مناظرة عبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مع الحرورية
في الإمامة
2024 Sep 19قال عبدالله بن عباس : لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دارهم وكانوا ستة آلاف .
فقلت لعلي ـ عليه السلام ـ : يا أمير المؤمنين أبرد بالظهر ، لعَليّ آتي هؤلاء القوم فأكلمهم .
قال : إني أخاف عليك .
قلت : كلا .
قال : فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائلون ، فسلمت عليهم .
فقالوا : مرحبا بك يابن عباس ، فما جاء بك ؟
قلت لهم : أتيتكم من عند أصحاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وصهره ، وعليهم نزل القرآن ، وهم أعلم بتأويله منكم ، وليس فيكم منهم أحد ، لابلّغكم ما يقولون ، وأخبرهم بما تقولون .
قلت : أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وابن عمه ؟
قالوا : ثلاث .
قلت : ما هن ؟
قالوا : أما إحداهن ، فإنه حَكَّم الرجال في أمر الله ، وقال الله تعالى : ( إن الحكم إلا لله )(٢) ، ما شأن الرجال والحكم ؟ !
فقلت : هذه واحدة .
قالوا : وأما الثانية ، فإنه قاتل ولم يَسبِ ولم يغنم ، فإن كانوا كفارا سلبهم ، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم(٣).
قلت : هذه اثنتان ، فما الثالثة ؟
قالوا : إنه محى نفسه عن أمير المؤمنين ، فهو أمير الكافرين .
قلت : هل عندكم شيء غير هذا ؟
قالوا : حسبنا هذا .
قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ما يردّ قولكم، أترضون ؟
قالوا : نعم .
قلت : أما قولكم حَكَّم الرجال في أمر الله ، فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر الله حكمه إلى الرجال في ثَمَن ربع درهم ، فأمر الله الرجال أن يحكّموا فيه ، قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم )(٤) الاية ، فأنشدتكم بالله تعالى : أحكمُ الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل ؟ أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم ، وأنت تعلمون أن الله تعالى لو شاء لحكم ولم يصيّر ذلك إلى الرجال ؟
قالوا : بل هذا أفضل .
وفي المرأة وزوجها قال الله عزوجل : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما )(٥) الاية ، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في امرأة ؟ أخرجتُ من هذه ؟
قالوا : نعم .
قلت : وأما قولكم : قاتل ولم يسَبِ ولم يغنم ، أفَتسْبوُن أمَّكم عائشة ، وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها ، وهي أمُكم ؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها ، فقد كفرتم ، ولان قلتم: ليست بأمنا، فقد كفرتم ، لان الله تعالى يقول : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) (٦).
فأنتم تدورون بين ضلالتين ، فأتوا منهما بمخرج ؟
قلت : فخرجتُ من هذه ؟
قالوا : نعم .
وأما قولكم : محى اسمه من أمير المؤمنين ، فأنا آتيكم بمن ترضون ، وأراكم قد سمعتم أن النبي ـ صلّى عليه وآله وسلّم ـ يوم الحديبية صالح المشركين ، فقال لعلي ـ عليه السلام ـ : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، فقال المشركون : لا و ، ما نعلم أنك رسول و الله ، لو نعلم أنك رسول الله لاطعناك ، فاكتب محمد بن عبدالله ، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : امح يا عليّ « رسول الله » اللّهم إنك تعلم أني رسولك ، امح يا عليّ واكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله .
فوالله لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ خير من علي ، وقد محا نفسه ، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة ؟(٧).
خرجتُ من هذه ؟
قالوا : نعم .
فرجع منهم ألفان ، وخرج سائرهم ، فَقُتِلوا على ضلالتهم ، فقتلهم المهاجرون والانصار(٨).
____________
(١) الحرورية : جماعة من الخوارج النواصب ، والنسبة لبلد قرب الكوفة على ميلين منها تسمى حرُوراء ، نزل بها هؤلاء بعد خروجهم على أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ حينما قبل بالتحكيم بينه وبين معاوية ، قيل لهم حينئذاك : أنتم الحرورية لاجتماعكم بحروراء ، وقال شاعرهم :
اذا الحرورية الحرى ركبوا * لا يستطيع لهم أمثالك الطلبا
وقالوا يومها : لا حكم إلا لله ، فقال علي ـ عليه السلام ـ: كلمة حق أريد بها باطل .
وسُموا ايضاً بالخوارج والمحكمة ، والسبب الذي له سُمّوا خوارج : خروجهم على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، والذي له سُمّوا محكمة : إنكارهم الحكمين ، وقولهم لا حكم الا لله .
راجع : معجم الفرق الاسلامية لشريف الامين ص ٩٤ ، مقالات الاسلامين للاشعري ص ١٢٧ ـ ١٢٨ .
(٢) سورة الانعام : الاية ٥٧ .
(٣) المقصود من كانوا في حرب الجمل ، فان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ نهى عن قتل جريحهم وسبيهم وسلبهم واتباع مدبرهم .
(٤) سورة المائدة : الاية ٩٥ .
(٥) سورة النساء : الاية ٣٥ .
(٦) سورة الاحزاب : الاية ٦ .
(٧) خصائص امير المؤمنين للنسائي ص١٥٠ ـ ١٥٢ ح١٨٥ ، دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ١٤٧ ، المناقب للخوارزمي ص١٩٢ ح٢٣١ ، الكامل في التاريخ ج٢ ص٢٠٤ ، شرح نهج البلاغة ج٢ ص٢٣٢ وج١٠ ص٢٥٨ ، الارشاد للمفيد ص٦٣ ، مجمع البيان ج ٥ ص ١١٩ .
(٨) المصنف لعبد الرزاق ج١٠ ص١٥٧ ـ ١٦٠ ، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج٢ ص١٠٣ ـ ١٠٤ ، الحاكم في المستدرك ج٢ ص١٥٠ ، مناقب ابن المغازلي ص٤٠٦ ح٤٦٠.
التعلیقات