مراحل نشوء لتشيع
هوية الشيعة
منذ 14 سنة
المصدر : الشيعة في الميزان ، تأليف : محمّد جواد مغنية ، ص 96 ـ 114
/ صفحة 96 /
التشيع في ثلاث مراحل
قدمنا في الصفحات السابقة أن قول النبي (ص): " من كنت مولاه فعلي مولاه " هو السبب الاول لقول من قال بأحقية علي بالخلافة، وأن قوله " علي مع الحق والحق مع علي " سبب للقول بعصمته، وأن قوله " يخرج المهدي ويملا الارض قسطا وعدلا " سبب للقول بالمهدي المنتظر، حيث لا يسع المسلم بما هو مسلم أن يتجاهل أقوال نبيه الكريم التي رواها الثقات، وأثبتها أصحاب الصحاح في صحاحهم.
ولكن هذه الاحاديث، وما إليها لا تأتي ثمارها، ولا تعمل عملها بدون دعاة وحماة يبينونها للناس، ويعملون على بثها ونشرها. فمن هم الذين دعوا إلى التشيع؟ وما هي الاساليب التي استعملوها لبثه ونشره؟
والجواب عن هذا السؤال يستوعب كتابا ضخما، لان رواد التشيع والذابون عنه لا يبلغهم الاحصاء، ولكن نستطيع أن نقسم الدعوة إلى التشيع باعتبار الادلة التي كان يعتمدها الدعاة إلى ثلاثة أدوار: ويبدأ الدور الاول بوفاة الرسول (ص)، وينتهي بانتهاء العصر الاموي. ويبدأ الثاني بعهد الامام الصادق، أي بأول العهد العباسي. ويمتد إلى عصر الشيخ المفيد المتوفى سنة 413 ه، وينتهي هذا الدور بالعلامة الحلي (ت 726 ه) الذي وضع أجوبة الشبهات ونقضها بشتى أنواعها في وضعها النهائي، ولم يدع فيها زيادة لمن جاء بعده، ونذكر من كل دور أفرادا - على سبيل المثال لا الحصر - كان لهم الاثر البالغ في بث التشيع ونشره.
الدور الاول:
إن انتشار الاسلام وامتداده إلى شرق الارض وغربها لا يستند إلى الفتوحات
/ صفحة 97 /
الاسلامية، وقوة المسلمين فحسب (1) وإنما يستند أولا وقبل كل شئ إلى مبادئه الانسانية، وشريعته السهلة السمحة، ولولاها لم يكتب له النجاح والبقاء، حتى اليوم، والى آخر يوم، وكذلك مبدأ التشيع فإنه مدين في نجاحه واستمراره إلى كتاب الله وسنة الرسول، لا إلى هيئة من الهيئات، أو فرد من الافراد، فمن دعا إليه تسلح بكتاب الله وسنة نبيه، ومن اعتنقه اعتنقه طاعة لله ورسوله.
ومن هنا اعتمد دعاة التشيع أول ما اعتمدوا على ما جاء في كتاب الله سبحانه بحق علي خاصة، كقوله تعالى " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - 55 المائدة " وغيرها من الآيات التي بحق علي خاصة، كقوله تعالى " انما وليكم الله ورسوله الذين آمنوا الذين يقيمون وياتون الزكاة وهم راكعون - 58 المائدة " وغيرها من الآيات التي ذكرناها في كتاب " علي والقرآن "، واعتمدوا على ما نزل في أهل البيت عامة، كآية التطهير، وآية المودة، وآية المباهلة، وعلى الاحاديث النبوية، كحديث الغدير، وحديث المنزلة، وحديث مدينة العلم، وحديث المؤاخاة، وما إليه، وإذا تعدوا الآيات والاحاديث فإلى فضائل الامام، كزهده، وعلمه، وشجاعته، وسبقه إلى الاسلام، وجهاده، وتصلبه في جانب الله.
وكانت مظاهر التشيع في هذا الدور غاية في الوضوح، غاية في البساطة، فلا عيد غدير، ولا شهادة أن عليا ولي الله في الاذان، لا شئ سوى الايمان بأن الخلافة بعد الرسول حق إلهي لعلي بن أبي طالب، وكان أول من أعلن هذا الحق ودعا إليه السيدة فاطمة أم الحسنين أعلنته في خطبتها الاولى بالمسجد الجامع، وفي خطبتها الثانية ببيتها على نساء المهاجرين والانصار، وقد أبنا ذلك في كتاب مع " بطلة " كربلاء، وقلنا: إن الغاية الاولى من كلتا الخطبتين أن تعلن للاجيال حق بعلها في خلافة أبيها، وإن المطالبة بفدك كانت وسيلة لهذه الغاية.
ــــــــــــــــــــ
(1) لم تكن الغاية من تلك الفتوحات التبشير بالاسلام، والدعوة إلى الله - فيما نعتقد - وإنما كانت من أجل سيطرة المسلمين، وامتداد سلطانهم وايجاد أرض يعيشون فيها أغنى من أرضهم، وتربة أخصب من تربتهم. ولكن عظمة الاسلام بشرت بنفسها لنفسها في جميع أدوار التاريخ، بخاصة في هذا العصر الذي ينهش المسلمون بعضهم بعضا، وبصورة أخص حكامهم الذين أعانوا قوى الشر والعدوان عليهم وعلى دينهم وبلادهم، ولو لا ما في الاسلام من قوة ومناعة لكان المنتمون إليه من أقوى عوامل القضاء عليه. (*)
/ صفحة 98 /
أجل، منذ اليوم الاول لفاجعة كربلاء، والشيعة يتوافدون إلى زيارة قبر الحسين، ويقيمون المآتم الحسينية، وإن لم تكن على الشكل الذي عليه الآن، وأول من زار الضريح المقدس الصحابي المعروف جابر بن عبد الله الانصاري، مع جماعة من الشيعة، وأول من أبو باهل الجمحي، قال كرد علي في الجزء السادس من كتاب " خطط الشام " ص 256 طبعة 1928:
" تجتمع الشيعة في الايام عاشوراء، فتقيم المآتم على الحسين بن علي شهيد كربلاء عليه السلام، وعهدهم بذلك بعيد يتصل بعصر الفاجعة، وأول من رثاه أبو باهل الجمحي بقصيدة يقول فيها:
تبيت النشاوى من أمية نوما * وبالطف قتلى ما ينام حميمها
والظاهر من سيرة ديك الجن الحمصي في كتاب " الاغاني " أن هذه الاجتماعات للمآتم كانت معروفة في زمانه، ثم أن بني بويه أيام دولتهم عنوا بها مزيد العناية، ولا تزال إلى اليوم تقام في جميع أقطار الشيعة، وليست هي من الفروض، كما يتوهم، بل يستحبونها، لانها تصدر عن ولاء ومحبة. وقد تطرف بعض العجم، فأبدعوا فيها بدعا يمقتها الله والناس، من ضرب أنفسهم بالمدى، وإسالة الدماء على أثوابهم، وعمل ما يسمونه الشبيه، وقد مقته العلماء من الشيعة، ولم تذعن لهم به العامة في كثير من البلدان التي استحكمت فيها هذه العادة ".
ومن الدعاة الاول للتشيع جميع بني هاشم، وعلى رأسهم العباس عم الرسول، وكثير من الاصحاب، وقد ذكرنا أسماءهم فيما سبق، وكان أشهرهم وأكثرهم حماسا أربعة: سلمان وأبو ذر، وعمار، والمقداد، فقد أولوا الدعاء لعلي اهتماما بالغا، وعناية خاصة، ونظروا إلى خلافته كركن من أركان الاسلام، وشرط لقوة المسلمين واجتماع شملهم، وتوحيد كلمتهم، ولم يشكوا لحظة في أن انصرافها عن علي إلى غيره مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة، ومعصية الله ورسوله.
سلمان الفارسي:
وكان سلمان من رؤوس أصحاب رسول الله، وأثنى عليه النبي بأحاديث
/ صفحة 99 /
رواها السنة والشيعة، منها " سلمان منا أهل البيت " وقد نظم هذا الحديث أبو فراس الهمداني بقوله:
كانت مودة سلمان لهم رحما * ولم تكن بين نوح وابنه رحم
وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق في وقعة الاحزاب، وكان أميرا على زهاء ثلاثين ألفا من المسلمين في المدائن، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويجعل البعض الآخر غطاء، وكان لا يأكل إلا من عمل يده، وإذا خرج عطاؤه، وهو خمسة آلاف، فرقة بكامله، وقال حين توفي الرسول:
أيها الناس قدموا من هو أقرب إلى رسول الله، وأعلم بكتاب الله، وسنة نبيه، ومن قدمه النبي في حياته، وأوصاكم به عند وفاته. ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا، وإن عند علي بن أبي طالب علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب ". توفي سلمان بالمدائن سنة 36 ه. وكتبت له ترجمة مطولة في كتاب " مع علماء النجف ".
أبو ذر أبو ذر الصحابي الجليل الذي قال فيه النبي: " ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويدخل الجنة وحده " وكان رابع المسلمين أو خامسهم، وقد نفي وشرد ونكل به، لايمانه وإخلاصه، وقال حين بويع أبو بكر: " يا معشر قريش:
تركتم قرابة رسول الله، والله ليرتد جماعة من العرب، ولتشكن في هذا الدين، ولو جعلتم الامر في أهل بيت نبيكم ما اختلف عليكم سيفان، والله لقد صارت لمن غلب، ولتطمحن إليها عين من ليس من أهلها، وليسفكن في طلبها دماء كثيرة. إن عليا هو الصديق الاكبر، وهو الفاروق بعد رسول الله يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب الدين، والمال يعسوب الظلمة ". مات أبو ذر طريدا منفيا سنة 32 ه. وتكلمت عنه مطولا في كتاب " مع علماء النجف ".
عمار بن ياسر:
من السابقين الاولين، هاجر الهجرتين: إلى الحبشة والمدينة، وصلى القبلتين، وشهد بدرا وأحدا، وبيعة الرضوان، وجميع المشاهد مع رسول الله، وأسلم
/ صفحة 100 /
عمار وأخوه عبد الله، وأبوه ياسر، وأمه سمية حين كان المسلمون مستضعفين في مكة، فكانت قريش تأخذ ياسر وزوجته سمية، وولديهما عمارا وعبد الله، وتلبسهم أدراع الحديد، وتلقيهم في الشمس، حتى يبلغ منهم الجهد كل مبلغ، وربطت قريش سمية بين بعيرين، وطعنها أبو جهل في قلبها، فقتلها، وهي تأبى إلا الاسلام، وقتلوا زوجها ياسرا، فكانا أول شهيدين في الاسلام.
وجاءت في مدح عمار أحاديث كثيرة، منها قول النبي (ص) عمار جلدة بين عيني، ومنها: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، ومنها: كم ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لا بر قسمه، منهم عمار، إلى غير ذلك، وقال يوم البيعة لابي بكر: " يا معشر قريش ويا معشر المسلمين إن أهل بيت نبيكم أولى به - أي بالنبي - وأحق بأثره، وأقوم بأمور الدين، وأحفظ لملته، وأنصح لامته، فردوا الحق إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم، ويضعف أمركم، ويظهر شتاتكم، وتعظم الفتنة بكم، ويطمع فيكم عدوكم، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الامر منكم، وعلي أقرب إلى نبيكم، وهو من بينكم وليكم بعهد الله ورسوله ".
وحضر عمار مع الامام حرب الجمل وصفين، وفيها استشهد وكانت سنة 37 ه، ومن أقواله يوم صفين:
سيروا إلى الاحزاب أعداء النبي * سيروا فخير الناس أتباع علي
هذا أوان طاب سل المشرفي * وقودنا الخيل وهز السمهري
المقداد:
كان من السابقين إلى الاسلام، وحضر بدرا مع رسول الله، وسائر المشاهد، وحين شاور النبي (ص) أصحابه في وقعة بدر قال له المقداد: لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " بل نقول: لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضى وشوك الهراس لخضناه معك ". وقال الامام الصادق: لم يتغير المقداد منذ قبض رسول الله، حتى فارق الدنيا طرفة عين. وقال لعلي يوم السقيفة: إن أمرتني لا ضربن بسيفي، وإن أمرتني كففت.
فقال له: أكفف.
/ صفحة 101 /
وقال يوم بويع عثمان: " واعجبا من قريش، واستئثارهم هذا الامر من أهل البيت معدن الفضيلة، ونجوم الارض، ونور البلاد، وأن منهم رجلا - أي عليا - ما رأيت بعد رسول الله أولى بالحق ولا أقضى بالعدل والامر بالمعروف منه ". مات في خلافة عثمان من عفان، وحضر جنازته، وأثنى عليه، فأنشد الزبير:
لا ألفينك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادا
فقال عثمان: يا زبير تقول هذا؟! أتراني أحب أن يموت مثل هذا من أصحاب رسول الله، وهو علي ساخط؟! ومن رؤوس الدعاة في هذا الدور حجر بن عدي، وميثم التمار، وكميل ابن زياد، وعمر بن الحمق، ورشيد الهجري، وجويرية بن مسعد العبدي، وجميعهم قتلوا على التشيع، ومنهم أيضا سليمان بن صرد الخزاعي الذي استشهد في ثورته على قتلة الامام سيد الشهداء، ومنهم مالك الاشتر، ومحمد بن أبي بكر، وقيس بن سعد، والمسيب بن نجية، وغيرهم كثير، وقد ازدادوا وكثروا بعد وقعة الطف.
وبديهة أن قوة الدعوة وضعفها يدوران على الظروف والمناسبات، ومن هنا كانت الدعوة بطيئة جدا في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر، وسريعة في عهد الخليفة الثالث، لان سيرة عثمان أعانت على نجاح الدعوة إلى التشيع، ومكنت لها في النفوس، ومضى التشيع قدما في خلافة الامام علي، وفي حكم معاوية، ولم تعقه المذابح والفظائع عن التقدم، بل على العكس زادته قوة وانتشارا بخاصة حادثة كربلاء، قال الدكتور طه حسين في كتاب " علي وبنوه ": " عظم أمر الشيعة في الاعوام الاخيرة من حكم معاوية، وانتشرت دعوتهم أي انتشار في شرق البلاد الاسلامية، وفي جنوب بلاد العرب، ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس، وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني أمية، وحب أهل البيت لانفسهم دينا ".
وقال المستشرق فلهوزن يصف جيش التوابين الذي تجمع للاخذ بثارت الحسين، قال: " وكانوا مدفوعين بدافع الضمير الديني لا العواطف " (1).
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب " الخوارج والشيعة " ص 189 طبعة سنة 1958. (*)
/ صفحة 102 /
ويظهر من كلام السيد محسن الامين أن الشيعة في هذا الدور كان يطلق عليهم اسم الشيعة، واسم العلويين معا، ثم اختفى اسم العلويين في عهد العباسيين، وبقي اسم الشيعة، قال في القسم الاول من الجزء الاول ص 12 سنة 1960:
" وعن كتاب الزينة تأليف أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني المتوفى سنة 205 ه. أن لفظ الشيعة على عهد رسول الله كان لقب أربعة من الصحابة:
سلمان الفارسي، وأبي ذر، والمقداد بن الاسود، وعمار بن ياسر " اه " ثم بعد مقتل عثمان وقيام معاوية وأتباعه في وجه علي، وإظهاره الطلب بدم عثمان، واستمالته عددا عظيما إلى ذلك صار أتباعه يعرفون بالعثمانية، وهم من يوالون عثمان، ويبرؤون من علي. وصار أتباع علي يعرفون بالعلوية، مع بقاء إطلاق اسم الشيعة عليهم، واستمر ذلك مدة ملك بني أمية، وفي دولة بني العباس نسخ اسم العلوية والعثمانية، وصار في المسلمين اسم الشيعة، واسم السنة إلى يومنا هذا ".
وبالتالي فإن دعاة التشيع الذين عملوا وناضلوا لبثه ونشره في هذا الدور اعتمدوا أول ما اعتمدوا على عظمة الامام، وفضائله، وعلى ما نزل في مدحه والثناء عليه من الآيات القرآنية، وما ثبت من الاحاديث النبوية، وكانت خصائص الامام وسجاياه والميزات التي يتمتع بها أداة فعالة لانتشار المذهب، فلقد مهدت الطريق للمبشرين، وفتحت الباب واسعا أمامهم، ولم يكونوا بحاجة إلى الكذب ووضع الاخبار والاحاديث على لسان النبي (ص)، كما فعل غيرهم حين أراد أن يقابل كل فضيلة ثبتت لعلي بفضيلة مفتعلة لابي بكر وعمر وعثمان.
كقول من قال: إن حديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها " لا يعرفه على التمام إلا من كان في صدر الاسلام، لان النبي قال: " أنا مدينة العلم، وأبو بكر أساسها، وعمر حيطانها، وعثمان سقفها، وعلي بابها " (1).
المختار:
ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي في هذا الدور، لانه ولد في السنة الاولى من هجرة النبي (ص)، وكان فطنا ذكيا. قتل أبوه في إحدى المعارك، وهو ابن
ــــــــــــــــــــ
(1) اللآلئ المصنوعة في الاحاديث الموضوعة للسيوطي ج 1 ص 336. (*)
/ صفحة 103 /
ثلاثة عشر عاما، فانضم إلى عمه سعد بن مسعود، وكان عمه هذا من أصحاب الامام علي بن إبي طالب، وحضر معه وقعة الجمل وصفين، وولاه الامام على المدائن.
ولا يحدثنا التاريخ بشئ عن حياة المختار في خلافة الامام، ولا في عهد معاوية بن أبي سفيان، سوى ما قيل: إن معاوية حين ولى المغيرة بن شعبة على الكوفة تركها المختار، حتى أتى المدينة المنورة. وحين هلك معاوية، وقام ولده يزيد كان المختار في الكوفة، ولما دخلها مسلم بن عقيل سفيرا للحسين نزل في بيت المختار، واختلفت الشيعة إليه في هذا البيت، فقبض ابن زياد على المختار، وضرب وجهه بالسوط، حتى أدماه، وأصاب عينه فقشرها، ثم ألقي به في السجن، وبقي فيه، حتي انتهت كارثة كربلاء، فاستشفع به صهره زوج أخته عبد الله بن عمر عند يزيد، فأطلق سراحه، وترك الكوفة متوجها إلى الحجاز.
وبعد أن هلك يزيد، ودعا ابن الزبير إلى نفسه بايعه المختار، مع علمه بأنه عثماني العقيدة. وعاد المختار بعد هذه البيعة إلى الكوفة. " وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، والحنين والجزع، ويحث على أخذ الثأر لهم، والمطالبة بدمائهم، فمالت إليه الشيعة، وسار إلى قصر الامارة، وأخرج الوالي ابن مطيع، وغلب على الكوفة، وابتنى لنفسه دارا، واتخذ بستانا أنفق عليه أموالا عظيمة، أخرجها من بيت المال. وكتب إلى ابن الزبير أن يحسب له بما أنفقه من بيت المال، فأبى ابن الزبير، فخلع المختار طاعته، وجحد بيعته.
وكتب كتابا إلى علي بن الحسين يريده على أن يبايع له، ويقول بإمامته، ويظهر دعوته، وإنفذ إليه مالا كثيرا، فأبى علي أن يقبل ذلك، أو يجيبه على كتابه، وسبه على رؤوس الملا في مسجد رسول الله، وأظهر كذبه وفجوره، ودخوله على الناس بإظهار الميل إلى أبي طالب، ولما يئس المختار منه كتب إلى محمد بن الحنفية يريده على مثل ذلك، فأشار عليه علي بن الحسين أن لا يجيبه إلى شئ. (المسعودي ج 3 ص 83 سنة 1948).
وبعد أن استقل المختار بالكوفة أخذ يطارد قتلة الحسين، ويقتلهم الواحد تلو الآخر تلبية لرغبات الشيعة الذين صمموا على الاخذ بالثأر، والانتقام من
/ صفحة 104 /
كل من اشترك في موقعة كربلاء، بخاصة الاشراف، والرؤوس الكبار، وقد هرب جماعة من هؤلاء إلى البصرة خوفا من نقمة الجماهير، منهم شبث ابن ربعي، ومحمد بن الاشعث، أما عمر بن سعد فبقي بالكوفة بأمان من المختار.
وفي سنة 66 ه أرسل عبد الملك بن مروان جيشا للاستيلاء على العراق بقيادة عبيد الله بن زياد، فأرسل له المختار جيشا بقيادة إبراهيم بن الاشتر، فالتقيا بالموصل، فدارت الدائرة على جيش الامويين، وقتل ابن زياد، والحصين بن نمير، وجماعة من أشراف أهل الشام، فقويت شوكة المختار في الكوفة، واشتد أمره، وفي مستهل سنة 67 أنفذ عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا واليا على البصرة، فحرضه أشراف الكوفة الذين هربوا من المختار على حربه وانتزاع الكوفة منه، فأجابهم، وكان أصحاب المختار قد انقسموا على أنفسهم، وأصبحوا فئتين متباغضتين عربا وموالي، فأوقع بهم مصعب شر إيقاع، وقتل المختار، " وكان من جملة من أدركه الاحصاء ممن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين، وقتلة أعدائه. وتتبع مصعب الشيعة بالقتل بالكوفة وغيرها ". (المسعوذي ج 3 ص 107).
وبعد مقتل المختار كثرت عليه الاقاويل، وحيكت حوله الاساطير، ونسب إليه إدعاء النبوة ونزول الوحي، وأنه كان يطلق الحمامات البيض حين تقوم المعركة بينه وبين خصومه يوهم أنصاره أنها ملائكة أرسلها الله لنصرته، وأنه ابتدع القول بالبداء، إلى غير ذلك. ونحن نستبعد هذه النسب، ونظنها من وضع الامويين والزبيريين الذين جرت بينهم وبين المختار حروب طاحنة، قال المستشرق فلهو زن في كتاب " الخوارج والشيعة " ص 234 سنة 1958:
" لما مني المختار بالهزيمة أدبرت عنه الدنيا، وراحت الروايات تطلق سهامها على ذكراه بعد مقتله، في البدء كانت تذمه دون تشوه صورته، ولكنها راحت بعد ذلك في مرحلة متأخرة تنعته بنعوت أملاها الحقد، وهذه النعوت نفسها هي تسود الصورة التي كونتها عنه الاجيال التالية ". وقال الاهواني في كتاب " في عالم الفلسفة " ص 78: " إن كثيرا مما نسب إلى المختار موضوع للتشنيع عليه ".
/ صفحة 105 /
واختلف علماء الامامية في أمر المختار، فمنهم من لم يثق بدينه وإخالصه، لان الامام السجاد ذمه وتبرأ منه، ومنهم من مدحه وأثنى عليه - وهم الاكثر الاشهر - لان الله سبحانه استجاب دعوة الامام، وقتل قتلة الحسين على يده، ومنهم من توقف، ولم يحكم عليه بشئ.
وقبل أن أكتب هذه الكلمات راجعت سيرته فيما لدي من المصادر، وبقيت معه ثلاثة أيام بلياليها، وانتهى بي البحث إلى الميل إلى أن الرجل كان من طلاب الحكم، وعشاق الامارات، وأنه بايع ابن الزبير طمعا أن يوليه الكوفة، ولما يئس منه انتقض عليه، وحين اجتمع حوله الناس أخذ البيعة لنفسه، أما طلبه لثأر الحسين (ع) فكان لمجرد الدعاية، لان الجماهير كانت تريد ذلك، ولولاها لسكت وأحجم، وعلى الاقل لم يفعل ما فعل، بدليل أنه أعطى الامان لعمر بن سعد بطل المأساة في كربلاء، ولم يبطش به - فيما أعتقد - إلا بضغط الجماهير، ومضايقتهم له، فقد تجاوز الحماس للاخذ بالثأر كل حد، والتهبت المشاعر حقدا وغيظا على قتلة الحسين، حتى أن النسوة كانت توشي بأزواجهن الذين اشتركوا في مأساة كربلاء، ولم يستطيع المختار كبح الجماح، حتى ولو حاول ذلك، هذا، إلى أنه كان في أشد الحاجة إلى مؤازرتهم ومناصرتهم بعد أن أحاطت به قوى الزبيريين والامويين من كل جانب. إذن لم يستطع المختار إلا أن يفعل ما فعل. والذي طالب بدم الحسين حقا، وبدافع من دينه وإخلاصه هو سليمان بن صرد الخزاعي ومن كان معه، ولذا انضم إليه كثير من القراء وأهل المعرفة، أما الغوغاء فكانت مع المختار.
ورغم ذلك كله فإني أقول مع العلامة المجلسي صاحب البحار: " إنه - أي المختار - وإن لم يكن كاملا في الايمان واليقين، ولا مأذونا فيما فعله صريحا من أئمة الدين، لكن كما جرى على يده الخيرات الكثيرة، وشفى بها صدور قوم مؤمنين كانت عاقبة أمره إلى النجاة ".
وكفاه شفيعا قول الامام السجاد حين رأى رأس ابن سعد: " الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي، وجزى الله المختار خيرا ". وقول الامام الصادق:
" ما امتشطت فينا هاشمية، ولا اختضبت، حتى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين ".
/ صفحة 106 /
وصدق الله العظيم " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم - 15 التوبة ".
والخلاصة أنه بعد وفاة النبي اجتمع الانصار في سقيفتهم يتداولون فيما بينهم، لتكون الخلافة فيهم ولهم دون قريش، فقصدهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة الجراح، وتمكنوا من صرف الخلافة عن الانصار إلى أبي بكر، وكان بنو هاشم في شغل بمصيبتهم وتجهيز الرسول، وعارض قوم من الاصحاب العارفين لحق علي، وأصروا على أن تكون الخلافة له، ولكن القوة كانت ضدهم، فكفوا عن المعارضة وأمسكوا وأظهروا والتسليم، ولكنهم بثوا الدعوة لعلي بين الناس، ونقلوا إلى الاجيال ما سمعوه من نص النبي على علي. فالدعوة إلى التشيع في هذا القرن كانت بسيطة ساذجة، تماما كالدعوة الاسلامية في هذا العهد لا فلسفية فيها، ولا شئ سوى حجج القرآن والسند النبوية التي قبلها المسلمون الاولون، وآمنوا بها بدون جدال وتعليل وتأويل، ولا تعمق في الشروح والتفاصيل، ولم يكن في هذا الدور فقه يعرف بفقه الشيعة، وآخر يعرف بفقه السنة ولذا لم يظهر أي فرق بين الشيعة وغيرهم إلا في مسألة الخلافة، وإمارة المؤمنين، وكان الشيعة في هذا الدور يعرفون بالتقوى والزهد، ومناهضة الظلم والظالمين، ومن هنا لاقوا من حكام الجور ألوانا من التقتيل والتنكيل.
الدور الثاني:
يبدأ الدور الثاني بعصر الامام جعفر الصادق، ونعني به آخر الدولة الاموية، حيث دب فيها الضعف، وأول دولة العباسيين، حيث تنفس الشيعة الصعداء، بعد الايام السود التي عاشوها مع الامويين، وأصبحوا على شئ من الحرية والامن على أرواحهم وأموالهم، وأتيح لائمة أهل البيت أن ينشروا تعاليمهم في هذه الفرصة والفرجة. فرواها الالوف، وتقبلها الملايين إلى أن قام المنصور، فوضع في طريقها العراقيل، وعاد الامر أشد وأسوأ مما كان في عهد الامويين إبان قوتهم وعظمتهم.
ازدحم الرواة والعلماء - في هذه الفترة - - حول الامام الصادق، وقصده
/ صفحة 107 /
الناس من كل قطر ينهلون من معينه، ويأخذون عنه شتى العلوم والمعارف، قال السيد محسن الامين في ترجمته " أعيان الشيعة " ج 4:
" ولد الامام الصادق سنة 80 ه، وتوفي سنة 148، فمدة حياته 68 سنة، أدرك فيها هشام بن عبد الملك إلى آخر دولة بني أمية، وأدرك من دولة بني العباس السفاح وعشر سنين من ملك المنصور.
ومن مميزات هذا العصر انتشار العلوم الاسلامية فيه من التفسير والفقه والحديث وعلم الكلام والجدل والانساب، والشعر والادب والكتابة والتاريخ والنجوم وغيرها.
وكان الامام الصادق أشهر أهل زمانه علما وفضلا، قال مالك بن أنس إمام المذهب المالكي:
ما رأت عين ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد علما وعبادة وورعا، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، جم الفوائد.
وقال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة، وقد سئل عن أفقه من رأى، فقال: جعفر بن محمد.
وقال ابن أبي ليلى: ما كنت تاركا قولا قلته، أو قضاء قضيته لقول أحد إلا رجلا واحدا، هو جعفر بن محمد.
ولم يقل احد سلوني قبل ان تفقدوني الا امير الموءمنين علي بن ابي طالب، وحفيده جعفر بن محمد.
وروى الجنابذي في معالم العترة الطاهرة عن صالح بن الاسود: سمعت جعفر الصادق يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي، فكان يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب، وحديث علي حديث رسول الله.
وقد انتشر عنه من العوم الجمة ما بهر العقول، ولم ينقل العلماء عن أحد ما نقل عنه، ولا لقي أحد، ونقل عنه من الاخبار ما نقل عنه، فقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلاف الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل، ذكرهم الحافظ بن عقدة الزيدي في كتاب رجاله، وذكر مصنفاتهم فضلا عن غيرهم، واستدرك ابن الغضائرى على ابن عقدة،
/ صفحة 108 /
فزاد عليهم.
وروى عنه راو واحد، وهو إبان بن تغلب ثلاثين ألف حديث، وقال الحسن بن علي ألوشا: " أدركت في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ، كل يقول:
حدثني جعفر بن محمد، وبرز بتعليمه من الفقهاء والافاضل جم غفير ".
وقال الشيخ محمد الحسين المظفر في كتاب " تاريخ الشيعة ":
" أحسن أيام مرت على الشيعة هي الفترة التي امتزجت من أخريات دولة بني مروان، وأوليات دولة بني العباس، في اشتغال الامويين بقتل بعضهم البعض، وفي انتقاض البلاد عليهم، وفي اشتغال بني العباس بالحروب مع المروانيين تارة، واستتاب الامن أخرى، فانتهز الشيعة هذه الفرصة للارتواء من مناهل علم الامام الصادق، فشدوا الرحال إليه، لاخذ أحكام الدين والمعارف عنه.
ولقد روي عنه في كل علم وفن، كما تشهد به كتب الشيعة، ولم تقتصر الرواية عنه على الشيعة فحسب، بل روت عنه سائر الفرق، كما تفصح بذلك كتب الحديث والرجال، وقد أحصى ابن عقدة والشيخ الطوسي، والمحقق في المعتبر وغيرهم من روى عنه من الشيعة وغيرهم، فكانوا أربعة آلاف.
وصارت الشيعة في غضون هذه الفترة تنشر الحديث، وتجهر بولاء أهل البيت، وربا عددهم في مختلف الجهات. ولما قامت دعائم السلطان للمنصور ضيق على الامام الصادق، وأراد أن يقطع الاصل ليكون به جفاف الفرع ".
لقد وافق عصر الامام الصادق حركة فكرية بلغت الغاية في نشاطها وانتشارها، وظهرت مقالات غريبة، وتيارات أجنبية عن الاسلام تفشت بين المسلين، بخاصة بين شبابهم، بالنظر لاتساع رقعة الاسلام، وكثرة الفتوحات التي فتحها العرب، واندماجهم بالامم العديدة المتباينة في ثقافاتها وأديانها.
فكان الملحدون يلقون الشبهات، والمرجئة يساندون حكام الجور، والمغالون يدعون مع الله إلها آخر، والخوارج يكفرون المسلمين، والمتصوفة يضللون ويراؤون، والمحدثون يضعون الاحاديث على رسول الله، والمؤمنون يريدون إيمانا واعيا، فكان الشغل الشاغل لقادة الدين أن يدفعوا عنه، ويثبتوا صحة العقيدة، ويفندوا مزاعم المبطلين، ويزيفوا أقوالهم.
وكانت مدرسة الامام الصادق أول من شعر بهذا الخطر، وأسبق من عمل
/ صفحة 109 /
لدرئه ومناهضته، فأخذت على نفسها الذب عن الحق وأهله، وحملت لواء الشريعة الاسلامية أصولها وفروعها، وقصدت لكل مهاجم ومناعد، وأعلنت حربا لا هوادة معها على الغلاة (1)، وناضلت ضد المعتزلة والمتصوفة والمرجئة والخوارج والاشاعرة، وصححت لعلماء الكلام الذين حاولوا إثبات الدين كثيرا مما وقعوا فيه من الاخطاء، وجرت بين هؤلاء من جهة، وبين الامام الصادق وتلاميذه من جهة مناضرات ومجادلات كان الفوز والنصر فيها لمدرسة الامام، فأثبت بالبرهان أن أقوالهم تبتعد عن الحق بمقدار صدودها عن السلام وتعاليمه (2).
لذا اتجهت الانظار إلى المعلم الاكبر، وتشيع له المفكرون، وحفظوا أقواله ودونوها، واعتبروها الفصل بين الحق والباطل، وبين الاصيل والدخيل، تماما كأقوال جده الرسول (ص).
وكان من نتيجة هذه الفترة، ومرافقتها لتلك الحركات الفكرية أن عرف المذهب صافيا على حقيقته في العقائد والتفسير، والاخلاق والفقه وأصوله، وأخذ التشيع معناه ومجراه في إطاره العلمي أصولا وفروعا. وقد كان المذهب في أشد الحاجة إلى هذا المتنفس والمنطلق الذي صادف وجود الامام، إذ لو أمكنت الفرصة ولم يوجد الامام، أو وجد ولم تكن الفرصة ممكنة، أو تحقق الامران ولم تكن تلك الحركات الفكرية لم يكن لنا هذا التراث الضخم في شتى العلوم الاسلامية، خصوصا الفقه، بل لم يكن هذا التقارب بين الشيعة والسنة في أصول الدين ومبادئ التشريع. فالفضل في استقلال المذهب وتركيزه، كما هو الآن يعود للامام الصادق بعد أن أسعفته الظروف، ومهدت له السبيل، ومن هنا أطلق على الشيعة لفظ الجعفريين، وعلى فقههم الفقه الجعفري.
نحن نؤمن وندين بأن كل إمام من الائمة الاثني عشر عنده علم الكتاب وسنة الرسول بكاملهما، وأنه أعلم أهل زمانه على الاطلاق، ولكن العلم ليس بالسبب الكافي لبثه ونشره ما لم تواكبه عوامل أخرى، وقد ساعد الامام الصادق
ــــــــــــــــــــ
(1) ولا أجا في الصواب إذا قلت: إن الامام الصادق قرب مسافة الخلف بين السنة والشيعة في محاربته الغلاة، وإبطال الكثير من أقوال المعتزلة.
(2) تجد الكثير من هذه المناظرات في كتاب " الاحتجاج " للطبرسي، والبحار للمجلسي وسائر كتب المناقب والفضائل. (*)
/ صفحة 110 /
على بث علومه ومعارفه العامل الحضاري من جهة، وفترة انتقال الحكم من الامويين إلى العباسيين من جهة ثانية، ووجود رواة ثقات كثيرين يؤمنون بالصادق، ويحسنون الاخذ عنه من جهة ثالثة، حتى ذهب بعض علماء الامامية إلى القول بتوثيق الاربعة آلاف راو بدون استثناء. وقد يكون هناك عوامل أخرى خفيت علينا إلى جانب هذه العوامل التي استبانت لنا.
وعلى أية حال، فإن هذه السباب مجتمعة لم تتوافر لاحد من الائمة غير الامام الصادق، فقد كان للامام علي حواريون وأصحاب خلص، كميثم التمار، وكميل بن زياد، وحجر بن عدي، ومحمدبن أبي بكر وغيرهم، ولكنه مني في خلافته بالجروب والفتن الداخليد، ولما انتقل إلى جوار ربه عمل معاوية على طمس آثاره، وقتل رجاله، والقضاء على كل ما يمت إليه بسبب، أما عهد الحسنين والامام السجاد فهو عهد معاوية وولده يزيد، وزياد وابنه عبيد الله، وعبد الملك وشيطانه الحجاج، عهد مذابح الشيعة ومجازرهم، واستشهاد أئمتهم، عهد سم الحسن، ومذبحة مرج عذراء، ومأساة كربلاء، ووقعة الحرة، وما إليها.
أما الامام الباقر فهو المؤسس الاول لمدرسة ولده الصادق، فقد كان له أصحاب وتلاميذ من كبار التابعين وأعيان الفقهاء والمحدثين يتحلقون حوله للدرس في مسجد جده الرسول، ولكن الله سبحانه قد اختاره إليه قبل أن تبلغ هذه المدرسة الغاية في النمو والازدهار، فقبض في خلافة هشام بن عبد الملك، وهو ابن 57 سنة، فخلفه ولده الامام الصادق، وتوالت على مدرسته حظوظ وتوفيقات شتى، حيث ربا عدد تلاميذها على ما كانوا أيام أبيه، وأصبح الذين يفدون إليها، ويهتدون بهديها يعدون بالالوف.
وبعد الامام الصادق عادت الظروف إلى قسوتها، والحوادث إلى شدتها على الائمة وشيعتهم، ولكن المذهب كان قد انتشر في كل قطر، وعرفت معالمه، وتركزت أسسه، وحفظ ودون، وعمل الناس به منذ أيام الصادق، حتي اليوم، وإلى آخر يوم.
وباتالي، فإن مذهب أهل البيت تبلور واتخذ صورته واضحة جلية، وثبتت أركانه ودعائمه في عهد الامام الصادق، وأصبح للشيعة فقههم المستقل،
/ صفحة 111 /
وعلماؤهم ورواتهم المعروفون، وآراؤهم الخاصة بالتوحيد والعدل وعصمة الانبياء وشفاعتهم، وبالجبر والاختيار، وما إلى ذلك. وتميز مذهب التشيع عن بقية المذاهب تميزا تاما كما تميز مذهب المعتزلة عن مذهب الاشاعرة.
أما أقوال بقية الائمة الاطهار منذ الامام الكاظم إلى نهاية الغيبة الصغرى فهي إما تأكيد لاقوال الصادق، وإما متممة لبعض أصول المذهب أو فروعه، أما رجالات الشيعة في عهد الامام الصادق وبعده فكان همهم واهتمامهم حفظ تعاليمه، وتدوينها والدفاع عنها.
الدور الثالث:
ظهر مما قدمنا أن دعاة التشيع ورواده في الدور الاول اهتموا قبل كل شئ بالدعوة إلى الولاء لاهل البيت، والايمان بأنهم أحق الناس جميعا في خلافة النبي وميراثه في الحكم والسلطان، وان الدعاة اعتمدوا على نصوص الكتاب والسنة، ولم يتجاوزوا حرفيتها وهكذا كان الاسلام في الصدر الاول يستمد من الكتاب والسنة، وأخلاق الرسول الاعظم، والتشيع منذ يومه الاول إلى آخر يوم يسير مع الاسلام جنبا إلى جنب.
أما الدور الثاني، وهو دور الحضارة والحركة الفكرية فقد ظهر فيه مذهب التشيع، وتميز عن غيره أصولا وفروعا، وأصبح للشيعة فقههم المستقل وآراؤهم الواضحة في كل ما يتصل بالعقيدة من قريب أو بعيد (1).
أما الدور الثالث فهو دور الدفاع ورد العاديات، ويبتدئ بالشيخ المفيد وتلميذه الشريف المرتضى، وينتهي بالعلامة الحلي، وليس من شك أن الائمة الاطهار، وأصحابهم كهشام بن الحكم وغيره قد ذبوا ودافعوا ولكن قصدهم الاول كان إلى تحديد المذهب، وإظهاره على حقيقته، وتمييزه عن غيره، ودعمه بالاحجج والبراهين.
ويجب أن نكون على علم اليقين بأن هذا التقسيم لا يمس التشيع في حقيقته
ــــــــــــــــــــ
(1) قال الشيخ مصطفى عبد الرزاق أحد شيوخ الازهر في كتاب " تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلام
ية " ص 202 طبعة 1959: " إن النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المسلمين ". (*)
/ صفحة 112 /
وجوهره، لانه هو هو في جميع المراحل والادوار لا تبديل فيه ولا تعديل، وإنما هو - أي التقسيم - باعتبار خصائص العصر الذي مر به التشيع، وعناية الدعاة والرواد بهذه الخصائص، تماما كما هو الشأن بالقياس إلى موقف علماء الفرق السلامية من التيارات الاجنبية، والعلوم الدخيلة حينذاك.
لقد سبق الشيخ المفيد علماء أعلام كان لهم أحسن الاثر في خدمة المذهب، كالكليني صاحب الكافي، والصدوق صاحب من لا يحضره الفقيه، ولكن هذين العظيمين ومن إليهما كانوا امتدادا لرواة الحديث عن الائمة الاطهار، ووعاة لاخبارهم وآثارهم يحفظونها من الضياع، أما الشيخ المفيد فكان المدافع الاكبر عن هذه الخبار والآثار.
لقد تكاثرت في عصر المفيد المدارس وحلقات الدرس، وبلغ علم الكلام والجدل الغاية، ونبغ عدد كبير من العلماء والمتكلمين، وكان من أبرز خصائصهم المناقشات والمناظرات حول قضايا الدين والمذهب، وكانت المنافسة حامية وعلى أشدها بين مذهب الاشاعرة، ومذهب الاعتزال، وقد وضع علماء كل طائفة كتبا في الطعن والرد على مذهب الاخرى، ولكنهم تظاهروا جميعا على الشيعة والتشيع، غير أن الشيخ المفيد كان لهم بالمرصاد.
فكان يجيب عن شبهاتهم وطعونهم بنظر دقيق، وبصر ثاقب، واستخراج عجيب، ثم يورد عليهم ما لم يستطيعوا معه إلا الاذعان والتسليم. كان يشرح عقيدة التشيع، ويدعمها بالدليل القاطع، وينثر الفلسفة في شرحه وتأييده وتفنيده.
وكان له فضل السبق إلى الاعتماد على منطق العقل والتفكير الحر، فقبل الشيخ المفيد كان المؤمنون لا يتجاوزون حرفية النصوص إلى العقل، وبعده أصبح العقل حليفا للنصوص الدينية، وأساسا للعقيدة، وإذا قال أغسطين: " آمن كي تتعقل " فقد قال الشيخ المفيد: " تعقل كي تؤمن ".
قال الشيخ عبد الله نعمة، وهو يترجم له في كتاب " فلاسفة الشيعة ":
" كانت الشيعة القوة الثالثة بين مذهب المعتزلة ومذهب الاشاعرة. وقد تزعم هذه القوة في هذا العهد أبو عبد الله المفيد، وكان عليه، وهو دماغ الشيعة المكفر أن يشترك في هذا الصراع العنيف، ويجالد على عدة جبهات، ويناظر
/ صفحة 113 /
أهل كل عقيدة، كما يقول ابن كثير الشامي. ونعرف حيوية المفيد في تفكيره وآرائه حين نأخذ باعتبارنا تأثير طبيعة العصر الذي عاش فيه يوم كانت الاخبار والاحاديث هي السند الوحيد لعلماء الشيعة فيما كتبوه حول عقائدهم ومذاهبهم.
دون محاكمة أو تمحيص. أما المفيد فقد كان يحاكم ويفكر بحرية وتجرد ".
وقال السيد الامين في الجزء السادس والاربعين من كتاب " الاعيان ":
" قال اليافعي في تاريخه مرآة الجنان: عالم الشيعة وصاحب التآليف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد البارع في الكلام والفقه والجدل، كان يناظر كل عقيدة بالجلال والعظمة.
وقال ابن النديم في الفهرست: ابن المعلم أبو عبد الله دقيق الفطنة ماضي الخاطر، شاهدته فرأيته بارعا ".
وقال صاحب " روضات الجنات":
"نقل عن ابن كثير أنه قال: كان المفيد شيخ الروافض محاميا عنهم، متعصبا في حقهم. وكان يحضر مجلسه خلق كثير من العلماء من جميع الطوائف والملل. ولما بلغ نعيه إلى الشيخ أبي القاسم الخفاف المعروف بابن النقيب فرح بموته كثيرا، وأمر بتزيين داره، وجلس فيها للتهنئة، وقال: الآن طاب لي الموت ". نقلنا هذه الجملة، لانها أبلغ صورة، وأصدق شاهد على عظمة المفيد التي تضاءل أمامها العلماء وتصاغروا، حتى شعروا بأنهم ليسوا بشئ يذكر ما دام المفيد حيا.
أما قول ابن كثير بأنه كان متعصبا فهو التعصب بالذات، لان من يؤمن بالحق، ويجادل بالعقل والكتاب المبين، ويستقي أقواله من أصدق مصدر، وأنقيى معين لا يكون متعصبا ولا متحيزا، بل مؤمنا مخلصا، إن المتعصب هو الذي يكابر، ويجادل بالباطل، ويبخس لاناس أشياءهم بالكذب والافتراء.
إن الذين جاءوا بعد العلامة، ودافعوا عن المذهب كما دافع، السيد الامين، وكاشف الغطاء، وشرف الدين، والشيوخ المظفرون (1)، إن هؤلاء وغيرهم لهم
ــــــــــــــــــــ
(1) هم الاخوة والاقطاب الثلاثة: الشيخ محمد الحسن صاحب " دلائل الصدق " والشيخ محمد الحسين صاحب " تاريخ الشيعة " والشيخ محمد الرضا صاحب " السقفية ". (*)
/ صفحة 114 /
أكبر الفضل على جهودهم وإخلاصهم، ولو لاهم لطمع فينا السفهاء، وآمن المغفلون والبسطاء بافتراءات صاحب المنار، وخليفته محب الدين الخطيب، وأحمد أمين، وموسى جار الله، ومن إليهم، ولكن علماءنا المتأخرين - زمنا - على عظمتهم، وتمكنهم من العلوم ومعرفة الحق بدليله لم يزيدوا شيئا عن أقوال المفيد والمرتضى والطوسي والعلامة... ذلك أن الاعتراض واحد لم يتغير منذ زمان وزمان، فجوابه أيضا واحد، تماما كجواب من أنكر الله سبحانه بالامس، ومن أنكره اليوم.
ولو تجاوزنا أقوال أولئك العظماء لتجاوزنا الحق والواقع، لان الحق لا يتغير، فهو هو في كل زمان ومكان، وكذلك دليله ومدركة. إن هذه الكتب والنشرات التي تصدر - اليوم - تباعا في سب الشيعة وتكفيرهم لهي أكثر ضررا، وأعظم خطرا من تلك الشبهات والافتراءات التي قيلت على الشيعة والتشيع في عهد المفيد والعلامة. فإذا لم تتصد الاقلام الواعية لابطالها، وفضح أربابها لجعلنا من لا علم له في عداد المشركين، وطليعة المغالين.
ودفعا لكل التباس نختم هذا الفصل بالتأكيد مرة أخرى أن تقسيم التشيع إلى أدوار ثلاثة لا يمس كنهه وحقيقته، وإنما هو باعتبار الاساليب والوسائل التي اعتمدها الدعاة والحماة من الاستناد إلى النصوص والفضائل، ثم إلى بث المذهب ونشره بحرية تامة، وتدوينه أصولا وفروعا، ثم النقاش والمناظرة مع المذاهب الاخرى.
التعلیقات