شروط الهدنة ... قراءة وتحليل
السيّد محمّد علي الحلو
منذ 11 سنةشروط الهدنة ... قراءة وتحليل
ولم يكن أحدٌ في وسعه أن يقف على ملابسات ما أحدثه مؤرّخو هذه الأحداث دون أن يقف متأمّلاً فيما تعنيه هذه الشروط ، وما تقصده تلك الموارد التي اتّفق عليها الطرفان وأقرّها الفريقان ، حتّى أحدثت هذه الموارد هدنة المسالمة والموادعة عن القتال.
الشرط الأوّل
المتأمّل في الشرط هذا لا يفهم أكثر من تنازل الإمام الحسن عليه السلام عن الأمر ، والأمر لا يعني أكثر من معنى الملك والسلطان ، أيّ لا يتجاوز عن ملكٍ دنيوي زائل ، وسلطان محدود منقرض ، ولا يعني التنازل لمعاوية عن الخلافة ، فالخلافة لا تعطى إن كانت حقّاً دنيويّاً ، وإن كانت الخلافة بمعنى الإمامة ، فإن الإمامة لا تكون منصباً دنيويّاً يُهدى أو يتنازل عنه ، إذ الخلافة التي هي بمعنى الإمامة لا تعني إلّا خلافة رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلّم وحقّ رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلّم في الأمر لم يأت بتعيين دنيوي ، أو تعاهد أهل الحلّ والعقد عليه ، بل هو أمر إلهي صرف وتعيين سماوي بحت ، لا تناله أهواء الناس ورغباتهم، وكذا الحال في خليفته ، إذ للفرع ما للأصل ، وللجزء ما للكل ، فللإمامة ما للنبوّة عدا خصوصيّات اختصّ بها النبيّ صلّى الله عليه و آله وسلّم لا مجال لذكرها الآن.
فالتنازل عن الأمر ، لا يعني أكثر من تقليد معاوية شؤون السلطان ومتطلبات الحكم وتدابير الملك وليس أكثر ..
ألا ترى أنّ معاوية أقرّ بأنّ الأمر لا يعدو عن إمرة وملك وسلطان ؟ وليس شأن معاوية أن ينال شأوه من قداسة الإمامة أو يرقى كعبهُ عظمة الخلافة الإلهيّة ، وأنّى له ذلك وقد عَلِم أنّه من الطلقاء الذين لا يحلّ لهم تبوّء ما جعله لأولاد الأنبياء وقد حباهم وكرّمهم وآتاهم من الملك ما لا ينبغي لأحد أن يأتيه.
روى الأعمش عن عمر بن مرّة عن سعيد بن سويد قال : صلّى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ، ثمّ خطبنا فقال : والله إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، إنّكم لتفعلون ذلك ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.
قال : وكان عبد الرحمن بن شريك إذا حدّث بذلك يقول : هذا والله هو التهتّك (1).
وقد نفى معاوية عن نفسه مهام الإمامة ومرتبة الخلافة ، وأثبت لها الملك والسلطان اعترافاً منه بأنّه لا ينال من طهارة الخلافة وهو ابن طلقاء.
روى البيهقي في المحاسن والمساوئ أنّ الحسن عليه السلام وجّه كلاماً إلى معاوية يؤنّبه فيه على تماديه وتفاخره في غير حقّ ، قائلاً : « أما والله لهو أعرف ـ أيّ معاوية ـ بشأنه وأشكر لما أوليناه هذا الأمر » (2).
وفي كلام الإمام الحسن عليه السلام ما يُنبئ عن الاعتراف بأنّ معاوية لا يستحقّ أكثر من إمارةٍ يدين بها إليه أصحاب الأهواء ، ليجدوا في ذلك بغيتهم ويحصلوا على مآربهم ... كانت مطالبة الإمام الحسن عليه السلام معاوية لإبداء الشكر لما أولاه من الإمارة تأكيد من الإمام عليه السلام بأنّ ذلك لا يتعدّى أكثر من تنازل عن حقّ السلطان الذي رغب فيه معاوية ، وكون الأمر المتعلّق به التنازل لا يكون خلافة أو إمامة ، وإلّا ما معنى إبداء الشكر على أمرٍ يستحقّه معاوية أو أمر هو أولى به من الحسن ؟!
فمطالبة الإمام عليه السلام معاوية الشكر عن تنازله عن السلطان حقيقٌ أن يُنهي تساؤلاتنا عن نسبة العلاقة بين ما جرى بين الإمام عليه السلام وبين معاوية ، وهل هو شرف إمامةٍ استحقّه ، أم نزوة سلطان ادّعاه ؟
الشرط الثاني
ولم يكن هذا الشرط سوى التنكيل بمعاوية وتعريف الناس أنّه محجور عليه من التصرّف ـ على الأقلّ في إيكال الأمر إلى غيره ـ وإلّا لم يكن صحيحاً أن يتجرّد من له الأمر عن أمر الإيصاء ما لم يكن سفيهاً غير رشيد ، فإنّ السفيه أحقّ أن يجرّد عن الإيصاء وهو مبنى أكثر الفقهاء.
وهذا ما أشار إليه الإمام بأنّ معاوية ليس له الحقّ في التصرّف بالأمر.
وإذا استطاع معاوية أن يخرج عن ذمّة الشرط ويخيس بالعهد ، فإنّ ذلك لا يعدو عن طبع الغدر وجبلّة الخيانة التي عُرف بها واشتهر عنها. وليس هذا بأهمّ عمّا طوّق هذا الشرط ولاية يزيد وأدانها وأخرجها عن شرعيّة العهد الذي عهد معاوية لابنه عهداً ليس له حسب ، وإقرار معاوية بنفسه حين أقرّ بالشرط فأبطلها وحكم عليها بالمروق عن العهد وبالتمرّد عن الطاعة التي ينبغي لمثل معاوية أن يدين بها ، وقد جعل لنفسه قداسة الخلافة ودعوى الأحقيّة بهذا الأمر.
وإلى هذا أشار الشيخ الصدوق للشرط هذا بقوله : ولم يكن معاوية عند الحسن عليه السلام أميراً أقامه الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه و آله وسلّم أو حاكماً من ولاة الحكم (3).
الشرط الثالث
لم تكن حيلة معاوية في استجلاب النصر غير ما ينصاع إليه الطبعُ ومن الخسةِ في التنكيـل بعدوّه ، ليغطي سوأة الحسب بعـدما بدت ظاهرة لأهل الشام ، وطفق ابن أبي سفيان يتوسّل بمعاذير اللؤم في الانتقاص من عليّ عليه السلام ليظهر ضغينة البغض ، فأفضى به العداء إلى شتم عليّ عليه السلام على منابر الشام ليؤسّس سنّة لم يسبقه إليه أحد لا في الجاهليّة ولا في الإسلام.
فالشهامة تملي على صاحبها أن يترفّع عن محقّرات الاُمور ، وأن يتنزّه عن كلّ ما من شأنه الانتقاص من عدوّه بغير حقّ ، وإذا تخلّى المرء عن ذلك استطاب له كلّ دنيّ ، واستهان عنده القبيح حتّى يراه ضمن خصاله وشيم أخلاقه.
وإلّا ما الذي يجده معاوية مضطراً إليه في شتمه عليّاً عليه السلام لولا خسةِ الطبع واستملاح كلّ شائنة ، والإبقاء على رذائل الخصال واستباحة كلّ حرمة. ألم يجد عليّ عليه السلام مندوحة من أن يسلك ما سلكه معاوية من الشتم لولا خلقه النبويّ الذي ترفّع به عن كل ما يحطُّ به من قدر الأبطال ، فكان عليّ عليه السلام بطلاً يرنو إلى الخلود ، ويتسامى إلى مجد العظماء في كلّ حين ، وينحدر معاوية إلى حضيض كلّ شائنة ليرثه بنوه وذوو قرابته من آل مروان ثمانون عاماً من شتم عليّ عليه السلام غير متحرجين ولا متأثمين.
فكان ما اشترطه الحسن عليه السلام من رفع السبّ عن عليّ ـ وقد عرف أنّ معاوية غير جدير بالوفاء ـ ليكشف لذوي البصائر عن زيف ما يدعيه معاوية ومن سار على خطّه ، وبهذا فإنّ الحسن بن عليّ كسب النصر من حيث يتسافل آل حرب في حربهم لآل الرسول.
الشرط الرابع
ولم يكن هذا الشرط بأقلّ من سابقيه ، فقد أثبت أن مقاتلة صفين والجمل الذين قاتلوا مع عليّ عليه السلام مسلمون ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، فلهم من بيت مال المسلمين كما لباقي المسلمين ، وإذ أثبت هذا الشرط إسلام من قاتله معاوية ، فكيف يُتاح لمعاوية مقاتلة من أقرّ هو بإسلامه ؟ أليس مقاتلة المسلمين واستحلال دمائهم خروجاً عن ربقة الإسلام ؟
وبهذا الشرط جعل الحسن بن عليّ عليهما السلام أن يقرّ معاوية على نفسه باستحلاله دماء المسلمين لا لشيء إلّا من أجل السلطان ، وهو اليوم يعيد كرّة الأمس ليستحوذ على ما ليس له.
ولكن لماذا خراج دار أبجرد ؟
على أنّ الإمام عليه السلام أخذ معاوية بهذا التقييد من بين يديه ومن خلفه حتّى جعل هذا الشرط وبهذا القيد إقراراً من معاوية بولاية الحسن بن عليّ وأنّه خليفة رسول الله بلا منازع.
فدار أبجرد لم تفتح عنوة ، بـل صولح عليها ، وكل ما صولح عليها فهي لرسول الله خالصة دون المسلمين وذلك بحسب قوله تعالى : ( وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (4).
فإذا كان الحسن بن عليّ عليهما السلام مستحقاً لما أفاء الله عليه فإنّ ذلك إقرار بخلافته وتسليم بأنّ الأمر له دون غيره.
الشرط الخامس
ولهذا الشرط معناه في نفي عدالة معاوية وتذكيرٌ بإرهابه وأخذه المسلمين بالقوّة والسطوة ، وهذا يعني أنّ ابن أبي سفيان حريٌّ بأن ينازع الأمر أهله مهما كلّف ذلك من إراقة الدماء والتنكيل بالآمنين من أهل القبلة ، أهل شامهم وعراقهم ويمنهم وحجازهم سواء ، والحسن بن عليّ عليهما السلام جدير بأن تشمل رعايته جميع المسلمين ، لأنّه خليفتهم دون فرق بين أهل الشام من مقاتليه أو أهل العراق من أنصاره ، وهذا لعمري تأكيد على ولايته وشمولها لبلاد المسلمين دون استثناء ، وأنّ معاوية مارق ضالّ يأخذ الناس بالقوّة والتنكيل ، ليأخذهم على طاعته ، فإمرته إمرة سيف وبطش ، وإذا كان معاوية جديراً بخلافة رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلّم لكان حريّاً به أن يتّبع منهاجه ويحذو حذوه ، فيعفو عن مسيئ المسلمين ويثيب محسنهم ، وأن يكون المسلمون عنده سواء ، أمّا الحسن بن عليّ عليهما السلام فيدين سياسة ابن أبي سفيان والاخلال بهذا الشرط لا يتعدّى عن كون معاوية رجل إلى المغامرة أقرب منه إلى السلام ، فالسلام لا يعدو عن لعبة السياسة التي يركب موجتها ، لتوصله إلى شاطئ الأمان والذي يعني إبعاد خصومه بأيّ وجه كان ، فمن المطاردة والتنكيل إلى المهادنة والتخذيل الذي بذل فيه معاوية أقصى جهوده من أجل أن يكسب جولة الحرب وقد عصفت بكيانه بعد تعريته وإدانته ، وإذا أفلت من قبضة الإمام في الحرب ، فإنّه لن يفلت من إدانته في الشروط ، فقد أملى عليه ما لا يطيق ، فإنّ دنائة الطبع موفور عليها ابن أبي سفيان ، ففي الغدر سعة وفي الخيانة حجّة الآثمين.
الهوامش
1. شرح النهج : 16 / 234.
2. المحاسن والمساوئ للبيهقي : 86.
3. علل الشرائع : 1 / 353 ، عنه البحار : 44 / 8.
4. الحشر : 6 ـ 7.
مقتبس من كتاب : [ الحسن بن علي عليهما السلام رجل الحرب والسلام ] / الصفحة : 148 ـ 155
التعلیقات