التقيّة
صباح علي البيّاتي
منذ 9 سنواتالتقيّة
قال الشيخ محمّد بن عبدالوهّاب في « مطلب التقيّة » :
ومنها ايجابهم التقيّة ، ورووا عن الصادق رضي الله عنه : « التقيّة ديني ودين آبائي » حاشاه عن ذلك ، وفسّر بعضهم قوله تعالى : (إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) أكثركم تقيّة وأشدّكم خوفاً من الناس ... (1).
وفي : « مطلب تركهم الجمعة والجماعة » قال :
ومنها أنّ اليهود ضربت عليهم الذلّة والمسكنة أينما كانوا ، وكذلك هؤلاء ضربت عليهم الذلة حتّى أحيوا التقيّة من شدّة خوفهم وذلّهم ... (2).
نقول : إنَّ من المحزن حقاً أن يصبح موضوع التقيّة سُلَّماً للتشنيع على الشيعة وقذفهم بما لا يليق ونعتهم بأشنع الأوصاف حتّى شبههم الشيخ باليهود ، وكأنّ التقيّة بدعة قد ابتدعتها الشيعة لأغراض لا تمّت إلى الدين بصلة.
إن التقيّة ليست من بدع الشيعة ، وليس التزامهم بها بمثل تلك الصورة المشوهة التي يحاول البعض أن يلصقوها بالشيعة ، فالتقيّة شيء ثابت في الشريعة الإسلاميّة ، نزل بها القرآن الكريم وأقرّها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والتزم بها المسلمون منذ عهد الصحابة وحتّى يومنا هذا ، وبيّن الفقهاء أحكامها ، بل إنّ الذين يشنعون على الشيعة قد يكونون أكثر التزاماً منهم بالتقيّة لو أنّهم تعرضوا لمثل ما تعرض له الشيعة من محن على مرّ العصور.
قال الإمام الباقر عليه السلام لبعض أصحابه : « يا فلان ، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس ! إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس ; فتمالات علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا ، ثمّ تداولتها قريش ، واحداً بعد واحد ، حتّى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتّى قُتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثمّ غُدر به وأُسلم ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه ونهبت عسكره وعولجت خلاخيل أمّهات أولاده ، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حقّ قليل. ثمّ بايع الحسين عليه السلام من أهل العراق عشرون ألفاً ثمّ غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه ، ثمّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونُستضام ونُقصى ونمتهن ونُحرم ونُقتل ونُخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا. ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كلّ بلدة ، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنّا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغّضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام ، فقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله أو هُدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام ، ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة ، وأخذهم بكلّ ظنة وتهمة ، حتّى أن الرجل ليقال له : زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال شيعة علي ، وحتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع » (3).
هكذا كان حال الشيعة في زمن بني أُميّة ـ كما وصفه الإمام الباقر عليه السلام ـ ثمّ جاء دور العباسيين الذي كانوا أشدّ وطأة على أهل البيت وشيعتهم من أسلافهم الأمويين ، وكتب التاريخ ممتلئة بتلك الحوادث المفجعة ، ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني.
ثمّ جاء العثمانيّون ليكملوا المسيرة الظالمة ، إذ كان السلطان سليم ـ كما يحدثنا السيّد أسد حيدر ـ شديد التعصّب على أهل الشيعة ، ولا سيّما أنّه كان في تلك الأيّام قد انتشرت بين رعاياه تعاليم شيعيّة تنافي مذهب أهل السنّة ، وكان قد تمسّك بها جماعة من الأهالي ، فأمر السلطان سليم بقتل كلّ من يدخل في هذه الشيعة ، فقتلوا نحو أربعين ألف رجل ، وأخرج فتوى شيخ الإسلام بأنّه يؤجر على قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدهم (4).
كما ذكر الشيخ المظفّر رحمه الله بعض فضائع العثمانيين تجاه الشيعة ، ومنها ما حدث في مدينة حلب ، حيث أفتى الشيخ نوح الحنفي في كفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم ، تابوا أو لم يتوبوا !! فزحفوا على شيعة حلب وأبادوا منهم أربعين ألفاً أو يزيدون ، وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون منهم من ديارهم ... (5).
أمّا المذابح التي ارتكبت بحقّ الشيعة ، وما أريق من دمائهم وما انتهب من أموالهم ، وما تعرض له مشاهدهم المقدّسة من تخريب على أيدي الوهابيين بفتوى شيخهم محمّد بن عبد الوهّاب ، فحدّث ولا حرج ، إستكمالاً للمخطّط الذي بدأه معاوية في تصفية آثار النبوّة والقضاء على سنّة النبي صلى الله عليه وسلّم من خلال تصفية أتباعه المتمسّكين بسنّته كما سوف يتبيّن في بعض الفصول القادمة.
وأكتفي بهذا القدر من الشواهد التاريخيّة حتّى يعرف القارئ الكريم الظروف التي أحاطت بالشيعة ممّا جعلهم يلجؤون إلى التقيّة.
ويبقى السؤال : هل خالف الشيعة شريعة الإسلام في الالتزام بالتقيّة ؟
لقد حدّد الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب مفهوم التقيّة عند الشيعة بقوله ـ في نفس المطلب الذي نحن بصدده ـ : والمفهوم من كلامهم أن معنى التقيّة عندهم كتمان الحقّ أو ترك اللازم أو ارتكاب المنهي خوفاً من الناس ... (6).
فلنستعرض الآن مفهوم التقيّة عند أهل السنّة من خلال أقوال بعض علمائهم ، حتّى يتبيّن لنا إن كانوا يخالفون مفهومها عند الشيعة : في شيء :
١ ـ قال أحمد مصطفى المراغي في تفسيره لقوله تعالى : ( لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْء إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (7) ، قال :
أيّ إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كلّ حال ، إلّا في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعيّة أن ردّ المفاسد مقدّم على جلب المصالح ، وإذا جاز موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، وإذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلاميّة دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الاولى ، إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضرّ بالمسلمين ، ولا تختصّ هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كلّ وقت ، وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقيّة : بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحقّ لأجل توقي الضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال ، فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافراً ، بل يُعذر ، كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر ، فوافقها مكرهاً وقلبه مليء بالإيمان ، وفيه نزلت الآية ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ ) (8).
٢ ـ وقال ابن العربي المالكي :
وقد اختلف الناس في التهديد ، هل هو إكراه أم لا ؟ والصحيح إنّه إكراه ، فان القادر الظالم إذا قال لرجل : إن لم تفعل كذا وإلّا قتلتك أو ضربتك أو أخذت مالك أو سجنتك ، ولم يكن له من يحميه إلّا الله ، فله أن يقدم على الفعل ويسقط عنه الإثم في الجملة ، إلّا في القتل ، فلا خلاف بين الاُمّة أنه إذا أُكره عليه بالقتل لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره ويلزمه أن يصبر على البلاء الذي ينزل به ... واختلف في الزنا ، والصحيح أنّه يجوز له الاقدام عليه ولا حدّ عليه ... وأمّا الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف على شرط أن يلفظ بلسانه وقلبه منشرح بالإيمان ... (9).
٣ ـ قال القرطبي :
لما سمح الله عزّوجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلّها ، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتّب عليه حكم ، وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلّم : « رُفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » ... روى ابن القاسم عن مالك أن من أُكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان أن الإثم عنه مرفوع ... (10).
٤ ـ وقال أبو حيّان :
صحّة التقيّة من كلّ غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك الكفّار وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر ، كما تصحّ التقيّة عنده في حالة الخوف على الجوارح والضرب بالسوط والوعيد وعداوة أهل الجاه الجورة ، وأنّها تكون بالكفر فما دونه من بيع وهبة ونحو ذلك (11).
٥ ـ فخر الدين الرازي ، قال :
التقيّة جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلّى الله عليه وسلّم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم : « من قُتل دون ماله فهو شهيد » ، ولانّ الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء وجاز الإقتصار على التيمّم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال ، فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم. قال مجاهد : هذا الحكم كان ثابتاً في أوّل الاسلام لأجل ضعف المؤمنين ، فأمّا بعد قوّة دولة الإسلام فلا. روى عوف عن الحسن أنّه قال : التقيّة جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذا القول أولى ، لانّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان (12).
٦ ـ وقال الجصاص :
قال أصحابنا فيمن أُكره بالقتل وتلف بعض الأعضاء على شرب الخمر وأكل الميتة لم يسعه أن لا يأكل ولا يشرب ، وإن لم يفعل حتّى قُتل كان آثماً ، لانّ الله تعالى قد أباح ذلك في حال الضرورة عند الخوف على النفس فقال ( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) (13).
٧ ـ وقال ابن الجوزي :
الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها ، وفي الإكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان : إحداهما أنّه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمر به. والثانية أن التخويف لا يكون إكراهاً حتّى ينال العذاب ، وإذ ثبت جواز التقيّة ، فالأفضل ألا يفعل ، نصّ عليه أحمد في أسير خُيّر بين القتل وشرب الخمر فقال : إن صبر على القتل فله الشرف ، وإن لم يصبر فله الرخصة ، فظاهر هذا الجواز (14).
٨ ـ الآلوسي حيث قال :
وفي هذه الآية دليل على مشروعيّة التقيّة ، وعرّفوها لمحافظة النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء (15).
٩ ـ الشافعي ، قال في حكم المكره على الردة :
لو شهد عليه شاهدان أنّهما سمعاه يرتدّ وقالا : ارتدّ مكرهاً أو ارتدّ محدوداً أو ارتدّ محبوساً ، لم يغنم ماله ، وورثه ورثته من المسلمين (16).
١٠ ـ الغزالي ، قال ـ في بيان ما رخص فيه من الكذب ـ :
الكلام وسيلة إلى المقاصد ، فكلّ مقصود محمود يمكن التوصّل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام ، وإن أمكن التوصّل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان محصّل ذلك القصد مباحاً ، وواجب إن كان المقصود واجباً ، كما أنّ عصمة دم المسلمين واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب (17).
١١ ـ وقال السرخسي :
والتقيّة أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه ، وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول إنّه من النفاق ، والصحيح أن ذلك جائز ، لقوله تعالى : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرهاً مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقيّة (18).
١٢ ـ وقال ابن حزم في كتاب الإكراه :
الإكراه ينقسم قسمين : إكراه على الكلام ، وإكراه على فعل ، فالإكراه على الكلام لا يجب به شيء وإن قاله المكره كالكفر والقذف والنكاح والانكاح والرجعة والطلاق والبيع والإبتياع والنذر والإيمان والعتق والهبة ... فصح أن كلّ من أُكره على قول ولم ينوه مختاراً له فانّه لا يلزمه (19).
هذا ما قاله بعض المفسّرين والفقهاء والعلماء من أهل السنّة ـ على اختلاف مذاهبهم ـ حول مفهوم التقيّة في حالة الخوف وترك بعض الواجبات وإتيان بعض المحرّمات دفعاً للضرر ، وهذا هو نفس مفهوم التقيّة عند الشيعة ، فلماذا يشنّع على الشيعة وحدهم في ذلك ؟!
أمّا سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بل وكلّ الأنبياء عليهم السلام ، والصحابة والتابعين وغيرهم من عظماء المسلمين ، فتشهد بجواز التقيّة ، لأنّهم قد مارسوها بأنفسهم في بعض الحالات الإضطراريّة ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن يحاط بها ، ولكنّني سأكتفي بأمثلة قليلة ممّا نجد في مصادر أهل السنّة من ذلك :
١ ـ أخرج البخاري عن عائشة : أنّه استأذن على النبي صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال : « إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة » ، فلمّا دخل الان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ، قلت ما قلت ثمّ ألنت له في القول ، فقال : « أي عائشة إن شرّ الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه » (20).
٢ ـ وأخرج أيضاً عن عبدالله بن أبي مليكة : أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أُهديت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب ، فقسمها في أُناس من أصحابه وعزل منها واحداً لمخرمة ، فلمّا جاء قال : « خبأتُ هذا لك » قال أيّوب بثوبه أنّه يريه إيّاه ، وكان في خلقه شيء ... (21).
فتصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم تجاه هذين الشخصين إتقاء لشرّهما لا يمكن أن يحمل إلّا على باب التقيّة.
٣ ـ عن أبي هريرة قال : حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءين ، فأمّا أحدهما فبثثته ، وأمّا الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم (22).
قال ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث : وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أُمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان. يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية ، لأنّها كانت سنة ستّين من الهجرة (23).
٤ ـ وقال البخاري أيضاً : ويذكر عن أبي الدرداء : إنا لنكشّر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم (24).
٥ ـ وروى البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم : « قال إبراهيم لامرأته هذه أُختي ، وذلك في الله » (25).
٦ ـ وقال الهيثمي : عن ابن عمر قال : سمعت الحجّاج يخطب ، فذكر كلاماً أنكرته ، فأردت أن أُغيّر فذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه » قال : قلت يا رسول الله ، كيف يذلّ نفسه ؟ قال : « يتعرّض من البلاء لما لا يطيق » (26).
٧ ـ قال السرخسي : ذكر عن مسروق رحمه الله قال : بعث معاوية بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند ، فمرّ بها على مسروق رحمه الله ، قال : والله لو أنّي أعلم أنّه يقتلني لغرّقتها ، ولكنّي أخاف أن يعذّبني فيفتنني ، والله لا أدري أيّ الرجلين معاوية : رجل قد زُيّن له سوء عمله ، أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتّع في الدنيا ... ومسروق من علماء التابعين ، وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى ... وتبيّن أنّه لا بأس باستعمال التقيّة وأنّه يرخّص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه (27).
هذه أدلّة قليلة إرتأيت الإكتفاء بها لإثبات أن التقيّة أمر مشروع في الإسلام ، أقره الكتاب العزيز ، والتزم به الأنبياء عليهم السلام ، وأفتى بجوازها ـ بل بوجوبها أحياناً ـ الفقهاء ، ولقد أدرك الصحابة أيضاً مشروعيّة التقيّة ومارسوها ، كما فعل كلّ من أبي هريرة وابن عمر وغيرهما ، وأمّا قضية التابعي مسروق مع معاوية فهي تغني عن كلّ بيان ، حيث خشي مسروق أن يعذّبه معاوية فيفتنه عن دينه.
ونحن نسأل بدورنا إذا كان هذا موقف معاوية مع تابعي كبير ليس متّهماً بالتشيّع ، فما بالك بخصومه من شيعة أهل البيت عليهم السلام ، وكيف لا يتمسّكون بالتقيّة وهو يعذّبهم ويريد فتنتهم عن دينهم ، حتّى جعلها سنة لمن جاء بعده ؟!
وإذا كان شيخ الوهابيّة ينعى على الشيعة تمسّكهم بالتقيّة بعد كلّ ما ظهر لنا ، فما باله وأتباعه قد خالفوا عقيدتهم في هدم المشاهد المقدّسة ، ولماذا تركوا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر قائمة ولم يلحقوها بالأرض كما فعلوا بغيرها ؟؟ أليس ذلك تقيّة منهم ؟!!
الهوامش
1. رسالة في الردّ على الرافضة : ٢٠.
2. رسالة في الردّ على الرافضة : ٤٥.
3. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٤٣ ـ ٤٤.
4. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ / ٢٤٤ عن مصباح الساري ونزهة القاري : ١٢٣ ـ ١٢٤.
5. تاريخ الشيعة : ١٤٧ ، التقيّة في فقه أهل البيت ٥١ / ١.
6. رسالة في الردّ على الرافضة : ٢١.
7. سورة آل عمران : ٢٨.
8. تفسير المراغي ٣ / ١٣٦ ـ ١٣٧ ، والآية في سورة النحل : ١٠٦.
9. أحكام القرآن ٣ / ١١٧٧ ـ ١١٧٨.
10. الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٨١.
11. البحر المحيط ٢ / ٤٢٤.
12. التفسير الكبير ٨ / ١٤.
13. أحكام القرآن ٣ / ١٩٣.
14. زاد المسير ٤ / ٤٩٦.
15. روح المعاني ٣ / ١٢١.
16. الاُم ٦ / ١٦٢.
17. إحياء علوم الدين ٣ / ١٣٧.
18. المبسوط ٢٤ / ٤٥.
19. المحلى ٨ / ٣٢٩.
20. صحيح البخاري ٨ / ٣٨.
21. المصدر السابق ، باب المداراة مع الناس.
22. صحيح البخاري ١ / ٤١ ، كتاب العلم ، باب حفظ العلم.
23. فتح الباري ١ / ١٧٥.
24. صحيح البخاري ٨ / ٣٧ ـ ٣٨ كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس.
25. صحيح البخاري ٩ / ٢٨.
26. مجمع الزوائد ٧ / ٢٧٤ وقال : رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير باختصار ، وإسناد الطبراني في الكبير جيّد ورجاله رجال الصحيح غير زكريّا بن يحيى بن أيّوب الضرير ، ذكر الخطيب : روى عن جماعة وروى عنه جماعة ولم يتكلّم فيه أحد.
27. المبسوط ٢٤ / ٤٥ ، ٤٧.
مقتبس من كتاب : [ لاتخونوا الله والرسول ] / الصفحة : 153 ـ 168
التعلیقات