المعتزلة من القوّة إلى الضّعف
المعتزلة
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 436 ـ 453
________________________________________(436)
المعتزلة من القوّة إلى الضّعفإنّ فكرة الاعتزال كانت فكرة بدائية، ونبتة غرسها واصل بن عطاء في أوائل القرن الثّاني، وأخذت تتكامل عن طريق تلاميذه و بعض زملائه كعمرو بن عبيد. وقد كان له تأثير في بدء ظهورها إلى أن استطاع أن يستجلب إليه بعض الخلفاء الأمويين المتأخّرين، كيزيد بن وليد بن عبدالملك (م126هـ)، ومروان بن محمّد بن مروان آخر خلفائهم (م132هـ)، حيث اشتهر أنّ الأخير كان يقول بخلق القرآن و نفي القدر(2).
ولمّا اندلعت نيران الثورات ضدّ الأمويين، وقضت على خلافة تلك الطغمة الأثيمة، لمع نجم المعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور (136 ـ 158هـ) وقد عرفت في ترجمة عمرو بن عبيد وجود الصلة الوثيقة بينه و بين المنصور.
ولمّا هلك المنصور، أخذ المهدي ابنه زمام الحكم، ولم ير للمعتزلة في زمنه أيّ نشاط يذكر، خصوصاً أنّ المهدي كان شديداً على أصحاب الأهواء، حسب ما يقولون.
________________________________________
2 . الكامل لابن الاثير: ج 4، ص 332 قال: «وكان مروان يلقب بالحمار، والجعدي لأنّه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك.
________________________________________
(437)
روى الكشّي عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن هشام ... أنّه لمّا كان أيّام المهدي، شدّد على أصحاب الأهواء، وكتب له ابن المفضّل صنوف الفرق، صنفاً صنفاً، ثمّ قرأ الكتاب على النّاس، فقال يونس: «قد سمعت الكتاب يقرأ على النّاس على باب الذّهب بالمدينة، مرّة أُخرى بمدينة الوضّاح»(1).وبما أنّ أهل الحديث كانوا يشكّلون الأكثريّة الساحقة، فيكون المراد من أصحاب الأهواء الّذين شدّد عليهم المهدي، غيرهم من سائر الفرق فيعمّ المعتزلة و المرجئة والمحكّمة والشيعة و غيرهم.
ولأجل ذلك لم ير أيّ نشاط للمعتزلة أيّامه، حتّى مضى المهدىُّ لسبيله، و جاء عصر الرّشيد (170 ـ 193هـ) فيحكي التّاريخ عن وجود نشاط لهم في أيّامه، حتّى انّه لم يوجد في عصره من يجادل السمنية غيرهم(2) ومع ذلك لم يكن الرّشيد يفسح المجال للمتكلّمين. يقول ابن المرتضى: «وكان الرّشيد نهى عن الكلام، وأمر بحبس المتكلّمين»(3).
نعم ابتسم الدّهر للمعتزلة أيّام المأمون، لأنّه كان متعطّشاً إلى العلم و التعقّل، والبحث والجدال، فنرى في عصره أنّ رجال المعتزلة يتّصلون ببلاطه، وكان لهم تأثير كبير في نفسيّته.
يقول الطّبري: «وفي هذه السّنة (212هـ) أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وقال: هو أفضل النّاس بعد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وذلك في شهر ربيع الأوّل(4) و لمّا استفحلت دعوة المحدّثين إلى قدم القرآن و اشتدّ أمرهم كتب المأمون عام (218هـ) إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة و المحدّثين،
________________________________________
1. رجال الكشي: ترجمة هشام بن الحكم، الرقم 131، ص 227. ولعل هذا الكتاب أوّل كتاب أُلِّف في الملل والنحل بين المسلمين. 2. لاحظ: طبقات المعتزلة، لابن المرتضى، ص 55. 3. طبقات المعتزلة، لابن المرتضى، ص 56. 4. تاريخ الطبري: ج 7، ص 188، حوادث سنة 212.
________________________________________
(438)
وممّا جاء في تلك الرسالة:فاجمع من بحضرتك من القضاة، و اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، و تكشيفهم عمّا يعتقدون في خلق الله القرآن و إحداثه، وأعلمهم أنّ أمير ألمؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلّده الله و استحفظه من أُمور رعيّته، بمن لا يوثق بدينه و خلوص توحيده و يقينه، فإذا أقرّوا بذلك و وافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنّجاة، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشّهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، و ترك إثبات شهادة من لم يقرّ أنّه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك فى مسألتهم و الأمر لهم بمثل ذلك. ثمّ أشرف عليهم و تفقّد آثارهم حتّى لا تنفذ أحكام الله إلاّ بشهادة أهل البصائر في الدّين و الإخلاص للتّوحيد و اكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله، و كتب في شهر ربيع الأوّل سنة (218هـ)»(1).
رسالة ثانية من المأمون في إشخاص سبعة نفر إليه
ثمّ إنّ المأمون كتب إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يشخص إليه سبعة نفر من المحدّثين. منهم:
1 ـ محمّد بن سعد كاتب الواقدي 2 ـ أبو مسلم، مستملي يزيد بن هارون 3ـيحيي بن معين 4 ـ زهير بن حرب أبو خثيمة 5 ـ إسماعيل بن داود 6 ـ إسماعيل بن أبي مسعود 7 ـ أحمد بن الدورقي، فامتحنهم المأمون و سألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعاً أنّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السّلام و أحضرهم إسحاق بن إبراهيم دارَه فشهّر أمرهم و قولهم بحضرة الفقهاء و المشايخ من أهل الحديث، فأقرّوا بمثل ما
________________________________________
1. تاريخ الطبري: ج 7 ص 197، حوادث سنة 218.
________________________________________
(439)
أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. فقد فعل ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون.رسالة ثالثة للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم
ثمّ إنّ المأمون كتب بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم رسالة مفصّلة و ممّا جاء فيه:
«وممّا بيّنه أمير المؤمنين برويّته و طالعه بفكره، فتبيّن عظيم خطره و جليل ما يرجع في الدّين من وكفه و ضرره، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الّذي جعله الله إماماً لهم. و أثراً من رسول الله و صفيّه محمّد ـ صلّى الله عليه و آله ـ باقياً لهم و اشتباهه على كثير منهم حتّى حسن عندهم و تزيّن في عقولهم أن لا يكون مخلوقاً، فتعرّضوا لذلك لدفع خلق الله الّذي بان به عن خلقه، و تفرّد بجلالته من ابتداع الأشياء كلّها بحكمته، وأنشأها بقدرته، والتقدّم عليها بأوّليّته الّتي لا يبلغ أولاها ولا يدرك مداها، وكان كلّ شيء دونه خلقاً من خلقه و حدثاً هو المحدِث له، وإن كان القرآن ناطقاً به ودالاً عليه و قاطعاً للاختلاف فيه وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله.
والله عزّوجلّ يقول: (إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً) و تأويل ذلك أنّا خلقناه كما قال جلّ جلاله: (وجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسكنَ إليها) وقال: (وجَعَلْنا اللّيلَ لباساً و جَعَلْنا النّهارَ معاشاً)و (جَعَلْنا مِنَ الماءِ كلّ شيء حيّ) فسوّى عزّ وجلّ بين القرآن وبين هذه الخلائق الّتي ذكرها في شية الصّنعة و أخبر أنّه جاعله وحده فقال: (إنّه لقرآنٌ مجيدٌ* في لوح محفوظ)) فقال ذلك على إحاطة اللّوح بالقرآن ولا يحاط إلاّ بمخلوق، وقال لنبيّه : (لا تُحرِّك بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وقال: (مَا يَأتِيهم مِن ذِكْر مِن َربِّهِم مُحْدَث) و قال: (ومَن أَظْلَمُ ممّنِ افترى على اللّهِ كذباً أو كذَّب بآياتِه) و أخبر عن قوم ذمّهم بكذبهم أنّهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء، ثمّ أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكتابَ الّذي جاءَ بهِ موسى)فسمّى الله تعالى القرآن قرآناً
________________________________________
(440)
و ذكراً و إيماناً و نوراً و هدىً و مباركاً و عربياً و قصصاً فقال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القُصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِليكَ هذا القرآن) و قال: (قُلْ لِئنِ اجْتَمَعَت الإنْسُ و الجنُّ على أَن يأْتُوا بِمِثلِ هذا القرآن لا يأَتُونَ بمثلهِ) و قال: (قُلْ فَأْتُوا بعشرِ سِوَر مَثْلهُ مُفْتَريات) وقال: (لا يَأْتيهِ الباطل مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)فجعل له أوّلاً و آخراً، ودلّ عليه أنّه محدود مخلوق، وقد عظّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم والحرج في أمانتهم، وسهّلوا السّبيل لعدوّ الإسلام، واعترفوا بالتّبديل والالحاد على قلوبهم حتّى عرّفوا و وصفوا خلق الله و فعله بالصّفة الّتي هي للّه وحده و شبّهوه به، والأشباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظّاً في الدّين ولا نصيباً من الإيمان واليقين....إلى أن قال: فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبدالرحمن بن إسحاق القاضي كتابَ أمير المؤمنين بما كتب به إليك و انصصهما عن علمهما في القرآن و أعلمهما أنّ أميرالمؤمنين لا يستعين على شيء من أُمور المسلمين إلاّ بمن و ثق بإخلاصه و توحيده، و أنّه لاتوحيد لمن لم يقرّ بأنّ القرآن مخلوق. فإن قالا: بقول أميرالمؤمنين في ذلك فتقدّم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما في الشّهادات على الحقوق و نصّهم عن قولهم في القرآن، فمن لمن يقل منهم إنّه مخلوق أبطلا شهادته ولم يقطعا حكماً بقوله و إن ثبت عفافه بالقصد والسّداد في أمره، وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة و أشرف عليهم إشرافاً يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته و يمنع المرتاب من إغفال دينه واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله»(1).دعوة المحدّثين والقضاة لسماع كتاب الخليفة
ولما جاءت الرسالة الثالثة إلى إسحاق بن إبراهيم، أحضر لفيفاً من المحدّثين منهم 1ـ أبو حسّان الزيادي، 2ـ وبشر بن وليد الكندي، 3ـ وعليّ بن أبي مقاتل،
________________________________________
1. تاريخ الطبري: ج 7، ص 198 و 199و 200، حوادث سنة 218.
________________________________________
(441)
4ـوالفضل بن غانم، 5ـ والذيال بن الهيثم، 6ـ وسجّادة، 7ـ والقواريري، 8ـ وأحمد بن حنبل، 9ـوقتيبة، 10ـ وسعدويه الواسطي، 11ـ وعليّ بن الجعد، 12ـ وإسحاق بن أبي إسرائيل، 13ـ وابن الهرش، 14ـ وابن عليّة الأكبر، 15ـ ويحيى بن عبدالرحمان العمري، 16ـ وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطّاب، كان قاضي الرقّة، 17ـ وأبو نصر التمّار 18ـ وأبو معمر القطيعي، 19ـ ومحمّد بن حاتم بن ميمون، 20ـ ومحمّدبن نوح المضروب، 21ـ وابن الفرخان، 22ـ والنّضر بن شميل، 23ـ وابن عليّ بن عاصم، 24ـوأبو العوام البزاز، 25ـ وابن شجاع، 26ـ وعبدالرّحمان بن إسحاق.فقرأ عليهم رسالة المأمون مرّتين حتّى فهموه، ثمّ سأل كلّ واحد عن رأيه في خلق القرآن.
فنجد في الأجوبة عيّاً و غباوة، لا يتطلّبون الحقّ. و إليك نصّ محاورة إسحاق مع بعض هؤلاء.
1 ـ إسحاق بن إبراهيم، مخاطباً بشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟
بشر: القرآن كلام الله.
إسحاق: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو، قال الله: (خالق كلّ شيء) ما القرآن شيء؟
بشر: هو شيء.
إسحاق: فمخلوق ؟
بشر: ليس بخالق.
إسحاق: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
بشر: ما أُحسن غير ما قلتُ لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلّم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك.
محاورته مع عليّ بن أبي مقاتل
إسحاق بن إبراهيم: القرآن مخلوق؟
________________________________________
(442)
عليّ بن أبي مقاتل: القرآن كلام الله.إسحاق: لم أسألك عن هذا.
ابن أبي مقاتل: هو كلام الله.
محاورته مع أبي حسّان الزيادي
إسحاق: القرآن مخلوق هو؟
أبو حسّان: القرآن كلام الله، والله خالق كلّ شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا و بسببه سمعنا عامّة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلّده الله أمرنا، فصار يقيم حجّنا وصلاتنا و نؤدّي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، وإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا.
إسحاق: القرآن مخلوق هو؟
أبو حسّان: (أعاد كلامه السابق).
إسحاق: إنّ هذه مقالة أمير المؤمنين.
أبو حسّان: قد تكون مقالة أمير المؤمنين و لا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتني أنّ أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتني به، فإنّك الثقة المأمون عليه فيما أبلغتني عنه من شيء فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه.
إسحاق: ما أمرني أن أبلغك شيئاً.
قال «علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في الفرائض و المواريث، ولم يحملوا النّاس عليها».
أبو حسّان: ما عندي إلاّ السّمع والطاعة، فمرني أئتمر.
إسحاق: ما أمرني أن آمرك و إنّما أمرني أن أمتحنك.
محاورته مع أحمد حنبل إسحاق: ما تقول في القرآن؟
________________________________________
(443)
أحمد: هو كلام الله.إسحاق: أمخلوق هو؟
أحمد: هو كلام الله، لا أزيد عليها.
إسحاق: (قرأ عليه رقعة و فيها: أشهد أن لا إله إلاّ الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه). فلمّا أتى إسحاق إلى قوله: «ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير»(1)، وأمسك عن قوله: «لا يشبهه شيء، من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه»، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر(2) فقال: أصلحك الله، إنّه (أحمد) يقول: سميع من اذن، بصير من عين.
فقال إسحاق: ما معنى قوله سميع بصير؟
أحمد: هو كما وصف نفسه.
إسحاق: فما معناه؟
أحمد: لا أدري، هو كما وصف نفسه.
ثمّ إنّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً، كلّهم يقولون: القرآن كلام الله إلاّ هؤلاء النفر: قتيبة وعبيد الله بن محمّد بن الحسن، وابن علية الأكبر، وابن البكاء، وعبدالمنعم بن إدريس، والمظفّر بن مرجا، ورجلاً ضريراً ليس من أهل الفقه ولا يعرف بشيء منه إلاّ أنّه دسّ في ذلك الموضع، ورجلاً من ولد عمر بن الخطّاب قاضي الرّقة، وابن الأحمر. فأمّا ابن البكاء الأكبر فإنّه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى: (إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً) والقرآن محدث لقوله: (ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث).
قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟
قال: نعم.
________________________________________
1. سقط قوله: «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» من الرقعة التي نقلها ص200 و لكن نقله ص201. 2. في المصدر «أصغر» والصحيح ما أثبتناه.
________________________________________
(444)
قال إسحاق: فالقرآن مخلوق؟قال: لا أقول مخلوق، ولكنّه مجعول، فكتب مقالته.
فلمّا فرغ من امتحان القوم و كتبت مقالاتهم رجلاً رجلاً و وجّهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيّام ثمّ دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمر هؤلاء.
الرسالة الرابعة للمأمون إلى إسحاق
كتب المأمون في جواب رسالته كتاباً مفصّلاً نأخذ منها مايلي:
«أمّا بعد فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، جوابَ كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنّعة أهل القبلة و ملتمسو الرِّئاسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملّة من القول في القرآن و أمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم و تكشيف أحوالهم و إحلالهم محالّهم».
ثمّ تكلّم المأمون في حقِّ الممتنعين عن الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً و الرِّسالة مفصّلة(1) والملفَت للنّظر فيها أمران:
الأوّل: أمر المأمون رئيس الشّرطة بضرب عنق بشر بن الوليد، وإبراهيم المهدي إذا لم يتوبا بعد الاستتابة، وحمل الباقين موثّقين إلى عسكر أمير المؤمنين و تسليمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصّهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا و يتوبوا حملهم جميعاً على السّيف.
الثاني: تذكّر بعض أفعال الممتنعين بالاعتراف بخلق القرآن، بوجه يعرب أنّهم لم يكونوا أهل صلاح و فلاح، بل كانوا من مقترفي المعاصي نقتطف منها مايلي:
«وأمّا الذيّال بن الهيثم فأعلمه أنّه كان فى الطّعام الّذي كان يسرقه في الأنبار، وفيما يستوي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العبّاس ما يشغله و أنّه لو كان مقتفياً
________________________________________
1. لاحظ تاريخ الطبري 7: 202ـ 203.
________________________________________
(445)
آثار سلفه و سالكاً مناهجهم و مهتدياً سبيلهم لما خرج إلى الشرّك بعد إيمانه.وأمّا أحمد بن حنبل و ما تكتب عنه فاعلمه أنّ أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها و استدلّ على جهله و آفته بها.
وأمّا الفضل بن غانم فأعلمه أنّه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقلّ من سنة، وما شجر بينه و بين المطّلب بن عبدالله في ذلك، فإنّه من كان شأنُه شأنَه، وكانت رغبته في الدّنيا و الدِّرهم رغبته فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعاً فيهما و ايثاراً لعاجل نفعهما.
وأمّا الزّيادي فأعلمه أنّه كان منتحلاً، ولا أوّل دعيّ كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله وكان جديراً أن يسلك مسلكه.
وأمّا الفضل بن الفرخان فأعلمه أنّه حاول بالقول الّذي قاله في القرآن أخذ الودائع الّتي أودعها إيّاه عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره تربّصاً بمن استودعه و طمعاً في الاستكثار لما صار في يده ولا سبيل عليه عن تقادم عهده و تطاول الأيّام به.
وأمّا محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر فأعلمهم أنّهم مشاغيل بأكل الرّبا عن الوقوف على التوحيد، وإنّ أمير المؤمنين لو لم يستحلّ محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم و ما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحلّ ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركاً و صاروا للنصارى مثلاً».
ثمّ وقّع في الوقيعة في كلّ واحد من الممتنعين ما يشمئزّ القلم من نقله، فلو كانت تلك النّسب على وجهها فويل لهم مما كسبت أيديهم من عظائم المحرّمات و ما كسبت قلوبهم من الشِّرك (1).
فلمّا وصل كتاب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم دعا القوم و قرأ عليهم كتاب المأمون، فأجاب القوم الممتنعون كلّهم، واعترفوا بأنّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم
________________________________________
1. تاريخ الطبري: 7/ 203ـ 204.
________________________________________
(446)
أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمّد بن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدّوا في الحديد. فلمّا كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر باطلاق قيده و خلّى سبيله وأصرّ الآخرون على قولهم.فلمّا كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده و خلّى سبيله، و أصرّ أحمد بن حنبل و محمّد بن نوح على قولهما ولم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد و وجِّها إلى طرسوس و كتب معهما كتاباً بإشخاصهما.
ثمّ لمّا اعترض على الرّاجعين من عقيدتهم برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حيث أكره على الشِّرك و قلبه مطمئنّ بالإيمان(1) و قد كُتب تأويلهم إلى المأمون، فلأجل ذلك ورد كتاب مأمون بأنّه قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه، وأنّ بشر بن الوليد تأوّل الآية الّتي أنزل الله تعالى في عمّار بن ياسر وقد أخطأ التّأويل إنّما عني الله عزّوجلّ بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مظهر الشرك، فأمّا من كان معتقد الشِّرك مظهر الإيمان فليس هذه له، فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الرّوم.
فأخذ إسحاق بن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا بالعسكر بطرسوس، فأشخص كلّ من ذكرنا أسماءهم، فلمّا صاروا إلى الرّقة بلغتهم وفاة المأمون، فأمر بهم عنبسة بن إسحاق ـ وهو والي الرقة ـ إلى أن يصيروا إلى الرقة، ثمّ أشخصهم إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السّلام (بغداد) مع الرّسول المتوجّه بهم إلى أمير المؤمنين، فسلّمهم إليه فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم ثمّ رخّص لهم ذلك في الخروج(2).
وما ذكرناه هو خلاصة محنة أحمد و من كان على فكرته في زمن المأمون وليس فيه
________________________________________
1. إشارة الى قوله سبحانه (إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) (النمل / 106). 2. تاريخ الطبري: ج 7، ص 195 إلى 206 بتلخيص منّا.
________________________________________
(447)
إلاّ إشخاص أحمد و محمّد بن نوح موثّقين في الحديد إلى طرسوس و إشخاص غيرهما مطلقين، ولمّا بلغهم وفاة المأمون رجعوا من الرقّة ولم يسيروا إلى طرسوس.هذا وقد ذكر القصّة اليعقوبي بصورة مختصرة و قال:
«وصار المأمون إلى دمشق سنة (218هـ) و امتحن النّاس في العدل والتّوحيد وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق و غيرها فامتحنهم في خلق القرآن و أكفر من امتنع أن يقول ـ : القرآن غير مخلوق، وكتب أن لا تقبل شهادته، فقال كلّ بذلك إلاّ نفراً يسيراً»(1).
هذا تفصيل المحنة أيّام المأمون، وأمّا ما وقع في أيّام الخليفتين: المعتصم والواثق، فسيوافيك بيانه بعد تعليقتنا.
تعليق على محنة خلق القرآن
إنّ هنا أُموراً لا بدّ من الإلفات إليها:
1 ـ لم يظهر من كتب الخليفة إلى صاحب الشّرطة وجه إصراره على أخذ الاعتراف من المحدِّثين بخلق القرآن. فهل كان الحافز إخلاصه للتوحيد، وصموده أمام الشِّرك، أو كان هناك مرمى آخر لإثارة هذه المباحث، حتّى ينصرف المفكِّرون بسبب الاشتغال بهذه المباحث عن نقد أفعالهم و انحرافاتهم، وبالتّالي إيقاف الثّورة أو إضمارها. فإنّ القلوب إذا اشتغلت بشيء، منعت عن الاشتغال بشيء آخر.
2 ـ لو كانت الرِّسالة مكتوبة بيد الخليفة أو باملائه، فهي تحكي عن عمق تفكيره في المباحث الكلاميّة، وإحاطته بأكثر الايات وقد جاء في المقام بأسدِّ الدّلائل و أتقنها، حيث استدلّ تارة بتعلّق الجعل بالقرآن، وأُخرى باحاطة اللّوح المحفوظ به، ولا يحاط إلاّ بمخلوق، وثالثة بتوصيفه بـ «محدث»، و رابعة بتوصيفه بصفات كلّها صفات
________________________________________
1. تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 468، ط دار صادر.
________________________________________
(448)
المخلوق من تعلّق النّزول به ونهي النّبي عن العجلة بقراءته، والدّعوة إلى الاتيان بمثله، وأنّ له أماماً و خلفاً، إلى غير ذلك.3 ـ إنّ الرِّسالة كشفت القناع عن السّبب الّذي أدخل هذه المسألة في أوساط المسلمين، وقال: «إنّ القائلين بقدم القرآن يضاهئون قول النّصارى في أنّ المسيح كلمة وليس بمخلوق»، وهو يعرب عن أنّ الفكرة دخلت إلى أوساط المسلمين بسبب احتكاك المسلمين بهم. وما يقال من أنّ اليهود هم المصدر لدخول هذه الفكرة بينهم غير تامّ والمأمون أعرف بمصدر هذه الفكرة.
4 ـ لو صحّ ما ذكره الطّبري من صورة المحاورة الّتي دارت بين رئيس الشّرطة والمحدِّثين، فإنّه يكشف عن جمود المجيبين و عيّهم في الجواب، فإنّهم اتّفقوا على أنّ القرآن ليس بخالق، ولكنّهم امتنعوا عن الاعتراف بأنّه مخلوق، وبالتّالي جعلوا واسطة بين الخالق والمخلوق أو بين النّفي والاثبات، وهو كما ترى.
ولو كان عذرهم في عدم الاعتراف بأنّ القرآن مخلوق، هو الخوف من أن يكون هذا الاعتراف ذريعة للملاحدة حتّى ينسبوا إلى المسلمين بأنّهم يقولون إنّ القرآن مخلوق أي مختلق و مزوّر أو مخلوق للبشر، فيمكن التخلّص منه بالتّصريح بأنّه مخلوق لله سبحانه لاغير، والله هو خالقه و جاعله ليس غير.
5 ـ لا شكّ أنّ عمل الخليفة كان أشبه بعمل محاكم التّفتيش في القرون الوسطى حيث كان البابا والبطارقة والقساوسة، يتحرّون عقائد الناس لا سيّما المكتشفين أمثال غاليلو، وكان ذلك و صمة عار على حياة الخليفة و بالتّالي على المعتزلة الّذين كان الخليفة يلعب بحبالهم، ويلحقهم وزر أعماله، وما يترك في المجتمع من ردّ فعل سيّىء. ومن المعلوم أنّ أخذ الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً في جوّ رهيب، لا يوافق تعاليم المعتزلة، كما لا يوافق تعاليم الإسلام، على أنّه لا قيمة لهذا الاعتراف عند العقل و النّقل فكيف رضي القوم بهذا العمل.
6 ـ العجب من تلوّن الخليفة في قضائه في حقّ الممتنعين عن الاعتراف بخلق
________________________________________
(449)
القرآن، فيرى أنّ بشر بن الوليد، وإبراهيم المهدي مستحقّان لضرب العنق إذا استتيبا ولم يتوبا، والباقين مستحقّون للإشخاص إلى عسكره، مع أنّ الجرم واحد، والكلّ كانوا محدِّثين فهماء، ولم يكن الأوّلان قائدي الشرك، والباقون مقتفيه. فلو كان القول بعدم خلق القرآن أو قدمه موجباً للردّة والرجوع إلى الشرّك فالحكم الإلهي هو القتل وإلاّ فلا، وهذا يعرب عن أنّ جهاز القضاء كان أداة طيّعة بأيدي الخلفاء، يستغلّونه حسب أهوائهم.7 ـ إنّ محنة القائلين بعدم خلق القرآن، تمّت في زمن الخليفة المأمون بالإشخاص والإبعاد من دار السّلام إلى طرسوس. غير أنّ التأريخ يذكر إشخاص اثنين موثّقين إلى عسكر الخليفة، وإشخاص الباقين بلا قيود ولا ضرب ولا قتل إلى الخليفة. ولم يحدّث التاريخ هنا عن ضرب وقتل.
ولكنّ المحنة لم تنته بموت المأمون، بل استمرّت في خلافة أخيه المعتصم، فالواثق ابنه ولكن بصورة سيّئة، حدث عنها التّاريخ.
قضى المأمون نحبه وجاء بعده أخوه المعتصم (218 ـ 227هـ) فضيّق الأمر على القائلين بعدم خلق القرآن.
يقول اليعقوبي: «وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء و ناظره عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره، فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق، فضرب عدّة سياط. فقال إسحاق بن إبراهيم: ولِّني يا أمير المؤمنين مناظرته فقال: شأنك به.
إسحاق بن ابراهيم: هذا العلم الّذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال؟
ابن حنبل: علمته من الرِّجال.
إسحاق: علمته شيئاً بعد شيء أو جملة؟
ابن حنبل: علمته شيئاً بعد شيء.
________________________________________
(450)
إسحاق: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ابن حنبل: بقي عليّ.
إسحاق: فهذا ممّا لم تعلمه وقد علّمكه أمير المؤمنين.
ابن حنبل: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين.
إسحاق: في خلق القرآن؟
ابن حنبل: في خلق القرآن.
فأشهد عليه وخلع عليه و أطلقه إلى منزله(1).
هذا ما كتبه ذلك المؤرخ المتوفّى (عام 290هـ).
وأمّا الطبري فلم يذكر في حياة المعتصم ما يرجع إلى مسألة خلق القرآن.
وقال المسعودي: «وفيها (سنة 219هـ) ضرب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطاً ليقول بخلق القرآن»(2).
نعم ذكر الجزري في كامله في حوادث سنة (219هـ) و قال: «وفيها أحضر المعتصم أحمد بن حنبل و امتحنه بالقرآن، فلم يجب إلى القول بخلقه، فأمر به فجلد جلداً عظيماً حتّى غاب عقله و تقطّع جلده و حبس مقيّداً»(3).
وروى الجاحظ أنّه لم يكن في مجلس الامتحان ضيق، ولا كانت حاله حالاً مؤيساً، ولا كان مثقّلاً بالحديد، ولا خلع قلبه بشدّة الوعيد، ولقد كان ينازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب و يرزنون و يخفّ و يحلمون و يطيش»(4).
هذا ولكن المتحيّزين إلى الحنابلة يذكرون المحنة بشكل فظيع. هذا أبو زهرة قد لخّص مقالهم بقوله:
«وقد تبيّن أنّ أحمد بن حنبل كان مقيّداً مسوقاً عند ما مات المأمون، فأُعيد إلى
________________________________________
1. تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 472. 2. مروج الذهب: 3/464 ط دار الاندلس. 3. الكامل، ج 5، ص 233. 4. الفصول المختارة على هامش الكامل للمبرد: ج 2، ص 139.
________________________________________
(451)
السجن ببغداد حتّى يصدر في شأنه أمر، ثمّ سيق إلى المعتصم و اتّخذت معه ذرايع الاغراء و الارهاب، فما أجدى في حمله ترغيب و لا ترهيب، فلمّـا لم يجد القول رغباً و رهباً، نفّذوا الوعيد فأخذوا يضربونه بالسياط، المرّة بعد الأُخرى، ولم يترك في كلِّ مرّة حتّى يغمى عليه و ينخس بالسيف فلا يحسّ. فتكرّر ذلك مع حبسه نحواً من ثمانية وعشرين شهراً فلمّا استيأسوا منه و ثارت في نفوسهم بعض نوازع الرّحمة أطلقوا سراحه وأعادوه إلى بيته وقد أثخنه الجراح و أثقله الضّرب المبرح المتوالي والالقاء في غيابات السِّجن»(1).وليس لما ذكره أبو زهرة مصدر سوى «مناقب الامام أحمد بن حنبل» للحافظ أبي الفرج عبدالرّحمان بن الجوزي ومن تبعه مثل الحافظ ابن كثير في «البداية و النهاية»(2).
والنّاظر في هذين الكتابين يرى تحيّزهما لأحمد بن حنبل و أنّهما يريدان نحت الفضائل له و عند ما قصرت أيديهما عنها لجأوا إلى المنامات، فلا يمكن الاعتماد عليهما فيما يرويان من التّفاصيل في هذه المحنة. وقد عرفت التضارب في التاريخ بين قائل بأنّ أحمد رجع عن رأيه أثناء الضّرب كاليعقوبي، وقائل بأنّه بقي على إنكاره.
محنة خلق القرآن والواثق
قضى المعتصم نحبه و خلفه ابنه الواثق (223 ـ 227هـ)(3) وكان للمعتزلة في عصره قوّة و قدرة و نشاط و سيطرة.
قال اليعقوبي: «وامتحن الواثق النّاس في خلق القرآن فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان و أن لا يجيزوا إلاّ شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً»(4).
________________________________________
1. ابن حنبل ـ حياته وعصره ـ أبو زهرة، ص 65. 2. البداية والنهاية، ج 10، ص 230 الى 343. 3. البداية والنهاية: ج 10، ص 297. 4. تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 482.
________________________________________
(452)
يقول الحافظ ابن كثير:«وأمر الواثق بامتحان الأسارى الّذين فودوا من أسر الفرنج، بالقول بخلق القرآن و أنّ الله لا يرى في الآخرة، فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأنّ الله لا يرى في الآخرة فودى و إلاّ ترك في أيدي الكفّار. وهذه بدعة صلعاء، شنعاء، عمياء، صمّاء لا مستند لها من كتاب ولا سنّة ولا عقل صحيح»(1).
ولكن تحيّز ابن كثير للحنابلة و أصحاب القول بعدم خلق القرآن واضح في كتابه. فالاعتماد على ما ينقل من المحنة في حقِّ الحنابلة إن لم تؤيّده سائر الآثار مشكل، وبما أنّ في الكتاب، مغالاة في الفضائل، و محاولة لجعله اسطورة في التّأريخ بنقول مختلفة، نكتفي بما يذكره الطبري في المقام.
يقول: «إنّ مالك بن هيثم الخزاعي كان أحد نقباء بني العبّاس، وكان حفيده أحمد بن نصر بن مالك، يغشاه أصحاب الحديث كيحيى بن معين و ابن الدورقي و ابن خيثمة، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق، مع منزلة أبيه من السّلطان في دولة بني العبّاس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك مع غلظة الواثق على من يقول ذلك. فحرّك أصحاب الحديث و كلّ من ينكر القول بخلق القرآن أحمد بن نصر و حملوه على الحركة لانكار القول بخلق القرآن، والغاية من هذه الحركة، الثورة في بغداد على الخليفة الواثق، وخلعه من الخلافة، غير أنّ هذه المحاولة فشلت فأخذوا و حملوا إلى سامراء، الّتي كانت مقرّاً للواثق، فحضر القوم واجتمعوا عنده، فلمّا اُتي بأحمد بن نصر قال له: ياأحمد ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله، قال أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، قال:فما تقول في ربِّك أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله أنّه قال: ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فنحن على الخبر.
فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فقال عبدالرحمان بن إسحاق: يا أمير
________________________________________
1. البداية والنهاية: ج 10، ص 307.
________________________________________
(453)
المؤمنين هو حلال الدم. وقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، كافر يستتاب لعلّ به عاهة، أو تغيّر عقليّ، فقال الواثق، إذا رأيتموني قد قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي، فإنّي أحتسب خطاي إليه، ودعا بالصمصامة، سيف عمرو بن معديكرب، فمشى إليه وهو في وسط الدّار، ودعا بنطع فصير في وسطه حبل فشدّ رأسه، ومدّ الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق، ثمّ ضربه أُخرى على رأسه، ثمّ انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه و حزّ رأسه»(1).هذه خلاصة القصّة. ومن المعلوم أنّ هذه القسوة من الخليفة كانت مبرّرة عنده، لا لأجل قوله بخلق القرآن و رؤية الله، بل لما قام به من الثّورة عليه.
ويقول أيضاً: «أمر الواثق بامتحان أهل الثّغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعاً إلاّ أربعة نفر، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه»(2).
وقام الواثق بنفس العمل الّذي قام به أبوه في امتحان أسرى المسلمين، فمن قال إنّ القرآن مخلوق فودي به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الرّوم و أمر لطالب بخمسة آلاف درهم، وأمر أن يعطوا جميع من قال إنّ القرآن مخلوق ممن فودي به ديناراً لكلِّ إنسان من مال حمل معهم(3).
وكانت المحنة مستمرّة، والضيق على أصحاب القول بعدم خلق القرآن متواصلاً إلى أن وافاه الأجل ومات الواثق عام 232.
وقد اتّفقت كلمة أهل السّير على أنّ الخلفاء كانوا يلعبون بحبال عدّة من المعتزلة الّذين كسبوا منزلة عظيمة لدى الخلفاء، وهم ثمامة بن أشرس و أحمد بن أبي دؤاد الزيّات و غيرهم. وبموت الخليفة و تسنّم ابنه المتوكّل على الخلافة، غاب نجم المعتزلة و انحدروا من الأوج إلى الحضيض و من العزِّ إلى الذّلّة، وإليك هذا القسم من التّاريخ.
________________________________________
1. تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 231، ص 328، 329. 2. المصدر السابق: ص 331. 3. المصدر السابق: ص 332.
التعلیقات