إثبات نبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتب السماويّة
عبّاس الذهبي
منذ 6 سنواتإثبات نبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتب السماويّة
تتبدّىٰ لنا عظمة وعلميّة الإمام الرضا عليه السلام وكونه حجة لله على عباده من خلال معرفته الكاملة بالكتب السماويّة ، وحفظه التامّ لمتونها واطّلاعه الدقيق على ما تتضمّنه من نصوص تثبت نبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم بحيث لا يسعهم انكارها والتنصل منها ، يتّضح لنا ذلك من المناظرة التي جرت بمحضر المأمون وبطلب منه بين الإمام الرضا عليه السلام وبين الجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي ، وقد طلب الجاثليق من الإمام الرضا عليه السلام بعد كلام بينهما أن يقيم شاهدي عدل على ما يقوله في إثبات نبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله : فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نُبوّة محمّد ممّن لا تنكرهُ النَّصرانيةُ ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.
قال الرِّضا عليه السلام : « الآن جئتَ بالنَّصَفة يا نصرانيُ ، ألا تقبل منّي العدل المقدم عند المسيح بن مريم ؟ ».
قال الجاثليق : ومن هذا العدلُ ؟ سمِّه لي. قال : « ما تقول في يوحنا الدَّيلمي ؟! » قال : بخٍ بخٍ ، ذكرت أحبَّ النّاس إلى المسيح.
قال : « فأقسمتُ عليك هل نطق الإنجيل أنَّ يوحنّا قال : إنَّ المسيح أخبرني بدينِ محمّد العربي وبشّرني به أنّه يكونُ من بعده فبشرتُ به الحواريين فآمنوا به ؟! » قال الجاثليقُ : قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح وبشّر بنبوّةِ رجلٍ وبأهل بيته ووصيّه ، ولم يُلخِّص متىٰ يكون ذلك ولم يُسمِّ لنا القوم فنعرفهم ، قال الرِّضا عليه السلام : « فإن جئناك بمن يقرءُ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته واُمته أَتُؤمن به ؟! » قال : سديداً.
قال الرِّضا عليه السلام لقسطاس الرُّوميِ : « كيف حفظك للسِّفر الثالث من الإنجيل ؟ ».
قال : ما أحفظني له ! ثمَّ التفت إلىٰ رأس الجالوت فقال له : « ألست تقرءُ الإنجيل ؟! » قال : بلى لعمري. قال : « فخُذ على السِّفر الثالث ، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته واُّمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي » وإن لم يكن فيه ذكرهُ فلا تشهدوا لي ، ثمّ قرأ عليه السلام السِّفر الثالث حتّى إذا بلغ ذكر النبيِ عليه السلام وقف ، ثمّ قال : « يا نصراني إنِّي أسألك بحقّ المسيح واُمّه أتعلم أنِّي عالم بالإنجيل ؟! » قال : نعم ، ثمَّ تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته واُمّته ، ثمّ قال : « ما تقول يا نصرانيُ ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذّبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذَّبت عيسىٰ وموسىٰ عليهما السلام ، ومتى أنكرت هذا الذِّكر وجب عليك القتل لأنَّك تكون قد كفرت بربِّك ونبيِّك وبكتابك ».
قال الجاثليق : لا اُنكرُ ما قد بان لي في الإنجيل ، وإنِّي لمقرّ به.
قال الرِّضا عليه السلام : « اشهدوا على إقراره ».
ثمّ قال عليه السلام : « يا جاثليق سل عمّا بدا لك » ، قال الجاثليق : أخبرني عن حواريي عيسىٰ بن مريم ، كم عِدّتُهم ؟ وعن علماء الإنجيل ، كم كانوا ؟
قال الرِّضا عليه السلام : « على الخبير سقطت ، أما الحواريّون فكانوا اثني عشر رجلاً ، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا ، وأمّا علماء النَّصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنا الأكبر بأج ، ويوحنا بقرقيسيا ، ويوحنا الدَّيلمي بزجان ، وعنده كان ذكرُ النَّبيَ صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكر أهل بيته واُمّته ، وهو الذي بشر اُمَّةَ عيسى وبني إسرائيل به » (1).
والملاحظ أنّه مع براعة اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه ، تمكّن إمامنا الرضا عليه السلام من إسكات رأس الجالوت ، وفي سكوته هذا إقرار منه بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بنبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
هذا ، وفي المجلس نفسه طلب رأس الجالوت من الإمام الرضا عليه السلام أن لا يحتج عليه إلّا بما في التوراة أو الإنجيل أو الزبور في إثبات نبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال عليه السلام : « شهد بنبوّته صلّى الله عليه وآله وسلّم موسىٰ بن عمران وعيسىٰ بن مريم وداود خليفةُ الله عزَّوجلَّ في الأرض ».
فقال له : أثبت قول موسى بن عمران.
قال الرِّضا عليه السلام : « هل تعلم يا يهودي أنَّ موسى أوصى بني إسرائيل ، فقال لهم : إنَّهُ سيأتيكُم نبيّ هو من إخوتكم فبه فصدِّقوا ، ومنه فاسمعوا ؟ فهل تعلمُ أنَّ لبني إسرائيل إخوةً غير ولد إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه السلام ؟ ».
فقال رأس الجالوت : هذا قول موسى لا ندفعهُ.
فقال له الرِّضا عليه السلام : « هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبيّ غير محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟! » قال : لا.
قال الرِّضا عليه السلام : « أو ليس قد صحَّ هذا عندكم ؟! » قال : نعم ، ولكنّي اُحبُّ أن تصحّحه لي من التوراة.
فقال له الرِّضا عليه السلام : « هل تنكر أنَّ التَّوراة تقولُ لكم : جاءَ النُّورُ من جبل طُور سيناء ، وأضاءَ لنا من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران ؟ ».
قال رأسُ الجالوت : أعرفُ هذه الكلمات ، وما أعرفُ تفسيرها.
قال الرِّضا عليه السلام : « أنا اُخبرك به ، أمّا قولهُ : جاءَ النّورُ من جبل طورِ سيناءَ ، فذلك وحيُ الله تبارك وتعالى الذي أنزلهُ على موسىٰ عليه السلام على جبل طور سيناء ، وأمّا قوله : وأضاء لنا من جبل ساعير ، فهو الجبل الّذي أوحى الله عزَّوجلَّ إلى عيسى بن مريم عليه السلام وهو عليه ، وأمّا قوله : واستعلن علينا من جبل فاران ، فذلك جبل من جبال مكةَ بينهُ وبينها يوم ، وقال شعيا النّبيّ عليه السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة : رأيت راكبين أضاء لهما الأرض ، أحدهما راكب على حمار والآخر على جمل ، فمن راكبُ الحمارِ ومن راكبُ الجملِ ؟ ».
قال رأس الجالوتِ : لا أعرفهما ، فخبِّرني بهما.
قال عليه السلام : « أمّا راكبُ الحمار فعيسىٰ بنُ مريمَ ، وأمّا راكبُ الجمل فمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أتنكر هذا من التَّوراة ؟! » قال : لا ما اُنكرهُ.
ثمّ استعرض الإمام الرضا عليه السلام نصوصاً أخرى من التوراة والإنجيل تبشّر بنبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ثمّ التفت عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال : « يا يهودي أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات الَّتي اُنزلت علىٰ موسىٰ بن عمران عليه السلام ، هل تجدُ في التَّوراة مكتوباً نبأ محمد واُمَّته : « إذا جاءت الاُمّةُ الأخيرةُ أتباعُ راكبِ البعيرِ يُسبِّحونَ الرَّبَّ جدّاً جدّاً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجُدد ، فليفرغ بنو إسرائيلَ إليهم وإلى ملكهم لتطمئنَّ قلوبُهم ، فإنَّ بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الاُمم الكافرة في أقطار الأرض » هكذا هو في التوراة مكتوب ؟! ».
قال رأس الجالوت : نعم إنّا لنجده كذلك.
ثمّ قال للجاثليق : « يا نصرانيُّ كيف علمكَ بكتابِ شعيا ؟ » قال : أعرفُهُ حرفاً حرفاً.
قال الرِّضا عليه السلام لهما : « أتعرفان هذا من كلامه : « ياقوم إنِّي رأيتُ صورةَ راكبِ الحمار لابساً جلابيب النُّور ، ورأيتُ راكبَ البعيرِ ضوؤهُ مثلُ ضوء القمر » » ؟ فقالا : قد قال ذلك شعيا.
قال الرِّضا عليه السلام : « يا نصراني ، هل تعرفُ في الإنجيل قول عيسىٰ : إنِّي ذاهب إلىٰ ربِّي ورَبِّكم ، والفارقليطا جاء هو الَّذي يشهد لي بالحقِّ كما شهدتُ له ، وهو يُفسر لكم كلَّ شيءٍ ، وهو الَّذي يُبدي فضائح الاُمم ، وهو الَّذي يكسر عمود الكفر ؟ ».
فقال الجاثليـق : ما ذكرت شيئاً ممّا في الإنجيل إلّا ونحن مقرُّون به.
فقال : « أتجدُ هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليقُ ؟! » قال : نعم (2).
إن قراءة متمعنة ما بين سطور هذه المناظرة تكشف عن الأفق المعرفي الرَّحب الذي يتمتّع به الإمام الرضا عليه السلام ، ويهمّنا هنا الإشارة إلى أن إمامنا عليه السلام حاول إصلاح الفكر والمقولات والرؤى لأقطاب أهل الأديان والملل من خلال الحجج القويّة المجلجلة التي قرعت آذانهم وأفحمتهم أيّما إفحام. ومن السهل أن نكتشف أن الإمام عليه السلام قد اتّبع المنهج النقلي مع أهل الكتاب ممثّلين بالجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي ، فقد احتجّ على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزَّبور بزبورهم لتكون الحجّة عليهم أقوم ، ولقد وجدنا كيف أن الجاثليق رفض الاحتكام إلى نصوص القرآن ، قائلاً منذ البداية : كيف اُحاجّ رجلاً يحتجُ عليَّ بكتاب أنا منكره ، وبنبيٍّ لا أُؤمنُ به ؟!
لذلك وقف إمامنا معهم على أرض مشتركة من الفهم ، حيث خاطبهم بلغتهم وأورد نصوصاً من كتبهم لا يسعهم إنكارها.
الهوامش
1. التوحيد / الصّدوق : 417 وما بعدها ، باب 65.
2. التوحيد : 417 ـ 440 ، باب 6.
مقتبس من كتاب : [ الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ ] / الصفحة : 88 ـ 93
التعلیقات