ما هو الدليل على أنّ الإسلام هو دين الحقّ ؟
السيّد علي الحائري
منذ 14 سنةالسؤال :
ما هو الدليل على أنّ الإسلام هو دين الحقّ ؟ لا أبغي المجادلة ، ولكن أبحث عن الحقيقة ؟
الجواب :
الدليل على نبوّة نبيّنا محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى أنّ الدين الذي جاء به ـ وهو الإسلام ـ هو الدين الحقّ الذي دعت البشريّة منذ البعثة النبويّة وإلى يوم القيامة إلى الالتزام والإيمان والعمل به عبارة عن نفس الدليل الذي نثبت به وجود اللّه تبارك وتعالى كما ذكره سيّدنا الاُستاذ الشهيد السعيد آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصدر رضوان اللّه عليه وهو دليل علمي استقرائي وبنفس المناهج العلميّة التي نستخدمها في الإستدلال على الحقائق المختلفة في حياتنا الإعتياديّة وحياتنا العلميّة ، ولنمثّل لذلك أوّلاً بمثالين ثمّ نعرّج على نبوّة النبيّ الأعظم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والرسالة التي أعلنها على العالم باسم السّماء ، والمثالان أحدهما من حياتنا الإعتياديّة والآخر من حياتنا العلميّة :
فالمثال الأوّل : للفكرة من حياتنا الإعتياديّة هو أنّك إذا تسلّمت رسالةً من أحد أقاربك ، وكان هذا القريب صبيّاً يدرس في مدرسة إبتدائيّة بأحد الأرياف ، فلاحظتَ أنّ الرسالة قد كُتبت بلغةٍ حديثة وبعبارات مركّزة وبليغة وبقدرة فنّية فائقة على تنسيق الأفكار وعرض أدقّ المعاني بصورة مثيرة ، فسوف تستنتج أن شخصاً مثقّفاً واسع الاطّلاع ، قويّ العبارة قد أملى الرسالة على هذا الصبيّ ، أو شيئاً من هذا القبيل.
وإذا أردنا أن نحلّل هذا الإستنتاج والإستدلال نجد أن بالإمكان تجزئه إلى الخطوات التالية :
الأولى : أنّ كاتب الرسالة صبيّ ريفي ، ويدرس في مدرسة إبتدائيّة.
الثانية : أنّ الرسالة تتميّز بأسلوب بليغ ودرجة كبيرة من الإجادة الفنّية وقدرة فائقة على تنسيق الأفكار وعرض أدقّ المعاني وأرفعها.
الثالثة : أنّ الاستقراء يثبت في الحالات المماثلة أنّ صبيّاً بتلك المواصفات لا يمكنه أن يصوغ رسالة بهذه المواصفات.
الرابعة : يستنتج من ذلك أنّ الرسالة إذاً من نتاج شخص آخر استطاع ذلك الصبيّ أن يستفيد منه بنحو من الأنحاء ، ويسجّله في رسالته.
والمثال الثاني : للفكرة من حياتنا العلميّة هو الدليل العلمي الذي أثبت به العلماء « الإلكترون » ، فقد درس بعض العلماء نوعاً معيّناً من « الأشعّة » وَلَّدها في أنبوبة مغلقة ، ثمّ سلّط على وسط الأنبوبة قطعة مغناطيس على شكل نعل الفرس ، فلاحظ إنّ « الأشعة » تميل إلى القطب الموجب من المغناطيس ، وتبتعد عن القطب السالب منه ، وكرّر التجربة في ظروف مختلفة حتّى تأكّد من أنّ تلك « الأشعّة » تنجذب بالمغناطيس ، وأنّ القطب الموجب في المغناطيس هو الذي يجذبها ، ولمّا كان هذا العالم يعرف من خلال استقرائه ودراساته للإشعاعات الأخرى ـ كالضوء الاعتيادي ـ أنّها لا تتأثّر بالمغناطيس ولا تنجذب إليه ، وأنّ المغناطيس يجذب الأجسام لا « الأشعة » أمكنه أن يدرك أن انجذاب الأشعّة المعيّنة التي كان يُجري عليها تجاربه وميلها إلى القطب الموجب من المغناطيس لا يمكن أن يُفسّر على أساس المعلومات المفترضة ، ومن هنا أكشف عاملاً إضافيّاً وحقيقةً جديدة ، وهي أنّ هذه الأشعّة تتألّف من أجسام دقيقة سالبة موجودة في جميع المواد ، لأنّها تنبعث من مختلف المواد ، وسمّيت هذه الجسميات بـ « الإلكترونات ».
هذان مثالان لفكرة واحدة ، وهي أنّه كلّما لوحظت ظاهرة معيّنة ضمن عوامل وظروف محسوسة ، ولوحظ من خلال الإستقراء أنّ هذه العوامل والضروف المحسوسة لا تؤدّي ـ في الحالات المماثلة ـ إلى نفس الظاهرة ، فيدلّ ذلك على وجود عامل آخر غير منظور لابدّ من إفتراضه لتفسير تلك الطاهرة .
وبكلمة أُخرى : أنّ النتيجة إذا جاءت أكبر من الظروف والعوامل المحسوسة ـ بحكم الإستقراء للحالات الممثلة ـ كشفت عن وجود شيء غير منظور وراء تلك الظروف والعوامل المحسوسة.
وهذا ما يصدق تماماً على نبوّّة الرسول الأعظم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورسالاته ، ودينه ـ الإسلام ـ ؛ وذلك ضمن الخطوات التالية :
الأولى : أنّ هذا الشخص الذي أعلن هذه الرسالة المتمثّلة في « القرآن الكريم » و « الشريعة الإسلاميّة » ينتسب إلى شبه الجزيرة العربيّة التي كانت من أشدّ أقطار الأرض تخلّفاً في ذلك الحين من الناحية الحضاريّة والفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة .
وينتمي إلى الحجاز بالذات من أقطار تلك الجزيرة ، والحجاز قطر لم يمرّ حتّّى تاريخياً بمثل الحضارات التي نشأت قبل ذلك بمئات السنين في مواضع أُخرى محدّدة من تلك الجزيرة ، ولم يعرف أيّ تجربة اجتماعيّة متكاملة ، ولم ينل هذا القطر من ثقافة عصره ـ على الرغم من انخفاضها عموماً ـ شيئاً يذكر ، ولم ينعكس على أدبه وشعره شيء ملحوظ من أفكار العالم ، وتيّاراته الثقافيّة وقتئذٍ ، وكان منغمساً من الناحية العقائديّة في فوضى الشرك والوثنية ، ومفكّكاً اجتماعيّاً ، تسيطر عليه عقلية « العشيرة » ، وتلعب فيه الإنتماءاتُ إلى هذه العشيرة أو تلك دوراً أساسيّاً في أكثر أوجه النشاط بكلّ ما يؤدّي إليه ذلك من التناقضات ، وألوان الغزو والصراع الرخيص.
ولم يكن البلد الذي نشأ فيه هذا الرسول قد عرف أيّ شكل من أشكال الحكم سوى ما يفرضه الولاء للقبيلة من مواصفات.
ولم يكن وضع القوى المنتجة ، والظروف الاقتصاديّة في ذاك القطر من العالم يتميّز عن أكثر بقاع العالم المتخلّف حينذاك.
وحتّى القرارة والكتابة ـ بوصفهما من أبسط أشكال الثقافة ـ كانت حالةً نادرةً نسبياً في تلك البيئة ؛ إذ كان المجتمع أمّياً على العموم : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) [ الجمعة : 2 ].
وكان شخص النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يمثّل الحالة الاعتياديّة من هذه الناحية ، فلم يكن قبل البعثة يقرأ ولا يكتب ، ولم يتلقّ أيّ تعليم منظّم أو غير منظم : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) [ العنكبوت : 48 ].
وهذا النصّ القرآني دليل واضح على مستوى ثقافة الرسول قبل البعثة ، وهو دليل حاسم حتّى في حقّ مَن لا يؤمن بربّانيّة القرآن ؛ لأنّه ـ على أيّ حال ـ نصّ أعلنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على بني قومه ، وتحدّث به إلى أعرف الناس بحياته وتاريحه ، فلم يعترض أحد على ما قال ، ولم ينكر أحد ما ادّعى.
بل نلاحظ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يساهم قبل البعثة حتّى في ألوان النشاط الثقافي الذي كان شائعاً في قومه من شعر وخطابة ، ولم يُؤثَر عنه أيّ تميّز عن أبناء قومه سوى تميّزه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عنهم في التزاماته الخُلقية ، وأمانته ، ونزاهته وصدقه ، وعفّته.
وقد عاش أربعين سنة قبل البعثة في قومه دون أن يحسّ الناس من حوله بأيّ شيء يميّزه عنهم سوى ذلك السلوك النظيف النزيه ، ودون أن تبرز في حياته أيّ بذور عمليّة أو اتّجاهات جادّة نحو عمليّة التغيير الكبرى التي طلع بها على العالم فجأةً بعد أربعين عاماً من عمره الشريف : ( قُل لَّوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) [ يونس : 16 ].
وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد ولد في مكّة ، وظلّ فيها طيلة الفترة التي سبقت البعثة ، ولم يغادرها إلى خارج الجزيرة العربية إلّا في سفرتين قصيرتين : أحداهما مع عمّه أبي طالب وهو صبيّ في أوائل العقد الثاني ، والأخرى بأموال خديجة وهو في أواسط العقد الثالث.
ولم يتيسّر له بحكم عدم تعلّمه القراءة والكتابة أن يقرأ شيئاً من النصوص الدينية اليهوديّة أو المسيحيّة ، كما لم يتسرّب إليه أيّ شيء ملحوظ من تلك النصوص عن طريق البيئة ؛ لأنّ مكّة كانت وثنيّة في أفكارها وعاداتها ، ولم يتسرّب إليها الفكر الديني المسيحي أو اليهودي ، ولم يدخل الدين إلى حياتها بشكل من أشكالها ، وحتّى أولئك الحنفاء الذين رفضوا عبادة الأصنام من عرب مكّة لم يكونوا قد تأثّروا باليهوديّة أو المسيحيّة ، ولم ينعكس شيء من الأفكار اليهوديّة والمسيحيّة على ما خلّفه قسّ بني ساعدة أو غيره من تراثٍ أدبي وشعري.
ولو كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد بذل أيّ جهد للاطلاع على مصادر الفكر اليهودي والمسيحي للوحظ ذلك ؛ إذ في بيئة ساذجة ومنقطعة الصلة بمصادر الفكر اليهودي والمسيحي ، ومعقّدة ضدّها لا يمكن أن تمرّ محاولة من هذا القبيل دون أن تلفت الأنظار ، ودون أن تترك بصماتها على كثير من التحرّكات والعلاقات. هذه هي الخطوة الأولى في الدليل.
الثانية : أنّ الرسالة التي طلع بها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على العالم ، والتي هي متجسّدة في القرآن ، والشريعة الإسلاميّة تميّزت بخصائص كثيرة :
منها : أنّها جاءت بنمط فريد من الثقافة الإلهيّة عن الله سبحانه وتعالى وصفاته وعلمه وقدرته ، ونوع العلاقات بينه وبين الإنسان ، ودور الأنبياء في هداية البشريّة ، ووحدة رسالتهم ، وما تميّزوا به من قيم ومُثُل ، وسنن اللّه تعالى مع أنبيائه ، والصراع المستمرّ بين الحقّ والباطل ، والعدل والظلم ، والارتباط الوثيق المستمرّ لرسالات السماء بالمظلومين والمضطهدين ، وتناقضها المستمرّ مع أصحاب المصالح والامتيازات غير المشروعة.
وهذه الثقافة الإلهيّة الفريدة المطروحة في الإسلام ، وفي القرآن لم تكن فقط أكبر من الوضع الفكري والديني لمجتمع وثني منغمس في عبادة الأصنام ـ مجتمع الجزيرة العربيّة ـ بل كانت أكبر من كلّ الثقافات الدينيّة التي عرفها العالم يومئذٍ ، حتّى أنّ أيّ مقارنة تبرز بوضوح أنّها جاءت لتصحّح ما في تلك الثقافات من أخطاء ، وتعدّل ما أصابها من إنحراف ، وتعيدها إلى حكم الفطرة ، والعقل السليم.
وقد جاء كلّ ذلك على يد إنسان أمّي في مجتمع وثنيّ شبه معزول عن العالم ، لا يعرف عن ثقافة عصره وكتبه الدينيّة شيئاً يذكر ، فضلاً عن أن يكون بمستوى القيمومة والتصحيح والتطوير.
ومنها : أنّها جاءت بقيم ومفاهيم عن الحياة ، والإنسان ، والعمل ، والعلاقات الاجتماعيّة ، وجسّدت تلك القيم والمفاهيم في تشريعات وأحكام ، وكانت تلك القيم والمفاهيم ، وهذه التشريعات والأحكام ـ حتّى من وجهة نظر مَن لا يؤمن بربّانيّتها ـ من أنفس ، ومن أروع ما عرفه تاريخ الإنسان من قيم حضاريّة ، وتشريعات اجتماعيّة.
فابنُ مجتمع القبيلة ظهر على مسرح العالم والتاريخ فجأةً لينادي بوحدة البشريّة ككلّ ، وابنُ البيئة التي كرّست ألواناً من التمييز والتفضيل على أساس العرق والنسب والوضع الاجتماعي ظهر ليحطّم كلّ تلك الألوان ، ويعلن أنّ الناس سواسية كأسنان المشط و ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [ الحجرات : 13 ] ، وليحوّل هذا الإعلان إلى حقيقة يعيشها الناس أنفسهم ، ويرفع المرأة الموءودة إلى مركزها الكريم كإنسان تكافئ الرجل في الإنسانيّة والكرامة.
وابن الصحراء التي لم تكن تفكّر إلّا في همومها الصغيرة ، وسدّ جوعتها ، والتفاخر بين أبنائها ضمن تقسيمها العشائري ظهر ليقودها إلى حمل أكبر الهموم ، ويوحدّها في معركة تحرير العالم ، وإنقاذ المظلومين في شرق الدنيا وغربها من إستبداد كسرى وقيصر.
وابن ذلك الفراغ الشامل سياسيّاً وإقتصاديّاً بكلّ ما يعجّ به من تناقضات الربا والإحتكار والاستغلال ظهر فجأةًً ليملأ ذلك الفراغ ، ويجعل من ذلك المجتمع الفارغ مجتمعاً ممتلئاً له نظامه في الحكم وشريعته في العلاقات الاجتماعيّة والإقتصاديّة ، ويقضي على الربا والإحتكار والاستغلال ، ويعيد توزيع الثروة على أساس أن لا تكون دُولَة بين الأغنياء ، ويعلن مبادئ التكافل الاجتماعي ، والضمان الاجتماعي التي لم يناد بها التجربة الاجتماعيّة البشرية إلّا بعد ذلك بمئات السنين ، وكلّ هذه التحوّلات الكبيرة تمّت في مدّة قصيرة جدّاً نسبياً في حساب التحوّلات الاجتماعيّة.
ومنها : أنّ الرسالة في نصوص قرآنيّة كثيرة تحدّثت عن تاريخ الأنبياء وأممهم ، وما مرّت بهم من وقائع وأحداث بتفاصيل لم تكن بيئة النبيّ العربي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الوثنية والأمّيّة ـ نعرف شيئاً عنها ، وقد تحدّى علماءُ الكتاب ـ علماءُ اليهود والنصارى ـ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسّلم أكثر من مرّة ، وطالبوه بالحديث عن تاريخ تراثهم الديني ، فواجه التحدّي بكلّ شجاعة ، وجاء القرآن بما طلبوا دون أن تكون هناك أيّ وسيلة اعتياديّة لتفسير اطّلاع النبي ّ صلّى اللّه عليه وآله وسّلم شخصيّاً على تلك التفاصيل : ( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَـٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَـٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) [ القصص : 44 ـ 45 ].
وممّا يبهر الملاحظ أنّ القصص الحقّ في القرآن لا يمكن أن تكون مجرّد استنساخ لما جاء في كتب العهدين ، حتّى لو افترضنا أنّ أفكار هذه الكتب كانت شائعة ومنتشرة في الوسط الذي ظهر فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسّلم ؛ لأنّ الاستنساخ يمثّل دوراً سلبيّاً فقط ، دور الأخذ والعطاء ، بينما دور القرآن في عرض القصّة دور إيجابي ؛ فإنّه يصحّح ويعدّل ويفصل القصّة عمّا ألُصقت بها من ملابسات لا تتّفق مع فطرة التوحيد ، والعقل المستنير ، والرؤية الدينيّة السليمة.
ومنها : أنّ القرآن بلغ في روعة بيانه وبلاغته وتجديده في أساليب البيان إلى درجة جعلت منه ـ حتّى من وجهة نظر غير المؤمنين بربّانيّته ـ حدّاً فاصلاً بين مرحلتين من تاريخ اللغة العربيّة ، وأساساً لتحوّل هائل في هذه اللغة وأساليبها.
وقد أحسّ العرب الذين حدّثهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالقرآن بأنّه لا يشبه إطلاق ما ألفوه من أساليب البيان ، وما نشأوا عليه ، وأتقنوه من طرائق التعبير ، حتّى قال قائلهم ـ وهو الوليد بن المغيرة ـ حين استمع إلى القرآن : « والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجنّ ، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمعذق ، وإنّه ليعلو وما يُعلي ، وإنّه ليحطم ما تحته ».
وكانوا لا يسمحون لأنفسهم بالاستماع إلى القرآن ، إحساساً منهم بأثره الهائل ، وخوفاً من قدرته الفائقة على تغيير نفوسهم ، وهذا دليل على التميّز الهائل للبيان القرآني ، وعدم كونه استمراراً متطوّراً لما ألفوه.
وقد استسلموا أمام التحدّي المستمرّ والمتصاعد الذي واجههم النبيّ به ؛ إذ أعلن تارةً عجزهم مجتمعين متكاتفين عن الإتيان بمثل القرآن : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [ الإسراء : 88 ].
وأكّد تارةً اخرى على عجزهم جميعاً عن الإتيان بعشر سورٍ مثل سور القرآن : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) [ هود : 13 ].
وشَدّد ثالثةً على عجزهم عن الإتيان بما يناظر سورةً واحدةً من مثل سور القرآن : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) [ البقرة : 23 ].
أعلن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك ، وكرّره على مجتمع لم يعرف صناعةً كما عرف صناعة الكلام ، ولم يتقن فنّاً كما أتقن فنّ الحديث ، ولم يتعوّد على شيء كما تعوّد على مجابهة التحّدي والتغنّي بالأمجاد ، ولم يحرص على أمرٍ كما حرص على إطفاء نور الرسالة الجديدة وتطويقها ، ومع ذلك كلّه لم يشأ هذا المجتمع الذي واجه تلك التحدّيات الكبيرة أن يجرّب نفسه ، ولم يحاول أن يعارض القرآن بشيء ؛ وذلك بسبب إيمانه بأنّ الأدب القرآني فوق قدرته اللغويّة والفنّية.
والطريف هو أنّ الذي كان يحمل إليهم هذا الزاد الأدبي الجديد على حياتهم هو إنسان مكث فيهم أربعين سنة ، فلم يعهدوا له مشاركة في حلبة أدبيّة ، ولا تميزاً في أيّ فنٍّ من فنون القول والبيان.
هذا عدد من خصائص الرسالة التي أعلنها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على العالم.
وهنا يأتي دور الخطوة الثالثة لتؤكّد ـ على أساس الإستقراء العلمي في تاريخ المجتمعات ـ أنّ هذه الرسالة بتلك الخصائص التي درسناها في الخطوة الثانية هي أكبر بدرجة هائلة من الظروف والعوامل التي مَرَّ استعراضها في الخطوة الأولى ؛ فإنّ تاريخ المجتمعات ، وإن كان قد شهد في حالات كثيرة إنساناً يبرز على صعيد مجتمعه ، فيقوده ، ويسير به خطوةً إلى الأمام ، غير أننا هنا لا نواجه حالةً من تلك الحالات ، لوجود فوارق كبيرة :
فمن ناحية : نحن نواجه هنا طفرةً هائلة ، وتطوّراً شاملاً في كلّ جوانب الحياة ، وإنقلاباً في القيم والمفاهيم ـ التي ترتبط بمختلف مجالات الحياة ـ نحو الأفضل ، بدلاً عن مجرّد خطوةٍ إلى الأمام.
إنّ مجتمع القبيلة طفر رأساً ـ على يد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلى الإيمان بفكرة المجتمع العالمي الواحد.
وإنّ المجتمع الوثين طفر رأساً إلى دين التوحيد الخالص الذي صحّح كلّ أديان التوحيد الأُخرى ، وأزال عنها ما علق بها من زيفٍ وأساطير.
وإنّ المجتمع الفارغ تماماً تحوّل إلى مجتمع ممتلئ تماماً ، بل إلى مجتمع قائد يشكّل الطليعة لحضارةٍ أنارت الدنيا كلّها.
ومن ناحية أُخرى أنّ أيّ تطوّرٍ شاملٍ في مجتمعٍ إذا كان وليد الظروف والمؤثرات المحسوسة ، فلا يمكن أن يكون مرتجلاً ومفاجئاً ، ومنقطع الصلة عن مراحل تمهّد له ، وعن تيّار يسبقه ، ويظلّ ينمو ، ويمتدّ فكريّاً وروحيّاً حتّى تنضج في داخلة القيادة الكفوءة تزعمّه ، وللعمل من أجل تطويراً المجتمع على أساسه.
إنّ دراسةً مقارنةً لتاريخ عمليّات التطوّر في مختلف المجتمعات توضّح لنا أنّ كلّ مجتمع يبدأ فيه هذا التطوّر فكرياً على شكل بذور متفرّقة في أرضيّة ذاك المجتمع ، وتتلاقى هذه البذور فتكوّن تيّاراً فكرياً ، وتتحدّد بالتدريج معالم هذا التيّار ، وتنضج في داخلة القيادة التي تتزعمه ، حتّى يبرز على المسرح كواجهة لجزء يعيش في المجتمع تناقض الواجهة الرسميّة التي يحملها المجتمع ، ومن خلال الصراع يتّسع هذا التيّار حتّى يسيطر على الموقف.
وخلافاً لذلك نجد أنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم في تاريخ الرسالة الجديدة لم يكن حلقةً من سلسلة ، ولم يكن يمثّل جزءاً من تيّار ، ولم تكن للأفكار والقيم والمفاهيم التي جاء بها بذور أو رصيد في أرضية المجتمع الذي نشأ فيه.
وأمّا التيّار الذي تكوّن من صفوة المسلمين الأوائل على يد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد كان من صنع الرسالة والقائد ، ولم يكن هو المناخ المسبق الذي ولدت فيه الرسالة ، وتكوّن القائد.
ومن أجل ذلك نجد أنّ الفارق بين عطاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعطاء أيّ واجد من هؤلاء المسلمين الصفوة لم يكن فارق درجة كالفوارق التي تبدو بين بذرة وأُخرى من البذور التي تكوّن التيار الجديد ، بل كان فارقاً أساسيّاً لا حدّ له ، وهذا يبرهن على أنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن جزءاً من تيّار ، بل كان التيّار الجديد جزءاً منه.
ومن ناحية ثالثة يبرهن التاريخ على أنّ القيادة الفكريّة والعقائديّة والاجتماعيّة لتيّار جديد إذا تركّزت كلّها في محور واحد من خلال حركة تطوّر فكري واجتماعي معيّن ، فلابدّ أن يكون في هذا المحور من القدرة والثقافة والمعرفة ما يتناسب مع ذلك ، ولابدّ من أن يكون تواجدها فيه طبقاً لما يعرف عادةً من أساليب في حياة الناس ، ولابدّ من ممارسة متدرّجة أنضجته ووضعته على خطّ القيادة لذلك التيّار.
وخلافاً لذلك نجد أن محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم قد مارس بنفسه القيادة الفكريّة والعقائديّة والاجتماعيّة دون أن يكون تاريخيّة ـ كإنسان أمّي لم يقرأ ، ولم يكتب ، ولم يعرف شيئاً من ثقافة عصره وأديانه ـ يرشّحه لذلك من الناحية الثقافيّة ، ودون أن تكون له أيّ ممارسات تمهيديّة لهذا العمل القيادي المفاجئ.
وعلى ضوء ذلك كلّه ننتهي إلى الخطوة الرابعة التي نواجه فيها التفسير الوحيد المعقول والمقبول للموقف ، وهو إفتراض عامل إضافي وراء الظروف والعوامل المحسوسة ، وهو عامل الوحي ، عامل النبوّة الذي يمثّل تدخل السماء في توجيه الأرض : ( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [ الشورى : 52 ].
إذاً فالرسالة والشريعة الإسلاميّة ، ودين الإسلام من حيث المحتوى حقيقة إلهيّة وربّانيّة ، وفوق الشروط والظروف المادّية ، والعوامل المحسوسة : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ ) [ آل عمران : 19 ] ، ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) [ آل عمران : 85 ].
فالبشريّة جمعاء ـ منذ بعثة النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى يوم القيامة ـ بدعوّة من قبل اللّه تبارك وتعالى إلى الاعتقاد بهذا الدين ، والإيمان بهذه الشريعة ، والإعتراف بنبوّة هذا النبيّ ، وتطبيق هذه الرسالة الإلهيّة في كلّ مجالات حياتها ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وصلّى الله على رسوله وحبيبه وصفيّه محمّد بن عبد الله وعلى أهل بيته الطاهرين.
خصائص الرسالة الإسلاميّة
فالإسلام هو دين الله الذي بعث به محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم رحمةً للعالمين ، ولهذا الدين خصائص وميزات تميّزه عن سائر الأديان السماويّة ، وتجعل منه حدثاً فريداً في التاريخ ، وفيما يلي نذكر عدداً من هذه الخصائص والسمات بإيجاز :
أوّلاً : إنّ هذا الدين ظلّ سليماً ضمن « القرآن الكريم » دون أن يتعرّض لأيّ تحريف ، بينما مُنيت الأديان والكتب السماويّة السابقة بالتحريف ، وأفرغت من كثير من محتواها ـ للأسف ـ وذلك بأيدي الجهلة والمغرضين ، وأدخلت فيها أفكار سقيمة وباطلة ، أمّا القرآن الكريم فلم تمتد إليه يد التحريف ، بل بقي كالشمس الساطعة يضيء القلوب والعقول : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّـهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ) [ المائدة : 15 ـ 16 ].
ولا يتلى القرآن الكريم بمضيّ الزمان ، بل يتجلّى إعجازه أكثر فأكثر لما سوف نشير إليه بإذن الله تعالى.
فالقرآن الذي يتداوله المسلمون حالياً هو نفسه الذي نزل على النبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أن يضاف عليه شيء أو يحذف منه شيء ، فمنذ الأيّام الأولى نزول الوحي كان كُتّاب الوحي يدوّنونه ، وكان المسلمون مكلّفين بتلاوة الآيات النازلة آناء الليل وأطراف النهار ، وفي صلواتهم اليوميّة ، ولذا فقد حفظ « القرآن الكريم » عن ظهر القلب عدد كبير من المسلمين ، وقد حظي حفّاظ القرآن وقرّاؤه بمكانة خاصة في المجتمع الإسلامي ، وهذه العوامل وغيرها أدّت إلى صيانة القرآن من التحريف والتغيير ، والأهمّ من ذلك كلّه هو أنّ الله سبحانه وتعالى قد ضمن حفظ القرآن إلى الأبد ، فلا يمكن أن تمسّه يد التحريف والتغيير مطلقاً ، قال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر : 9 ].
وأجمع الباحثون وكبار علماء الإسلام ـ من الشيعة والسنّة ـ على أنّ القرآن لم يتعرّض للتحريف.
ولم يقل بالتحريف إلّا النزر اليسير ، والعدد القليل جدّاً من كلا الفريقين ؛ وذلك استناداً إلى بعض الروايات ، إلّا أنّ الأكثريّة الساحقة من علماء المسلمين رفضوا هذا الرأي بصورة قاطعة ، واعتبروا تلك الروايات موضوعة ، أو أنّها تقصد التحريف المعنوي ، أيّ التفسير المحرّف والخاطئ لآيات القرآن ، أو أنّه قد حصل الخلط ـ لدى القائلين بالتحريف ـ بين تفسير القرآن ، وبين النصّ القرآني نفسه.
وعلى أيّ حال فإنّ دراسة المسار التاريخي لجمع القرآن منذ عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والاحتمام الشديد من قبل المسلمين بكتابته وحفظه وتلاوته ، ووجود كتّاب الوحي ، وغيرها من العوامل تكشف عن هذه الحقيقه ، وهي أنّ يد التحريف لم تستطع أن تمتدّ إلى القرآن أبداً.
ولا يوجد أيّ قرآنٍ آخر عند أيّ فرقة من فرق المسلمين غير هذا القرآن المتداول والموجود اليوم بين أيدي المسلمين ، فأيّ مقولة أُخرى في هذا المجال مرفوضة جملةً وتفضيلاً.
واحتفاظ الرسالة الإسلاميّة بمحتواها العقائدي والتشريعي ضمن النصّ القرآني هو الذي يمكّنها من مواصلة دورها التربوي ، وكلّ رسالة تفرغ من محتواها بالتحريف والضياع لا تصلح أداة ربط بين الإنسان وربّه ، والحال أنّ الإسلام يستهدف قبل كلّ شيء ربط الإنسان بربّه وبمعاده ، والسبب في عدم صلاحيّة الرسالة المحرّفة للقيام بدور الأداة التي تربط الإنسان بمبدأه وبمعاده هو أن هذا الربط لا يتحقّق بمجرّد الانتماء الإسمي إلى الرسالة والشريعة والديانة ، وأن يُسمّى الإنسان مسلماً أو نصرانيّاً أو يهوديّاً مثلاً ، بل يتحقّق الربط بين الإنسان وبين ربّه من خلال التفاعل مع محتوى الرسالة والشريعة والدين وتجسيد ، هذا الدين في الفكر والسلوك ، ومن أجل ذلك كانت سلامة الدين الإسلامي بسلامة النصّ القرآني الشرط الضروري لقدرة هذا الدين على مواصلة أهدافه.
ثانياً : إنّ بقاء القرآن نصّاً وروحاً معناه أن نبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم تفقد أهمّ وسيلة من وسائل إثباتها ، وأهمّ معجزة من معاجزه صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ لأنّ القرآن وما يعبّر عنه من مبادئ الرسالة والشريعة كان هو الدليل العلمي الاستقرائي عندنا على نبوّته ، وعلى حقّانية دين الإسلام الذي جاء به ، وفقاً لما تقدّم ، وهذا الدليل العلمي يستمرّ ويبقى مادام القرآن باقياً.
وخلافاً لذلك النبوّات التي يرتبط إثباتها بوقائع معيّنة تحدث في لحظة وتنتهي ، كإبراء الأكمه والأبرص على يد عيسى ـ على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام ـ ، أو عصا موسى ويده البيضاء ـ على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام ـ ، أو غير ؛ فإنّ هذه الوقائع لا يشهدها عادةً إلّا المعاصرون لها ، وبمرور الزمن ، وتراكم القرون تفقد الواقعة شهودها الأوائل ، ويعجز الإنسان غالباً عن الحصول على أيّ تأكيد حاسم لها عن طريق البحث والتنقيب ، وكلّ نبوّة لا يمكن التأكّد من دليلها لا يمكن أيضاً أن يكلّف الله سبحانه وتعالى الإنسان بالاعتقاد بها ، أو بالبحث عن وسيلة إثباتها ؛ لأنّه ( لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ) [ الطلاق : 7 ] ، ونحن اليوم نعتمد ـ في إيماننا بالأنبياء السابقين ، وبكتبهم ، وبمعاجزهم ـ على إخبار القرآن الكريم بذلك.
ثالثاً : إنّ مرور الزمن ـ كما عرفنا ـ لا ينقص من قيمة الدليل الأساسي على حقّانية دين الإسلام ، ولكن ليس هذا فقط ، بل أنّه أيضاً يمنح هذا الدليل أبعاداً جديدة من خلال تطوّر المعرفة البشريّة ، واتّجاه الإنسان إلى دراسة الكون بأساليب العلم والتجربة ، وليس ذلك فقط لأنّ القرآن الكريم سبق إلى الاتّجاه نفسه ، وربط الأدلّة على الصانع الحكيم بدراسة الكون ، والتعمّق في ظواهره ، ونَبَّه الإنسان إلى ما في هذه الدراسة من أسرار ومكاسب ، بل لأنّ الإنسان الحديث يجد اليوم في هذا الكتاب ـ الذي جاء به رجل أمّي في بيئة جاهلة ومتخلّفة قبل مئات السنين ـ إشارات واضحة إلى ما كشف عنه العلم الحديث ، حتّى لقد قال المستشرق الإنجليزي « أجنيري » ـ وهو أستاذ اللغة العربيّة في جامعة أكسفورد ـ عند ما اكتشف العلم دور الرّياح في التلقيح : « إنّ أصحاب الإبل قد عرفوا أنّ الرّيح تلقّح الأشجار والثمار قبل أن يتوصل العلم في أوربا إلى ذلك بعدّة قرون » يشير بذلك إلى قول القرآن الكريم : ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) [ الحجر : 22 ].
إذاً فالقرآن الكريم ليس فقط لا يبتلى بمضيّ الزمان ، بل يتجلّى إعجازه ، وتتّضح عظمته ، وتتبلور دلالته على نبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم حقّانية دين الإسلام أكثر فأكثر.
وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال بشأن القرآن : « إنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمانٍ دون زمان ، ولناسٍ دون ناسٍ ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قومٍ غَضّ إلى يوم القيامة ». [ بحار الأنوار 2 : 280 ، الحديث : 44 ].
رابعاً : إنّ هذا الدين ـ دين الإسلام ـ جاء شاملاً لكلّ جوانب الحياة ، وعلى هذا الأساس استطاع أن يوازن بين تلك الجوانب المختلفة ، ويوحّد أسسها ، ويجمع في إطار صيغة كاملة بين « الجامع » و « الجامعة » ، و « العمل » و « الحقل » ، ولم يعد الإنسان يعيش حالة الانشطار والانفصال بين حياته الروحيّة المعنويّة وحياته الجسديّة الدنيويّة.
خامساً : إنّ هذا الدين هو الدين السماوي الوحيد الذي طبّق على يد الرسول الذي جاء به صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وسجّل في مجال التطبيق نجاحاً باهراً ، واستطاع أن يحوّل الشعارات التي أعلنها إلى حقائق في الحياة اليوميّة للناس.
سادساً : إنّ هذا الدين بنزوله إلى مرحلة التطبيق دخل التاريخ ، وساهم في صنعه ؛ إذ كان هو حجر الزاوية في بناء أمّةٍ حملت هذا الدين ، واستنارت بهداه.
ولمّا كان هذا الدين ربّانياً ، وعطاءاً سماويّاً للأرض فوق العوامل والمؤثّرات المحسوسة ، نتج عن ذلك ارتباط تاريخ هذه الأمّة بعاملٍ عيّني لا يخضع للحسابات المادّية للتاريخ ، ومن هنا كان من الخطأ أن نفهم تاريخنا ضمن إطار العوامل والمؤثّرات الحسيّة فقط ، أو أن نعتبره حصيلة ظروف مادّية ، أو تطوّر في قوى الانتاج ، فانّ هذا الفهم المادّي للتاريخ لا ينطبق على أمّةٍ بُني وجودها على أساس رسالة السماء ، ودين الله تعالى ، وما لم ندخل هذه الرسالة ، وهذا الدين في الحساب كحقيقةٍ ربّانيّة ، لا يمكن أن نفهم تاريخ هذه الأمّة.
سابعاً : إنّ هذا الدين لم يقتصر أثره على بناء هذا الأمّة ، بل امتدّ من خلالها ليكون قوّةً مؤثرة وفاعلة في العالم كلّه على مسار التاريخ ، ولا يزال المنصفون من الباحثين الأوربيين يعترفون بأنّ الدّفعة الحضاريّة للإسلام هي التي حرّكت شعوب أوربا النائمة ، وأيقظتها ونبّهتها إلى الطريق.
ثامناً : إنّ النبيّ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي جاء بهذا الدين تميّز عن جميع الأنبياء الذين سبقوه بتقديم دينه بوصفه آخر دين ربّاني ، وآخر أطروحة إلهيّة ، وبهذا أعلن أنّ بنبوّته هي النبوّة الخاتمة ، وفكرة النبوّة الخاتمة لها مدلولان :
أحدهما سلبي ، وهو المدلول الذي ينفي ظهور نبوّة أُخرى إلى الأبد.
والآخر إيجابي ، وهو المدلول الذي يؤكّد استمرار النبوّة الخاتمة ، وامتدادها ما امتدّت العصور والأجيال إلى يوم القيامة.
وحينما نلاحظ المدلول السلبي النبوّة الخاتمة نجد أنّ هذا المدلول قد انطبق على الواقع تماماً خلال الأربعة عشر قرناً التي تلت ظهور الإسلام ، وسيظلّ منطبقاً على الواقع مهما امتدّ الزمن ، غير أن عدم ظهور نبوّة أُخرى على مسرح التاريخ ليس ؛ لأنّ النبوّة تخلّت عن دورها كأساس من أسس الحضارة الإنسانيّة ؛ بل لأنّ النبوّة الخاتمة جاءت بالرسالة الوريثة لكلّ ما يعبّر عنه تاريخ النبوّات من رسالات ، جاءت بالرّسالة المشتملة على كلّ ما في تلك النبوّات والرسالات من قيم تابتة دون ما لا بسها من قيم مرحليّة ، وبهذا كانت هي الرسالة المهيمنة القادرة على الاستمرار مع الزّمن ، وكلّ ما يحمله الزمن من عوامل التطوّر والتجديد : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) [ المائدة : 48 ].
تاسعاً : وقد اقتضت الحكمة الرّبّانية الّتي ختمت النبوّة بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تُعدّ له أوصياء يقومون بأعباء الإمامة والخلافة بعد اختتام النبوّة ، وبعد انقطاع الوحي ، ورحيل الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهم اثنا عشر إماماً ، قد جاء النصّ على عددهم من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أحاديث صحيحة اتّفق المسلمون على روايتها ، أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وبعده الحسن ، ثمّ الحسين ، وبعده تسعة من ولد الحسين على الترتيب التالي ، علي بن الحسين السجّاد ، ومحمّد بن علي الباقر ، وجعفر بن محمّد الصادق ، وموسى بن جعفر الكاظم ، وعلي بن موسى الرضا ، ومحمّد بن علي الجواد ، وعلي بن محمّد الهادي ، والحسن بن علي العسكري ، ومحمّد بن الحسن المهدي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
عاشراً : وفي حالة غيبة الإمام الثاني عشر ـ عجّل اللّه تعالى ظهوره وفرجه ـ أرجَعَ الإسلام الناس إلى الفقهاء لأخذ معالم دينهم عنهم ، وفَتَح باب الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعيّة من الكتاب والسّنة.
هذه صورة موجزة عن الإسلام ، وعن الدليل على أنّه هو دين الحقّ نأمل أن تنفعكم بإذن الله تعالى.
التعلیقات
٦