حدود العصمة
الشيخ حسين البدر
منذ سنتينحدود العصمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، الذي قدّر فهدى ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
مقدمة البحث :
لا شك ولا ريب أنّ العصمة ترتبط بالعلم ارتباطاً وثيقاً ، وإن كان هناك اُمور اُخر ترتبط بها أيضاً ، فكلّما وجد العلم والإحاطة قلَّ الخطأ بل ينعدم ، والعكس صحيح فكلّما عدم العلم والإحاطة ازداد الخطأ ، فعليه ما هو مقدار العلم الذي كان لدى المعصومين عليهم السلام لتتحدد على ضوئه عصمتهم عليهم السلام ؟
ثم هنا أسئلة تُثار :
هل يمكن أن يخطىء النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله فيأمر بتأبير النخل مثلاً في غير وقته أو بكيفية معينة فيخرّب الثمر ويفسد ، لأنّه انكشف خطؤه أم لا ؟
هل أخطأ أمير المؤمنين عليه السلام حين قعد عن قتال القوم ؟
هل أخطأ الإمام الحسن عليه السلام حين صالح ؟
هل أخطأ الشهيد أبو عبد الله عليه السلام حين قام بالثلة القليلة من أصحابه وأهل بيته عليهم السلام وفي سوق النساء والأطفال ؟
أسئلة عديدة فهل أخطأ هذا الإمام حين قام وأصاب ذلك حين قعد ؟ هذا ما يدور حوله فلك هذه كلمة في ثلاثة أقطاب :
القطب الأوّل : عصمتهم عليهم السلام.
القطب الثاني : في مقامهم عليهم السلام.
القطب الثالث : في سبب تضييق اُفق العصمة لديهم عليهم السلام ، وبعبارة اُخرى : هل تختص عصمتهم عليهم السلام في حدود تبليغ الأحكام ام تتجاوزه إلى الموضوعات بل الجزئيات العادية.
كانت الأسئلة المتقدمة من كون هذا الموطن موطن قعود أو نهوض أو موطن صلح أم لا ، شبهات موضوعية ، ومثال العاديات هل يخطىء في مسألة رياضية لا ربط لها بالحكم الشرعي فيكون كبقية الناس أم لا ؟ العصمة كان النقاش فيها مع الطرف الآخر مع غير الإمامية الإثني عشرية ، وقد أشبع هذا البحث نقضاً وإبراماً مع العامّة ، والعنوان العريض الذي عرف به المذهب الإمامي الإثنا عشري الجعفري هو أنّ العصمة لهم عليهم السلام لا حدود لها على مستوى الأحكام أو الموضوعات أو غيرها لعدم الفصل قديماً ، وأن اُثير مؤخّراً إلى أن وصل إلى درجة التبنّي ..
وما نُقِل عن الصدوق رحمه الله من جواز الإسهاء لا يخل ولا ينافي كون ما قلناه عنواناً عريضاً عرف به المذهب الإمامي الجعفري الاثنا عشري.
إذا عرفت ذلك فنقول وبالله المستعان :
القطب الأول : العصمة في سعة اُفقها.
الدليل الأوّل : الكتاب وفيه آيات.
الاُولى : قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (1) ، التبيان والبيان معناه واحد وهو التوضيح والوضوح ، وقبل الاستدلال لا بأس ببيان أمر وهو : أنّ البيان لكل شيء تارة يمكن تصوره بإعطاء الكليات من قِبَل الله عزّ وجل وإيكال التطبيق على الجزئيات إلى المنزل عليه الكتاب كاملة ، واُخرى ببيان الجزئيات بشكل مباشر ، أي من غير توسّط الكليات ، كما ربّما يميل إلى ذلك العلّامة السيد الطباطبائي قدسسره لكن بشكل خاص لا يحيط به إلّا أهل القرآن ومَن خوطب به وهم المعصومون بمَن فيهم الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام ، ومن هذا المنطلق قد أشار السيد الشهيد رحمه الله إلى أنّه يمكن الحدس بالأحداث المستقبلية من خلال التوافر على دراسة قصص الاُمم الغابرة المذكورة في القرآن الكريم.
تقريب الاستدلال بالآية الشريفة : أنّ ( شيء ) في الآية عام لا يخص الأحكام فقط ، بل يشملها ويشمل الموضوعات والجزئيات رياضية وهندسية وطبية ، لها علاقة بالأحكام أو لم تكن ، فهو مبين لها وكاشف عنها أمّا على نحو القوانين الكلية أو على نحو الجزئيات بشكل خاص كما ذكرنا ، وبما أنّ الحامل للقرآن والمبين له هو محمد صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام وبضميمة حديث الثقلين ، وغيرها ممّا دلّ على قرنهم بالقرآن وإيداعه عندهم يتم الاستدلال من أنّهم لا بد أن يحيطوا بذلك الكل وذلك الشمول المذكور في الآية لكي يتم البيان للمستخلف عليهم والمبيّن لهم.
الآية الثانية : قوله تعالى : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ .. ) (2) ، وهذا بالإضافة إلى اشتمالها على الاستدلال المتقدم ، قد عدّدت اُموراً عادية من دبيب الدابة وطيران الطائر بجناحيه أيضاً ، ولا بد أن يحيط خليفة الله عزّ وجل في الأرض بذلك بما يتناسب وعظم خطر الخلافة ومقامها الإلٰهي.
الآية الثالثة : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) (3) ، على بعض الروايات أنّه أمير المؤمنين عليه السلام وما عنده صار إلى من بعده من الأئمة الطاهرين عليهم السلام.
الدليل الثاني : الإجماع : والمقصود هنا الضرورة ومعقده عدم التفصيل بين الأحكام أو غيرها ، بل في بعض كلمات القوم التصريح بعصمتهم في غير الأحكام أيضاً يلاحظ ذلك عند دفاعهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في قصد أمره بالتأبير.
الدليل الثالث : الفطرة أو اللّطف ، ويستدعي تقديم أمر وهو ان خليفة الله في الأرض إنّما جعل لأجل التقريب إلى الله عزّ وجل والتبعيد عن معصيته تعالى ، إذا عرفت ذلك فنقول ان فرض إمكان خطأ الخليفة ينافي الغرض الذي من أجله جعل الإمام وذلك أنّ الخطأ جهل ونقص ، والنقص ينفّر ذوي الطباع السليمة وذلك حتى في المسائل العادية كما هو ملحوظ في حياتنا ، فلو كان النبي صلّى الله عليه وآله أو الأئمة عليهم السلام بل حتى الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام يخطئون لكان ذلك مصادماً للمعادلة المذكورة ، فتنفر الطباع منهم فينتفي الغرض وهو التقريب إلى الله عزّ وجل والتبعيد عن معصيته ، وعلى العكس تماماً لو لم نفرض فيه الخطأ فانّ الانشداد إليه إلٰهياً أشد ، ثم ان ذلك العبقري الذي وصل في الذكاء والاختراع غايته مَن سيكون قدوته غير الخليفة ؟ وعليه لا بدَّ أن يكون الخليفة أكمل مَن على وجه الأرض ، بل من في الكون بعد الله عز وجل. ومن هذا كلّه يجب توجيه ما ظاهره الجهل في عبارات المعصومين عليهم السلام إن أمكن بمثل إظهار الكرامة للناس أو تقرير أمر على حذو ( أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ ) (4) تعالى الله أن يكون جاهلاً فيصدر منه هذا السؤال ، وإلّا رُدّ لأهله ، ثم أن في قبال ما ظاهره الجهل مواقف تدل على سعة علمهم كإخبارهم عن اسم الشخص وما جاء لاجله ابتداء ، وأمثال ذلك وممّا يوجب الأنس بذلك ما سيذكر في القطب الثاني.
الدليل الرابع : الروايات ومنها ما ورد في اُصول الكافي ج 1 كتاب الحجة ، ذكر الأرواح التي في الأئمة عليهم السلام : محمد بن يحيى عن أحمد عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن إبراهيم اليماني عن جابر الجعفي قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : يا جابر انّ الله تبارك وتعالى خلق ثلاثة أصناف وهو قول الله عزوجل : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ... إلى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (5) فالسابقون هم رسل الله عليهم السلام وخاصة الله من خلقه ، جعل فيهم خمسة أرواح أيّدهم بروح القدس فيه عرفوا الأشياء الحديث وما بعده فيه أسرار عظيمة فليراجع ثمة ، وكذا الباب الذي قبله.
القطب الثاني : مقامهم عليهم السلام ويعرف من الآيات كقوله تعالى : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (6) ، وأعظم به من مقام ! ومن الروايات ما ورد في اُصول الكافي : ابو محمّد بن العلاء رحمهالله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال كنّا مع الرضا عليه السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة ، والحديث طويل نقتصر على محل الشاهد « هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الاُمّة فيجوز فيها اختيارهم ، إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ... » (7) الحديث ، والباب يشتمل على أحاديث صحيحة بنفس المضمون فليراجع.
وباب إنّ الأئمة عليهم السلام هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه : الحسين بن محمّد عن معلى بن محمّد عن الوشاء قال سألت الرضا عليه السلام عن قوله الله تعالى : ( وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (8) ، قال نحن العلامات والنجم رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وهم الآيات والذكر في الكتاب كما جاء في بعض الروايات (9).
القطب الثالث : إنّ سبب القول بخطئهم في غير الأحكام ، هو إنّما ليكون مدخلاً في خلخلة مقامهم عليهم السلام فيكونوا هم وغيرهم على حدٍّ سواء ، فتقبل كلمة ذلك الغير ومنصبه وتبرّر أخطاؤه وزلّاته (10).
هذا ومن خلال العرض السابق نصل إلى أنّ ما اُثير من الطعن في شخصية الإمام الزكي الحسن بن علي أمير المؤمنين عليهما السلام وصلحه مع معاوية لعنه الله لا واقع له من الناحية الفنية والاعتقادية.
الهوامش
1. سورة النحل آية 89.
2. الأنعام آية 38.
3. سورة يس آية 12.
4. سورة المائدة آية 166.
5. ج 1 ص 271.
6. سورة البقرة آية 30.
7. اُصول الكافي ج 1 ص 198 كتاب الحجة.
8. سورة النحل آية 16.
9. ج 1 ص 206 من نفس المصدر.
10. اُصول الكافي ج 1 ص 207 و210.
مقتبس من كتاب : المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية / الصفحة : 103 ـ 108
التعلیقات