تراث الإمام المجتبى عليه السلام
المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
منذ 7 سنواتتراث الإمام المجتبى عليه السلام
1 ـ نظرة عامّة في تراث الإمام المجتبى عليه السلام :
الإمام المجتبى عليه السلام كأبيه المرتضى وجدّه المصطفى قائد مبدئي تتلخّص مهمّاته القياديّة في كلمة موجزة ذات معنىً واسع وأبعاد شتّى هي : « الهداية بأمر الله تعالى » إنطلاقاً من قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (1).
والهداية بأمر الله سبحانه تتجلّى في تبيان الشريعة وتقديم تفاصيل الأحكام العامّة أو المطلقة التي نصّ عليها القرآن الكريم والرسول العظيم ، كما تتجلّى في تفسير القرآن الحكيم وإيضاح مقاصد الرسول الكريم.
وتتجلّى الهداية في تطبيق أحكام الله تعالى على الأُمّة المسلمة وصيانة الشريعة والنصوص الإلهيّة من أيّ تحريف أو تحوير يتصدّى له الضالّون المضلّون.
والثورة التي فجّرها الإسلام العظيم هي ثورة ثقافيّة قبل أن تكون ثورة إجتماعيّة أو إقتصاديّة ، فلا غرو أن تجد الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام يفرّغون أنفسهم لتربية الأُمّة وتثقيفها على مفاهيم الرسالة وقيمها ، وهم يرون أنّ مهمّتهم الأُولى هي التربية والتثقيف إنطلاقاً من النصّ القرآني الصريح في بيان أهداف الرسالة والرسول الذي يرى الإمام نفسه إستمراراً له وقيّماً على ما أثمرته جهود الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من « رسالة » و « أُمّة » و « دولة » ، قال تعالى مفصِّلاً لأهداف الرسالة ومهمّات الرسول : ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (2).
ولئن غضّ الإمام المجتبى الطرف عن الخلافة لأسباب دينيّة ومبدئيّة ؛ فهو لم يترك الساحة ومواريث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لتنهب بأيدي الجاهلييّن ، بل نجده قد تصدّى لتربية القاعدة التي على أساسها تقوم الدولة وعليها تطبّق أحكام الشريعة.
وقد خلّف الإمام المجتبى تراثاً فكريّاً وعلميّاً ثرّاً من خلال ما قدّمه من نصوص للأُمّة الإسلاميّة على شكل خطب أو وصايا أو إحتجاجات أو رسائل أو أحاديث وصلتنا في فروع المعرفة المختلفة ، ممّا يكشف عن تنوّع إهتمامات الإمام الحسن وسعة علمه وإحاطته بمتطلّبات المرحلة التي كانت تعيشها الأُمّة المسلمة في عصره المحفوف بالفتن والدواهي التي قلّ فيها من كان يعي طبيعة المرحلة ومتطلّباتها إلّا أن يكون محفوفاً برعاية الله وتسديده.
ونستعرض صوراً من إهتمامات الإمام العلميّة ، ونلتقط شيئاً من المفاهيم والقيم المُثلى التي ظهرت على لسانه وعبّر عنها ببليغ بيانه ، أو تجلّت في تربيته لتلامذته وأصحابه.
2 ـ في رحاب العلم والعقل :
أ ـ قال عليه السلام في الحثّ على طلب العلم وكيفيّة طلبه وأُسلوب تنميته :
1 ـ « تعلّموا العلم ، فإنّكم صغار في القوم ، وكبارهم غداً ، ومن لم يحفظ منكم فليكتب » (3).
2 ـ « حُسن السؤال نصف العلم » (4).
3 ـ « علّم الناس ، وتعلَّم عِلمَ غيرك ، فتكون قد أتقنت علمك وعلمتَ ما لمَ تَعلم » (5).
4 ـ « قَطعَ العلم عُذر المتعلّمين ».
5 ـ « اليقين معاذ السلامة ».
6 ـ « أوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكّر ، فإنّ التفكّر أبو كلّ خير وأمّه » (6).
ب ـ إنّ العقل أساس العلم ، ومن هنا فقد عرّف العقل من خلال لوازمه وآثاره العلميّة ومدى أهميّته ودوره في كمال الإنسان بقوله :
1 ـ « العقل حفظ القلب كلّ ما استرعيته » (7).
2 ـ « لا أدب لمن لا عقل له ، ولا مودّة لمن لا همّة له ، ولا حياء لمن لا دين له ، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل ، وبالعقل تدرك سعادة الدارين ، ومن حرم العقل حرّمهما جميعاً ».
3 ـ « لا يغشّ العقل من استنصحه ».
3 ـ في رحاب القرآن الكريم :
أ ـ قال عليه السلام في بيان حقيقة القرآن ورسالته وأهدافه وفضله وكيفيّة الإرتواء من معينه الثرّ :
1 ـ « إنّ هذا القرآن فيه مصابيح النور ، وشفاء الصدور ، فليُجل جال بضوئه وليُلجم الصفة قلبَه ؛ فإنّ التفكير حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور » (8) .
2 ـ « ما بقي من هذه الدنيا بقيّة غير هذا القرآن فاتّخذوه إماماً ، وإنّ أحقّ الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه ، وأبعدهم عنه مَن لم يعمل به وإن كان يقرؤه » (9).
3 ـ « .. واعلموا علماً يقيناً أنّكم لن تعرفوا التقى حتّى تعرفوا صفة الهدى ، ولن تمسكوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الذي نبذه ، ولن تتلوا الكتاب حقّ تلاوته حتّى تعرفوا الذي حرّفه ، فإذا عرفتم ذلك ؛ عرفتم البدع والتكلّف ورأيتم الفرية على الله ورأيتم كيف يهوي من يهوي ، ولا يجهلنّكم الذين لا يعلمون ، والتمسوا ذلك عند أهله فإنّهم خاصّة نور يستضاء بهم وأئمّة يقتدى بهم ، بهم عيش العلم وموت الجهل » (10).
4 ـ « .. كتاب الله فيه تفصيل كلّ شيء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمعوَّل عليه في كلّ شيء ، لا يخطئنا تأويله ، بل نتيقنّ حقائقه ، فأطيعونا فإطاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة .. ».
ب ـ وروى المؤرّخون نماذج من تفسير الإمام المجتبى للقرآن الكريم ، وإليك نموذجاً واحداً منها : « جاء رجل إلى مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ليسأل عن تفسير قوله تعالى : ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) فرأى ثلاثة أشخاص قد احتفّ بكلّ واحد منهم جمع من الناس يحدّثهم عمّا سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فسأل أحدهم عن الشاهد والمشهود فقال : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ، ثمّ سأل الآخر فقال له : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر ، ثمّ سأل الثالث فأجابه : « الشاهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشهود يوم القيامة لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ، وقوله تعالى عن يوم القيامة : ( ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) » ، فسأل عن الأوّل فقيل له : عبد الله بن عبّاس ، وسأل عن الثاني فقيل له : عبد الله بن عمر ، وسأل عن الثالث فقيل له : الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام (11).
إنّ المتتبّع لخُطب الإمام ومواعظه يلمس فيها الإستدلال والإستشهاد الدقيق بآيات الذكر الحكيم ، ممّا يفيدنا مدى إحاطته صلوات الله عليه بمقاصد القرآن وأسراره وبواطن آياته ، وسوف تلاحظ نماذج من ذلك فيما سيأتي من كلامه.
4 ـ في رحاب الحديث النبوي والسيرة الشريفة :
لقد اهتمّ الإمام الحسن المجتبى بنشر حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وسيرته ومكارم أخلاقه ، ونختار من الأحاديث التي رواها عن جدّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يلي :
1 ـ « إنّ من واجب المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم .. ».
2 ـ « يا مسلم ! اضمن لي ثلاثاً أضمن لك الجنّة : إن أنت عملت بما افترض عليك في القرآن فأنت أعبد الناس ، وإن قنعت بما رُزِقت فأنت أغنى الناس ، وإن اجتنبت ما حرّم الله فأنت أورع الناس ... ».
3 ـ « من صلّى الفجر فجلس في مصلّاه إلى طلوع الشمس ستره الله من النار ».
4 ـ « حيثما كنتم فصلّوا عليَّ ، فإنّ صلاتكم تبلغني ».
5 ـ « جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعها ابناها فسألته فأعطاها ثلاث تمرات ، فأعطت كلّ واحد منهما تمرةً فأكلاها ، ثمّ نظرا إلى أمّهما فشقّت التمرة اثنتين فأعطت كلّ واحدة منهما شقّ تمرة ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : رحمها الله برحمتها ابنيها ».
6 ـ « ودعا صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا الدعاء : اللهم أقلني عثرتي ، وآمن روعتي ، واكفني من بغى عليّ ، وانصرني على من ظلمني ، وأرني ثأري منه ... ».
وأمّا ما يخصّ سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومكارم أخلاقه فقد اهتمّ السبط المجتبى بنشرها تارةً عن خاله هند بن أبي هالة التميمي ربيبِ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخِ الزهراء من أمّها ؛ إذ كان دقيقاً في وصفه لحلية النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومكارم أخلاقه ، وممّا جاء في وصفه لمنطق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : « كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، لا يتكلّم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتح الكلام ويختمه بأشداق (12) ، ويتكلّم بجوامع الكلم ، فصل لا فضول ولا تقصير ، دمثاً ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم المنّة وإن دقّت ، لا يذمّ منها شيئاً ، ولا يذّم ذوّاقاً ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها ، فإذا تعوطي الحقّ لم يعرفه أحد ، ولم يستقم لغضبه شيء حتّى ينتصر له ، إذا أشار بكفّه أشار بكفّه كلّها ، وإذا تعجّب قلبها ، وإذا تحدّث اتّصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليُسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غضّ طرفه ، جلّ ضحكه التبسّم ، ويفتر عن مثل حبّ الغمام ... ».
واعتنى الإمام المجتبى بهذه السيرة المباركة أيّما إعتناء ، فسأل أباه المرتضى الذي كان ربيب الرسول وتلميذه وصهره وأخاه وشريكه في حمل أعباء الرسالة ، وهو الذي لازمه من قبل بعثته حتّى رحلته ، وطلب منه أن يصف له سيرة رسول الله فأجابه أمير المؤمنين إجابةً تتضمّن منهاجاً كاملاً للإنسان المسلم الذي يريد الإقتداء بسيرته صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال الإمام عليّ صلوات الله عليه : « كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزء لله جلّ ثناؤه ، وجزء لأهله ، وجزء لنفسه ، ثمّ جزّأ جزأه بينه وبين الناس ، فيرد ذلك على العامّة بالخاصّة ولا يدّخر عنهم شيئاً ، وكان من سيرته في جزء الأُمّة إيثار أهل الفضل بإذنه ، وقسّمه على قدر فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأُمّة من مسألتهم وأخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : ليبلغ الشاهد الغائب ، وابلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغ حاجته ، فإنّ من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها إيّاه ثبّت الله قدميه يوم القيامة ، لا يذكر عنده إلّا ذلك ، ولا يقبل من أحد غيره ، يدخلون رواداً ولا يفترقون إلّا عن ذواق ، ويخرجون أدلة .. ».
قال الإمام الحسن عليه السلام : « فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟ فقال : « كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخزن لسانه إلّا ممّا يعينهم ، ويؤلّفهم ولا يفرّقهم ، أو قال : ينفرهم ، ويكرم كريم كلّ قوم ، ويوليه عليهم ويحذّر الناس ، ويحترس منهم ، من غير أن يطوى عن أحد بشره ولا خلقه ، يتفقّد أصحابه ، ويسأل عمّا في الناس ، فيحسن الحسن ويقوّيه ، ويقبّح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا لكلّ حال عنده عتاب ، لا يقصّر عن الحقّ ولا يجوزه ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة ».
قال الإمام الحسن عليه السلام : « فسألته عن مجلسه ، فقال : كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يجلس ولا يقوم إلّا على ذكر الله ولا يوطن الأماكن ، وينهى عن إيطانها ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ويعطي كلّاً من جلسائه نصيبه ، فلا يحسب جليسه أنّ أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو قارنه في حاجة صابره حتّى يكون هو المنصرف ، ومن سأله حاجة لم يرده إلّا بها أو بميسور من القول ، وقد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الحقّ سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع عنده الأصوات ، ولا تؤبّن فيه الحرم ، ولا تُثنى فلتاته ، ترى جلّاسه متعادلين ، يتفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعين يوقرون الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب ».
قال الإمام الحسن عليه السلام : « قلت له : كيف سيرته في جلسائه ؟ قال عليه السلام : كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دائم السرور ، سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب ولا مدّاح ، يتغافل عمّا لا يشتهي ، ولا يؤيس منه ، ولا يجيب فيه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء والإكثار وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذمّ أحداً ، ولا يعيّره ولا يطلب عثرته ، ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه ، وإذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير ، وإذا سكت تكلّموا ، ولا يتنازعون عنده ، من تكلّم أنصتوا له حتّى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أولهم ، يضحك ممّا يضحكون منه ، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ، حتّى أن كان أصحابه ليستجلبوا منهم ويقول : إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه ، ولا يقبل الثناء إلّا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتّى يجوّزه فيقطعه بنهي أو قيام .. ».
قال الإمام الحسن عليه السلام : « كيف كان سكوته ؟ قال عليه السلام : كان سكوت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على أربع : الحكم ، والحذر ، والتقدير ، والتفكير.
فأمّا تقديره ففي تسويته للنظر بين الناس واستماعه منهم.
وأمّا تفكيره ففيما يبقى ويفنى.
وجمع له الحلم في الصبر ، فكان لا يعصيه شيء ولا يستقرّه.
وجمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، وتركه القبيح لينتهى عنه ، وإجتهاده الرأي فيما أصلح أمّته ، والقيام فيما جمع لهم الدنيا والآخرة ... » (13) .
5 ـ في رحاب العقيدة :
1 ـ التوحيد : أمر الإمام عليّ المرتضى عليه السلام نجله المجتبى عليه السلام ليخطب الناس في مسجد الكوفة ، فصعد المنبر، وقال :
« الحمد لله الواحد بغير تشبيه ، والدائم بغير تكوين ، القائم بغير كلفة ، الخالق بغير منصبة ، والموصوف بغير غاية ، المعروف بغير محدود ، العزيز ، لم يزل قديماً في القدم ، ردعت القلوب لهيبته ، وذهلت العقول لعزّته ، وخضعت الرقاب لقدرته ، فليس يخطر على قلب بشر مبلغ جبروته ، ولا يبلغ الناس كنه جلاله ، ولا يفصح الواصفون منهم لكُنه عظمته ، ولا تبلغه العلماء بألبابها ، ولا أهل التفكّر بتدابير أمورها ، أعلم خلقه به الذي بالحدّ لا يصفه ، يُدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » (14).
وجاء إليه رجل فقال له : يابن رسول الله ! صف لي ربّك كأنّي أُنظر إليه ، فأطرق الحسن مليّاً ثمّ رفع رأسه فأجابه : « الحمد لله الذي لم يكن له أوّل معلوم ولا آخر متناه ، ولا قبل مدرك ولا بعد محدود ولا أمد بحتّى ، ولا شخص فيتجزّأ ، ولا اختلاف صفة فيتناهى ، فلا تدرك العقول وأوهامها ، ولا الفكر وخطراتها ، ولا الألباب وأذهانها ، صفته فيقول : متى ، ولا بدئ ممّا ، ولا ظاهر على ما ، ولا باطن فيما ، ولا تارك فهلّا ، خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً ، ابتدأ ما ابتدع ، وابتدع ما ابتدأ ، وفعل ما أراد ، وأراد ما استزاد ، ذلك الله ربّ العالمين » (15).
2 ـ إبطال الجبر : رفع أهالي البصرة إليه عليه السلام رسالةً يطالبون منه رأيه في مسألة الجبر فأجابهم عليه السلام : « من لم يؤمن بالله وقضائه وقدره فقد كفر ، ومن حمل ذنبه على ربّه فقد فجر ، إنّ الله لا يُطاع استكراهاً ولا يُعصى لغلبة ؛ لأنّه المليك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم ، فإن عملوا بالطاعة لم يحلّ بينهم وبين ما فعلوا ، فليس هو الذي أجبرهم على ذلك ، فلو أجبر الله الخلق على الطاعة لأسقط عنهم الثواب ، ولو أجبرهم على المعاصي لأسقط عنهم العقاب ، ولو أهملهم لكان عجزاً في القدرة ، ولكن فيهم المشيئة التي غيّبها عنهم ، فإن عملوا بالطاعات كانت له المنّة عليهم ، وإن عملوا بالمعصية كانت الحجّة عليهم » (16).
3 ـ تفسير صفاته تعالى : وسأله رجل عن معنى الجواد فقال : « ... وإن كنت تسأل عن الخالق فهو الجواد إن أعطى ، وهو الجواد إن منع ، لأنّه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له ، وإن منع منع ما ليس له » (17).
6 ـ في رحاب ولاية أهل البيت عليهم السلام :
1 ـ قال عليه السلام مبيّناً لحقيقة الثقلين وموقع كلّ منهما من الآخر : « ... واعلموا علماً يقيناً أنّكم لن تعرفوا التقى حتّى تعرفوا صفة الهدى ، ولن تمسكوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الذي نبذه ، ولن تتلوا الكتاب حقّ تلاوته حتّى تعرفوا الذي حرّفه ، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلّف ، ورأيتم الفرية على الله ، ورأيتم كيف يهوى من يهوى ، ولا يجهلنّكم الذين لا يعلمون ، والتمسوا ذلك عند أهله فإنّهم خاصّة نور يستضاء بهم وأئمّة يقتدى بهم ، بهم عيش العلم وموت الجهل ، وهم الذين أخبركم حلمهم عن علمهم ، وحكم منطقهم عن صمتهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، وقد خلت لهم من الله سابقة ، ومضى فيهم من الله حكم : ( ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) » (18).
2 ـ « أيّها الناس ، اعقلوا عن ربّكم ، إنّ الله عَزَّ وجَلَّ اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، ذرّيةً بعضها من بعض والله سميع عليم ، فنحن الذرّيّة من آدم والأسرة من نوح والصفوة من إبراهيم والسلالة من إسماعيل وآل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، نحن فيكم كالسماء المرفوعة والأرض المدحوّة والشمس الضاحية ، وكالشجرة الزيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة التي بورك زيتها ، النبيّ أصلها وعليّ فرعها ، ونحن والله ثمر تلك الشجرة ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا ، ومن تخلّف عنها فإلى النار هوى ... » (19).
3 ـ وخطب قائلاً بعد حمد الله والثناء عليه : « إنّ الله لم يبعث نبيّاً إلّا اختار له نفساً ورهطاً وبيتاً ، فوالذي بعث محمّداً بالحقّ لا ينتقص من حقّنا أهل البيت أحد إلّا نقصه الله من عمله مثله ، ولا يكون علينا دولة إلّا وتكون لنا العاقبة ، ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) » (20).
4 ـ وقال عليه السلام : « نحن حزب الله المفلحون ، وعترة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الأقربون ، وأهل بيته الطاهرون الطيّبون ، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والثاني كتاب الله فأطيعونا فإطاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة ... » (21) .
5 ـ وخطب عليه السلام فتحدّث عن فلسفة التشريع وعن إرتباط الأحكام بولاية أهل البيت ، ثمّ قال : « ولو لا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوصياؤه كنتم حيارى ، لا تعرفون فرضاً من الفرائض ، وهل تدخلون داراً إلّا من بابها ».
وبعد أن استدلّ عليه السلام على كمال الدين وإتمام النعمة وأشار إلى حقوق أولياء الله ودور أداء هذه الحقوق في سلامة الحياة ونمائها وأنّ البخيل هو من يبخل بالمودّة بالقربى قال : « سمعت جدّي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : خلقتُ أنا من نور الله ، وخُلق أهل بيتي من نوري ، وخلق محبّوهم من نورهم ، وسائر الناس من الناس » (22).
7 ـ البشارة بالإمام المهديّ المنتظر عليه السلام :
1 ـ قال عليه السلام بعد أن صالح معاوية ودخل عليه الناس ولامه بعضهم على بيعته : « ... أما عَلِمتم أنّه ما مِّنا من أحد إلّا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، إلّا القائم الذي يصلّي روح الله عيسى بن مريم خلفه ، فإنّ الله يخفي ولادته ويُغيِّب شخصه ، لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج ، ذلك التاسع من وُلد أخي الحسين ، ابن سيّدة الإماء ، يطيلُ الله عُمَره في غيبته ثمّ يُظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة » (23).
2 ـ وروى عليه السلام حديثاً عن أبيه عليه السلام أخبره فيه عن ولاية بني أميّة وبِدَعِهِم وفتكهم بأعدائهم حتّى قال : « ... حتّى يبعث الله رجلاً في آخر الزمان وكَلَب من الدهر وجَهل من الناس ، يؤيّده الله بملائكته ، ويَعصِم أنصاره وينصُرُه بآياته ، ويُظهره على أهل الأرض حتّى يَدينوا طوعاً وكرهاً ، يملؤها قسطاً وعدلاً ونوراً وبرهاناً ، يدين له عَرض البلاد وطولها ، لا يبقى كافرٌ إلّا آمن به ، ولا طالح إلّا صلح ، وتصطلح في ملكه السباع ، وتُخرِج الأرض نبتها ، وتُنزل السماءُ بركتها ، وتظهر له الكنوز ، يملك ما بين الخافقين أربعين عاماً ، فطوبى لمن أدرك أيّامه وسمع كلامه » (24) .
8 ـ في رحاب الأخلاق والتربية :
عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت الحسن عليه السلام يقول : « مكارم الأخلاق عشرة : صدق اللسان ، وصدق البأس ، وإعطاء السائل ، وحسن الخلق ، والمكافأة بالصنائع ، وصلة الرحم ، والتذمّم على الجار (25) ، ومعرفة الحقّ للصاحب ، وقري الضيف ، ورأسهنّ الحياء » (26) .
وعرّف الإمام المجتبى عليه السلام مجموعة من « مكارم الأخلاق » في إجابته على أسئلة أبيه المرتضى عليه السلام نختار منها ما يلي :
1 ـ السداد : دفع المنكر بالمعروف.
2 ـ الشرف : اصطناع العشيرة وحمل الجريرة « موافقة الإخوان » (27).
3 ـ المروءة : العفاف وإصلاح المرء ماله « إصلاح الرجل أمر دينه ، وحسن قيامه على ماله ، وإفشاء السلام والتحبّب إلى الناس » (28).
4 ـ السماحة : البذل في العسر واليسر.
5 ـ الإخاء : الوفاء في الشدّة والرخاء.
6 ـ الغنيمة : الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا.
7 ـ الحلم : كظم الغيظ وملك النفس.
8 ـ الغنى : رضى النفس بما قسم الله وإن قلّ ، فإنّما الغنى غنى النفس.
9 ـ المنعة : شدّة البأس ومقارعة أشدّ الناس.
10 ـ الصمت : ستر العيب وزين العرض ، وفاعله في راحة ، وجليسه آمن (29).
11 ـ المجد : أن تعطي في الغرم ، وأن تعفو عن الجرم.
12 ـ العقل : حفظ القلب كلّ ما استرعيته ـ استوعيته ـ أو حفظ القلب لكلّ ما استتر فيه (30).
13 ـ الثناء : إتيان الجميل وترك القبيح.
14 ـ الحزم : طول الأناة والرفق بالولاة والإحتراس من الناس بسوء الناس.
15 ـ الكرم : العطيّة قبل السؤال والتبرع بالمعروف والإطعام في المحلّ (31).
16 ـ النجدة : الذبّ عن الجار والمحاماة في الكريهة والصبر عند الشدائد (32).
وأجاب الإمام بكلّ إسترسال وعدم تكلّف على مجموعة أخرى من أسئلة أبيه فيما يخصّ « مساوئ الأخلاق » ونختار منها ما يلي :
1 ـ الدنيئة : النظر في اليسير ومنع الحقير.
2 ـ اللؤم : احتراز المرء نفسه ـ ماله ـ وبذله عرسه ـ عرضه ـ (33).
3 ـ الشحّ : أن ترى ما في يديك شرفاً وما أنفقته تلفاً.
4 ـ الجبن : الجرأة على الصديق والنكول عن العدوّ.
5 ـ الفقر : شرّه النفس في كلّ شيء.
6 ـ الجرأة : موافقة الأقران.
7 ـ الكلفة : كلامك فيما لا يعنيك.
8 ـ الخُرْق : معاداتك إمامك ورفعك عليه كلامك.
9 ـ السفه : اتباع الدناة ومصاحبة الغواة.
10 ـ الغفلة : تركك المسجد وطاعتك المُفسِد.
11 ـ الحرمان : تركك حظّك وقد عرض عليك (34).
12 ـ شرّ الناس : من لا يعيش في عيشه أحد (35).
وتحدّث الإمام عن أصول الجرائم الأخلاقيّة وأمّهات الرذائل قائلاً : هلاك الناس في ثلاث : الكبر ، الحرص ، الحسد الكبر : به هلاك الدين وبه لُعِن إبليس الحرص : عدوّ النفس وبه أُخرج آدم من الجنّة الحسد : رائد السوء وبه قتل هابيل قابيل (36).
9 ـ في رحاب المواعظ الحكيمة :
1 ـ قال عليه السلام في تعريف التقوى والحثّ عليها : « إنّ الله لم يخلقكم عبثاً ، وليس بتارككم سدىً ، كتب آجالكم ، وقسم بينكم معائشكم ليعرف كلُّ ذي منزلة منزلته ، وإنّ ما قدّر له أصابه ، وما صُرف عنه فلن يصيبه ، قد كفاكم مؤونة الدنيا ، وفرّغكم لعبادته ، وحثّكم على الشكر ، وافترض عليكم الذكر ، وأوصاكم بالتقوى ، وجعل التقوى منتهى رضاه ، والتقوى بابُ كلِّ توبة ورأسُ كلِّ حكمة وشرفُ كلِّ عمل ، بالتقوى فاز من فاز من المتّقين ، قال الله تبارك وتعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ) وقال : ( وَيُنَجِّي اللَّـهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ، فاتّقوا الله عباد الله ، واعلموا أنّ من يتّقِ الله يجعل له مخرجاً من الفتن ، ويسدّده في أمره ، ويُهيّئ له رشده ، ويُفلجه بحجّته ، ويُبيّض وجهه ، ويُعطهِ رغبته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، وحسن أُولئك رفيقاً » (37).
2 ـ وجاءه رجل من الأثرياء فقال له : يابن رسول الله ! إنّي أخاف من الموت ، فقال له عليه السلام : « ذاك لأنّك أخّرت مالك ، ولو قدّمته لسرّك أن تلحق به » (38) .
3 ـ وقال عليه السلام عن طلب الرزق : « لا تجاهد الطلب جهاد الغالب ، ولا تشكل على القدر إشكال المستسلم ; فإنّ ابتغاء الفضل من السُنّة ، والإجمال في الطلب من العفّة ، وليست العفّة بدافعة رزقاً ، ولا الحرص بجالب فضلاً ، فإنّ الرزق مقسوم ، واستعمال الحرص استعمال المآثم » (39).
4 ـ وقال في الحثّ على الإلتزام بالمساجد : « من أدام الإختلاف إلى المسجد أصاب ثمان خصال : آيةً محكمةً ، وأخاً مستفاداً ، وعلماً مستطرفاً ، ورحمةً منتظرةً ، وكلمةً تدلّ على هدىً ، أو تردعه عن ردىً ، وترك الذنوب حياءً ، أو خشيةً » (40).
5 ـ وحدّد السياسة تحديداً جامعاً ودقيقاً بقوله عليه السلام : « هي أن ترعى حقوق الله وحقوق الأحياء وحقوق الأموات.
فأمّا حقوق الله : فأداء ما طلب والإجتناب عمّا نهى وأمّا حقوق الأحياء : فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك ، ولا تتأخّر عن خدمة أمّتك ، وأن تخلص لوليّ الأمر ما أخلص لاُمّته ، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا حاد عن الطريق السوي وأمّا حقوق الأموات : فهي أن تذكر خيراتهم ، وتتغاضى عن مساوئهم ، فإنّ لهم ربّاً يحاسبهم » (41).
ومن قصار كلماته الحكيمة وغرر حكمه الثمينة :
1 ـ إنّ من طلب العبادة تزكّى لها.
2 ـ المصائب مفاتيح الأجر.
3 ـ النعمة محنة فإن شكرت كانت كنزاً وإن كفرت كانت نقمة.
4 ـ أشدّ من المصيبة سوء الخُلق.
5 ـ من تذكّر بُعد السفر اعتدّ.
6 ـ العار أهون من النار.
7 ـ خير المال ما وُقِيَ به العرض.
8 ـ الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود.
9 ـ المسؤول حرٌّ حتّى يعدّ ومسترقٌّ بالوعد حتّى ينجز.
10 ـ فضح الموتُ الدنيا ، اجعل ما طلبت من الدنيا فلم تظفر به بمنزلة ما لم يخطر ببالك.
11 ـ فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها.
10 ـ في رحاب الفقه وأحكام الشريعة :
1 ـ عن عاصم بن ضمرة قال : كنت أسير مع الحسن بن عليّ على شاطئ الفرات وذلك بعد العصر ونحن صيام وماء الفرات يجري على رضراض (42) والماء صاف ونحن عطاش ، فقال الحسن بن علي عليهما السلام : « لو كان معي مئزر لدخلت الماء » قلت : إزاري أُعطيكه ، قال : « فما تلبس أنت ؟ » قلت : أدخل كما أنا ، قال : « فذاك الذي أكره ، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : إنّ للماء عوامر من الملائكة كعوامر البيوت استحيوهم وهابوهم وأكرموهم إذا دخلتم عليهم الماء فلا تدخلوا إلّا بمئزر » (43).
2 ـ وقال : « أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيّب بأجود ما نجد ، وأن نضحّي بأسمن ما نجد ، البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة ، وأن نظهر التكبير وعلينا السكينة والوقار » (44).
3 ـ وقال : « علّمني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قنوت الوتر : ربّ أهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولّني فيمن تولّيت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شرّ ما قضيت ، إنّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنّه لا يذلّ من واليت « تباركت ربّنا وتعاليت » » (45).
4 ـ وقال عليه السلام : « إذا أضرّت النوافل بالفريضة فاتركوها » (46).
5 ـ وقال عليه السلام : « لا طلاق إلّا من بعد نكاح » (47).
11 ـ في رحاب أدعية الإمام المجتبى عليه السلام :
وللإمام الحسن بن عليّ عليهما السلام أنواع من الأدعية والإبتهالات تدلّ على مدى اتّصاله بالله ومدى تعلّقه به وانقطاعه إليه ، وإليك بعض نماذجها :
1 ـ كان عليه السلام يدعو بهذا الدعاء الشريف في قنوته ، وكان يبدو عليه الخضوع والخشوع أمام الله ، وهذا نصه :
« يا من بسلطانه ينتصر المظلوم ، وبعونه يعتصم المكلوم ، سبقت مشيئتك ، وتمّت كلمتك ، وأنت على كلّ شيء قدير ، وبما تمضيه خبير ، يا حاضر كلّ غيب وعالم كلّ سر وملجأ كلّ مضطرّ ، ضلّت فيك الفهوم ، وتقطّعت دونك العلوم ، أنت الله الحيّ القيوم ، الدائم الديّوم ، قد ترى ما أنت به عليم ، وفيه حكيم ، وعنه حليم ، وأنت القادر على كشفه ، والعون على كفّه غير ضائق ، وإليك مرجع كلّ أمر ، كما عن مشيئتك مصدره ، وقد أبنت عن عقود كلّ قوم ، وأخفيت سرائر آخرين ، وأمضيت ما قضيت ، وأخّرت ما لا فوت عليك فيه ، وحملت العقول ما تحملت في غيبك ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة ، وإنّك أنت السميع العليم ، الأحد البصير ، وأنت الله المستعان ، وعليك التوكّل ، وأنت ولىّ من تولّيت ، لك الأمر كلّه ، تشهد الإنفعال ، وتعلم الإختلال ، وترى تخاذل أهل الخبال ، وجنوحهم إلى ما جنحوا إليه من عاجل فان ، وحطام عقباه حميم آن ، وقعود من قعد ، وإرتداد من ارتدّ وخلوي من النصار وإنفرادي عن الظهار ، وبك اعتصم ، وبحبلك استمسك ، وعليك أتوكّل.
اللهمّ فقد تعلم أنّي ما ذخرت جهدي ، ولا منعت وجدي ، حتّى انفلّ حدّي ، وبقيت وحدي ، فاتّبعت طريق من تقدّمني في كفّ العادية وتسكين الطاغية عن دماء أهل المشايعة ، وحرست ما حرسه أوليائي من أمر آخرتي ودنياي ، فكنت ككظمهم أكظم ، وبنظامهم أنتظم ، ولطريقتهم أتسنّم ، وبميسهم أتّسم حتّى يأتي نصرك ، وأنت ناصر الحقّ وعونه ، وإن بعد المدى عن المرتاد ، ونأى الوقت عن إفناء الأضداد ، اللهمّ صلِ على محمّد وآل محمّد ، وامزجهم مع النصاب في سرمد العذاب ، وأعمّ عن الرشد أبصارهم ، وسكعهم في غمرات لذاتهم حتّى تأخذهم البغتة وهم غافلون ، وسحرة وهم نائمون ، بالحقّ الذي تظهره ، واليد ـ التي ـ تبطش بها ، والعلم الذي تبديه ، إنّك كريم عليم ... » (48).
ويلمس في الفقرات الأخيرة من دعائه الآلام المرهقة التي كان يعانيها من الحكم الأُموي ، وقد دعا الله أن يأخذ الأُمويين أخذ عزيز مقتدر على انتهاكهم لحرمته وحرمات رسوله.
2 ـ وكان يدعو بهذا الدعاء على الظالمين له والمعتدين عليه ، ويطلب من الله أن يكفيه شرّهم ويعلوه عليهم :
« اللهمّ يا من جعل بين البحرين حاجزاً وبرزخاً ، وحجراً محجوراً ، يا ذا القوّة والسلطان ، يا عليّ المكان ، كيف أخاف وأنت أملي ، وكيف أضام وعليك متكلي ، فغطّني من أعدائك بسترك ، وأظهرني على أعدائي بأمرك ، وأيّدني بنصرك ، إليك ألجأ ونحوك الملتجأ ، فاجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً ، يا كافي أهل الحرم من أصحاب الفيل ، والمرسِل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجّيل ، إرمِ من عاداني بالتنكيل.
اللهمّ إنّي أسألك الشفاء من كلّ داء ، والنصر على الأعداء ، والتوفيق لما تحبّ وترضى ، يا إله السماء والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، بك استشفي ، وبك استعفي ، وعليك أتوكّل فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم » (49).
12 ـ في رحاب أدب الإمام المجتبى عليه السلام :
كتب الحسن البصري ـ وهو من أبرز الشخصيّات المعاصرة للإمام ـ معرّفاً بأدب الإمام عليه السلام وثقافته :
« أمّا بعد ، فإنّكم معشر بني هاشم الفلك الجارية في اللّجج الغامرة والأعلام النيّرة الشاهرة أو كسفينة نوح عليه السلام التي نزلها المؤمنون ونجا فيها المسلمون ، كتبتُ إليك يا بن رسول الله عند اختلافنا في القدر وحيرتنا في الإستطاعة فأخبرنا بالذي عليه رأيك ورأي آبائك ، فإنّ مِن علم الله علمَكم وأنتم شهداء على الناس والله الشاهد عليكم ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (50).
كما تتجلّى لنا مقدرة الإمام الفنّيّة والبلاغيّة من خلال محاولة معاوية لأن يقاطع ذات يوم خطاب الإمام عليه السلام حتّى لا يفتتن الجمهور ببلاغته بعد أن اقترح ابن العاص على معاوية أن يخطب الحسن عليه السلام ليظهر عدم مقدرته (51).
وقد أسهم الإمام الحسن عليه السلام في صياغة الخطب العسكريّة في عهد أبيه وبعده ، كما مرّ علينا ، وقد لاحظنا إحكام البناء والتطعيم بالعنصر الإيقاعي والصوري بشكل واضح.
وتميّزت رسائل الإمام ومكاتباته بالإقتصاد اللغوي وبتكثيف عنصر « الإشارة الدالّة » أيّ العبارة المنطوية على شفرات دلاليّة ، وهذا ما نجده مثلاً في رسالته إلى معاوية ورسالته إلى زياد بن أبيه ، حيث لم تتجاوز كلٌّ منهما السطرين ، فالأوّل ـ وهو معاوية ـ بعث رجلين يتجسّسان ، فكتب عليه السلام : « أمّا بعد ، فإنّك دسست الرجال كأنّك تحبّ اللقاء ، لا أشكّ في ذلك ، فتوقّعه إن شاء الله ، وبلغني أنّك شَمَتَّ بما لم تشمت به ذوو الحجى » (52) .
وأمّا الرسالة الأخرى فقد بعثها إلى زياد حيث نكّل بأحد المؤمنين ، فطالبه عليه السلام بالكفّ عن ذلك ، فردّ زياد برسالة إلى الحسن عليه السلام جاء فيها : « من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة : أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي ، وأنت طالب حاجة وأنا سلطان » (53).
واضح أنّ هذه الرسالة من زياد تعبير عن إحساسه المَرَضيّ بعقدة الحقارة والنقص ، فهو ينسب نفسه إلى أبي سفيان ، وينسب الحسن عليه السلام إلى فاطمة عليها السلام ، إلّا أنّ الحسن عليه السلام أجابه بسطرين ، نحسب أنّهما مزّقاه كلّ التمزيق ، حيث كتب عليه السلام : « من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سميّة ، أمّا بعد ، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر » (54).
من أدبه عليه السلام المنظوم :
1 ـ قال عليه السلام في التذكير بالموت :
قل للمقيم بغير دار إقامةٍ |
حان الرحيل فودع الأحبابا |
|
إنّ الذين لقيتهم وصحبتهم |
صاروا جميعاً في القبور ترابا |
2 ـ وقال عليه السلام في الزهد في الدنيا :
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني |
وشربة من قراح الماء تكفيني |
|
وطمرة من رقيق الثوب تسترني |
حياً وإن متّ تكفيني لتكفيني (55) |
3 ـ وله عليه السلام في السخاء :
إنّ السخاء على العباد فريضة |
لله يقرأ في كتاب محكم |
|
وعد العباد الأسخياء جنانه |
وأعدّ للبخلاء نار جهنّمِ |
|
من كان لا تندى يداه بنائلٍ |
للراغبيل فليس ذاك بمسلم (56) |
4 ـ وبلغه عليه السلام سبّ ابن العاص له في مجلس معاوية ، فقال عليه السلام :
أتأمر يا معاويَ عبد سهم |
بشتمي والملا منّا شهودُ ؟ |
|
إذا أخذت مجالسها قريش |
فقد علمت قريش ما تريدُ |
|
أأنت تظل تشتمني سفاهاً |
لضغنٍ ما يزول وما يبيدُ ؟ |
|
فهل لك من أب كأبي تسامى |
به من قد تسامى أو تكيدُ ؟ |
|
ولا جَدٌّ كجدي يا ابن حربٍ |
رسول الله إن ذُكر الجدودُ |
|
ولا أم كأمي في قريش |
إذا ما حصّل الحسب التليدُ |
|
فما مثلي تهكّم يا ابن حرب |
ولا مثلي ينهنهه الوعيدُ |
|
فمهلاً لا تهيّج بنا أموراً |
يشيب لهولها الطفل الوليدُ (57) |
5 ـ وله عليه السلام في الإستغناء عن الناس :
أغنَ عن المخلوق بالخالقِ |
تغنَ عن الكاذب والصادق |
|
واسترزقِ الرحمن من فضله |
فليس غير الله بالرازقِ |
|
من ظنّ أن الناس يغنونه |
فليس بالرحمن بالواثق |
|
من ظنّ أنّ الرزق من كسبه |
زلّت به النعلان من حالقِ (58) |
الهوامش
1. الأنبياء [ 21 ] : 73.
2. الجمعة [ 62 ] : 2.
3. عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : 142.
4. نور الأبصار : 110.
5. الأئمة الاثنا عشر : 37.
6. حياة الإمام الحسن : 1 / 343 ، 346.
7. حياة الإمام الحسن : 1 / 357.
8. حياة الإمام الحسن دراسة وتحليل : 1 / 346 ـ 347 عن كشف الغمة وإرشاد القلوب.
9. حياة الإمام الحسن دراسة وتحليل : 1 / 346 ـ 347 عن كشف الغمة وإرشاد القلوب.
10. المصدر السابق : 1 / 360 عن تحف العقول.
11. حياة الإمام الحسن : 1 / 362 عن الفصول المهمة لابن الصبّاغ المالكي : 160.
12. الأشدق : البليغ المفوّه.
13. راجع الموفقيات : 354 ـ 359 ، أنساب الأشراف : 1 / 390 والمختصر في الشمائل المحمديّة للترمذي : 39.
14. بحار الأنوار : 43 / 351.
15. حياة الإمام الحسن : 1 / 335 ـ 340 عن توحيد الصدوق.
16. رسائل جمهرة العرب : 2 / 25.
17. مجمع البحرين : « مادة جود ».
18. حياة الإمام الحسن : 1 / 360 ، عن تحف العقول.
19. جلاء العيون : 1 / 328.
20. مروج الذهب : 2 / 306.
21. حياة الإمام الحسن : 1 / 363.
22. حياة الإمام الحسن : 1 / 365 ، نقلاً عن ينابيع المودّة : 3 / 151.
23. راجع معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام : 3 / 165 لتقف على مصادر هذا الحديث.
24. معجم أحاديث الإمام المهدي : 3 / 167.
25. أيّ : أخذه تحت حمايته.
26. راجع تاريخ اليعقوبي : 2 / 206.
27. حياة الإمام الحسن : 1 / 343.
28. الجواب الثاني كان على سؤال معاوية ، راجع تاريخ اليعقوبي : 202.
29. الإمام المجتبى « حسن المصطفوي » : 245 عن مطالب السؤول.
30. راجع حياة الإمام الحسن : 1 / 343.
31. المصدر السابق : 1 / 344 ـ 345.
32. المصدر السابق : 1 / 344 ـ 345.
33. المصدر السابق : 1 / 341 وأجاب في نص آخر عن الذلّ واللؤم قائلاً : « من لا يغضب من الحقوة ولا يشكر على النعمة ».
34. حياة الإمام الحسن : 1 / 341 ـ 344 ، عن تاريخ ابن كثير : 8 / 39.
35. تاريخ اليعقوبي : 2 / 202.
36. حياة الإمام الحسن : 1 / 345 ، عن نور الأبصار : 110.
37. تحف العقول : 55.
38. تاريخ اليعقوبي : 2 / 202.
39. تحف العقول : 55.
40. عيون الأخبار لابن قتيبة : 3 / 3.
41. حياة الإمام الحسن : 1 / 351.
42. رضراض : ما صغر من الحصى.
43. رجال إصبهان : 1 / 331.
44. مستدرك الحاكم : 4 / 230.
45. التهذيب لابن عساكر : 4 / 199.
46. حياة الإمام الحسن : 1 / 368.
47. سنن البيهقي : 7 / 320.
48. مهج الدعوات : 47.
49. مهج الدعوات : 297.
50. تحف العقول : 231.
51. راجع حياة الإمام الحسن : 2 / 298 ـ 300.
52. الإرشاد للمفيد : 189.
53. جمهرة الرسائل : 2 / 3.
54. المصدر نفسه : 37.
55. أعيان الشيعة : 4 ق 1.
56. بحار الأنوار : 10 / 95.
57. حياة الإمام الحسن : 2 / 260.
58. نور الأبصار : 175.
مقتبس من كتاب : [ أعلام الهداية ـ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ] / الصفحة : 178 ـ 200
التعلیقات