دعاة الحرية
علماء القدرية
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 115 ـ 119
________________________________________(115)
دعاة الحرية
1 ـ معبد بن عبدالله الجهني البصري (م 80): أوّل من قال بالقدر في البصرة. سمع الحديث من ابن عبّاس، وعمران بن حصين وغيرهما وحضر يوم التحكيم، وانتقل من البصرة إلى المدينة فنشر فيها مذهبه، وكان صدوقاً ثقة في الحديث ومن التّابعين،دعاة الحرية
________________________________________
(116)
وخرج مع ابن الأشعث على الحجّاج بن يوسف، فخرج وأقام بمكّة فقتله الحجّاج صبراً بعد أن عذّبه، وقيل صلبه عبد الملك بن مروان في دمشق على القول بالقدر ثمّ قتله(1).وقال المقريزي في خططه: «أوّل من قال بالقدر في الإسلام معبد بن خالد الجهني وكان يجالس الحسن بن الحسين البصري، فتكلّم بالقدر في البصرة، وسلك أهل البصرة مسلكه لمّا رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه ويعرف بالأسواري، فلمّا عظمت الفتنة به عذّبه الحجّاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان، سنة ثمانين من الهجرة ـ إلى أن قال: وكان عطاء بن يسار قاضياً يرى القدر وكان يأتي هو ومعبد الجهني إلى الحسن البصري، فيقولان له إنّ هؤلاء يسفكون الدّماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر الله فقال: كذب أعداء الله فطعن عليه بهذا»(2).
2 ـ غيلان بن مسلم الدمشقي: وهو ثاني من تكلّم بالقدر ودعا إليه ولم يسبقه سوى معبد الجهني. قال الشهرستاني في «الملل والنحل»: «كان غيلان يقول بالقدر خيره وشرّه من العبد، وقيل تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن عبد العزيز، فلمّا مات عمر جاهر بمذهبه فطلبه هشام بن عبد الملك وأحضر الأوزاعي لمناظرته. فأفتى الأوزاعي بقتله، فصلب على باب كيسان بدمشق وقتل عام (105)(3).
قال القاضي عبد الجبّار: «ومنهم (الطبقة الرابعة من المعتزلة) غيلان بن مسلم، أخذ العلم عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة»(4).
وقال ابن المرتضى نقلاً عن الحاكم: «أخذ غيلان الدمشقي المذهب عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ولم تكن مخالفته (الحسن) لأبيه ولأخيه إلاّ في شيء من الإرجاء. روى
________________________________________
1. الأعلام للزركلي ج 8 ص 177 ناقلاً عن تهذيب التهذيب ج 10 ص 225، وميزان الاعتدال ج 3 ص 183، وشذرات الذهب ج 1 ص 88، والبداية والنهاية ج 9 ص 34. 2. الخطط المقريزية: ج 2 ص 356. سيوافيك نظرنا في كلامه فانتظر . 3. الملل والنحل: ج 1 ص 47 ولسان الميزان ج 4 ص 424. والأعلام للزركلي ج 5 ص 320. 4. طبقات المعتزلة: ص 229 ولكلامه ذيل يجيء عن ابن المرتضى عند البحث عن جذور الإعتزال.
________________________________________
(117)
أنّ الحسن كان يقول ـ إذا رأى غيلان في الموسم ـ: أترون هذا، هو حجّة الله على أهل الشام، ولكنّ الفتى مقتول، وكان وحيد دهره في العلم والزهد والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله، قتله هشام بن عبد الملك وقتل صاحبه. وسبب قتله أنّ غيلان كتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً يحذِّره فيه من انطفاء السنّة وظهور البدعة(1). فلمّا وصلت الرسالة إلى عمر بن عبد العزيز دعاه وقال: أعنّي على ما أنا فيه. فقال غيلان: ولّني بيع الخزائن وردّ المظالم فولاّه فكان يبيعها وينادي عليها ويقول: تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظّلمة، تعالوا إلى متاع من خلَف الرسول في أمّته بغير سنّته وسيرته، وكان فيما نادي عليه جوارب خزّ فبلغ ثلاثين ألف درهم، وقد أتكل بعضها. فقال غيلان: من يعذرني ممّن يزعم أنّ هؤلاء كانوا أئّمة هدى وهكذا يأتكل والناس يموتون من الجوع. فمرّ به هشام بن عبد الملك قال: أرى هذا يعيبني ويعيب آبائي وإن ظفرت به لاُقطّعنّ يديه ورجليه فلمّا ولى هشام قتله على النّحو الّذي وعده»(2).وما ذكرناه من النُّصوص يوقفنا على اُمور:
1 ـ إنّ القول بكون الإنسان مخيّراً لا مسيّراً يتّصل جذورها بالبيت الهاشمي. فقد عرفت أنّ معبداً الجهني كان تلميذاً لابن عبّاس، وغيلان الدمشقي تتلمذ للحسن بن محمّد بن الحنفيّة. فما ذكره المقريزي من أنّه أخذ ذلك الرأي من أبي يونس سنسويه لا يركن إليه، بعد ثبوت تتلمذهما لقادة الفكر من البيت الهاشمي،ولعمران بن حصين الصحابي الجليل ومن أعلام أصحاب علي ـ عليه السلام ـ.
2 ـ إنّ نضال الرّجلين في العهد الأموي كان ضدّ ولاة الجور الّذين كانوا يسفكون الدماء وينسبونه إلى قضاء الله وقدره، فهؤلاء الأحرار قاموا في وجههم وأنكروا القدر بالمعنى الّذي استغلّته السلطة وبرّرت به أعمالها الشنيعة، وإلاّ فمن البعيد جدّاً من مسلم واع أن ينكر القضاء والقدر الواردين في الكتاب والسنّة على وجه لا يسلب الحريّة من الإنسان ولا يجعله مكتوف الأيدي.
________________________________________
1. ستوافيك رسالته فانتظر. 2. المنية والأمل: ص 26.
________________________________________
(118)
3 ـ إنّ هذا التاريخ يدلنا على أنّ رجال العيث والفساد إذا أرادوا إخفاء دعوة الصالحين اتّهموهم بالكفر والزندقة ومخالفة الكتاب والسنّة.4 ـ إنّ صلب معبد الجهني بيد الحجّاج السفّاك بأمر عبد الملك أوضح دليل على أنّ الرجل كان من دعاة الإصلاح، ولكن ثقل أمره على الطغمة الأمويّة فاستفزّوه من أديم الأرض وقطعوا جذوره بالصّلب والقتل، كما أنّ قيام غيلان في وجه هشام بن عبد الملك يعرب عن صموده في سبيل الحقّ وإزهاق الباطل وقتله به يدلّ على قداسة ما كان يذهب إليه.
وعلى أيّ تقدير; فهذان الرجلان، في الطّليعة من دعاة الحريّة و الاختيار، ويعدّان أسلافاً للاعتزال ولا يمتّان له بصلة غير الإشتراك في نفي الجبر و التسيير.5ـ إنّ هؤلاء الأحرار و إن رُموا بالقدرية بمعنى إنكار القضاء و القدر، ولكنّهم كانوا بصدد إثبات الاختيار و الحريّة للإنسان في مقابل الجبر و إغلال الأيدي الّذي كانت السلطة تشجّعه، والاختيار هو الّذي بُنيت عليه الشرائع و عليه شرّعت التكاليف، فإنكاره إنكار للأمر الضّروري.
ولكنّ السلطة لأجل إخماد ثورتهم اتّهمتهم بالقدريّة حتّى تطعن بهم أنّهم خالفوا الكتاب و السنّة الدالّين على تقدير الأشياء من جانبه سبحانه و قضائه عليها، و أين هذه التهمة ممّا تمسّك به القوم من الدعوة إلى الاختيار و الحريّة؟
وأمّا تفسير القدريّة في حقّ هؤلاء بتفويض الإنسان إلى نفسه و أفعاله، أنّه ليس لله سبحانه أي صنع في فعله فهو تفسير جديد حدث بعد هؤلاء، و به رُميت المعتزلة كما سيأتي الكلام فيه.
و في الحقيقة كانت دعوة هؤلاء ردّ فعل لاسطورة الجبر الّتي كانت ذائعة في الصدر الأوّل عن طريق أهل الكتاب الّذين تلبّسوا بالإسلام، و كانت الأكثريّة الساحقة من المسلمين يؤمنون بالقدر على وجه يجعل الإنسان مغلول اليدين. و قد قال
________________________________________
(119)
أحد رجّاز ذلك الزمان معبّراً عن تلك العقيدة:
يا أيهّا المضمِر همّاً لا تهَُم * إنّك إن تُقْدَر لك الحمّى تُحَم
ولو علوت شاهقاً من العلم * كيف توقِّيك و قد جفّ القلم(1)
فإذا كان الرأي العام عند المسلمين هذا، فعلى العالم أن يظهر علمه. فلأجل ذلك نرى أنّ معبداً الجهني و غيلان الدمشقي و القاضي عطاء بن يسار و غيرهم كعمر المقصوص (م/80) الّذي ظهر بدمشق و كان اُستاذاً للخليفة معاوية بن يزيد بن معاوية و قتله الأمويّون بتهمة إفساد الخليفة(2) انتفضوا ضدّ هذه الفكرة الفاسدة فلقوا ما لقوا من القتل و التنكيل، و قد أدّوا رسالتهم.يا أيهّا المضمِر همّاً لا تهَُم * إنّك إن تُقْدَر لك الحمّى تُحَم
ولو علوت شاهقاً من العلم * كيف توقِّيك و قد جفّ القلم(1)
ولو أنّ علماء الإسلام في السنّة والجماعة قاموا بواجبهم في تلك الحقبة التأريخيّة وما هابوا السلطة، لما ظهرت الحركات الرجعيّة بين الاُمّة الإسلاميّة في أوائل القرن الثاني، الّتي كانت تدعو إلى الجاهليّة الاُولى، ولأجل إيقاف القارئ على هذه الحركات ومبادئها سنعرض عليه بعض الحركات الرجعية الّتي ظهرت في القرن الثاني و الثالث بعد إكمال البحث في المقام فانتظر.
________________________________________
1. تأويل مختلف الحديث: ص 28 ط بيروت دار الجيل. 2. مختصر الدول لابن العبري: ص 151. لاحظ كتاب المعتزلة ص 91.
التعلیقات