التكليف بما لا يطاق
آراء الأشعري
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص 185 ـ 190
________________________________________(185)
التكليف بما لا يطاقإنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق، أمّا إذاكان الآمر إنساناً فلأنّه بعد وقوفه على أنّ المأمور غير مستطيع لإيجاد الفعل، وغير قادر عليه، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفسه وضمير روحه، ولا يبلغ تصوّر الفعل والتصديق بفائدته إلى مرحلة العزم والجزم بطلبه من المأمور، وبعثه من صميم القلب نحو الشيء المطلوب، إذ كيف يمكن أن يطلب شيئاً بطلب جدي ممّن يعلم أنّه عاجز، وهل يمكن لإنسان أن يطلب الثمرة من الشجرة اليابسة، أو المطر من الأحجار والأتربة الجامدة، ولأجل ذلك يقول المحقّقون: إنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً، وإنّ الإرادة الجدية لا تنقدح في ضمير الأمر هذا كلّه إذا كان الآمر إنساناً، وأمّا إذا كان الآمر هو الله سبحانه، فالأمر فيه واضح من جهتين:
1. إنّ التكليف بمالا يطاق أمر قبيح عقلاً، فيستحيل عليه سبحانه من حيث الحكمة أن يكلّف العبد مالا قدرة له عليه ولا طاقة له به، ويطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه، فلا يجوز له أن يكلّف الزمن، الطيران إلى السماء، ولا الجمع بين الضدين، ولا إدخال الجمل في خرم الإبرة، إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة.
2. الآيات الصريحة في أنّه سبحانه لا يكلّف الإنسان إلاّ بمقدار قدرته وطاقته، قال سبحانه: (لا يُكَلّفُ الله نَفساً إِلاّ وُسْعَها). (1)
وقال تعالى: (وَما رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبيدِ). (2)
وقال عزّ من قائل:(ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحداً) .(3)
والظلم هو الإضرار بغير المستحق، وأيّ إضرار أعظم من هذا، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
ومع هذه البراهين المشرقة سلك الأشعري غير هذا الصراط السوي، وجوز التكليف بمالا يطاق، واستدلّ عليه بالآيات التالية:
1. (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزينَ فِي الأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَولياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (4) وقد أُمروا أن يسمعوا الحقّ وكلّفوه، فدلّ ذلك على جواز تكليف مالا يطاق، وأنّ من لم يقبل الحقّ ولم يسمعه على طريق القبول لم يكن مستطيعاً.
2.(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَها عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسماءِ هؤلاءِإِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ).(5) قال: الآية تدل على جواز تكليف ما لا يطاق،فقد أُمروا بإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.
3. (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق وَيُدْعَونَ إِلى السُّجُود فَلا يَسْتَطيعُونَ* خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَونَ إِلى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) (6) قال: فإذا جاز تكليفه إيّاهم في الآخرة مالا يطيقون، جاز ذلك في الدنيا.
________________________________________
1. البقرة:286. 2. فصلت:46. 3. الكهف:49. 4. هود:20. 5. البقرة:31. 6. القلم:42ـ 43.
________________________________________
(186)
4.(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَو حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ الْمَيلِ فَتَذرُوها كالمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحيماً).(1) قال: وقد أمر اللّه تعالى بالعدل، ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يعدل.(2)يلاحظ عليه:
أمّا الآية الأُولى: فيظهر ضعف الاستدلال بها بتفسير مجموع جملها:
(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزينَ فِي الأَرْضِ ): إنّهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية وإن خرجوا عن زي العبودية وافتروا على الله الكذب، ولكن ماغلبت قدرتهم قدرة الله.
( وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَولياءَ) : إنّهم وإن اتّخذوا أصنامهم أولياء ولكنّها ليست أولياء حقيقة، وليس لهم من دون الله تعالى.
( يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ): يجازون بما أتوا به من الغي والظلم والأعمال السيّئة».
( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) هذه الجملة في مقام التعليل يريد أنّهم لم يكفروا ولم يعصوا أمر الله، لأجل غلبة إرادتهم على إرادة الله، ولا لأنّ لهم أولياء من دون الله، بل لأنّهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من إنذار وتبشير، أو يذكر لهم من البعث والزجر من قبله سبحانه، وما كانوا يبصرون آياته، حتى يؤمنوا بها، ولكن كلّ ذلك لا لأجل أنّهم كانوا غير مستطيعين أن يسمعوا ويبصروا من بداية الأمر، بل لأنّهم أنفسهم سلبوا هذه النعم بالذنوب فصارت وسيلة لكونهم ذوي قلوب لا يفقهون بها، وذوي أعين لا يبصرون بها، وذوي آذان لا يسمعون بها، فصاروا كالأنعام بل أضلّ منها.(3)
________________________________________
1. النساء:129. 2. لاحظ اللمع: 99، 113، 114. 3. اقتباس من قوله سبحانه:(لهم قلوب لا يفقهون بها...) الأعراف:179.
________________________________________
(187)
إنّ الآيات الكريمة صريحة في أنّ عمل الإنسان وتماديه في الغي ينتهي إلى صيرورة الإنسان أعمى وأصم وأبكم، قال سبحانه: (فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ الله قُلُوبَهُمْ).(1)وقال سبحانه: (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الفاسِقينَ) .(2)
وعلى ذلك فالآية التي استدلّ بها الشيخ، نظير قوله سبحانه: (خَتَمَ الله عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِم وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (3) و قوله سبحانه: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوّل مَرَّة) .(4)
ولكن كل ذلك في نهاية حياتهم بعد تماديهم في الغي.وأمّا في ابتداء حياتهم فقد أعطى للجميع قدرة الإبصار والاستماع والتفكّر والتعقّل. قال سبحانه: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (5) ولكن الإنسان ربما يبلغ به الغي إلى درجة ينادي فيها ويقول: (لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا في أَصْحابِ السَّ عيرِ*فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصحابِ السَّعيرِ).(6)
وباختصار، الآية تحكي عن عدم استطاعتهم السمع، ولكن السبب في حصول هذه الحالة لهم، هو أنفسهم باختيارهم، وهذا لا ينافي وجود الاستطاعة قبل التمادي في الغي، وما يتوقّف عليه التكليف هو القدرة الموجودة قبل سلبها عن أنفسهم.
ومن القواعد المسلّمة في علم الكلام قولهم: «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار».
________________________________________
1. الصف:5. 2. البقرة:26. 3. البقرة:7. 4. الأنعام:110. 5. النحل:78. 6. الملك:10ـ 11.
________________________________________
(188)
إلى هنا تعرفت على مفاد الآية، ووقفت على أنّها لا تمت إلى ما يدّعيه الشيخ بصلة، وهلم معي ندرس الآيات الباقية:وأمّا الآية الثانية، أعني قوله سبحانه: (أَنْبِئُوني بِأَسماءِ هؤلاءِ) فليس الأمر فيها للتكليف والبعث نحو المأمور به، بل للتعجيز، مثل قوله سبحانه: (وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ) .(1)
إنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات، فتارة تكون الغاية من الإنشاء، هي بعث المكلف نحو الفعل جداً، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، ويشترط فيه القدرة الاستطاعة، وأُخرى تكون الغاية أُموراً غيره، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة، وكالتسخير في قوله سبحانه: (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئينَ) (2) والإهانة، مثل قوله: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الكَريمُ)(3)، أو التمنّي، مثل قول امرئ القيس في معلّقته:
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي * بصبح وما الإصباح منك بأمثل
إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلّم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر، وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.وأمّا الآية الثالثة فليست الدعوة إلى السجود فيها عن جد وإرادة حقيقية، بل الغاية من الدعوة إيجاده الحسرة في المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا. والآية تريد أن تبين أنّهم في أوقات السلامة رفضوا الإطاعة والامتثال، وعند العجز ـ بعد ما كشف الغطاء عن أعينهم ورأوا العذاب ـ همّوا بالسجود، ولكن أنّى لهم ذلك، وإليك تفسير جمل الآية.
________________________________________
1. البقرة:23. 2. البقرة:65. 3. الدخان:49.
________________________________________
(189)
(يوم يكشف عن ساق) الجملة كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه، وإن لم يكن هناك كشف ولا ساق،وذلك لأنّ الإنسان عند الشدة يكشف عن ساقيه،ويخوض غمار الحوادث. وهذا كما يقال للأقطع الشحيح: يده مغلولة،وإن لم يكن هناك يد ولا غل.(ويدعون إلى السجود) : لا طلباً ولا تكليفاً جدّياً، كما زعمه الشيخ أبو الحسن، بل لازدياد الحسرة على تركهم السجود في الدنيا مع سلامتهم.
(فلا يستطيعون) : لسلب السلامة منهم(1) أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم، واليوم تبلى السرائر.(2)
(خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة) : تكون أبصارهم خاشعة ويغشاهم في ذلك اليوم ذلّة.
(وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) : إنّهم لماّ دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا عنه مع صحتهم وصحّة أبدانهم، يدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون،وذلك لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمون أصحاء.
ومجموع جمل الآية تعرب بوضوح عن أنّ الدعوة فيها لا تكون عن تكليف جدي، بل لغايات أُخرى لا يشترط فيها القدرة.
وأمّا الآية الرابعة، فلا شكّ أنّ الله سبحانه أمر بالعدالة من يتزوج أكثر من واحدة قال سبحانه: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةٌ) (3) وفي الوقت نفسه أخبر في آية أُخرى عن عدم استطاعة المتزوّجين أكثر من واحدة على أن يعدلوا. ولكن نهى عن التعلّق التام بالمحبوبة منهن،والإعراض عن الأُخرى رأساً، حتى تصير كالمعلّقة لا متزوّجة ولا مطلّقة، قال سبحانه: (وَلَنْ)
________________________________________
1. الكشاف:3/261. 2. الميزان:20/46، والمعنى الأوّل الذي قال به صاحب الكشاف أظهر لما في الآية التالية من قوله:(وهم سالمون) . 3. النساء:3.
________________________________________
(190)
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كَالمُعَلَّقةِ وَأَنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) .(1)وبالتأمّل في جمل الآية، يظهر أنّ العدالة التي أمر بها،غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها. فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة،وهو العدالة في الملبس و المأكل والمسكن،وغيرها من الحقوق الزوجية التي يقوم بها الزوج بجوارحه،ولا صلة لها بباطنه.
وأمّا غير المستطاع منها فهو المساواة في إقبال النفس والبشاشة والأنس، لأنّ الباعث عليها الوجدان النفسي والميل القلبي، وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره.
والآية بصدد التنبيه على أنّ العدل الكامل بين النساء غير مستطاع،ولا يتعلّق به التكليف،ومهما حرص الإنسان على أن يجعل المرأتين كالغرارتين المتساويتين في الوزن لا يستطيعه،وهذا هو العدل الحقيقي التام.(2)
وباختصار: إنّ المنفي هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرّف أصلاً، وهو ليس محلاً للتكليف، والمثبت المشروع الذي أمر به هو العدل التقريبي الذي هو في وسع كلّ متزوج بأكثر من واحدة.(3)
________________________________________
1. النساء:129. 2. المنار:5/448. 3. الميزان:5/106.
التعلیقات