الشيعة ويوم السقيفة
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 11 سنةالشيعة ويوم السقيفة
ليس بخاف على أحد مدى الإنعطافة الخطيرة التي حدثت في تأريخ الإسلام عقب انتهاء مؤتمر سقيفة بني ساعدة ، وما ترتّب عليه من نتائج وقرارات خطيرة.
والحقّ يقال إنّ هذا المؤتمر الذي ضمّ بين صفوفه ثلّة كبيرة من وجوه الصحابة ـ من المهاجرين والأنصار ـ قد أغفل عند انعقاده الواجب الأعظم في إكرام رسول الله صلّى الله عليه وآله صاحب الفضل الأكبر فيما وصل إليه الجميع ـ عندما ترك مسجى بين يدي أهل بيته وانشغلوا بما كان من غير الإنصاف أن ينسب إليه صلّى الله عليه وآله من قصور لا عذر فيه في ترك الأمّة حائرة به بعد موته.
أقول : ونتيجة لانشغالهم ذاك فقد حرّموا من واجب إكرام الرسول صلّى الله عليه وآله جلّه ، ففاتهم أعظمه ، وقصروا في تأديته ، وكان لأهل بيته وحدهم ذلك الدور كلّه ، فأوفوه ، ولم يألوا في ذلك جهدا.
وإذا كان المؤتمرون في السقيفة قد خرجوا إلى الملأ بقرار كان ثمرة مخاض عسير واعتراك صعب ، فإنّه أوضح وبلا أدنى ريب تبعثر الآراء واختلافها ، بل وظروف خطرة كان من الممكن أن تودّي بالجهد العظيم الذي بذله رسول الله صلّى الله عليه وآله ومن معه من المؤمنين في إرساء دعائم هذا الدين وتثبيت أركانه ، وأوضحت ـ وذاك لا خفاء عليه ـ أنّ من غير المنطقي لرسول الله صلّى الله عليه وآله أن يرحل ـ مع أنّه لم يفاجئه الموت ـ دون أن يدرك هذه الحقيقة التي ليس هو ببعيد عنها ، ولا يمكن أن يتغاضى عنها ، وهو الذي ما خرج في أمر جسيم إلّا وخلف عنه من ينوبه في إدارة شؤون الأمّة في فترة غيابه التي لا يلبث أن يعود منها بعد أيّام معدودات ، فكيف بالرحيل الأبدي ؟ !
نعم إنّ هذا الأمر لا بدّ وإن يستوقف كلّ ذي لبّ وعقل مستنير.
كما أنّ الاستقراء المتأني لأحداث السقيفة قد أوضح وبقوّة في أثناء المؤتمر وبعده وجود تيار قوي ومتماسك تبنته جملة من وجوه الصحابة ومتقدّميها ، وعمدت إلى التذكير بوجوده والإجهار به ، ولو قادهم هذا الأمر إلى الاقتتال دون تنفيذه ، وذاك الأمر هو الإصرار على إيكال أمر الخلافة إلى علي بن أبي طالب عليه السلام دون غيره ، رغم ابتعاده عليه السلام عن ساحة الاعتراك وميدان التنازع في تلك السقيفة.
ولعلّ تمسّك هذه الثلّة من الصحابة بموقفها من بيعة الإمام دون غيره هو ما دفع بعض المؤرّخين إلى الذهاب بأن التشيّع كان وليد هذا المؤتمر ونتاج مخاضه ، وأن يليهم آخرون يتعبّدون بهذا الرأي ويرتّبون من خلاله تصوّراتهم وأفكارهم ، فيتشعّب ذلك إلى جملة واسعة من المتبنّيات غير الواقعيّة والقائمة على أرض واسعة من الأوهام والاسترسال غير المنطقي.
ولعلّ هذا التصوّرات تعتمد في فهمها أساساً لمبدأ نشأة التشيّع على ما رواه الطبري وغيره عن مجريات هذا المؤتمر وما ترتّب عليه من نتائج ، دون أن تمد بصرها إلى أبعد من هذه النقطة اللامعة التي أعمتهم عن التأمّل في أبعادها.
قال الطبري : اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير ، فقال أبو بكر : منّا الأمراء ومنكم الوزراء ـ إلى أن قال : ـ فبايعه عمر وبايعه الناس ، فقالت الأنصار ـ أو بعض الأنصار ـ : لا نبايع إلّا عليّاً.
ثمّ قال ـ أيّ الطبري ـ : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة : فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر ، فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه.
وقال أيضاً : وتخلّف علي والزبير ، واخترط الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتّى يبايع علي. فبلغ ذلك أبا بكر وعمر فقالا : خذوا سيف الزبير (1).
وقال اليعقوبي في تأريخه : ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العبّاس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والبراء ابن عازب ، وأبي بن كعب (2).
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات : إن عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار كانوا لا يشكّون أنّ عليّاً هو صاحب الأمر.
وروى الجوهري في كتاب السقيفة : أنّ سلمان والزبير وبعض الأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليّاً.
وروى أيضاً : أنّه لما بويع أبو بكر واستقرّ أمره ، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته ، ولام بعضهم بعضاً ، وهتفوا باسم الإمام علي ، ولكنّه لم يوافقهم (3).
وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : كان أبو ذر وقت أخذ البيعة غائباً عن هذه الأحداث ، فلمّا جاء قال : أصبتم قناعة ، وتركتم قرابة ، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم لما اختلف عليكم الاثنان.
وقال سلمان : أصبتم ذا السنّ ، وأخطأتم المعدن ، أمّا لو جعلتموه فيهم ما اختلف منكم اثنان ، ولأكلتموها رغداً.
وهكذا فمن خلال هذه النصوص المتقدّمة وغيرها اعتقد ذاك البعض ـ الذي أشرنا إليه سابقاً ـ أنّ مبتدأ التشيّع ونشأته كان في تلك اللحظات الحرجة في تأريخ الإسلام ، متناسين أنّ ما اعتمدوه في بناء تصوّراتهم هو ما ينقضها ويثبت بطلانها ، فإنّ المتأمّل في هذه النصوص يظهر له وبوضوح أنّ فكرة التشيّع لعلي ليست وليدة هذا الظرف المعقّد ، وثمرة اعتلاجه ، ونقيض تصوّره ، بقدر ما تؤكّد على أنّ هذه الفكرة كانت مختمرة في أذهانهم ومركوزة في عقولهم ولسنين طوال ، فلمّا رأت هذه الجماعة انصراف الأمر إلى جهة لم تكن في حساباتهم ولا في حدود تصوّراتهم ، وانحساره عمّا كان معهوداً به إليهم ، عمدوا إلى التمسّك به بالاجتماع في بيت علي والإعلان صراحة عن موقفهم ومعتقدهم.
نعم إنّ من غير المتوقّع والمعهود أن يجتمع رأي هذه الجماعة ـ التي تؤلّف خلاصة غنيّة من متقدّمي الصحابة ـ على هذا الأمر في تلك اللحظات المضطربة والمليئة بالمفاجئات ، وأن يترتّب عليه موقف موحّد ثابت ، فهذا الأمر يدلّ بوضوح على أنّه ما كان وليد يومه ونتاج مخاضه.
وممّا يؤكّد ذلك ويقوي أركانه ما نقلته جميع مصادر الحديث المختلفة من نداءات رسول الله صلّى الله عليه وآله وتوصياته بحقّ علي وعترته وشيعته في أكثر من مناسبة ومكان ، وما كان يشير إليه صلّى الله عليه وآله من فضل شيعة علي ومكانتهم ، والتأكيد على وجوب ملازمتهم ، وفي هذا دلالة لا تقبل النقض على أنّ التشيّع ما كان وليد السقيفة أو ردة رافضة آنية لمجريات أحداثها ، بل إن هذا الوجود يمتدّ عمقاً مع نشأة الإسلام واشتداد عوده في زمن النبي محمّد صلّى الله عليه وآله وحياته المباركة المقدّسة.
الهوامش
1. تاريخ الطبري 2 : 443 - 444.
2. تاريخ اليعقوبي 2 : 103 ط النجف.
3. أنظر ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 6 : 43 - 44.
مقتبس من كتاب : [ أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة ] / الصفحة : 60 ـ 63
التعلیقات