وصيّة الزهراء صلوات الله عليها بأن لا يحضرا جنازتها
الشيخ محمد كنعان
منذ سنةوصيّة الزهراء صلوات الله عليها بأن لا يحضرا جنازتها
لماذا أوصت السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها أن لا يحضر جنازتها ، ولا الصلاة عليها إلّا القلّة القليل من الخلق (1) ؟ لماذا وهي بنت الرحمة منعتهم من هذه المكرمة ؟ أليس من شأنها السمح والصفح ؟
لو كان ذلك يحصل ، كان القائل يقول : هذا الأمر كالإسلام الذي يجبّ ما قبله ، لأن تجهيزها والصلاة عليها هو الإسلام وهي تأبى أن يتساوى المحسن والمسيء في هذا الشأن ، لأنّ المسيء ما زال متمادين في إساءته ، مغتصباً لحقّها ولحق زوجها وبنيها ، ومن ثمّ حقّ الأمة وتكليفها العيني أن تعطي صك براءة لمن ترتضيه ، لأنّها ميزان الحقّ والعدالة التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها (2) .
ثمّ لماذا هذا الأصرار من القوم على نبش قبرها لأعادة الصلاة عليها (3) ، فهل أنّ صلاة علي عليه السلام ومن كان معه من خُلّص الرجال والنساء لم تكن كافية ، أم أنّهم من غير ملّتهم ودينهم ، امّا أن الصلاة عليها كصك برائتهم كما فهموا ذلك تماماً. ثمّ ومنذ متى يجوز نبش قبر مسلماً أي مسلم لأعادة الصلاة عليه مع حصول الصلاة الصحيحة قبل دفنه ؟ وهل من صلاة في الأمّة أصحّ من صلاة علي عليه السلام ؟
السؤال الأهمّ يتعلّق بعلي صلوات الله عليه الذي شهد المحن كلّها وسيق إلى البيعة مسالماً طالما تسلم أمور المسلمين ، وشاهد ظلامة زوجته وشدّ على يدها وقلبها الصبر وعدم تحريك الفتنة. نراه اتّخذ قرار المواجهة العسكريّة لمحاولة نبش قبرها والصلاة عليها مجدّداً.
هل هذا أهمّ من انتهاكهم لحرمة بيتها واجتياحهم لمقام خلافته المنصوصة عليها ، نعم وألف نعم ، لأنّ في حياتها كانت الحجّة من لدنها دامغة وكافية ، ولكن من بعد مماتها فان التسلق على قبرها والصلاة عليها يدخلهم في قرينة البراءة ، وقرينة البراءة هنا تنسف الدين برمته ، فما أسكت عليّاً أوّلاً هو الدين ، وما استنفره هنا هو الدين نفسه ، لأنّ حضورهم يغضبها وهو يغضب الله حتماً وما كان عليٌ ليفرط بتلك الظلامة الكبرى التي تفرعت عنها بقيت الظلامات بل أراد أن يبقيها ماثلة في وجدان الأمّة ، ضلعاً مكسوراً وجنيناً مهدور وخلافة مبتزة وعترة مشرّدة ودمعة ساكبة ، وقبراً مفقوداً وزجاجة الكوكب الدرّي مهشمة ، وصدى صوت كسرها قائماً ، لذلك انتشق عليٌ سيفه والزهراء تبتسمُ في قبرها لانتشاقته تلك ، فهو قد حفظ لها الحجّية الجائحة التي ناضلة وانجبت لأجلها (4).
الهوامش
1. المناقب « لابن شهرآشوب » / المجلّد : 3 / الصفحة : 363 / الناشر : علامه / الطبعة : 1 :
الواقدي : أن فاطمة لما حضرتها الوفات اوصت علياً ان لا يصلي عليها ابوبكر وعمر فعمل بوصيتها. عيسى بن مهران عن مخول بن ابراهيم عن عمرو بن ثابت عن ابي اسحق عن ابن جبير ابن عباس قال : اوصت فاطمة ان لا يعلم اذا ماتت أبوبكر ولا عمر ولا يصليا عليها قال : فدفنها علي ليلا ولم يعلمهما بذلك.
راجع :
المصنف « لعبد الرزاق الصنعاني » / المجلّد : 5 / الصفحة : 472 / الناشر : منشورات المجلس العلمي.
تاريخ الطبري « لمحمد بن جرير الطبري » / المجلّد : 2 / الصفحة : 448 / الناشر : مؤسسة الأعلمي.
الثقات « لابن حبان » / المجلّد : 2 / الصفحة : 170 / الناشر : مؤسسة الكتب الثقافيّة / الطبعة : 1.
2. الاحتجاج « لأحمد بن علي الطبرسي » / المجلّد : 2 / الصفحة : 102 / الناشر : منشورات الشريف الرضي / الطبعة : 1 :
وعن الحسين بن زيد عن جعفر الصّادق عليه السلام : « إنّ رسول الله قال لفاطمة : يا فاطمة إنّ الله عزّ وجلّ يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك ».
راجع :
المستدرك « للحاكم النيسابوري » / المجلّد : 3 / الصفحة : 154 / الناشر : دار المعرفة.
تاريخ مدينة دمشق « لابن عساكر » / المجلّد : 3 / الصفحة : 156 / الناشر : دار الفكر.
بحار الأنوار « للشيخ المجلسي » / المجلّد : 37 / الصفحة : 70 / الناشر : مؤسسة الوفاء / الطبعة : 2.
3. كتاب سليم بن قيس الهلالي / المجلّد : 2 / الصفحة : 870 ـ 871 / الناشر : الهادي / الطبعة : 1 :
قال إبن عبّاس : فقبضت فاطمة عليها السلام مِن يومها ، فارتجّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء ، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله. فأقبل أبوبكر وعمر يعزّيان عليّاً عليه السلام ويقولان له : « يا أبا الحسن ، لا تسبِقنا بالصلاة على إبنة رسول الله ».
فلمّا كان في الليل دعا عليّ عليه السلام العبّاس والفضل والمقداد وسلمان وأباذر وعمّاراً ، فقدّم العبّاس فصلّى عليها ودفنوها.
فلمّا أصبح الناس أقبل أبوبكر وعمر والناس يريدون الصلاة على فاطمة عليها السلام فقال المقداد : قد دفنّا فاطمة البارحة. فالتفتَ عمر إلى أبي بكر فقال : ألم أقُل لك إنّهم سيفعلون ؟! قال العبّاس : إنّها أوصت أن لا تًصلِّيا عليها.
فقال عمر : [ والله ] لا تتركون ـ يا بني هاشم ـ حسدكم القديم لنا أبداً. إنّ هذه الضغائن الّتي في صدوركم لَن تذهب ؟ واللهِ لقد هممتُ أن أنبشها فاُصلّي عليها.
فقال عليّ عليه السلام : « والله لو رُمتَ ذلك يا ابن صهّاك لأرجعت إليك يمينك. [ والله ] لئن سللتُ سيفي لا غَمَدتُه دون إزهاق نفسك ، فَرُمْ ذلك ». فانكَسرَ عمر وسكت ، وعلم أنّ عليّاً عليه السلام إذا حلف صدق.
ثمّ قال عليّ عليه السلام : يا عمر ، ألستَ الّذي همَّ بك رسول الله صلّى الله عليه وآله وأرسل إليَّ ، فجئتُ متقلّداً بسيفي ، ثمّ أقبلت نحوك لأقتلك فأنزل الله عزّ وجلّ : ( فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ). [ فانصرفوا ].
راجع :
أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد « لمقاتل ابن عطية » / المجلّد : 2 / الصفحة : 452 / الناشر : مؤسسة الأعلمي / الطبعة : 1.
4. إنّ دفن الزهراء عليها السلام سرّاً وإخفاء قبرها يكشف عن أكثر من حقيقة :
أ ـ أن يتساءل المسلمون عن السبب الذي لأجله لم تحظ الزهراء عليها السلام بما حظيت به نساء عصرها من أن يكون لها قبر ، مع أنّها المرأة الأولى في الكون فضلاً وتقوى وهدى.
ب ـ موقفها تجاه الذين ظلموها وغصبوا حقّها وباعوا آخرتهم بدنياهم.
ج ـ التعبير الحقيقي عن مرارة الأحداث التي تجرّعتها ممّن ظلمها.
التعلیقات