مناظرة الشيخ المفيد مع شيخ من الإسماعيلية في حكم المتعة
في الاحكام
منذ 14 سنةقال الشيخ ـ أدام الله عزه ـ : حضرت دار بعض قواد الدولة وكان بالحضرة شيخ من الاِسماعيلية يعرف بابن لؤلؤ ، فسألني : ما الدليل على إباحة المتعة ؟
فقلت له : الدليل على ذلك قول الله جلّ جلاله : ( واُحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم مُحصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهنَّ فآتوهنَّ أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليماً حكيماً )(1)، فأحل جلّ اسمه نكاح المتعة بصريح لفظها وبذكر أوصافه من الاَجر عليها ، والتراضي بعد الفرض له من الازدياد في الاَجل وزيادة الاَجر فيها.
فقال : ما أنكرت أن تكون هذه الآية منسوخة بقوله : ( وَالذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إلاّ عَلَى أَزوَاجِهِم أَو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمن ابتَغَى وَراءَ ذَلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ العَادُون )(2) ، فحظر الله تعالى النكاح إلاّ لزوجة أو ملك يمين ، وإذا لم تكن المتعة زوجة ولا ملك يمين فقد سقط قول من أحلها.
فقلت له : قد أخطأت في هذه المعارضة من وجهين :
أحدهما : أنك ادّعيت أن المستمتع بها ليست بزوجة ، ومخالفك يدفعك عن ذلك ويعتبرها زوجة في الحقيقة
والثاني : أنّ سورة المؤمنين مكّية وسورة النساء مدنية ، والمكي متقدّم للمدني ، فكيف يكون ناسخاً له وهو متأخر عنه وهذه غفلة شديدة !
فقال : لو كانت المتعة زوجة لكانت ترث ويقع بها الطلاق ، وفي إجماع الشيعة على أنها غير وارثة ولا مطلقة دليل على فساد هذا القول.
فقلت له : وهذا أيضاً غلط منك في الديانة ، وذلك أن الزوجة لم يجب لها الميراث ويقع بها الطلاق من حيث كانت زوجة فقط وإنما حصل لها ذلك بصفة تزيد على الزوجية ، والدليل على ذلك أن الاَمة إذا كانت زوجة لم ترث ، والقاتلة لا ترث ، والذمية لا ترث ، والاَمة المبيعة تبين بغير طلاق ، والملاعنة تبين أيضاً بغير طلاق ، وكذلك المختلعة ، والمرتد عنها زوجها ، والمرضعة قبل الفطام بما يوجب التحريم من لبن الاَُم ، والزوجة تبين بغير طلاق ، وكلّ ما عددناه زوجات في الحقيقة ، فبطل ما توهّمت فلم يأت بشيء .
فقال صاحب الدار وهو رجل أعجمي لا معرفة له بالفقه وإنما يعرف الظواهر : أنا أسألك في هذا الباب عن مسألة ، خبرني هل تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله متعة أو تزوج أمير المؤمنين عليه السلام ؟
فقلت له : لم يأت بذلك خبر ولا علمته .
فقال : لو كان في المتعة خير ما تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام.
فقلت له : أيّها القائل ليس كلّ ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله كان محرماً ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله والاَئمة عليهم السلام كافة لم يتزوجوا بالاِماء ، ولا نكحوا الكتابيات ، ولا خالعوا ، ولا تزوجوا بالزنج ، ولا نكحوا السند ، ولا اتجروا إلى الاَمصار ، ولا جلسوا باعة للتجار ، وليس ذلك كلّه محرماً ولا منه شيء محظور ، إلا ما خصت به الشيعة دون مخالفيها من القول في نكاح الكتابيات .
فقال : فدع هذا ، خبرني عن رجل ورد من قم يريد الحج فدخل إلى مدينة السلام فاستمتع بها بامرأة ثم انقضى أجلها ، فتركها وخرج إلى الحج وكانت حاملاً منه ولم يعلم بحالها ، فحج ومضى إلى بلده وعاد بعد عشرين سنة وقد ولدت بنتاً وشبّت ، ثم عاد إلى مدينة السلام فوجد فيها تلك الابنة فاستمتع بها وهو لا يعلم ، أليس يكون قد نكح ابنته وهذا فظيع جداً .
فقلت له : إن أوجب هذا الذي ذكر القائل تحريم المتعة وتقبيحها أوجب تحريم نكاح الميراث وكل نكاح وتقبيحه ، وذلك أنه قد يتفق في مثل ما وصف وجعله طريقاً إلى حظر المتعة ، وذلك أنّه لا يمنع أن يخرج رجل من أهل السنة وأصحاب أحمد بن حنبل من خوارزم قاصداً للحج فينزل مدينة السلام ،ويحتاج إلى النكاح فيستدعي امرأة من جيرانه حنبلية سنية فيسألها أن تلتمس له امرأة ينكحها ، فتدله على امرأة شابة ستيرة ثيب لا ولي لها فيرغب فيها ، وتجعل المرأة أمرها إلى إمام المحلة وصاحب مسجدها ، فيحضر رجلين ممن يصليا معه ويعقد عليها النكاح للخوارزمي السني الذي لا يرى المتعة ويدخل بالمرأة ويقيم معها إلى وقت رحيل الحج إلى مكة ، فيستدعي الشيخ الذي عقد عليه النكاح فيطلقها بحضرته ويعطيهم عدتها وما يجب عليه من نفقتها ، ثم يخرج فيحج وينصرف من مكة على طريق البصرة ويرجع إلى بلده ، وقد كانت المرأة حاملاً وهو لا يعلم فيقيم عشرين سنة ، ثمّ يعود إلى مدينة السلام للحج فينزل في تلك المحلة بعينها ، ويسأل عن العجوز فيفقدها لموتها ، فيسأل عن غيرها ، فتأتيه قرابة لها أو نظيرة لها في الدلالة فتذكر له جارية هي ابنة المتوفاة بعينها ، فيرغب فيها ويعقد عليها ، كما عقد على اُمّها بولي وشاهدين ، ثمّ يدخل بها فيكون قد وطىء ابنته ، فيجب على القائل أن يحرم ـ لهذا الذي ذكرناه ـ كل نكاح .
فاعترض الشيخ السائل أوّلاً فقال : عندنا أنه يجب على هذا الرجل أن يوصي إلى جيرانه باعتبار حالها وهذا يسقط هذه الشناعة .
فقلت له : إن كان هذا عندكم واجباً فعندنا أوجب منه وأشد لزوماً : أن يوصي المستمتع ثقة من إخوانه في البلد باعتبار حال المستمتع بها ، فإن لم يجد أخاً أوصى قوماً من أهل البلد ، وذكر أنها كانت زوجته ولم يذكر المتعة وهذا شرط عندنا فقد سقط أيضاً ما توهمه .
ثمّ أقبلت على صاحب المجلس فقلت له : إن أمرنا مع هؤلاء المتفقهة عجيب ، وذلك أنهم مطبقون على تبعيدنا في نكاح المتعة ، مع إجماعهم على أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد كان أذن فيها ، وأنها عملت على عهده ، ومع ظاهر كتاب الله عزّ وجلّ في تحليلها ، وإجماع آل محمد عليهم السلام على إباحتها ، والاتفاق على أن عمر حرّمها في أيّامه ، مع إقراره بأنها كانت حلالاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلو كنّا على ضلالة فيها لكنا في ذلك على شبهة تمنع ما يعتقده المخالف فينا من الضلال والبراءة منا ، وليس فيمن خالفنا إلاّ من يقول في النكاح وغيره بضد القرآن ، وخلاف الاِجماع ، ونقض شرع الاِسلام ، والمنكر في الطباع ، وعند ذوي المروّات ، ولا يرجع في ذلك إلى شبهة تسوغ له في قوله ، وهم معه يتولى بعضهم بعضاً ، ويعظم بعضهم بعضاً وليس ذلك إلاّ لاختصاص قولنا بآل محمدعليهم السلام ، فلعداوتهم لهم رمونا عن قوس واحد.
هذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت يقول : لو أن رجلاً عقد على اُمّه عقدة النكاح ، وهو يعلم أنها اُمه ، ثم وطئها لسقط عنه الحدّ ، ولحق به الولد(3).
وكذلك قوله في الاَخت والبنت ، وكذلك سائر المحرمات ، ويزعم أن هذا نكاح شبهة أوجبت سقوط الحد.
ويقول : لو أن رجلاً استأجر غسالة أو خياطة أو خبازة أو غير ذلك من أصحاب الصناعات ، ثم وثب عليها فوطئها وحملت منه سقط عنه الحد ، ولحق به الولد(4) .
ويقول : إذا لف الرجل على إحليله حريرة ثمّ أولجه في قُبل امرأة ليست له بمحرم له حتى ينزل ، لم يكن زانياً ولا وجب عليه الحد .
ويقول : إن الرجل إذا لاط بغلام فأوقب لم يجب عليه الحد(5)، ولكن يردع بالكلام الغليظ والاَدب بالخفقة بالنعل والخفقتين وما أشبه ذلك.
ويقول : إن شرب النبيذ الصلب المسكر حلال طلق(6) ، وهو سنة ، وتحريمه بدعة.
وقال الشافعي : إذا فجر الرجل بامرأة فحملت منه فولدت بنتاً ، فإنه يحل للفاجر أن يتزوج بهذه الابنة ويطأها ويولدها لا حرج عليه في ذلك(7)، فأحل نكاح البنات .
وقال : لو أن رجلاً اشترى أخته من الرضاعة ، ووطئها لما وجب عليه الحد(8) ، وكان يجيز سماع الغناء بالقصب وأشباهه(9).
وقال مالك بن أنس : إن وطىء النساء في أحشاشهن حلال طلق ، وكان يرى سماع الغناء بالدف وأشباهه من الملاهي ، ويزعم أن ذلك سنة في العرسات والولائم.
وقال داود بن علي الاَصفهاني : إن الجمع بين الاَختين في ملك اليمين حلال طلق(10) ، والجمع بين الاَم والابنة غير محظور .
فاقتسم هؤلاء الفجور وكل منكر فيما بينهم واستحلوه ، ولم ينكر بعضهم على بعض ، مع أن الكتاب والسنة والاِجماع تشهد بضلالهم في ذلك ، ثمّ عظّموا أمر المتعة ، والقرآن شاهد بتحليلها ، والسنة والاِجماع يشهدان بذلك ، فيعلم أنهم ليسوا من أهل الدين ، ولكنهم من أهل العصبية والعداوة لآل الرسول (صلى الله عليه وآله) .
فاستعظم صاحب المجلس ذلك وأنكره وأظهر البراءة من معتقديه ، وسهل عليه أمر المتعة والقول بها(11) .
____________
(1) سورة النساء : الآية 24 .
(2) سورة المؤمنون : الآية 5 ـ 7 .
(3) الفقه على المذاهب الاَربعة للجزيري : ج5 ص124 ، المغني لابن قدامة : ج10 ص149.
(4) المحلى لابن حزم : ج11 ص250 ، المغني لابن قدامة : ج10 ص187 ، حلية العلماء : ج8 ص15.
(5) الفقه على المذاهب الاَربعة للجزيري : ج5 ص141 ، المحلى لابن حزم : ج11 ص382.
(6) الفقه على المذاهب الاَربعة للجزيري : ج1 ص68 ، المحلى لابن حزم : ج11 ص373.
(7) الفقه على المذاهب الاَربعة للجزيري : ج 5 ص 134.
(8) المغني لابن قدامة : ج 10 ص 151 ،وقد نسب هذا القول أيضاً إلى أبي حنيفة راجع : حلية العلماء : ج 8 ص 30 .
(9) الفقه الاِسلامي وأدلّته : ج 7 ص 128 .
(10) راجع : سنن البيهقي : ج 7 ص 163 ـ 165 ، المغني لابن قدامة : ج 7 ص 493 .
(11) الفصول المختارة للشيخ المفيد : ص119 ـ 123 .
التعلیقات