الإختيار المعتزلي
العدل الإلهي
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 321 ـ 333
(321)
مناهج الإختيار
(1)
الإختيار المعتزلي
لقد وقفتَ في البحوث السابقة على مناهج الجبر و اختلافها ، فحان
وقت البحث عن مناهج الإختيار باختلافها ، فأكثر المعتزلة إلاَّ من شذّ
ـ كالنجار و أبي الحسين البصري (1) ـ يقولون بأنَّ أفعال العبد واقعة بقدرة
العبد وحدها على سبيل الإستقلال بلا إيجاب بل باختيار (2).
ولبُ مذهبهم و مَن حذا حذوهم أنَّ الله تعالى أوجد العباد و أقدرهم
على أفعالهم ، و فوّض إليهم الإِختيار . فهم مستقلون بإيجاد أفعالهم على وِفْقِ
مشيئتهم ، و طبق قدرتهم . و أنَّ اللّه أراد منهم الإيمان و الطاعة ، وكره منهم
الكفر و المعصية . قالوا : و على هذا يترتب أمور:
1ـ فائدة التكليف بالأوامر و النواهي ، و فائدة الوعد و الوعيد.
2ـ إستحقاق الثواب و العِقاب.
3ـ تنزيه اللّه سبحانه عن إيجاد القبائح و الشرور من أنواع الكفر
و المعاصي و المساوئ ...
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ حاشية شرح المواقف : لعبد الحكيم السيالكوتي ، ج 2، ص 146.
(2) و لعل قولهم بلا إيجاب إشارة إلى أنَّ الفعل حال الصدور لا يتصف بالوجوب أيضاً ، و القاعدة الفلسفية
( الشيء ما لم يجب لم يوجد ) غير مقبولة عندهم.
________________________________________
(322)
قال السيّد الشريف في ( شرح المواقف ) : « إنّ المعتزلة استدلوا
بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد و هو أنّه لولا استقلال العبد بالفعل على
سبيل الإختيار لبطل التكليف ، و بطل التأديب الذي ورد به الشرع ، وارتفع
المدح و الذم ؛ إذ ليس للفعل استناد إلى العبد أصلاً ، و لم يبق للبعثة فائدة ؛
لأنّ العباد ليسوا موجدين لأفعالهم ، فمن أين لهم استحقاق الثواب
و العِقاب » (1).
هذه هي النتائج المترتبة على أصلهم : استقلال العبد في أفعاله ،
و عدم وجود الصلة بينه و بين اللّه سبحانه.
ولأجل أن نقف على نصوص المعتزلة في هذا الباب نقتطف من شرح
الأصول الخمسة لقاضي القُضاة عبد الجبار بن أحمد شيخ المعتزلة في
عصره المتوفى عام 415 ، عدة مقاطع :
يقول : قد عُلم عقلاً و سمعاً فساد ما تقوله المجبرة الذين ينسبون أفعال
العباد إلى اللّه تعالى ، و جملة القول في ذلك أن تصرفاتنا محتاجة إلينا ، و متعلقة
بنا لحدوثها.
و عند جَهْم بن صفوان أنّها لا تتعلق بنا ، و يقول : إنّما نحن كالظروف لها
حتى إن خُلق فينا كان ، و إن لم يخلق لم يكن.
و عند ضرار بن عمرو : أنّها متعلقة بنا و محتاجة إلينا ، لكن جهة الحاجة
إنّما هو الكسب . و قد شارك جهماً في المذهب وزاد عليه في الإحالة
( الكسب ) . وما ذكره جهم على فساده معقول ، وما ذكره هو غير معقول
أصلاً .
فأمَّا المتخلفون من المجبرة فقد قسّموا التصرفات قسمين ، فجعلوا
أحد القسمين متعلقاً بنا و هو المباشر ، و القسم الآخر غير متعلق بنا و هو
المتولد ( كالإِحراق المتولد من إلقاء القرطاس في النار( .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف : ج 8 ، ص 154. ولاحظ الأسفار : ج 6، ص 370.
________________________________________
(323)
ثمّ استدل القاضي على مذهبه بوجوه نشير إلى بعضها :
قال : و الذي يدل على ذلك :
الأوّل: أن نفصل بين المحسن و المسيء ، و بين حسن الوجه
و قبيحه ، فنحمد المحسن على إحسانه و نذم المسيء على إساءته . و لا
تجوز هذه الطريقة في حسن الوجه و قبيحه ، و لا في طول القامة و قصرها ،
حتى لا يحسن منا أن نقول للطويل لِمَ طالت قامتك و لا للقصير لِمَ قصرت .
كما يحسن أن نقول للظالم لِمَ ظلمت و للكاذب لِمَ كَذِبْت ، فلولا أنَّ أحدهما
متعلق بنا و موجود من جهتنا بخلاف الآخر ، و إلاَّ لما وجب هذا الفصل ،
و لكان الحال في طول القامة و قصرها كالحال في الظلم و الكذب . و قد عُرف
فساده .
الثاني : إنَّه يلزم قبح مجاهدة أهل الروم و غيرهم من الكفار ؛ لأنَّ للكفرة
أن يقولوا : إن كان الجهاد على ما خلق فينا ، و جعلنا بحيث لا يمكننا مفارقته
و الإِنفكاك عنه ، فذلك جهاد لا معنى له.
الثالث : ما ثبت من أنَّ العاقل لا يشوّه نفسه كأن يعلق العظام في
رقبته . و إذا وجب ذلك في الواحد منَّا فلأَن يجب في حق القديم تعالى و هو
أحكم الحاكمين أولى و أحرى . و على مذهبهم ( المجبرة ) إنَّه تعالى شوّه
نفسه ، وسوّأ الثناء عليه ، و أراد منهم كل ذلك . تعالى عمَّا يقولون .
الرابع: إنَّ في أفعال العباد ما هو ظلم و جور ، فلو كان تعالى خالقاً
لها لوجب أن يكون ظالماً و جائراً تعالى اللّه عن ذلك .
الخامس: الاستدلال بِعِدَّة من الآيات منها قوله : { مَا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ }(1) . فقد نفى سبحانه التفاوت عن خلقه ، و ليس المراد
التفاوت في الخلق لوجوده فيه ، بل المراد التفاوت من جهة الحكمة . إذا
ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة اللّه تعالى لا شتمالها على
التفاوت وغيره .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الملك : الآية 3.
________________________________________
(324)
ثمّ إنَّ القاضي يرد على أدلة الأشاعرة التي نقلناها عنهم (1).
و أنتَ خبير بأنَّ هذه الدلائل على فرض تماميتها ترد القول بالجبر أي
ارتباط أفعال العباد باللّه سبحانه ، و انقطاعها عن العبد ، و لا تثبت العكس ، و أنَّ
فعل العبد مخلوق للعبد لا صلة له بنحو من الأنحاء باللّه سبحانه كما هو
مدّعى المعتزلة ، ولأجل ذلك هنا منهج ثالث و هو الأمر بين الأمرين ، كما
سيوافيك .
و في الحقيقة إنّ هذه الطائفة تنكر التوحيد الأفعالي الذي ركّز عليه
النقل و العقل ، و هو أنَّه لا خالق إلاَّ اللّه سبحانه.
توضيح ذلك : إنَّ دافع المعتزلة إلى القول بالتفويض هو الحفاظ على
وصف من أوصافه سبحانه ، و هو « العدل » . فلمّا كان العدل عندهم هو
الأصل و الأساس في سائر المباحث ، عمدوا إلى تطبيق مسألة أفعال العباد
عليه ، فخرجوا بهذه النتيجة : إنَّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه
ينافي عدله . و لجأوا بعدها إلى القول بأنّها من صنع العبد ، و ليس للّه فيها أي
صنع . و لمَّا كان الأصل عند الأشاعرة هو التوحيد الأفعالي ، و أنّه لا مؤثر
إستقلالاً و لا تبعاً غيره سبحانه ، عمدوا إلى تطبيق هذه المسألة على
أساسهم . فجعلوا أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه ، و ليس للعبد فيها صنع .
فالطائفتان لم تتدبرا في مسألة أفعال العباد تدبراً عميقاً ، بل جعلتا
النظر فيها فرعاً للنظر في الأصل الذي تبنتاه . و قد غفلتا عن أنَّ هناك طريقاً
ثالثاً يجتمع فيه الأصلان : التوحيد الأفعالي و وصف العدل ، مع القول
بالإِختيار ، كما سيتضح ذلك عند البحث عن المنهج الثالث للإِختيار.
فلنعطف عنان الكلام إلى الأصل الفلسفي الذي بُني عليه القول بتفويض
أفعال العباد إلى أنفسهم .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ شرح الأصول الخمسة : ص 332 و 336 و 344 و 345 و 355 و 372.
________________________________________
(325)
حاجة المُمْكِن إلى العِلّة تنحصر في حُدوثه
قالوا : إنَّ سِرّ حاجة الممكن إلى الواجب و المعلول إلى العلّة هو
حدوثه الذي يفسّر بالوجود المسبوق بالعدم و إنقلاب العدم إليه . فإذا حدث
الممكن ترتفع الحاجة ؛ لأنَّ البقاء شيء و الحدوث شيء آخر ؛ إذ الحدوث
لا ينطبق إلاَّ على الوجود الأوّل القاطع للعدم . و أمَّا الوجودات اللاحقة فلا
تتصف بالحدوث بل تتصف بالبقاء ، فعندئذٍ يكون الشيء في بقاء ذاته غير
محتاج إلى العلّة . فإذا كان هذا حال الذات ، فكيف حال الأفعال ، فلا
يحتاج في أعماله إلى العِلّة.
ولأجل ذلك يفعل العباد أو يتركون بقدرة و إرادة من أنفسهم ، و لا صلة
في هذه الحال بين الذات و الأفعال ، و الواجب الحكيم سبحانه.
يقول الشيخ الرئيس حاكياً عقيدة المفوضة : « و قد يقولون : إنَّه إذا أوجد
فقد زالت الحاجة إلى الفاعل حتى أنَّه لو فُقِدَ الفاعل جاز أن يبقى المفعول
موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء و قوام البناء . و حتى أنّ كثيراً منهم لا
يتحاشى أن يقول : لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضرّ عدمه وجودَ
العالم ؛ لأنَّ العالم عندهم إنّما احتاج إلى الباري تعالى في آن أوجده ( أخرجه
من العدم إلى الوجود ) حتى كان بذلك فاعلاً ، فإذا جعل و حصل له الوجود
من العدم ، فكيف يخرج بعد ذلك الوجود عن العدم حتى يحتاج إلى
الفاعل» (1).
تحليل هذا الأصل و نقده
إنَّ هذا الأصل الذي بنى عليه القوم نظريتهم في أفعال العباد ، بل في
أفعال و آثار كل الكائنات ، باطل لوجوه نشير إليها :
الوجه الأوّل : إنَّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الإِمكان أي عدم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإشارات : للشيخ الرئيس، ج 3، ص 68. لاحظ كشف المراد : الفصل الأوّل ،
المسألة 29، و المسألة 44. و الأسفار : ج 2، ص 203 ـ 204.
________________________________________
(326)
كون وجوده نابعاً من ذاته ، و كون الوجود و العدم بالنسبة إلى ذاته متساويان ،
وهذا المِلاك موجود في حالتي البدء و البقاء ، و أمَّا الحدوث فليس ملاكاً
للحاجة ؛ فإنّه عبارة عن تحقق الشيء بعد عدمه ، و مثل هذا أمر انتزاعي ينتزع
بعد اتصاف الماهية بالوجود ، و مِلاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا
بعده.
إنَّ الحدوث أمر منتزع من الشيء بعد تحققه ، و يقع في الدرجة
الخامسة من محل حاجة الممكن إلى العِلّة ؛ و ذلك لأنّ الشيء يحتاج أوّلاً . ثمّ
تقترنه العلة ثانياً ، فتوجده ثالثاً ، فيتحقق الوجود رابعاً ، فينتزع منه وصف
الحدوث خامساً . فكيف يكون الحدوث مناط الحاجة الذي يجب أن يكون
في المرتبة الأولى ، و قد اشتهر قولهم : الشيء قُرّرَ ( تُصُوِّر ) ، فاحتاج ،
فأوجد ، فُوجِد ، فحَدَث .
وبعبارة ثانية : ذهب الحكماء إلى أنَّ مناط الحاجة هو كون الشيء
( الماهية ) متساوي النسبة إلى الوجود و العدم ، و أنَّه بذاته لا يقتضي شيئاً
واحداً من الطرفين ، و لا يخرج عن حد الإِستواء إلاَّ بعلة قاهرة تجره إلى أحد
الطرفين ، و تخرجه عن حالة اللاإقتضاء إلى حالة الإِقتضاء ، فإِذا كان مناط
الحاجة هو ذاك ( إنّ الشيء بالنظر إلى ذاته لا يقتضي شيئاً ) فهو موجود في
حالتي الحدوث و البقاء . و القول باستغناء الكون في بقائه عن العلّة دون
حدوثه ، تخصيص للقاعدة العقلية التي تقول : إِنَّ كل ممكن مادام ممكناً
بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته يحتاج إلى علّة ، و تخصيص
القاعدة العقلية مرفوض جداً.
و يشير الحكيم المتألّه الشيخ محمّد حسين الأصفهاني في منظومته إلى
هذا الوجه بقوله :
و الإِفتقَارُ لازمُ الإِمكَانِ * منْ دُون حَاجَة إلى البُرْهَانِ
لاَ فَرْقَ ما بينَ الحُدوثِ والبَقا * في لازمِ الذَّات ولَنْ يَفْتَرِقا
الوجه الثاني : إنَّ القول بأنَّ العالم المادي بحاجة إلى العلّة في
________________________________________
(327)
الحدوث دون البقاء ، يشبه القول بأنَّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلة دون
الأبعاد الأخرى ؛ فإنَّ لكل جسم بعدين ، بعداً مكانياً و بعداً زمانياً ، فامتداد
الجسم في أبعاده الثلاثة ، يشكل بعده المكاني . كما أنَّ بقاءه في عمود
الزمان يشكل بعده الزماني . فالجسم باعتبار أبعاضه ، ذو أبعاد مكانية ،
وباعتبار استمرار وجوده مدى الساعات و الأيام ذو أبعاد زمانية . فكما أنَّ حاجة
الجسم إلى العلّة لا تختص ببعض أجزائه و أبعاضه بل الجسم في كل بعد من
الأبعاد المكانية محتاج إلى العلّة ، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده
الزمانية ، حدوثاً و بقاء من غير فرق بين آن الحدوث و آن البقاء و الآنات
المتتالية ، فالتفريق بين الحدوث و البقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض
أبعاضه عن العلّة . فالبعد الزماني و المكاني وجهان لعملة واحدة ، و بعدان
لشيء واحد فلا يمكن التفكيك بينهما.
وتظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنَّ العالم في ظل الحركة
الجوهرية ، في تبدل مستمر ، و تغيير دائم نافذين في جوهر الأشياء و طبيعة
العالم المادي ، فذوات الأشياء في تجدد دائم و اندثار متواصل . و العالم
حسب هذه النظرية أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر ، فالناظر الساذج
يتصور أنَّ هناك صورة منعكسة على الماء ، و هي باقية ثابتة ، و الناظر الدقيق على
أنَّ الصور تتبدل حسب جريان الماء و سيلانه ، فهناك صور مستمرة.
و على ضوء هذه النظرية : العالم المادي أشبه بعين نابعة من دون
توقف حتى لحظة واحدة . فإذا كان هذا حال العالم المادي ، فكيف يصح
لعاقل أن يقول : إنَّ العالم و منه الإِنسان إنّما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون
بقائه ، مع أنَّه ليس هنا أي بقاء و ثبات بل العالم في حدوث بعد حدوث ،
و زوال بعد زوال ، على وجه الإتصال و الإِستمرار بحيث يحسبه الساذج
بقاءً ، و هو في حال الزوال و التبدل و السيلان : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا
جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ }(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النمل: الآية 88. البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل ، و قد أشبع الأستاذ الكلام =
________________________________________
(328)
الوجه الثالث : إنَّ القول بحاجة الممكن إلى العلة في حدوثه دون بقائه
غفلة عن واقعية المعلول و نسبته إلى علّته ، فإن وزانه إليها وزان المعنى الحرفي
بالنسبة إلى المعنى الإِسمي . فكما أنَّه ليس للأوّل الخروج عن إطار الثاني في
المراحل الثلاث : التصوّر ، و الدّلالة ، و التحقّق ، فهكذا المعلول ليس له
الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث و البقاء (1).
فإذا كان هذا حال المقاس عليه فاستوضح منه حال المقاس ؛ فإنَّ
المفاض منه سبحانه هو الوجود ، و هو لا يخلو عن إحدى حالتين : إمَّا وجود
واجب أو ممكن ، و الأوّل خلف ؛ لأنّ المفروض كونه معلولاً ، فثبت الثاني ،
و ما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمَّا هو عليه ( الإمكان ) ، فكما هو ممكن
حدوثاً ، ممكن بقاءً ، و مثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من
الحالات ؛ لأنّ الإِستغناء آية إنقلابه عن الإِمكان إلى الوجوب ، و عن الفقر
إلى الغنى .
نعم ، ما ذكرنا من النسبة إنّما يجري في العلل ، و المعاليل الإلهية لا
الفواعل الطبيعية ، فالمعلول الإلهي بالنسبة إلى علته هو ما ذكرنا ، و المراد
من العلّة الإلهية ، مفيض الوجود و معطيه كالنفس بالنسبة إلى الصور التي
تخلقها في ضميرها ، و الإِرادة التي توجدها في موطنها ، ففي مثل هذه
المعاليل ، تكون نسبة المعلول إلى العلّة ، كنسبة المعنى الحرفي إلى
الإِسمي .
و أمَّا الفاعل الطبيعي ، كالنار بالنسبة إلى الإِحراق ، فخارج عن إطار
بحثنا ؛ إذ ليس هناك عليّة حقيقية ، بل حديث العلية هناك لا يتجاوز عن
تبديل أجزاء النار إلى الحرارة . و ذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائية
ــــــــــــــــــــــــــــ
= فيها في بعض محاضراته. لاحظ كتاب « اللّه خالق الكون » : ص 525 ـ 555 تجد فيه
بغيتك.
(1) سيوافيك توضيح هذا التشبيه عند البحث عن المنهج الثالث للإِختيار ، و هو القول بالأمر بين
الأمرين.
________________________________________
(329)
و الكيميائية ، فالعليّة هناك تبدل المادة إلى غيرها في ظل شرائط و خصوصيات
توجب التبدّل ، و ليس هناك حديث عن الإيجاد و الإِعطاء.
وعلى ذلك فالتفويض أي استقلال الفاعل في الفعل يستلزم إنقلاب
الممكن و صيرورته واجباً في جهتين:
الأولى : الإِستغناء في جانب الذات من حيث البقاء .
الثانية : الإِستغناء في جانب نفس الفعل مع أنَّ الفعل ممكن مثل
الذات .
الوجه الرابع: إنَّ القول بالتفويض يستلزم الشرك ، أي الإِعتقاد بوجود
خالقين مستقلين أحدهما العلّة العليّا التي أحدثت الموجودات و الكائنات
و الإِنسان ، و الأخرى الإِنسان بل كل الكائنات فإنّها تستقل بعد الخلقة
و الحدوث في بقائها أوّلاً ، و تأثيراتها ثانياً.
فلو قالت المعتزلة بالتفصيل بين الكائنات و الإِنسان ، و نسبت آثار
الكائنات إلى الواجب بحجّة أنّها لا تنافي العدل دون الإِنسان ، يكون التفصيل
بلا دليل .
ثمّ إنَّ القوم استدلوا على المسألة العقلية ( غناء الممكن في بقائه عن
العلّة ) بالأمثلة المحسوسة ، منها : بقاء البناء و المصنوعات بعد موت البنّاء
و الصانع ، ولكن التمثيل في غير محلّه ؛ لأنَّ البنّاء و الصانع فاعلان للحركة أي
ضم بعض الأجزاء إلى بعض ، و الحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلاً عن
موتهما . و أمَّا بقاء البناء و المصنوعات فهو مرهونٌ للنظم السائد فيهما ؛ فإنّ
البناء يبقى بفضل القوى الطبيعية الكامنة فيه ، التي أودعها اللّه سبحانه في
صميم الأشياء ، فليس للبنَّاء و الصانع فيها صنع ، و أمَّا الهيئة و الشكل فهما نتيجة
اجتماع أجزاء صغيرة ، فتحصل من المجموع هيئة خاصة ، و ليس لهما فيها
أيضاً صنع .
________________________________________
(330)
تمثيلان لإِيضاح الحقيقة
الحق أنَّ قياس المعقول بالمحسوس الذي ارتكبته المعتزلة قياس غير
تام ، ولو أراد المحقق ارتكاب لهذا القياس و التمثيل فعليه أن يتمسك بالمثالين
التاليين :
الأول: إنَّ مَثَلَ الموجودات الإِمكانية بالنسبة إلى الجواب ، كمثل
المصباح الكهربائي المضيء ، فالحس الخاطئ يزعم أنَّ الضوء المنبعث
من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأوّل ، و يتصور أنَّ المصباح إنَّما يحتاج
إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء ، دون استمراره .
و الحال أنَّ المصباح فاقد للإِضاءة في مقام الذات محتاج في حصولها
إلى ذلك المولد في كل لحظة ؛ لأنَّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو
استضاءَة بعد استضاءَة ، و استنارة بعد استنارة من المولد الكهربائي . أفلا
ينطفئ المصباح إذا انقطع الإِتصال بينه و بين المولد؟ فالعالم يشبه هذا
المصباح الكهربائي تماماً ، فهو لكونه فاقداً للوجود الذاتي يحتاج إلى العلّة
في حدوثه وبقائه ؛ لأنّه يأخذ الوجود آناً بعد آن ، و زماناً بعد زمان .
الثاني: نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعتها المُحرقة
الشديدة . فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائماً بتقطير الماء عليها ،
و إفاضته بما يشبه الرذاذ ، فإنّ هذا الأمر يتوقف على استمرار تقاطر الماء
عليها ولو انقطع لحظة ساد عليها الجفاف وصارت يابسة.
فمثل الممكن الذي يتصف بالوجود باستمرار ، مثل هذه الأرض
المتصفة بالرطوبة دائماً ، فكما أنَّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء
عليها آناً بعد آن ، فهكذا الأوّل لا يتحقق إلاَّ باستمرار إفاضة الوجود عليه آناً
بعد آن . و لو انقطع الفيض و الصلة بينه و بين المفيض لا نعدم و لم يبق منه
أثر .
***
________________________________________
(331)
التفويض في الكتاب و السنَّة
إنَّ الذكر الحكيم يَردّ التفويض بحماس و وضوح :
1ـ يقول سبحانه: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ}(1).
فالآية نصّ في كون الفقر ثابت للإِنسان في جميع الأحوال ، فكيف
يستغني عنه سبحانه بعد حدوثه ، و في بقائه . أو كيف يستغنى في فعله عن
الواجب مع سيادة الفقر عليه .
2 ـ و يقول سبحانه: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }(2) . فاللّه تعالى ينسب الحسنة الصادرة من العبد إليه
تعالى . فلو لم تكن هناك صلة بين الخالق و فعل العبد ، فما معنى هذه
النسبة ؟
3 ـ و يقول سبحانه: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللَّهِ }(3).
4 ـ و يقول سبحانه: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
اللَّهِ }(4).
5 ـ و يقول سبحانه: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ }(5).
6 ـ و يقول سبحانه : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا
مُؤَجَّلاً }(6).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة فاطر: الآية 15.
(2) سورة النساء: الآية 79.
(3) سورة البقرة: الآية 102.
(4) سورة البقرة: الآية 249.
(5) سورة البقرة: الآية 251.
(6) سورة آل عمران: الآية 145.
________________________________________
(332)
7 - و يقول سبحانه: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ }(1).
إلى غير ذلك من الآيات التي تقيد فعل الإِنسان بإذنه ، و المراد منه
مشيئته سبحانه . فيكون المراد أنَّ أفعال العباد واقعة في إطار مشيئته تعالى ، فكيف
تستقل عنه سبحانه؟ و ما ورد في الذكر الحكيم ممّا يفنّد هذه المزعمة أكثر
من ذلك . و قد ذكرنا بعض الآيات عند البحث عن الجبر الأشعري فلاحظ.
و أمَّا السنَّة : فقد تضافرت الروايات على نقد نظرية التفويض بصور
مختلفة نذكر بعضها :
1ـ روى الصدوق في ( الأمالي ) عن هشام قال : قال أبو عبداللّه
ـ عليه السَّلام ـ : « إنَّا لا نقول جبراً و لا تفويضاً » (2).
2ـ روى الصدوق في ( الأمالي ) أيضاً عن حريز عن أبي عبداللّه
ـ عليه السَّلام ـ قال : « الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنَّ اللّه
عزّوجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظَلَم اللّه عزّوجلّ في حكمه ،
و هو كافر . و رجل يزعم أنَّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا وهّن اللّه في سلطانه ،
فهو كافر . و رجل يقول : إنَّ اللّه عزّوجلّ كلّف العباد ما يطيقون و لم يكلفهم ما
لا يطيقون ، فإذا أحسن حمد اللّه ، و إذا أساء استغفر اللّه ، فهذا مسلم
بالغ » (3).
3ـ روى الطّبرسي في ( الإِحتجاج ) عن أبي حمزة الثمالي أنَّه قال :
قال أبو جعفر للحسن البصري : « إِيَّاك أن تقول بالتفويض ؛ فإنَّ اللّه عزّوجلّ
لم يفوّض الأمر إلى خلقه وَهْناً منه و ضعفاً ، و لا أجبرهم على معاصيه
ظلماً » (4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يونس: الآية 100.
(2) البحار : ج 5، كتاب العدل و المعاد ، ص 4، ح 1.
(3) المصدر السابق : ص 10، ح 14.
(4) المصدر السابق : ح 26.
________________________________________
(333)
4 ـ روى الصدوق في ( توحيده ) ، و البرقي في ( محاسنه ) عن
هشام بن سالم عن أبي عبداللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: « اللّه تبارك و تعالى
أكرم من أن يكّلف الناس ما لا يطيقون ، و اللّه أعَزّ من أن يكون في سلطانه ما
لا يريد » (1).
5 ـ روى الصدوق في ( توحيده ) عن حفص بن قرط : عن أبي
عبداللّه ـ عليه السَّلام ـ قال : قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله ـ : « مَن
زعم أنَّ اللّه تبارك و تعالى يأمر بالسوء و الفحشاء ، فقد كذب على اللّه . و مَن
زعم أنَّ الخير والشر بغير مشيّة الله ، فقد أخرج الله من سلطانه . ومَن زعم
أنَّ المعاصي بغير قوّة اللّه ، فقد كذب على اللّه ، و مَن كذب على اللّه أدخله
اللّه النار » (2).
6 ـ روى الصدوق في ( عيون أخبار الرضا ) عن الرضا ـ عليه السَّلام ـ
أنّه قال : « مساكين القدرية ، أرادوا أن يصفوا اللّه عزَّوجلَّ بعدله ، فأخرجوه
من قدرته و سلطانه » (3) . و الحديث يشير إلى ما ذكرناه في صدر البحث من
أنَّ المعتزلة لمّا جعلوا العدل أصلاً فرّعوا القول بالتفويض عليه ، غافلين عن
الطريق الذي يجمع بين العدل و وقوع الفعل في سلطانه سبحانه.
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق : ح 64. و التَّوحيد : لصدوق باب نفي الجبر و التفويض ، ص 360،
ح 4.
(2) المصدر السابق: ح 85 ، و التوحيد : ص 359، ح 2.
(3) المصدر السابق : ص 54، ح 93.
التعلیقات