السيرة



إمامة الإمام الحسين ( عليه السلام )

صَرَّح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالنص على إمامة الإمام الحسين وإمامة أخيه الحسن ( عليهما السلام ) من قَبله ، بقوله ( صلى الله عليه وآله ) : ( اِبناي هَذَان إمَامان قامَا أو قَعدا ) .
ودلَّت وصيَّة الحسن ( عليه السلام ) إليه على إمامته ، كما دلَّت وصية الإمام علي ( عليه السلام ) على إمامته ، بحسب ما دلَّت وصية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على إمامته من بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) .

Read more...
 

نشائته

كان ذلك الفجر أبهى فجر، من السنة الثالثة للهجرة، حيث استقبل بأصابع من نور، وليداً ما أسعده، وما أعظمه. في الثالث من شعبان غمر بيت الرسالة نور، سنيٌّ متألقٌ، إذ جاء ذلك الوليد المبارك واصطفاه اللـه ليكون امتداداً للرسالة، وقدوة للأمة، ومنقذاً للإنسان من أغلال الجهل والعبودية.
ولا ريب أننا سوف ننبهر إذا لاحظنا بيت الرسالة وهو يستقبل الوليد الجديد، فهذا البيت البسيط الذي يستقر على مرفوعته الأولى الرسول، الجد الرؤوم، والوالد الحنون.
وأتاه الخبر: أنه وُلِدَ لفاطمة عليه السلام وليد، فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يغمره مزيج من السرور والحزن، ويطلب الوليد بكل رغبة ولهفة!
فماذا دهاك يا رسول اللـه! بأبي أنت وأمي، هل تخشى على الوليد نقصاً أو عيباً؟!
كلا.. إن تفكير صاحب الرسالة يبلغ به مسافات أوسع وأبعد مما يفكّر فيه أي رجل آخر، ومسؤوليته أعظم من مسوؤلية أب أو واجبات جد، أو وظائف قائد.. إنه مكوِّن أمة، وصانع تاريخ، ونذير الخالق تعالى إلى العالمين.
إنه يذهب بعيداً في تفكيره الصائب فيقول: لابد للمنية أن توافيه في يوم من الأيام، ولابد لجهوده أن تفسح أمامها مجالات أوسع مما بلغتها اليوم، فسوف تكون هناك أمة تدعى ( بالأمة الإسلامية ) تتخذ من شخص الرسول أسوة وقدوة صالحتين.
ولابد لهذه الأمة من هداة طاهرين، وقادة معصومين يهدون الأمة إلى الصراط المستقيم.. إلى اللـه العزيز الحكيم.. وسوف لايكونون - كما أخبرته الرسالة مراراً - إلاّ ذريته هؤلاء، علي ابن عمه، وولداه عليه السلام، ثم ذُرِّيتهم الطيبة من بعدهم!
ولكن هل تجري الأُمور كما يريدها الرسول في المستقبل؟ إن وجود العناصر المنحرفة بين المسلمين نذيرٌ لا يرتاح له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على مستقبل الأمة.
وإن الوحي قد نزل عليه غير مرة يخبره بأن المصير الذي رآه الحق المتمثل في شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو نفس المصير الذي يترقبه الحق المتمثل في آله عليه السلام، وأن العناصر التي قاومت الرسالة في عهده سوف تكون نفس العناصر التي تقاوم - بنفس العنف والإصرار - امتداد الرسالة في عهد أبنائه الطيبين صلوات اللـه عليه وعليهم.
فقد علم أنه سوف تبلغ الموجة مركزها الجائش، وسوف يقف أنصار الحق والباطل موقفهم الفاصل في عهد الإمام الحسين عليه السلام، هذا الوليد الرضيع الذي يُقلِّب وجهه فيظهر مستقبلُه على ملامح الرسول وهو يضطرب على ساعديه المباركتين.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقي نظرةً على المستقبل البعيد، ويعرج فيه فيلقي نظرة أخرى على هذا الرضيع الميمون فيهزه البُشر حيناً، ويهيج به الحزن أحياناً، ولا يزال كذلك حتى تنهمر من عينيه الوضيئتين دموع، ودموع... يبكي رسول اللـه صلى الله عليه وآله وسلم.. وما أشجعه، وهو الذي يلوذ بعريشه أشجع قريش وأبسلها، علي بن أبي طالب عليه السلام حينما يشتد به الروع، فيكون أقرب المحاربين إلى العدو، ثم لايفل ذلك من عزمه ومضائه قدر أنملة، لكنه الآن يبكي وحوله نسوة في حفلة ميلاد.. فما أعجبه من حادث!.
تقول أسماء فقلت: فداك أبي وأمي ممَّ بكاؤك؟! قال: على ابني هذا؟
فقلت: إنه ولد الساعة يا رسول اللـه؟!
فقال: " تقتله الأمة الباغية من بعدي. لا أنالهم اللـه شفاعتي ".
إن القضية التي تختلج في صدر رسول اللـه صلى الله عليه وآله وسلم ليست عاطفة إنسانية أو شهوة بشرية حتى تغريه عاطفة إعلاء ذكره وبقاء أثره في آله.
كلا.. بل هي قضية رسول، اصطفاه اللـه واختاره على علم منه، بعزمه ومضائه، وصدقه وإيمانه.
قضية مَن تَحمَّل مسؤولية أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال الرواسي.. إنها مسؤولية الرسالة العامة إلى العالمين جميعاً.
والحسين عليه السلام ليس ابنه فقط، بل هو قدوة وأسوة لمن ينذر من بعده، فنبأ مصرعه - هو بالذات - نبأ مصرع الحق بالباطل، والصدق بالكذب، والعدالة بالظلم... وهكذا.
فيبكي النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، ويحق له البكاء..
أنها ظاهرة ميلادٍ غريبة نجدها الساعة في بيت الرسالة تمتزج المسرة بالدموع، والإبتسامة بالكآبة.. فهي حفلة الصالحين تدوم في رحلة مستمرة بين الخوف والرجاء، والضحك والبكاء.
لنصغ قليلاً لنسمع السماء هل تشارك المحتفلين في هذا البيت الهادئ البسيط.
نعم. نسمع حفيفاً يقترب، ونظنه حفيف الملائك، فإذا بهم ملأوا رحاب البيت.
يتقدم جبرئيل عليه السلام فيقول:
" يا محمد! العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول: عليّ منك بمنزلة هارون من موسى، ولا نبي بعدك. سمِّ ابنك هذا باسم ابن هارون؟
فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وما اسم ابن هارون؟
فيجيب: شُبَير.
فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لساني عربي؟!
فيجيب جبرائيل: سَمِّه الحسين. فيسميه الحسين.
ويتقدّم فطرس.
ومن هو هذا الملك المهيضة جناحاه يحمله رفاقه؟ إنه مطرود من باب اللـه، لم يزل في السجن يعذب، حتى واتته أفواج من الملائكة، فقال لهم: مالي أراكم تعرجون وتهبطون، أقامت الساعة؟ فقال جبرائيل: كلا، وإنما ولد للنبي الخاتم وليد، فنحن ذاهبون إلى تهنئته الساعة. فقال: أفلا يمكن أن تحملوني إليه عله يشفع لي فيُشفّع؟ فجاء به جبرائيل عليه السلام.
فها هو ذا يتقدم إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتوسل به إلى اللـه.. فأومأ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مهد الحسين وهو يهتز في وداعة، فراح الملك يلمس جوانب المهد بجناحيه المكسورتين، فإذا هو وقد ردَّهما اللـه عليه إكراماً منه لوجه الحسين عليه السلام عنده.
وتنتهي الحفلة، ويأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرضيع الميمون بيديه، ويحتضنه ويؤذن في إحدى أُذنَيه، ويُقيم في الأخرى. ثم يجعل لسانه في فم الوليد فيغذيه من رضابه الشريف ما شاء.
ثم يعقُّ عنه بعد اسبوع بكبشين أملحين، ويتصدَّق بزنة شعر رأسه بعد أن حلقه دراهم، ثم يعطِّره ويومئ إلى أسماء فيقول: " الدم من الجاهلية ".
وهكذا ينقلب الجد الحنون إلى أسوة حسنة للمسلمين، فلا يكتفي بإجراء الآداب الإسلامية، وهي في روعتها ونضارتها - عملاً - وإنما ينسخ بالقول أيضاً لعنة الجاهلية، حيث كانوا يضمخون رؤوس ولدانهم بالدم إعلاناً لتوحشهم، وإيذاناً لطلب تِراتِهم.
ولـــم يزل ذلك الوليد المبـارك يترعرع في أحضان الرسالـــــة، ويعتني به صاحبها محمــــد صلى الله عليه وآله وسلم وربيبهـــــا علي عليه السلام حتى بلغ من العمر زهاء سنتين، ولكن لم يتفتح لسانه عن أداء الكلام أبداً.
عجباً. إن ملامح الوليد تدل على ذكاء مفرط، ومضاء جديد، ومع ذلك فَلِم لم يتكلم بعد، أيمكن أن يكون ذلك لثقل في لسانه؟!
وذات يوم إذ اصطف المسلمون لإقامة صلاة الجماعة، يَؤمُّهم الرسول الأعظم، وإلى جانبه حفيده الحبيب الحسين عليه السلام ولمَّا تهيأ القوم للتحريم، كان الخشوع مستولياً على القلوب. والهدوء سائداً على الجو، والكل ينتظرون أن يُكَبِّر الرسول فَيُكَبِّروا معه، فإذا هم بصوته الخاشع الوديع يكسر سلطان السكوت ويقول: اللـه أكبر...
وإذا بصوت ناعم خافت يشبه تماماً صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكل نغماته ونبراته وما فيه من خشوع ووداعة يقول: اللـه أكبر...
إنه صوت الحسين عليه السلام.
فكرر الرسول: اللـه أكبر... فأرجع الحسين اللـه أكبر، والمسلمون يستمعون ويكبِّرون، ويتعجبون!! فردد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذلك سبعاً، ورجَّعه الحسين عليه السلام سبعاً، ثم استمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته والحسين عليه السلام يسترجع منه.
فقد كانت أول كلمة لفظها فم الحسين عليه السلام كلمة التوحيد: اللـه أكبر.
وفيما نخطوا مع التاريخ بعض الخطوات الفاصلة ننظر إلى هذا الوليد بالذات - ذلك الذي لم يفتح فمه إلاّ على كلمة اللـه أكبر - ننظر إليه بعد خمس وخمسين سنة وهو يمارس آخر خطوات الجهاد المقدس، ويعالج آخر لحظات الألم وقد طرح على الرمضاء، تلفحه حرارة الشمس، ويمزق كبده الشريف حر العطش، ويلفه حر السلاح المصلصل.
فنستمع إليه وهو يحرّك شفَتَين طالمــــا لمستهما شَفَتا رسول اللـه صلى الله عليه وآله وسلم يتضرع إلى بارئـــــه، يقــــول: " إلهي... رضاً برضاك، لا معبود سواك ".
ولايزال يتمتع حتى يُعرج بروحه الطاهرة المقدَّسة إلى السماء، عليه أفضل الصلاة والسلام.
وإذا ثبت بالتجارب الحديثة أن للوراثة آثارها البالغة، وأن للتربية حظها الكبير في إنماء خُلق الطفل وتكييف صفاته، فلا نشك في أن أبوي الحسين ( عليه وعليهما السلام ) كانا من أرفع الآباء خُلقاً، وأكرمهم نسباً. وإن تربيتهما كانت أحسن تربية وأشرفها وأقدرها على إنماء الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة في نفس الإنسان. وهل نشك في ربيب الرسول ذاته، وربيب مَن ربّاهما الرسول فاطمة وعلي عليهم جميعاً صلوات اللـه وتحياته؟ أفلا نرضى من اللـه العزيز كلمته العظيمة في القرآن حيث يقول:
{ مَـــرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَــــانُ } (الرَّحْمَنِ/19-22)
فالبحران هما بحر النبوة ومنبعه فاطمة عليها السلام عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبحر الوصاية من قِبَلِ عليٍّ عليه السلام. فلابد لهذين البحرين - إذا التقيا - أن يخرج منهما اللؤلؤ الحسن، والمرجان الحسين عليهما السلام.
هذه هي الوراثة.. إنها أقدس وأرفع مما يُتصور.. ولا تسأل عن التربية، فلقد كانت أنصع وأروع من كل تربية، كان شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يهتم بالحسين عليه السلام وتربيته بصورة مباشرة.
وبين يديك حديثان تعرف منهما مدى رعاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لشأن الحسين عليه السلام، مما يؤكد لك أن الحسين لم يكن ربيب علي وفاطمة عليهما السلام فقط، بل تربى على يد جدِّه النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ذاته. عن يعلى العامري أنه خرج من عند رسول اللـه صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعام دعي له. فإذا هو بالحسين عليه السلام يلعب مع الصبيان فاستقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام القوم...
ثم بسط يديه فطفر الصبيُّ ههنا مرّة وههنا مرّة، وجعل رسول اللـه يضاحكه حتى أخذه فجعل احدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفاه، ووضع فاه إلى فيه وقبله.
واستسقى الحسن عليه السلام فقام رسول اللـه صلى الله عليه وآله وسلم فجدع له في غمر كان لهم ثم أتاه به. فقام الحسين عليه السلام فقال: " اسقنيه يا أبه " فأعطاه الحسن ثم جرَّع للحسين عليه السلام فسقاه. فقالت فاطمة عليه السلام : " كأن الحسن أَحبَّهما إليك "؟
قال: " إنه استسقى قبله، وإني وإياك وهما وهذا الراقد - وأومأ إلى علي أمير المؤمنين عليه السلام - في مكان من الجنة ".
وظل الوليد النبيه يشبّ في كنف الرسول، وظلَّ الوالدين الطاهرين، والرسول يوليه من العناية والرعاية ما يبهر ألباب الصحابة ويحيِّزهم. ولطالما بعث الرسول بكلماته النيِّرة على سمع المئات المحتشدة من المسلمين يقول: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ". و" الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا " ويقول: " حسين مني وأنا من حسين ".
ويرفعه بين الناس - وهم ينظرون - فينادي: " أيها الناس هذا الحسين بن علي فاعرفوه ".
ثم يردف قائلاً: " والذي نفسي بيده إنه في الجنة ومعه أحبَّاؤه ".
وقد يتبوأ له مقعداً في حضنه المبارك ويشير إليه فيقول: " اللـهم إني أُحبه فأَحبه ".
ولطالمـــا يحمله هو وأخاه على كاهله الكريم وينقلهما من هنا إلى هناك، والملأ من المسلمين يشهـدون.
وهكذا ترعرع الوليد الحبيب في ظل الرسالة وفي كنف الرسول، وأخذ منهما حظاً وافراً من المجد والسناء.

 

حياة الامام الحسين عليه السلام

إسمه الشريف : الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب عليهم السلام.
أمُّه : عليه السلام فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.
كُنيته : عليه السلام أبو عبد الله.
ألقابه : عليه السلام الرشيد ، الطيِّب ، السيد، الزكي، المُبارك ، التابع لِمَرضاة الله ، الدليل على ذاتِ الله ، السبط ، سيد شباب أهل الجنة ، سيد الشهداء ، أبو الأئمة ، وغيرها.
تاريخ ولادته :عليه السلام 3شعبان ، في سنة 4 هـ ، وقيل 5 شعبان، وقيل غير ذلك.
محل ولادته: عليه السلام المدينة المنورة.
ولا ريب أننا سوف ننبهر إذا لاحظنا بيت الرسالة وهو يستقبل الوليد الجديد، فهذا البيت البسيط الذي يستقر على مرفوعته الأولى الرسول، الجد الرؤوم، والوالد الحنون.
وأتاه الخبر: أنه وُلِدَ لفاطمة عليه السلام وليد، فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يغمره مزيج من السرور والحزن، ويطلب الوليد بكل رغبة ولهفة!
فماذا دهاك يا رسول اللـه! بأبي أنت وأمي، هل تخشى على الوليد نقصاً أو عيباً؟!
كلا.. إن تفكير صاحب الرسالة يبلغ به مسافات أوسع وأبعد مما يفكّر فيه أي رجل آخر، ومسؤوليته أعظم من مسوؤلية أب أو واجبات جد ، أو وظائف قائد.. إنه مكوِّن أمة ، وصانع تاريخ ، ونذير الخالق تعالى إلى العالمين.
فقد علم أنه سوف تبلغ الموجة مركزها الجائش، وسوف يقف أنصار الحق والباطل موقفهم الفاصل في عهد الإمام الحسين عليه السلام، هذا الوليد الرضيع الذي يُقلِّب وجهه فيظهر مستقبلُه على ملامح الرسول وهو يضطرب على ساعديه المباركتين.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقي نظرةً على المستقبل البعيد، ويعرج فيه فيلقي نظرة أخرى على هذا الرضيع الميمون فيهزه البُشر حيناً، ويهيج به الحزن أحياناً، ولا يزال كذلك حتى تنهمر من عينيه الوضيئتين دموع، ودموع... يبكي رسول اللـه صلى الله عليه وآله وسلم.. وما أشجعه ، وهو الذي يلوذ بعريشه أشجع قريش وأبسلها، علي بن أبي طالب عليه السلام حينما يشتد به الروع ، فيكون أقرب المحاربين إلى العدو، ثمّ لايفل ذلك من عزمه ومضائه قدر أنملة، لكنه الآن يبكي وحوله نسوة في حفلة ميلاد.. فما أعجبه من حادث!.
تقول أسماء فقلت: فداك أبي وأمي ممَّ بكاؤك؟! قال: على ابني هذا؟
فقلت: إنه ولد الساعة يا رسول اللـه؟!
فقال: " تقتله الأمة الباغية من بعدي. لا أنالهم اللـه شفاعتي ".
إن القضية التي تختلج في صدر رسول اللـه صلى الله عليه وآله وسلم ليست عاطفة إنسانية أو شهوة بشرية حتى تغريه عاطفة إعلاء ذكره وبقاء أثره في آله.
كلا.. بل هي قضية رسول، اصطفاه اللـه واختاره على علم منه ، بعزمه ومضائه ، وصدقه وإيمانه.
أ فيبكي النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، ويحق له البكاء..
أنها ظاهرة ميلادٍ غريبة نجدها الساعة في بيت الرسالة تمتزج المسرة بالدموع، والإبتسامة بالكآبة.. فهي حفلة الصالحين تدوم في رحلة مستمرة بين الخوف والرجاء، والضحك والبكاء.
لنصغ قليلاً لنسمع السماء هل تشارك المحتفلين في هذا البيت الهادئ البسيط.
نعم. نسمع حفيفاً يقترب، ونظنه حفيف الملائك، فإذا بهم ملأوا رحاب البيت.
يتقدم جبرئيل عليه السلام فيقول:
يا محمّد! العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول: عليّ منك بمنزلة هارون من موسى، ولا نبي بعدك. سمِّ ابنك هذا باسم ابن هارون؟
فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وما اسم ابن هارون؟
فيجيب: شُبَير.
فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لساني عربي؟!
فيجيب جبرائيل: سَمِّه الحسين. فيسميه الحسين.
ويتقدّم فطرس.
ومن هو هذا الملك المهيضة جناحاه يحمله رفاقه؟ إنه مطرود من باب اللـه، لم يزل في السجن يعذب، حتى واتته أفواج من الملائكة، فقال لهم: مالي أراكم تعرجون وتهبطون، أقامت الساعة؟ فقال جبرائيل: كلا، وإنما ولد للنبي الخاتم وليد، فنحن ذاهبون إلى تهنئته الساعة. فقال: أفلا يمكن أن تحملوني إليه عله يشفع لي فيُشفّع؟ فجاء به جبرائيل عليه السلام.
فها هو ذا يتقدم إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتوسل به إلى اللـه.. فأومأ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مهد الحسين وهو يهتز في وداعة، فراح الملك يلمس جوانب المهد بجناحيه المكسورتين، فإذا هو وقد ردَّهما اللـه عليه إكراماً منه لوجه الحسين عليه السلام عنده.
وتنتهي الحفلة، ويأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرضيع الميمون بيديه، ويحتضنه ويؤذن في إحدى أُذنَيه، ويُقيم في الأخرى. ثم يجعل لسانه في فم الوليد فيغذيه من رضابه الشريف ما شاء.
ثم يعقُّ عنه بعد اسبوع بكبشين أملحين، ويتصدَّق بزنة شعر رأسه بعد أن حلقه دراهم، ثم يعطِّره ويومئ إلى أسماء فيقول: " الدم من الجاهلية ".
وهكذا ينقلب الجد الحنون إلى أسوة حسنة للمسلمين، فلا يكتفي بإجراء الآداب الإسلامية، وهي في روعتها ونضارتها - عملاً - وإنما ينسخ بالقول أيضاً لعنة الجاهلية، حيث كانوا يضمخون رؤوس ولدانهم بالدم إعلاناً لتوحشهم، وإيذاناً لطلب تِراتِهم.

 
نسخة الجوال للمكتبة الإسلامية
نسخة الجوال للمكتبة الإسلامية
شاهد المكتبة الإسلامية في جوالك بشكل يلائم جميع أجهزة المحمولة.
خدمة الأوقات الشرعية
يمكنك باستخدام هذه الخدمة ، مشاهدة اوقات الصلاة واستماع صوت الأذان لمدينة خاصة في موقعك.