تكتيب الكتائب والهجوم على الكوفة والحيرة
ثورة زيد
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 7 ، ص 317 ـ 325
________________________________________
(317)
تكتيب الكتائب والهجوم على الكوفة والحيرة :
غادر زيد ليلة الاَربعاء، دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الاَنصاري، واستقر خارج الكوفة فأمر برفع الهرادي (3)فيها فكلما أكل النار هردياً، رفعوا آخر فما زالو كذلك حتى طلع الفجر فلما أصبح، أمر بعض أصحابه النداء وبالشعار لغاية تقاطر المبايعين إلى النقطة التي استقر فيها لاِرسال الكتائب منها إلى الكوفة والحيرة ولفتح البلدين، ومحاربة المانعين من أبناء البيت الاَموي وأنصارهم، فكان التخطيط تخطيطاً عسكرياً بارعاً لولا أن القضاء سبق التدبير، وتسرب أسرار الثورة إلى الخارج، وحالت العامل وخليفته، بينه وبين وثوب الناس واجتماعهم لديه.
أصبح زيد وتعجب من قلة الحاضرين (4)وقال: أين الناس، فقيل له: هم
________________________________________
(3) القصب.
(4) الحاضرون: حسب ما نقله الطبري كانوا مائتين وثمانية عشر رجلاً: التاريخ: 5|500.
________________________________________
(318)
في المسجد الاَعظم محصورون، فقال: لا واللّه ما هذا لمن بايعنا بعذر، ولم يجد بداً من القتال بمن معه، موطناً نفسه على الاستشهاد وقد ذكر الموَرخون كيفية قتاله وقتال أصحابه الموفين بعهدهم وبيعتهم، وهم بين موجز في القول ومسهب في النقل، ونحن نكتفي بنصوص ثلاثة:
1 ـ قال المسعودي: «مضى زيد إلى الكوفة وخرج عنها ومعه القرّاء والاَشراف، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي فلما قامت الحرب، انهزم أصحاب زيد، وبقي في جماعة يسيرة، فقاتلهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً:
أذل الحياة وعزّ الممات * وكلاً أراه طعاماً وبيلا
فإن كان لابد من واحد * فسيري إلى الموت سيراً جميلا
وحال المساء بين الفريقين فراح زيد مثخناً بالجراح وقد أصابه سهم في جبهته فطلبوا من ينزع النصل، فأتى بحجام من بعض القرى فاستكتموه أمره فاستخرج النصل فمات من ساعته، فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش، وأُجري الماء على ذلك، وحضر الحجام مواراته، فعرف الموضع فلما أصبح مضى إلى يوسف متنصحاً، فدلّه على موضع قبره، فاستخرجه يوسف، وبعث برأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام: أن أصلبه عرياناً، فصلبه يوسف كذلك، ففي ذلك يقول بعض شعراء بني أُمية يخاطب آل أبي طالب وشيعتهم من أبيات:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة * ولم أر مهدياً على الجذع يصلب
وبنى تحت خشبته عموداً، ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وذروه في الرياح (1).
________________________________________
(1) المسعودي: مروج الذهب: 3|207.
________________________________________
(319)
هذا ما يذكره المسعودي الذي يذكر الاَحداث على وجه الاِيجاز.
2 ـ أنّ الطبري يذكر القصة ببسط وتفصيل ويذكر لزيد بطولات باهرة وأنّه دامت الحرب يومين (الاَربعاء والخميس) وأنّه وصل بأصحابه إلى باب الفيل، فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الاَبواب ويقولون: يا أهل المسجد اخرجوا، وجعل نصر بن خزيمة يناديهم، ويقول: يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا فإنّكم لستم في دين ولا دنيا، فأشرف عليهم أهل الشام فجعلوا يرمونهم بالحجارة من فوق المسجد... (1)
ولو صحّ ما ذكره الطبري وتبعه الجزري لزم أن يكون المتواجدون في معسكره أزيد مما ذكره.
3 ـ وممّن لخّص الحادثة ولم تفته الاِشارة إلى دقائقها: الاِمام المنصور باللّه عبد اللّه بن حمزة في «الشافي» قال: «وكان ديوانه قد انطوى على خمسة عشر ألف مقاتل خارجاً عمن بايع من جميع أهل الاَمصار وسائر البلدان، ثم قال: ولمّا خرج _ عليه السلام _ خرج معه القرّاء والفقهاء وأهل البصائر قدر خمسة آلاف رجل في زيّ لم ير الناس مثله، وتخلّف باقي الناس عنه، فقال: أين الناس؟ قال: أُحتبسوا في المسجد، فقال: لا يسعنا عند اللّه خذلانهم، فسار حتى وصل إليهم وأمرهم بالخروج فلم يفعلوا. فقال نصر بن خزيمة:
يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلى العز إلى خير الدنيا والآخرة، وأدخلوا عليهم الرايات من طاقات المسجد فلم ينجح ذلك فيهم شيئاً.
وأقبلت جنود الشام من تلقاء الحيرة، فحمل عليهم _ عليه السلام _ كأنّه الليث المغضب، فقتل منهم أكثر من ألفي قتيل بين الحيرة والكوفة وأقام بين
________________________________________
(1) الطبري: التاريخ: 5|501.
________________________________________
(320)
الحيرة والكوفة، ودخلت جيوش الشام الكوفة ففرق أصحابه فرقتين، فرقة بأزاء أهل الكوفة وفرقة بأزاء أهل الحيرة، ولم يزل أهل الكوفة يخرج الواحد منهم إلى أخيه والمرأة إلى زوجها، والبنت إلى أبيها والصديق إلى صديقه، فيبكي عليه حتى يرده فأمسى _ عليه السلام _ وقد رقّ عسكره وخذله كثير ممن كان معه، وأهل الشام في اثني عشر ألفاً وحاربهم _ عليه السلام _ يوم الاَربعاء ويوم الخميس وحمل عليهم عشية الخميس، فقتل من فرسانهم زيادة على مائتي فارس، وأُصيب _ عليه السلام _ آخر يوم الجمعة بنشابة في جبينه، فحمل إلى دور «أرحب» و «شاكر» وجيء بطبيب نزع النصل، بعد أن عهد إلى ولده يحيى بجهاد الظالمين، ثم مات من ساعته ودفن في مجرى ماء وأُجري عليه الماء، فأبصرهم غلام سنديّ، فلما ظهر قتله وصاح صائح يوسف بن عمر بطلبه دلّ عليه، فصلبوه في الكناسة وحرقوه بعد ذلك، وخبطوه بالشماريخ والعثاكيل حتى صار رماداً، وسفّوه في البر والبحر وذروه في الرياح، فحرق اللّه هشاماً في الدنيا وله في الآخرة عذاب النار(1).
وقد بسط أبو الفرج الكلام في قتاله ونضاله وقال في آخر كلامه:
قال: وجعلت خيل أهل الشام لاتثبت لخيل زيد بن علي. فبعث العباس ابن سعد إلى يوسف بن عمر يعلمه ما يلقى من الزيدية وسأله أن يبعث إليه الناشبة فبعث إليه سليمان بن كيسان في القيقانية وهم نجارية وكانوا رماة فجعلوا يرمون أصحاب زيد. وقاتل معاوية بن إسحاق الاَنصاري يومئذ قتالاً شديداً فقتل بين يدي زيد. وثبت زيد في أصحابه حتى إذا كان عند جنح الليل رُمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى فنزل السهم في الدماغ، فرجع ورجع أصحابه ولايظن أهل الشام أنّهم رجعوا إلاّ للمساء والليل.
قال أبو مخنف: فحدثني سلمة بن ثابت وكان من أصحاب زيد وكان آخر
________________________________________
(1) السياغي: الروض النضير: 1|133.
________________________________________
(321)
من انصرف عنه هو وغلام لمعاوية بن إسحاق، قال: أقبلت أنا وأصحابي نقتفي أثر زيد فنجده قد دخل بيت «حران بن أبي كريمة» في سكة البريد في دور «أرحب» و «شاكر» فدخلت عليه فقلت له: جعلني اللّه فداك أبا الحسين، وانطلق ناس من أصحابه فجاءوا بطبيب يقال له سفيان مولى لبني دواس. فقال له: إنّك إن نزعته من رأسك مت، قال: الموت أيسر علي مما أنا فيه.
قال: فأخذ الكبتين فانتزعه فساعة انتزاعه مات صلوات اللّه عليه.
قال القوم: أين ندفنه؟ أين نواريه؟ فقال بعضهم: نلبسه درعين ثم نلقيه في الماء. وقال بعضهم: لا بل نحتز رأسه ثم نلقيه بين القتلى.
قال: فقال يحيى بن زيد: لا واللّه لا يأكل لحم أبي السباع. وقال بعضهم نحمله إلى العباسية فندفنه فيها. فقبلوا رأيه.
قال: فانطلقنا فحفرنا له حفرتين وفيها يومئذ ماء كثير حتى إذا نحن مكنّا له، دفناه ثم أجرينا عليه الماء ومعنا عبد سنديّ. قال سعيد بن خثيم في حديثه: عبد حبشي كان مولى لعبد الحميد الرواسي وكان معمر بن خثيم قد أخذ صفته لزيد وقال يحيى بن صالح: هو مملوك لزيد سنديّ وكان حضرهم.
قال أبو مخنف عن كهمس قال: كان نبطيّ يسقي زرعاً له حين وجبت الشمس فرآهم حيث دفنوه، فلما أصبح أتى الحكم بن الصلت فدلّهم على موضع قبره، فسرح إليه يوسف بن عمر، العباس بن سعيد المري. قال أبو مخنف: بعث الحجاج بن القاسم فاستخرجوه ـ وحملوه ـ على بعير.
قال هشام: فحدثني نصر بن قابوس قال: فنظرت واللّه إليه حين أقبل به على جمل قد شدّ بالحبال وعليه قميص أصفر هروي، فأُلقي من البعير على باب القصر فخرّ كأنّه جبل. فأمر به فصلب بالكناسة، وصلب معه معاوية بن إسحاق،
________________________________________
(322)
وزياد الهندي ونصر بن خزيمة العبسي (1)وعن ابن عساكر: «وأمر بحراستهم وبعث بالرأس إلى الشام فصلب على باب مدينة دمشق ثم أرسل إلى المدينة» (2)
«وقال الوليد بن محمد: كنّا على باب الزهري إذ سمع جلبة، فقال: ما هذا ياوليد؟ فنظرت، فإذا رأس زيد بن علي يطاف به بيد اللعانين، فأخبرته فبكى، ثم قال: أهلك أهل هذا البيت العجلة! قلت: ويملكون؟ قال: نعم، وكانوا قد صلبوه بالكناسة سنة احدى أو اثنتين أو ثلاث وعشرين ومائة، وله اثنتان أو أربع وأربعون سنة، ثم أحرقوه بالنار فسمّي زيد النار. ولم يزل مصلوباً إلى سنة ست وعشرين، ثم أُنزل بعد أربع سنين من صلبه. وقيل: كان يوجه وجهه ناحية الفرات فيصيح، وقد دارت خشبته ناحية القبلة مراراً، ونسجت العنكبوت على عورته، وكان قد صلب عرياناً. وقال الموكل بخشبته: رأيت النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في النوم وقد وقف على الخشبة وقال: «هكذا تصنعون بولدي من بعدي! يابنيّ يازيد ! قتلوك قتلهم اللّه ! صلبوك صلبهم اللّه !» فخرج هذا في الناس. فكتب يوسف بن عمر إلى هشام أن عجل إلى العراق فقد فتنتهم ! فكتب إليه: أحرقه بالنار !، وقال: جرير ابن حازم: رأيت النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ مسنداً ظهره إلى خشبة زيد بن علي وهو يبكي ويقول: «هكذا تفعلون بولدي»، ذكر ذلك كله الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (3)
وفي معجم البلدان: «وعلى باب الكورتين مشهد زيد، فيه مدفن زيد بن علي بن أبي طالب الذي قتل بالكوفة وأحرق وحمل رأسه فطيف به الشام، ثم حمل إلى مصر فدفن هناك (4)
________________________________________
(1) أبو الفرج: مقاتل الطالبيين: 96؛ ونقل الطبري في تاريخه خطبة يوسف بن عمر بعد قتل زيد لاحظ: 5|507.
(2) السيد الاَمين: زيد الشهيد: 77.
(3) صلاح الدين الصفدي: الوافي بالوفيات: 15|34.
(4) ياقوت: معجم البلدان: 8|77، مادة مصر.
________________________________________
(323)
وقال ابن مهنا: «قال الناصر الكبير الطبرستاني لما قتل زيد بعثوا برأسه إلى المدينة ونصب عند قبر النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ يوماً وليلة» (1)
وقال السيد الاَمين: كأنّهم يريدون أن يقولوا: يامحمد هذا برأس ولدك الذي قتلناه بمن قُتِل منّا يوم بدر نصبناه عند قبرك (2)
قيل لاَبي نعيم الفضل دكين: كان زهير بن معاوية يحرس خشبة زيد بن علي؟
قال: نعم، وكان فيه شر من ذلك، وكان جده الرحيل فيمن قتل الحسين ـ صلوات اللّه عليه ـ (3)
الرأي العام في استشهاد زيد :
إنّ وعاظ السلاطين وشعراء البلاط الاَموي كانوا ينقمون منه وينظمون القريض في ذمّه، ولمّا صلب أقبل شاعر منهم وقال:
ألا يا ناقض الميثا * ق أبشر بالذي ساكا
نقضت العهد والميثا * ق قدماً كان قدما كا
فقيل له: ويلك أتقول هذا لمثل زيد، فقال: إنّ الاَمير غضبان فأردت أن أرضيه، فرد عليه بعض الشعراء المخلصين وقال:
________________________________________
(1) ابن مهنا: عمدة الطالب: 258، ط النجف.
(2) الاَمين: زيد الشهيد: 80.
(3) المفيد: الاختصاص: 128؛ المجلسي: بحار الاَنوار: 46|181.
________________________________________
(324)
ألا يا شاعر السوء * لقد أصبحت أفّاكا
أتشتم ابن رسول اللـ * ـه وتُرضي من تولاكا
ويوم الحشر لاشك * فإنّ النار مثواكا (1)
هذا ولما قتل زيد لبست الشيعة السواد، ورثوه بقصائد نذكر بعضها:
1 ـ ما رثى به فضل بن العباس بن عبد الرحمان بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب (ت 129هـ) مصلوب على عمود بالكناسة.
الا ياعين لاترق وجودى * بدمعك ليس ذا حين الجمود
غداة ابن النبي أبو حسين * صليب بالكناسة فوق عود
يظل على عمودهم ويُمسي * بنفسي أعظم فوق العمود
تعدى الكافر الجبار فيه * فأخرجه من القبر اللحيد
فظلّوا ينبشون أبا حسين * خضيباً بينهم بدم جسيد (2)
وقال أبو ثميلة الآبار يرثي زيداً:
أبا الحسين أعار فقدك لوعةً * من يلقَ ما لقيت منها يكمد
كنت الموَمل للعظائم والنهى * ترجى لاَمر الاَُمة المتأود
فقتلت حين رضيت كل مناضل * وصعدت في العلياء كل مصعد
والقتل في ذات الاِله سجية * منكم وأحرى بالفعال الاَمجد
والناس قد آمنوا وآل محمّد * من بين مقتول وبين مشرد (3)
________________________________________
(1) الطبري: التاريخ: 5|506.
(2) أبو الفرج: مقاتل الطالبيين: 101 ـ 102.
(3) أبو الفرج: مقاتل الطالبيين: 101 ـ 102.
________________________________________
(325)
وقد رثي الاِمام الثائر بقصائد كثيرة لوجمعت لكانت كتاباً مفرداً ونكتفي في المقام بما جادت به قريحة سيدنا العلامة الاَمين نقتطف منه ما يلي:
لقد لامني فيك الوشاة وأطنبوا * وراموا الذي لم يدركوه فخُيّبوا
أرقتَ وقد نام الخلي ولم أزل * كأنّي على جمر الغضى أتقلّب
عجبت وفي الاَيام كم من عجائب * ولكما فيها عجيب وأعجب
تفاخَرنا قوم لنا الفخر دونها * على كل مخلوق يجيء ويذهب
وما ساءني إلاّ مقالة قائل * إلى آل مروان يضاف وينسب
(صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة * ولم أر مهدياً على الجذع يصلب)
فإن تصلبوا زيداً عناداً لجده * فقد قتُلت رسل الاِله وصلّبوا
وإنّا نعد القتل أعظم فخرنا * بيوم به شمس النهار تحجب
فما لكم والفخر بالحرب إنّها * إذا ماانتمت تنمى إلينا وتنسب
هداة الورى في ظلمة الجهل والعمى * إذا غاب منهم كوكب بان كوكب
كفاهم فخاراً أنّ أحمد منهم * وغيرهم أن يدَّعوا الفخر كذبوا (1)
________________________________________
(1) زيد الشهيد: 78.
التعلیقات