قد بعث أرضةً على الصحيفة المكتوبة بين قريش في هجران النبي صلى الله عليه وآله وجميع بني هاشم، المختومة بأربعين خاتماً ، المعدلة عند زمعة بن الاَسود فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم وتركت ما كان فيها اسم الله عزّ وجلّ ، فقام أبو طالب فدخل مكّة، فلمّا رأته قريش قدروا أنّه قد جاء ليسلم إليهم النبي صلى الله عليه وآله حتى يقتلوه أو يرجعوه عن نبوَّته، فاستقبلوه وعظّموه فلمّا جلس قال لهم : يا معشر قريش إنَّ ابن أخي محمد لم أجرب عليه كذباً قطُّ ، وإنّه قد أخبرني أنَّ ربّه أوحى إليه أنّه قد بعث على الصحيفة المكتوبة بينكم الاَرضة ، فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم وتركت ما كان فيها من أسماء الله عزّ وجلّ ، فأخرجوا الصحيفة وفكّوها فوجدوها كما قال، فآمن بعضٌ وبقي بعض على كفره، ورجع النبي صلى الله عليه وآله وبنو هاشم إلى مكّة(2)، هكذا الاِمام عليه السلام إذا أذن الله له في الخروج خرج .
وشيء آخر وهو أن الله تعالى ذكره أقدر على أعدائه الكفار من الاِمام ، فلو أن قائلاً قال : لِمَ يمهل الله أعداءه ولا يبيدهم وهم يكفرون به ويشركون ؟ لكان جوابنا له أنَّ الله تعالى ذكره لا يخاف الفوت فيعاجلهم بالعقوبة، و ( لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون )(3) ولا يقال له : لِمَ ولا وكيف ، وهكذا إظهار الاِمام إلى الله الذي غيّبه فمتى أراده أذن فيه فظهر.
فقال الملحد : لست أؤمن بإمام لا أراه ، ولا تلزمني حجّته ما لم أره .
فقلت له : يجب أن تقول : إنّه لا تلزمك حجّة الله تعالى ذكره لاَنّك لا تراه، ولا تلزمك حجّة الرسول صلى الله عليه وآله لاَنّك لم تره .
فقال للاَمير السعيد ركن الدولة رضي الله عنه : أيّها الاَمير راع ما يقول هذا الشيخ فإنّه يقول : إنَّ الاِمام إنّما غاب ولا يُرى لاَنّ الله عزّ وجلّ لا يُرى .
فقال له الاَمير رحمه الله : لقد وضعت كلامه غير موضعه وتقوَّلت عليه ، وهذا انقطاع منك وإقرار بالعجز.
وهذا سبيل جميع المجادلين لنا في أمر صاحب زماننا عليه السلام ما يلفظون في دفع ذلك وجحوده إلاّ بالهذيان والوساوس والخرافات المموَّهة(4).
____________
(1) هو : الشيخ الاَجل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي المشتهر بالصدوق ـ رضي الله تعالى عنه وأعلى مقامه ـ شيخ من مشائخ الشيعة، وركن من أركان الشريعة، رئيس المحدثين، ولد في قم حدود سنة 306 هـ بدعاء الاِمام الثاني عشر الحجة بن الحسن ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ ، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر، ووصفه الاِمام عليه السلام في التوقيع الخارج من ناحيته المقدسة بأنه : فقيهٌ خيّر مبارك ينفع الله به، فعمّت بركته ببركة الاِمام عليه السلام وانتفع به الخاص والعام، وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الاَيّام، وعمّ الانتفاع بفقهه وحديثه الفقهاء الاَعلام ، وكان جليلاً حافظاً للاَحاديث بصيراً بالرجال ناقلاً للاَخبار لم يُرَ في القمّيين مثله في حفظه وكثرة علمه، له نحو ثلاثمائة مصنّف في شتى فنون العلم وأنواعه، وأشهرها : كتاب من لا يحضره الفقيه، عيون أخبار الرضا عليه السلام ، علل الشرائع ، إكمال الدين وإتمام النعمة ، أمالي الصدوق، معاني الاَخبار، توفي ـ عليه الرحمة ـ في بلدة الري سنة 381 هـ ، وقبره بالقرب من قبر السيد عبد العظيم بن عبدالله الحسني رضي الله عنه .
راجع ترجمته في : تنقيح المقال للعلامة المامقاني : ج3 ص154 ترجمة رقم : 11104، الفهرست للشيخ الطوسي : ص156 ترجمة رقم : 695، روضات الجنات : ج6 ص132 ترجمة رقم : 574 ، وفي أكثر كتبه في المقدمة وفي العديد من الكتب الرجالية.
(2) راجع قصة الصحيفة في : البداية والنهاية لابن كثير : ج 2 ص 95 ـ 97 ، دلائل النبوة لاَبي نعيم : ج 1 ص 272 ـ 275 ح 205 ، الكامل في التأريخ لابن الاَثير : ج 2 ص 87 ـ 90 ، بحار الاَنوار : ج 19 ص 1 ـ 4 ح 1 .
(3) سورة الاَنبياء : الآية 23 .
(4) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق : ج1 ص87 ـ 88 .
التعلیقات