التخريج الفقهي للشّعاريّة أشهد أنّ عليّاً ولي الله في الأذان
السيد علي الشهرستاني
منذ سنةالتخريج الفقهي للشّعاريّة
لقد تقدم بين ثنايا الكتاب بعض الأدلّة على جواز الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان من دون اعتقاد الجزئية ، أبرزها الدليل الكنائي ودليل الاقتران . وفي هذا الفصل نريد البحث في التخريج الفقهي الذي أفتى على أساسه أكثر الفقهاء بجواز أو استحباب الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان .
فقد يقول القائل : إنّ الشهادة بالولاية من الله سبحانه تعالى يوم الميثاق ، ومروراً بالملائكة ، وانتهاءً ببني آدم في عالم الذر . . . ، لا ينهض لجواز الفتوى بدخول الشهادة الثالثة في الأذان ؛ فما هو التخريج الفقهي إذن ؟
هناك ثلاثة أو أربعة تخاريج يمكن للفقيه أن يستند إليها للإفتاء بجواز أو استحباب الشهادة الثالثة في الأذان بالخصوص .
التخريج الأول : أصالة الجواز
ومجرى هذا الاصل لو شك المكلف في الحكم هل هو الجواز أم المنع ، فمقتضى الاصل جواز الفعل في مورد فقدان الدليل على حرمته ، وفيما نحن فيه لم يقم دليل معتبر على حرمة الشهادة الثالثة بدون قصد الجزئية ، فيكون مجرى اصالة الجواز .
وقد يرد هنا سؤال وهو : لا يمكنكم التعبد باصالة الجواز هنا وذلك لخلو الروايات البيانية الواردة عن المعصومين من وجود الشهادة بالولاية لعلي فيها ، فكيف تجيزونها في الأذان ؟
الجواب : هذا صحيح في الجملة وهو تام لو كان ذكرنا للشهادة الثالثة في الأذان ذكراً جزئيّاً وماهويّاً ، لكن إذا كان إتياننا لها شعارياً فالأمر مختلف تماماً .
توضيح ذلك : أنّ « أشهد أن عليّاً ولي الله » ليست من فصول الأذان ولا من أجزائه ولا من مقوّمات ماهيته المتوقّفة على نص الشارع ، غاية ما في الأمر أنّا نأتي بها على أنّها شعار للحقِّ ، وعَلَمُ للإيمان الكامل الصحيح ، وترجمة للنبوة والتوحيد كما هو مفاد النصوص المارّة .
وحيث لا يوجد دليل شرعي يمنعنا من الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان من باب الشعارية جاز فعله ، لأنّ دليل التوقيفية لا يمنع إلّا الإدخال الماهويّ الجزئيّ في الأذان ، وعليه فلا مانع من الإتيان بها شعارياً بمعونة أصالة الجواز .
وهذه هي الشريعة بين أيدينا ليس فيها ما يمنع من الإتيان بها شعارياً ، بل إنّ الإمام عليه السلام ـ كما في حسنة ابن أبي عمير المتقدّمة ـ أمرنا بالدعاء إليها والحثّ عليها بحي على خير العمل ، لأنّ الذي أمر بحذفها ـ أي عمر ـ أراد أن لا يكون حَثٌّ عليها ودعاء إليها ، ومقتضى الإطلاق في الدعوة إليها هو جوازها في الأذان وفي غيره جوازاً شعارياً ، أما الدخول الماهويّ فلا يجوز لمانع التوقيفية كما اتضح .
وهناك نصوص شرعية أخرى أكّدت على محبوبيّة النداء بالولاية كما جاء صريحاً في كلام الإمام الباقر عليه السلام بقوله : « ما نودي بشيء مثل ما نودي بالولاية » ولا ريب في أنّ مقتضى الاطلاق في قوله عليه السلام : « ما نودي » يصحّح ذكره في الأذان وفي غيره شعارياً .
لكن قد يقال بأنّ هذا التخريج يوصل للقول بجواز ذكر الشهادة الثالثة في الأذان لا استحبابه ، فما هو مستند فتاوى أمثال السيّد الخوئي قدس الله أسرارهم بالاستحباب إذن ؟
قلنا : المستند هو أنّ الدليل مركّب من أمرين :
الأول : هو أنّ نفس جواز الذكر تم بمعونة أصالة الجواز بعد فقدان المانع ، والمسألة بناء على ذلك من صغريات الشك في التكليف ؛ فهي مجرى لأصالة الجواز بلا شبهة .
والأمر الثاني : إنّ الشهادة بالولاية مستحبّة نفسيّاً ومطلوبة ذاتياً .
ومن مجموع الأمرين أمكن القول باستحبابها في الأذان عند امثال السيّد الخوئي قدّس سرّه ؛ لاستحبابها النفسي ؛ غاية ما في الأمر هو أنّ ذكرها في الأذان يحتاج إلى دليل ، وأصالة الجواز تجيز ذكرها بحسب البيان المتقدم . فإذا نهض دليل الجواز لإتيان ما هو مستحب في عبادة ما ، أمكن الفتوى بالاستحباب فيه كذلك ، مع الالتفات إلى أنّ الاستحباب هنا هو الاستحباب الشعاري دون التكليفي الخاصّ كاستحباب القنوت في الصلاة ؛ فالثاني يحتاج إلى دليل خاصّ وهو مفقود ، أمّا الأول فأدلته هي المارة من قبيل : « ما نودي بشيء مثل ما نودي بالولاية » وغيرها من النصوص الصحيحة التي سردنا بعضها في هذا الفصل .
ولا بد هنا من الإشارة إلى نقطة مهمّة أخرى ، وهي : هل أنّ الإتيان بالذكر الشعاري للشهادة الثالثة في العبادات الأخرى غير الأذان يكفيه الاستدلال المتقدم . كأنْ ندخل جملة « أشهد أنّ عليّاً ولي الله » في الصلاة الواجبة ، بين آيات الفاتحة أثناء القراءة للصلاة ـ أكثر من مرة ـ فهل تسوّغ أصالة الجواز مثل هذا الذكر الشعاري ؟
الجواب : لا يسوغ ذلك على الأشبه في مثل المثال الآنف ؛ لانعدام هيئة الصلاة ، ومحو صورتها حينئذ ، وهذا مانع قويّ من التمسك بأصالة الجواز في هذا الفرض ، ولا يقاس هذا بالذكر الشعاري في الأذان ؛ إذ المسلمون جلّهم أو كلّهم ـ مَنْ منع الشهادة الثالثة ومن لم يمنع ـ سواء كانوا من السنة أم من الشيعة ، لم يروا أنّ الذكر الشعاري يمحو صورة الأذان ، أمّا السنّة فواضح ؛ إذ أنّ جمهورهم لم يقل بمحو صورة الأذان حتى مع إدخال جزء بدعي فيها وهو « الصلاة خير من النوم » .
وأمّا الشيعة فمشهورهم الأعظم لا يرى في الذكر الشعاري مَحْواً لصورة الأذان الشرعية كما ترى ذلك واضحاً في سيرة الفقهاء ، وقد تقدمت كلماتهم في ذلك .
نعم يمكن افتراض محو صورة الأذان الشرعي لو كان ادخال الشهادة الثالثة في الأذان ماهويّاً ، لكنّا وفاقاً للمشهور لا نأتي بها على أنها جزء داخل في الأذان بل ناتي به على أنّه كلام خارج يذكر مع الأذان تحت عنوان الشعارية دفعاً لاتهامات المتهمين ورفعة لشأن أمير المؤمنين .
والحاصل : فالذكر الشعاري دون الماهوي للشهادة الثالثة في خصوص الأذان لا مانع منه ، ودليل التوقيفية يمنع من الإدخال الماهوي فيه فقط ؛ ولا دليل على منع الذكر الشعاري في خصوص الأذان لا عند السنة ولا عند الشيعة ، وبالتالي أمكن للسيّد الخوئي وأمثاله من الأعاظم الفتوى باستحبابها الشعاري ؛ للجزم باستحبابها النفسي ورجحانها الذاتي بمعونة اصالة الجواز على ما اتّضح .
التخريج الثاني : تنقيح المناط
لا ريب ـ بالنظر للأخبار الصحيحة بل المتواترة التي أوردنا بعضها في هذا الفصل ـ في وجود تلازم غير منفك بين الشهادات الثلاث 1 ـ الشهادة بالتوحيد 2 ـ والشهادة بالرسالة 3 ـ والشهادة بالولاية .
فالتوحيد مفهوما غير الرسالة ، والرسالة غير الولاية ؛ لكن يبدو من خلال النصوص الصحيحة أنّه لا توجد مصداقية للايمان بالتوحيد من دون رسالة سيّد الخلق محمّد صلّى الله عليه وآله ، كما لا يمكن تصوّر وجود مصداقية للايمان بالرسالة المحمّدية من دون ولاية أمير المؤمنين علي ، وخبر الغدير المتواتر خير شاهد على ذلك وكذلك آية الولاية وغيرها .
وهنا نتساءل : كيف يمكن تحقيق المصداقية الخارجية لولاية علي عليه السلام ؟
أعلنت النصوص الشرعية بأنّه لا يمكن تحقيق هذه المصداقية عملاً وإيماناً إلّا من خلال الشعارية ؛ لأنّه السبيل الوحيد لتوفير المصداقية الخارجية للايمان بولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام . وإذا تمّ ما قلناه تحقّق الغرض الإلهيّ من التلازم غير المنفكّ بين الشهادات الثلاث .
نعم ، لقد تقدمت بعض الأدلّة الصحيحة على هذا المقدار من ضرورة التلازم بين الشهادات الثلاث : التوحيد ، النبوة ، الولاية ، لكن كيف يمكن جعلها شعاراً ، بناء على التلازم غير المنفك ؟ وبالتالي كيف تتحقق لها مصداقية خارجية ؟ !
فالإشهاد الثلاثي اذن ينطوي على ملاك إلهي عظيم ، وغرض ربّاني كبير ، كما هو ملاحظ في كتب الادعية ، وإلّا لا معنى لأن يعلن الله بنفسه تقدّست أسماؤه الشهادة الثالثة بعد الشهادتين لولا تعلق ارادته سبحانه وتعالى استمرار الاستخلاف في الأرض بولاية علي عليه السلام .
وما ينبغي أن نتساءل عنه هنا هو القول بوجود ملاك تشريعها في الأذان ؛ إذ ما دخل اعلان الله سبحانه وتعالى للشهادة الثالثة في ذلك العالم ؛ الذي ليس هو بعالم تكليف وتشريع وأحكام . . . ، ومقايسته بعالمنا عالم التكليف ؟
فقد يقال بأنّ هذا من القياس الباطل الذي لا يغني من الحق شيئاً ؟
لكن يجاب عنه أنّ هذا وان كان صحيحاً ، لكنّ العبرة ليست بمجرد شهادة الله سبحانه وتعالى بالولاية فيما هو خارج عن عالم التكليف حتى نقول ببطلان القياس وبعدم وجود الملاك في عالم التكليف بناء على ذلك . .
إذ العبرة كل العبرة بالنصوص الشرعية المعتبرة الصادرة في عالم التكليف ؛ بمعنى أنّ الإمام الصادق أخبرنا في عالمنا هذا ـ عالم التكليف ـ أنّ الله شهد لعلي بالولاية يوم الميثاق العظيم . .
وهنا نتساءل لماذا يخبرنا الإمام بذلك وما يعني اخباره هذا ؟ لا جواب إلّا أن نعتقد بوجود ملاكاً عظيماً فيما فعله الله سبحانه وتعالى حتى في عالم التكليف ، وإلّا لا معنى لأن يخبرنا الإمام والنبي والقرآن في الروايات المتواترة والآيات الواضحة وفي حسنة بن أبي عمير بذلك ، لولا أنّ في المجموع ملاكاً له مدخلية في كثير من التشريعات ولو في الجملة ! !
ولا يقال : بأنّ غاية اخبار الإمام والنبي والقرآن هو بيان فضيلة أمير المؤمنين علي فقط ؟
فلقد قلنا سابقاً أنّ هذا لا يصار إليه لاستلزام اللغوية ؛ فلو كان المقصود هو هذا لاكتفى المعصوم بالقول : أنّ عليّاً أمير المؤمنين فقط ، ولا حاجة به لان يفصل الكلام ويخبر عن ملابسات ذلك اليوم وغير ذلك مما هو لغو في ظاهره ، وكلام المعصوم منزّه عن ذلك .
وزبدة القول : هو أنّ في شهادة الله سبحانه وتعالى بالولاية ملاكاً عظيماً ، وهذا الملاك تراه ملحوظاً في كلام الإمام في عالم التكليف ، وإلّا لما أخبر به المعصوم في أكثر من مناسبة ، ويكفي مثل هذا الملاك للقول بجواز ذكر الشهادة في الأذان شعارياً .
إذ قد أجمع فقهاء الأمّة على إمكانية الفتوى فيما لا نصّ فيه بعد إحراز الملاك إحرازاً معتبراً يسوغ التعبد به ، ولا ريب بالنظر للرواية الآنفة وغيرها من الروايات والآيات من وجود هذا الملاك وإلّا كان الإشهاد الإلهي يوم الميثاق لغواً ، ولا يلتزم به مسلم .
لكن سؤالنا : هل يكفي مثل هذا الملاك لإدخالها الماهويّ والجزئي في الأذان ، أم ما يدل عليه إنّما هو الشعاريّة لا غير ؟
شذّ البعض وقال بالجزئية بناء على تلك النصوص وغيرها ، وهو مشكل بنظرنا ؛ إذ الصحيحة الآنفة وخبر الغدير وأمثالها يكشف عن ملاك الشعاريّة فقط ولا يكشف عن ملاك القول بالجزئية .
وبعبارة اُخرى : إنّ قوله : « ما نودي بشيء مثل ما نودي بالولاية » يكشف عن شرعية شعارية النداء بالولاية ، وهو القدر المتيقّن منه ، ولا يكشف عن شرعية جزئيتها إلّا من باب الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً ، هذا علاوة على أنّ دليل التوقيفية مانع من القول بالجزئية حسبما تقدّم .
وعليه فكل ما في تلك النصوص يدلنا على إمكان اتخذها شعاراً عملياً في الخارج وليس اعتقاداً نظرياً في القلب فقط ، أي أن للشهادة بالولاية في الجملة ملاكاً قطعياً للقول بأنّها من الاحكام العبادية بشرط عدم المانع وليست من أحكامه الإيمانية فقط .
والذي يدعونا لهذا القول علاوة على الملاك القطعي في الشعارية وأنّ ولاية علي من أعظم شعائر الله بل أعظم شعائر الله على الاطلاق من بعد الرسالة ـ بشهادة آية البلاغ ـ هو ضرورة توفير المصداقية الخارجية لها في الأذان وفي غيره ، وهذا هو ما يريده الله سبحانه وتعالى من الإشهاد بها بعد الشهادتين يوم الميثاق العظيم ، وإلّا لا معنى لان يخبرنا المعصوم بما لا دخل له بعالم التكليف كما عرفت .
وبعبارة ثالثة :
نحن نعلم بأن المنظومة المعرفية الالهية مترابطة كمال الارتباط ، إذ شاهدت التلازم بين الشهادات الثلاث في القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين ، والآن لنطبق ما نريد قوله في شعيرة الأذان .
فالأذان وحسبما وضحناه سابقاً (1) لم يكن إعلاماً لوقت الصلاة فحسب ، بل هو بيان لكليات الإسلام وأُصول العقيدة والعقائد الحقة من التوحيد والنبوة والإمامة ـ بنظر الإمامية ـ فلو كان الأذان إعلاماً لوقت الصلاة فقط لاكتفى الشارع بتشريع علامة لأداء هذا الفرض الإلهي ، كما هو المشاهد في الناقوس عند النصارى ، والشبّور عند اليهود ، وإشعال النار عند المجوس .
في حين أنّا لا نرى أمثال هذه العلائم في هذه الشعيرة ، بل نرى الإسلام اسمى من كل ذلك فهو يشير في إعلامه إلى كليّات الشريعة وأصول الدين الأساسية قولاً وعملاً ، وهذا ما لا نشاهده عند الأديان الأخرى ، فهو الدين السماوي الوحيد الذي يلخّص أصول عقيدته كلّ يوم عدة مرات ـ في هذه الشعيرة ـ لتكون تذكرة لمتّبعيه ، وإعلاماً للآخرين بأصول هذا الدين .
فالأذان إذن يحمل في طيّاته معاني سامية ، وله آثار كثيرة في الحياة الاجتماعية غير الإعلام بوقت الصلاة ، كالتأذين في أُذن الصبي عند ولادته ، ولإِبعاد المرض عن المبتلين ، ولطرد الجنّ ، ولرفع عسر الولادة والسقم ، ولسعة الرزق ، ولرفع وجع الراس ، وسوء الخلق ، ولمشايعة المسافر . . إلى غيرها من عشرات المسائل التي ورد فيها نصّ خاص بالتأذين فيها .
وبما أنّ تشريع الأذان سماويّ وليس بمناميٍّ ـ حسبما فصلناه سابقاً ـ (2) وأنّه ليس إعلاماً لوقت الصلاة فقط ، فلا بدّ أن يحمل بين فقراته معاني سامية واُصولاً سماوية لا يرقى إليها شكٌّ قد أقرّها النبي وأهل بيته والقرآن ، ولأجل ذلك ترى منظومة العقائد الإلهيّة مترابطة في الأذان ترابطاً وثيقاً في المفاهيم والأعداد .
وكذا بين فصوله ترى تصويراً بلاغياً رائعاً ، فالمؤذّن بعد أن يشهد لله بالوحدانية مرتين : « أشهد أن لا إله إلّا الله ، أشهد أن لا إله إلّا الله » تقابلها الدعوة له بالصلاة لربه مرتين : « حي على الصلاة ، حي على الصلاة » معلماً الشارع المكلّف في الفقرة الثانية بأن الشهادة لله لا تكفي إلّا من خلال عبادته وطاعته ، لأنّ الصلاة لا تؤدَّى إلّا لله .
وانّ اللفّ والنشر الملحوظ بين الشهادة الأولى والصلاة لله يعلمنا بأنّ الله هو الأول والآخر في كل شيء ، تشريعاً وتكويناً ، لأنّ بدء الأذان بكلمة « الله » وختمه بكلمة « الله » ليؤكّد بأنّ كل الأمور مرجعها إلى الله ، وأنّ كل ما أُعطي لرسوله محمّد أو لغيره إنّما هو من عنده جل وعلا .
وبعد الإقرار بالوحدانية لله يأتي دور الشهادة لرسوله الأمين مرتين : « أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنّ محمّداً رسول الله » وقبال هذه الشهادة توجد حيعلتان « حي على الفلاح ، حي على الفلاح » والتي تدعو إلى لزوم اتّباع الرسول .
ومن المعلوم أنّ الفلاح اسم جنس يشمل الصلاة ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وطاعة الله ، وطاعة رسوله ، بل إنّ كل ما أتى به الرسول هو الفلاح وفيه الفوز والنجاح .
لأنّ رسول الله بَدَأَ دعوته بقوله : « قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا » فربط بذلك الشهادة بالتوحيد بالشهادة بالنبوّة والرسالة ، ثمّ جاءت النصوص الواحدة تلو الأُخرى معلنة بأن ما أتى به الرسول هو الفلاح كما في قوله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ) (3) ، و ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) (4) ، و ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (5) ، و ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (6) وقوله تعالى ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (7) إلى غيرها من عشرات الآيات .
وعليه فالفلاح هو كُلُّ ما جاء به الرسول من فرائض أو سنن ، وبذلك يكون معنى الحيعلة الثانية في الواقع ، هو : هلمّوا إلى اتّباع الرسول وعدم الأخذ عن غيره .
ففي معاني الأخبار عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : لما أُسري برسول الله وحضرت الصلاة فاذن جبرئيل عليه السلام ، فلمّا قال : الله اكبر ، الله أكبر ، قالت الملائكة : الله اكبر ، الله اكبر ، فلمّا قال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، قالت الملائكة : خلع الأنداد ، فلما قال : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، قالت الملائكة : نبي بُعِث ، فلما قال : حي على الصلاة ، قالت الملائكة : حثّ على عبادة ربه ، فلما قال حي على الفلاح قالت الملائكة : قد أفلح من اتّبعه (8) .
وفي التوحيد عن الإمام الحسين عليه السلام عن أبيه الإمام علي عليه السلام في تفسير فصول الأذان : ( حي على الفلاح ) فانه يقول : سابقوا إلى ما دَعَوْتُكُم إليه وإلى جزيل الكرامة وعظيم المنة وسَنِيِّ النعمة والفوز العظيم ونعيم الأبد في جوار محمّد في مقعد صدق عند مليك مقتدر (9) .
وفي الكافي عن علي بن إبراهيم ، بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في معنى قوله تعالى ( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ) ـ والذي مر قبل قليل ـ قال : النور في هذا الموضع عليٌّ أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام (10) .
وفي علل الشرائع عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لعمر بن أُذينة : ما ترى هذه الناصبة في اذانهم ـ إلى أن يقول ـ فقال جبرئيل : حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، فقالت الملائكة : صوتين مقرونين ، بمحمّد تقوم الصلاة وبعلي الفلاح ، فقال جبرئيل : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، فقالت الملائكة : هي لشيعته أقاموها إلى يوم القيامة (11) .
هذا وممّا يجب الإشارة إليه بأنّ الشيعة أيّام رسول الله والأئمّة كانوا يُعرَفُون بكثرة صلاتهم ، وأنّ القوم كانوا يتعرّفون عليهم من خلال الصلاة ، وعن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال : . . . وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعهّد للجيران من الفقراء . . . (12) .
وبهذا فقد اتّضح لنا معنى الحيعلتين الأُوليين ، فالحيعلة الأُولى فيها إشارة إلى طاعة الله ، والحيعلة الثانية إشارة إلى لزوم اتّباع سنة رسوله ، فما معنى الحيعلة الثالثة إذن ؟ مرّ عليك سابقاً ما جاء عن الأئمة : الباقر والصادق والكاظم بأنّ معناها الولاية ، وأنَّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين القول بإمامة الإمام علي والقول بشرعية الحيعلة الثالثة ، وبين رفض إمامة أمير المؤمنين والقول برفع الحيعلة ، بل هناك ترابط بين حذف الحيعلة ووضع « الصلاة خير من النوم » مكانه ، فالذي يقول بشرعية « الصلاة خير من النوم » لا يرتضي القول بالحيعلة الثالثة ، والعكس بالعكس .
وعليه فالمنظومة المعرفيّة في الأذان مترابطة كمال الارتباط ، وإنّ بَتْرَ حلقة منها يخلّ بأصل المنظومة ، وذلك للارتباط الوثيق بين الشهادات الثلاث ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (13) ، و ( أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ ) (14) ، و ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (15) .
نعم ، إنّ المشرع فيما هو محتمل ـ ولظروف التقية ـ اكتفى بالبيان الكنائي للولاية في الحيعلة الثالثة مع الإشارة إلى وجود الأهليّة والملاك لتشريعها كشهادة ثالثة وان لم تشرّع على أنّها جزء بعد الشهادتين رحمة للعالمين . أو قل : شرعت في اللوح المحفوظ ولم تصلنا لأي سبب كان ؛ التقية أو غيرها .
ومن هذا المجموع المنظّم نصل إلى أنّ أصول الإسلام بكامله متجسدة في الأذان ، وإنّ تكرار الحيعلات توحي لنا بأنّ المراد من الأذان هو بيان كلّيات العقيدة ، إذ النظرة البدوية الأوليّة تنبئُ عن أنّها دعوة للصلاة ، ولكن بما بيّنّاه عرفنا أنّ الأمر أسمى من ذلك بكثير ، وهو إشارة إلى الأصول الأساسية في الشريعة من التوحيد والنبوة والإمامة ـ بنظر الإمامية ـ ومن هنا تعرف معنى قول المعصوم : « إلى ها هنا التوحيد » .
إذن في الأذان معاني ومفاهيم كثيرة سامية تَلْحَظ بين أجزائها ارتباطاً فكرياً عقائدياً منسجماً يتكون من مجموع الشهادات الثلاث ، أما الشهادتان الاولى والثانية فلا كلام فيهما ، وأما الشهادة الثالثة ، فلما مر في الدليل الكنائي وأنّ الإمام اراد حث عليها ودعا إليها بعامة ، وفي الأذان بخاصة .
وهذا هو الذي دعانا للقول بأنّ هناك مناطاً صحيحاً لذكر الولاية في الأذان من باب الشعارية .
وقد مرّ في اخر الدليل الكنائي مطلوبية الإتيان بالشهادة الثالثة ـ خصوصاً في هذه الأزمنة ـ مع اقرارنا بوجود معنى الولاية في الأذان من خلال جملة « حيّ على خير العمل » ولو احببت راجع (16) .
التخريج الثالث : وجود المصلحة
قبل البحث في هذه المسألة لا بد من القول بأنّ دعوى المصلحة لتأسيس حكم شرعي ليست صالحة في كل الفروض ؛ فما لم يُقطع بوجود المصلحة قطعاً حقيقياً أو تعبدياً لا يجوز تأسيس حكم عليها ونسبته إلى الشارع ؛ لأنّه حينئذ من التشريع المحرّم الذي يدور مدار الظنّ الذي لا يغني من الحق شيئاً ؛ وعلى هذا الأساس رفض مذهبنا العمل بالاستحسان ، وكذلك الشافعي في قوله : « من استحسن فقد شرّع » (17) .
والتاريخ أنبأنا أنّ الاستحسان أبدعه عمر بن الخطاب ؛ وإنّما صار الاستحسان أحد مصادر التشريع الإسلامي عند بعض العامة اتباعاً لعمر وانقياداً لما فعل ـ وان استندوا عليه بآيات وروايات ـ في حين ان تلك الآيات والروايات لا تصحح ما يقولون به ، وعلى سبيل المثال فإنّ نافلة ليالي شهر رمضان قد صلّاها رسول الله صلّى الله عليه وآله والصحابة فُرادى ، لكنّ عمر استحسن أن تُصلّى جماعة واستقبح أن تكون فرادى ، والأخبارُ الصحيحة في جامع البخاري وغيره جزمت بأنّ النبيّ خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا صلّى الله عليه وآله نهاهم عن ذلك (18) ، لكن لمّا وصلت الخلافة إلى عمر أصرّ على الجماعة مستحسناً إيّاها حتى قال : نِعْمَ البدعة هذه (19) ؛ فعمر قد استحسن ما قبّحه النبي ، وقبّح ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله .
وفي الحقيقة فهذه المرتبة أقبح مراتب البدعية في الدين ؛ لوجود نهي نبوي في ذلك . بل حتى مع عدم وجود مثل هذا النهي ، فالشريعة لا تجيز لنا الاستحسان ولا ما يسمّى بالمصالح المرسلة والرأي بنحو عامّ ، لوجود نهيٍّ فوقانيّ قرآني يمنعنا من العمل بالظن لأنّه لا يغني من الحق شيئاً .
وفيما نحن فيه ، فقد يقال بأنّ إدخال الشهادة الثالثة في الأذان هو تشريع قام على أساس الاستحسان أو المصالح المرسلة أو الرأي . . . ، ممّا هو باطل بأصل الشرع ، بل إنّ بطلانه من ضروريات المعرفة الإسلامية المستقاة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام .
وتقريب ذلك : أنّ الأذان اُصوله معروفة ، وأجزاؤه معدودة معينة ، وروايات الأذان التي عليها العمل وإن اختلفت في عدد الفصول ـ كما ذكر الشيخ الطوسي ـ إلّا أنّها متّفقة على عدم دخول الشهادة الثالثة في أجزائه ، وإذا كان الأمر كذلك ـ وهو كذلك ـ لم يبق من مسوّغ للإتيان بها إلّا المصلحة الظنية ، وهو باطل ؛ لما عرفنا من أنّ كلّ هذه العملية تدور مدار الظن غير الشرعي الذي لا يغني من الحقّ شيئاً . وبناء على ذلك لا يجوز ذكر الشهادة الثالثة في الأذان ! !
ويجاب عن ذلك بأنّ أصل الإشكال صحيح ، لكنّه مجمل ، إذ لم يفرق الإشكال بين الذكرين الشّعاري والماهويّ ، ومعنى ذلك أنّ الإدخال الماهوي قد قام على أساس المصلحة فيه ، ويكفي أنّها ظنّية لتندرج فيما هو محرم ؛ إذ ليست المصلحة هنا ناهضة لتشريع جزئية الشهادة الثالثة في الأذان وأنّها داخلة في ماهيته ، وحتى مَن استقرب الجزئية من الأصحاب لم يقبل بنهوض هذه المصلحة للقول بالجزئية إلّا أن يستدل على ذلك بشيء آخر غير المصلحة كالأخبار وغيرها ، وهو أيضاً غير مقبول كما مرّ من قبل .
فتحصل : أنّ دعوى وجود المصلحة في تشريع الشهادة الثالثة في الأذان على أنّها جزء منه وداخلة في ماهيته من الباطل بمكان ؛ إذ لم يدّع أحد من الأصحاب ذلك اكتفاءً بالمصلحة الظنية ، وقد يكفي هذا للقول بالبطلان .
إذا تمّ هذا نقول : هل تعدم المصلحة في ذكر الشهادة الثالثة ذكراً شعارياً ؟
وهل أنّ التشريع الشعاري يقوم على أساس الاستحسان والمصالح المرسلة والرأي المحرَّم على غرار التشريع الماهوي آنف الذكر أَم لا ؟
وقبل ذلك ما هي الأدلّة على وجود المصلحة الشعارية في الأذان للشهادة بالولاية ؟
للجواب عن السؤال الثالث نقول : حسبنا الأدلة الصحيحة المارة ، بل حسبنا حديث الغدير النبوي الظاهر في وجود المصلحة الشعارية للشهادة بالولاية ؛ فكلنا يعلم بأنّ النبي جمع كل المسلمين ممّن حضر معه صلّى الله عليه وآله حجّة الوداع أثناء عودته إلى المدينة وهم 120000 ألفاً ، ثمّ رفع يد علي بن أبي طالب حتى بان بياض إبطيهما صلّى الله عليه وآله ، وكان الجوّ حاراً قاسياً ثم قال : « ألست أولى بكم من أنفسكم » ؟
قالوا : بلى يا رسول الله ، قال صلّى الله عليه وآله : « فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله » (20) .
وهنا نتساءل : ما معنى أن يجمع النبي صلّى الله عليه وآله المسلمين لإخبارهم بذلك ؟ ولماذا يرفع بضُبْع علي بن أبي طالب حتى يبين بياض إبطيهما عليه السلام ؟
أما كان له صلّى الله عليه وآله أن ينتظر حتى يصل المدينة ويخبرهم بذلك بدل أن يجمعهم في ذلك الجوّ القاسي ؟ وعدا هذا وذاك ما معنى أن تنزل آية قبل وصوله صلّى الله عليه وآله إلى الغدير تتوعّد النبي صلّى الله عليه وآله إن لم يبلّغ ويعلن ويُشْهِدْ بولاية عليّ فإنّه ما بلّغ الرسالة التي ناءَ بكاهلها ثلاث وعشرين سنة ؟ إذ ما معنى حصر نزول قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (21) بالتبليغ بولاية علي إعلاناً وإشهاداً بمحضر كلّ من كان مع النبي آنذاك ؟
وما معنى نزول قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (22) بمجرّد أن بلّغ النبي المسلمين بولاية علي في غدير خم ؟
بل ما معنى أن ينزل قوله تعالى : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) (23) في الفهري الذي شكّك واعترض على عملية تبليغ النبي بولاية علي حتى ورد في الأخبار الصحيحة أنّ الله رماه بحجر بسبب اعتراضه ؟ كل ذلك يلفت النظر إلى أنّ الله سبحانه وتعالى لم يرض لنا دين الإسلام ـ كما هو صريح آية إكمال الدين وإتمام النعمة ـ إلّا بولاية عليّ ، فما معنى هذا ؟
بل يظهر أنّ دين الإسلام ـ طبق آية البلاغ ـ ناقص لا يكمل إلّا بالتبليغ بولاية علي والإعلان عنها ، فما معنى كلّ ذلك ؟
يستحيل أن يجاب عن هذه الاسئلة وعشرات غيرها من دون الجزم بوجود مصلحة قطعية في عملية التبليغ النبوية والقرآنية للولاية ، كما يستحيل أن يجاب بوجود هذه المصلحة من دون الالتزام بأنّها ذات مصلحة شعارية ؛ إذ هذا هو معنى الأمر بالتبليغ بها ، بحبس الصحابة في ذلك الجو القاسي في غدير خم ، وهذا هو معنى بروز بياض إبطي النبي صلّى الله عليه وآله لما رفع بضبعي عليّ عليه السلام ، وهذا هو معنى أنّ الله لا يرتضي الإسلام من أحد من دون التبليغ بالولاية والإعلان عنها ، وهذا معنى أنّ الدين كمل بالنظر لذلك ، وأنّه ناقص لولا أنّ النبيّ بلّغ بها بأحسن وجه وأتمّ بيان في طول تبليغ الشريعة المقدّسة .
إنّ كل هذا يكشـف عن وجود مصلحة شعارية قطعية ، لا شك فيها ولا شبهة ، ناهضة للفتوى باستحباب أو جواز ذكر الشهادة بالولاية مع الأذان ومع غيره بشرط عدم المانع الشرعي ؛ من منطلق الجزم بوجودها يوم الغدير ، ومن منطلق أنّ الله لا يرتضي إسلام المسلم كاملاً من دونها ، بل من منطلق التبليغ بها والإعلان عنها أسوة بالنبي صلّى الله عليه وآله في يوم الغدير ؛ ولا ريب في أنّ التأسي بالنبيّ صلّى الله عليه وآله في عملية التبليغ بالولاية انطلاقاً من وجود المصلحة من أعظم الأعمال وأشرف الطاعات .
مع ملاحظة أنّ التأسي بالنبي صلّى الله عليه وآله فيما نحن فيه إنّما هو التأسي الشعاري بدليل وجود المصلحة المقطوع بها ، على ما تبيّن من محبوبية الإعلان والتبليغ والإشهاد بالولاية ، وليس هو التأسي به صلّى الله عليه وآله في الأحكام والماهيّات العبادية المنصوص عليها بأدلّة خاصّة ؛ إذ يكفي لإثبات التأسي الشعاري أمثال نص الغدير ، وموثّقة سنان ابن طريف ، وحسنة ابن أبي عمير ، وأضراب ذلك من الروايات .
وبهذا يندفع الإشكال القائل : بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يؤذّن بالشهادة الثالثة في الأذان ، فعلينا التأسـي به صلّى الله عليه وآله وترك الشهادة الثالثة في الأذان ! !
نعم ، هذا صحيح إذا أتينا بالشهادة الثالثة في الأذان على نحو الجزئية فلكم القول بلزوم تركه تأسّياً برسول الله ، أمّا فيما نحن فيه فإنّا نتأسى بالرسول شعارياً لأنّه اكد عليها واجازها وإن لم يأت بها ، فلا ينبغي خلط هذا بذاك .
أضف إلى ذلك ما قد ثبت في النصوص الصحيحة التي رواها الفريقان من أنّ النبي كان لا يأتي ببعض المباحات بل ببعض المستحبات خوفاً على الأمّة من الفتنة أو خوفاً من أن يؤاخذ الله الأمّة بذلك ، فعلى سبيل المثال ترك النبي صلاة نافلة شهر رمضان في مسجده الشريف خوفاً عليهم من أن تفرض ، ومن هذا القبيل ما مرَّ عليك قوله صلّى الله عليه وآله : لولا قومك حديثو عهد بالجاهلية . فقد ترك صلّى الله عليه وآله ارجاع مقام إبراهيم إلى البيت خوفاً من الاختلاف وعدم قبولهم حكمه .
والحاصل : فكما أنّ النبي صلّى الله عليه وآله بلّغ بولاية علي وإمامته يوم غدير خمّ ، وترك النصّ عليها في رزيّة يوم الخميس خوفاً على الأمّة من الهلاك والسقوط ، فهذا بعينه يجري فيما نحن فيه حذو القذة بالقذة ؛ فالنبي صلّى الله عليه وآله قد أشهد الصحابة في غدير خمّ بولاية عليّ وأعلن عنها وبلغ بها ، لكنّه لم يؤذِّن بها شعاريّاً لنفس المانع من النص بها في رزية يوم الخميس ، لأنّه لو أذّن بها لاستظهر منها الوجوب ، وعدم عملهم يدعو إلى الهلاك والسقوط ، وقد استمرّ عدم تأذين الأئمة لنفس الشروط والظروف والأسباب ، فالأئمة وقبلهم النبيّ صلّى الله عليه وآله اكتفوا بالتأكيد على ولاية علي وأنّها شعار يجب الأخذ به في كلّ الأمور .
وبهذا يتضح جواب إشكال القائل بضرورة التأسي بالنبيّ صلّى الله عليه وآله فيما لم يفعله ؛ أي أنّه صلّى الله عليه وآله لم يؤذّن بالشهادة الثالثة وينبغي على المسلمين اتّباعه ؛ ولنضيف على ذلك أموراً أخرى :
أولاً : بأنّه ليس كلّ ما ترك فعله النبيّ صلّى الله عليه وآله كان واجبَ الترك ؛ فهناك ما هو جائز الترك أيضاً ، وما كان كذلك يجوز الإتيان به ؛ لأنّ سبيله سبيل المباحات كما هو معلوم ، والأمثلة على ذلك لا تحصى ، ولقد تقدّم أنّ النبي ترك التنفّل جماعةُ في بعض ليالي شهر رمضان كما في صحيح البخاري خشيةً على الأمة من الهلاك ، وليس معنى ذلك إسقاط النافلة من التشريع بالإجماع .
وثانياً : إنّ ترك النبي للشهادة الثالثة في الأذان تجري مجرى العلّة التي دفعت به صلّى الله عليه وآله لأن لا يكتب كتابه في عليّ في رزية يوم الخميس ، إذ نص صلّى الله عليه وآله بقوله :
« قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع » ، وهي خاصة بشأنه المقدس فيما يلوح من النص « عندي التنازع » .
وكلّنا يعلم بأنّ النبي قد ترك قتل من حاول اغتياله ليلة العقبة خوفاً على الأمة من الهلاك ، مع أنّ الشرع جازم باستحقاقهم القتل ، وكذلك الفرار من الزحف في يوم أحد ؛ فالنبي صلّى الله عليه وآله ترك معاقبتهم ؛ مع أنّهم يستحقونها بالإجماع ، وعلة الترك هي الحفاظ على بيضة الدين ، ترك الإتيان بهذا مع التنبيه على أنّ سكوته حجّة في التأسي به في عدم التأذين بالشهادة الثالثة من باب أنّها جزء فقط ، أمّا غير ذلك فلا ، أي ان سكوته وتركه لها ينفي جزئيتها لا مشروعيتها ومحبوبيتها ، كما سيتوضح في النقطة الاتية .
وثالثاً : لا يستقيم الإشكال من الأساس ؛ فليس معيار التأسي بالنبي صلّى الله عليه وآله أنّه ترك العمل بشعارية الشهادة الثالثة في خصوص الأذان ؛ ولا أنّه ترك التبليغ بولاية علي في رزية يوم الخميس ؛ إذ الأصل ليس هذا بعد الجزم بأنّه صلّى الله عليه وآله بلّغ بولاية علي وأشهد الناس عليها يوم غدير خم ؛ فالمعيار هو أصل التبليغ والإعلان والإشهاد ؛ وهذا قد حصل قطعاً وجزماً ، والقطع بوجود الملاك والمصلحة بذلك التبليغ والإشهاد حاصل لكل المسلمين بلا شبهة ولا كلام وإلّا استلزم لغويّة ما فعله النبيّ ولا يقول به مسلمٌ .
والحاصل : فنحن نتأسى بالنبي صلّى الله عليه وآله في أصل التبليغ والإشهاد والإعلان مما هو معلوم بالضرورة عنه صلّى الله عليه وآله ، ونشهد بالولاية لعلي مع الأذان لا على أنّها جزء بل لأنّها محبوبة عند النبي صلّى الله عليه وآله وخصوصاً مع عدم ورود نهي خاص فيها عن المعصومين للقول بها في الأذان .
رابعاً : يمكن القول بأنّ النبيّ خارج عن دائرة الإشهاد بها في الأذان تخصّصاً لأنّه صلّى الله عليه وآله اكد بأن الولاية لعلي تكون من بعده ، ومعناه لا ولاية لعلي في عهده ، لأنه النبي والإمام ، وخصوصاً مع علمنا بأن الشهادة الثالثة ليسـت جزءاً من الأذان فلا ضرورة لذكرها والاجهار بها في عهد رسول الله .
نعم هو صلّى الله عليه وآله أوضح لنا بأنّ الشهادة بالولاية في الأذان وغيره شعار يجب التمسك به والحفاظ عليه ؛ فقوله الشريف : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » يشير إلى أنّ الخطّ المحمّديّ الأصيل سيستمر بعليّ عقيدة وشعاراً ، بشهادة ما جاء في مصحف ابن مسعود « ورفعنا لك ذكرك » بعلي ابن أبي طالب صهرك (24) .
ولا يخفى أنّ أبرز مصاديق رفع الذكر في العبادات الإسلامية ، خطبة الجمعة ، والتشهد ، والأذان ، كما أثر عن ابن عباس وغيره ، وعلى هذا الأساس لا يستبعد أن تكون الشهادة بالولاية لعليّ في الأذان ـ من باب الشعارية ـ لها مصلحة قطعية ، وخصوصاً بعد أن وقفنا على أنّ ربَّ العالمين أشهد الملائكة على هذه الشهادة ، ووجود اسمه عليه السلام على ساق العرش ، والكرسي ، وعلى جبهة إسرافيل ، وغيرها من الأمور التي جاءت في مرسلة القاسم بن معاوية ، كلّ هذه الأمور تؤكّد وجود مصلحة للإجهار بها مع الأذان من باب الشعارية ، إذ لو لم يكن هناك مصلحة قطعية فيها لما دعا الإمام الكاظم إلى الحثّ عليها والدعوة إليها .
فالإمام في كلامه اشار إلى اهداف الذي حذف الحيعلة الثالثة ، داعياً إلى الحث عليها ، منوهاً في إمكان الاستفادة منه في الازمان المتاخرة وخصوصاً في هذه الازمان والتي تكالبت علينا الأعداء بالتهم والافتراءات ، لان اعدائنا رمونا بتأليه الإمام علي ، أو اعتقادنا بخيانة الامين جبرئيل في انزال الوحي ، فكل هذه الامور تدعونا للجهر بالولاية لعلي دفعاً لاتهامات المتهمين وافتراءات المفترين ، ولما في ذكر علي من مصلحة قطعية .
وعليه فالأذان ليس اعلاماً للصلاة ودخول الوقت فقط ، بل هو كذلك شعار وعلامة لحقائق الإسلام والإيمان ، كما جاء في معنى ( حي على خير العمل ) ، وما جاء في رواية سنان بن طريف بأن الله امر منادياً ان ينادي ، وفي الروايات القائلة بأنّ الاعمال لا تقبل إلّا بالولاية ، وما جاء في علي أنّه الأذان يوم الحج الأكبر وغيرها ؛ فقد روى حكيم بن جبير ، عن علي بن الحسين عليه السلام في قوله تعالى : ( وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قال : الأذان أمير المؤمنين (25) .
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إنّ الله سمّى عليّاً من السماء أَذانا ، لأنّه الذي أدّى عن رسول الله براءةَ : أنّه اسم نَحَلَهُ الله من السماء إلى عليّ (26) .
وجاء عن علي عليه السلام أنّه قال : وكنت أنا الأذان في الناس (27) ، وفي آخر : أنا المؤذّن في الدنيا والآخرة (28) .
إذن فالإمام علي هو عين الدين والاعلام الحقيقي له ، كما أنّه هو نفس الرّسول في آية المباهلة ( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) ونرى هذه العينية تنطبق في إبلاغ سورة براءة ، فقد قال رسول الله لأبي بكر حينما سأله عن سرّ ارجاعه عن تبليغ سورة براءة بقوله : قيل لي : إنّه لا يبلّغ عنك إلّا أنت أو رجل منك (29) .
وبذلك فقد عرفنا من كلّ ما تقدم وجود فصل ثابت في الأذان دالّ على الولاية ، وهو الحيعلة الثالثة ، وعمر بن الخطاب سعى لحذفه مما دعا الإمام الكاظم على لزوم الحثّ على الولاية والدعوة إليها ، أي أنّ الدعوة جاءت للحفاظ على السنّة النبوية في الحيعلة مع بيان مفاهيمها ، بأن معنى الولاية كان موجوداً في الأذان ومنه تشريعه في الاسراء والمعراج بصورته الكنائية « حي على خير العمل » وان التأكيد على الحث عليها كان مما يريده الإمام الصادق كذلك ، ولاجل ذلك ترى اتباع ابني الإمام الصادق ـ أي اتباع الإمام الكاظم وهم نحن ، واتباع إسماعيل بن الصادق وهم الاسماعيلية ـ كانوا يؤذنون بالحيعلة الثالثة مع تفسيرها .
وكذا ان فتح معنى الحيعلة كان مرضياً للإمام الباقر والإمام السجاد ، ذلك لأن الزيدية تجيز فتح معنى الحيعلة الثالثة وقد صرح الإمام السجاد بأن جملة « حيّ على خير العمل » كان في الأذان الاول ، ومن كل هذا السير التاريخي تعرف معنى تشجيع الإمام علي للقائل بالحيعلة الثالثة : « مرحباً بالقائلين عدلاً » كل ذلك تعريضاً بعمر الذي حذفها .
وعليه فالنهج الحاكم كان في تضاد مع كل ما يمت إلى أهل البيت بصلة وهذا يدعونا إلى مطلوبية الاصرار والإجهار بها في هذه الأزمنة لكي يُمَيَّزَ بها المؤمن عن غيره ، وهذه النقطة هي التي دعتنا إلى افراد هذا التخريج عن سابقه ؛ وهذا التخريج ناظر للخارج والعناوين الثانوية ، دون التخريج الثاني الناظر للعنوان الأولي والجزم بوجود الملاك بحسب التلازم بين الشهادات الثلاث الوارد في الأخبار المتواترة معنى فهذا في طول ذلك ؛ والغرض منه تأكيد المحبوبية والمطلوبية .
التخريج الرابع : دفع المفسدة
قد يلحق صناعياً مثل هذا التخريج بالتخريج الثالث الآنف ؛ باعتبار أنّ البحث يدور مدار الملاك وعدمه ، وإنّما أفردنا له عنواناً خاصاً بعناية دفع المفسدة علاوة وجود الملاك والمصلحة ، فلقد تقدّم وجود ملاك سماوي في عملية التبليغ والإشهاد بالولاية من قبل النبي صلّى الله عليه وآله ، ومثل هذا ناهض لجواز التبليغ بها شعارياً ، بأيّ طريقة كانت وبأي صيغة ، في الأذان وفي غيره .
لكنّ هناك أمراً آخر ، وهو دفع المفسدة عن الدين وأهله شعارياً ؛ وأصل ذلك ثابت في القرآن الكريم وسنة النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وبلا تطويل حسبنا بعض آيات الكتاب العزيز تدليلاً على هذه المسألة ، فلقد ذكر القرآن الكريم عن الأنبياء سلام الله عليهم بأنّهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، وبالطبع فإنّه لا معنى لِان يدرج مثل هذا الكلام في كتاب مقدس مثل القرآن إلّا لغرض واحد هو إيقاف الأمم على حقيقة أنّ الأنبياء مهما علت درجاتهم وتقدّست مادّتهم وطهرت أنفسهم فهم ليسوا إلّا بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ؛ كناية عن ما يلازم البشرية من لوازم المادة ؛ لينفي الله عنهم شبهة الألوهية واحتمال الربانية أو الملائكية أو غيرها من التوهمات المخرجة لهم عن مجرّد البشرية ؛ ولقد أخبرنا التاريخ أنّ بعض البشر ـ وهم كثير ـ قد يقعون في براثن هذه الشبهة بقصد وبغير قصد ، والقرآن والأنبياء وقفوا بالمرصاد لذلك ؛ حفظاً للحدود المقدّسة بين الربوبية والعبودية .
وهذا هو الذي يفسّر لنا ما دفع بالنبي صلّى الله عليه وآله لأن يقول في شأن علي عليه السلام : « يهلك فيك رجلان ، محبّ غال ومبغض قال » ، فالمبغض القال هو الناصبّي الذي يضمر العداء والبغض لمن أمر الله بمودّتهم من أهل البيت الذي طهرهم الله من الرجس تطهيراً .
والمحب المفرط بمقتضى الحديث لا يقل خطورة على الدين وأهله من الناصبّي ؛ فالمحبّ المفرط هو الذي يعطي مقاماً لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام لا يرتضيه الله ورسوله ووليّه وبقية أهل العصمة عليهم السلام ، ولقد ذكر لنا التاريخ أنّ هناك مَن أَلَّه عليّاً عليه السلام ففتقوا في الدين فتقاً أثّر كثيراً في مسيرة الدين الإسلامي الصحيح ؛ الأمر الذي حدا بالنّواصب لأن يصطادوا في الماء العكر ويتّهموا أهل الحق من شيعة أمير المؤمنين بأنّهم ليسوا من الإسلام والقرآن في شيء ، وأنّهم مشركون وكفرة ، وأنّ جبرائيل ـ سلام الله عليه ـ خان الأمانة ، إلى غير ذلك من التّهم والتُرَّهات التي ما زالت تلاك في ألسـنة بقايا النواصب وذراري أعداء أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين .
وبذلك نكاد نقطع بأنّ ثبات الشيعة على مرّ العصور على صيغة : « أشهد أنّ عليّاً وليّ الله » أو « حجّة الله » دون صيغ الشعارية الأخرى التي من قبيل « محمّد وآل محمّد خير البريّة » جاءت لدفع المفسدة عن مذهبهم الحق ، ولكي لا يُرموا بالغلو والتفويض ، وإشارة إلى أنّ عليّاً مهما بلغ من الفضيلة والقدسيّة فلا يعدو ـ صلوات الله عليه ـ كونه حجّة الله وولي الله وأشرف عبيد الله من بعد النبي صلّى الله عليه وآله ، وأنّ هاتين الصيغتين أصرح وأوضح للدلالة على الولاية من غيرهما .
وهذا معناه أنّ شعارية الشهادة الثالثة لا تقف على القطع بوجود المصلحة في عملية التبليغ بها كما تواتر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله فقط ، بل أيضاً على القطع بدفع مفسدة شبهة الألوهية الملقاة على عاتق الشيعة من قبل النواصب وأعداء أهل البيت عليهم السلام زوراً وبَهْتاً .
وان الشيعة استحباباً تأتي بالشهادة الثالثة بعنوانها الثانوي ، أي لردّ هجمات الخصوم عليها ولكونه كلاماً حقاً وشعاراً مطلوباً ومحبوباً للشارع مؤكدة بعدم جواز الإتيان بها بقصد الجزئية .
وليس من الاعتباط في شيء أن نحتمل قويّاً أنّ أغلب الشيعة قد ثبتوا على صيغة « أشهد أنّ عليّاً ولي الله » دون غيرها من الصيغ لوردوها في الأحاديث المتواترة في غير الأذان ، مراعين ذكر ترتيبها بعد الشهادتين ، كما جاءت في الأخبار ، ولإِعلام الآخرين أنّهم يعتقدون بأن الله هو الواحد الاحد ولا إله غيره ، وأنّ نبيّه ورسوله هو محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب . كلّ ذلك لدفع هذه الشبهة وهذه المفسدة ، ولو تأمّلنا قليلاً في الأمر أكثر ، لوجدنا أنّ إصرار الشيعة على هذه الصيغة بالخصوص لم يكن منشؤه النواصب وأعداء أهل البيت عليهم السلام فقط ، بل كان هناك أيضاً المفوّضة ـ لعنهم الله ـ الذين أعطوا للأئمة عليهم السلام صفات خاصّة فوق حدهم تمسّ بمقام الربوبيّة .
ولا بأس بالتنويه هنا إلى أنّ فقهاء العامة قد قبلوا من عمر بن الخطاب زيادة « الصلاة خير من النوم » في الأذان بدعوى دفع مفسدة ترك صلاة الفجر بسبب النوم ولكونه شعاراً لتعظيم حق الصلاة ، وقد يتخيل لذلك وجه شرعيّ بنظرهم أو بنظر الباحث الموضوعي ؟ لكنّ السبب الذي جعله يخترعها مما لا يمكن قبوله ، وكيفية الجعل أيضاً تنافي وتجافي الدليل ؛ لأنّه جعلها جزءاً داخلاً في ماهية الأذان ، وهذا أوّل البدعة هذا أوّلاً .
وثانياً : إنّه حذف صيغة « حيّ على خير العمل » من الأذان بعد ثبوتها على عهد رسول الله وتأذين الصحابة بها وهذه بدعة ثانية .
وعلى هذا لا يصح أن يقال من أنّ هذا الفعل هو كفعل عمر ، ومقايسة الشهادة الثالثة في الأذان بما فعله عمر من حذف الحيعلة الثالثة وإدخال « الصلاة خير من النوم » ، فنحن لم ندخلها في ماهية الأذان ، بل نؤكد على جواز الإتيان بها شعارياً ، أي عدم الضير بالقول بها مع الأذان .
نعم قد نؤكد على مطلوبية الإتيان ؛ لكثرة هجمات الخصوم علينا ، وفقهائنا قد أكدوا على عدم جزئية الشهادة الثالثة ولم يعدوه ضمن الفصول الثابتة ، ولو راجعت رسائلهم العملية لرأيت الأذان ثمانية عشر فصلاً والإقامة سبعة عشر فصلاً عندهم ، وليس في هذه الفصول الشهادة بالولاية لعلي ، وهو خير دليل على نفيهم للجزئية ، وبعد هذا فلا يصح نسبة الابتداع إلى الشيعة في الأذان لأنهم يؤكدون على نفي جزئيتها لكنهم في الوقت نفسه يسمحون للقول بها ـ ويؤكدون على مطلوبيتها بعنوانها الثانوي ـ من باب الشعارية وأمثالها من التخاريج الفقهية .
كان هذا مجمل ما أردنا بيانه بهذا الصدد ، وقد سعينا أن لا نخرج عن قول المشهور الأعظم من أصحابنا ، رافعين التساؤلات والشبهات المطروحة عنه ، غير مدّعين بأنّا قد وفّينا البحث حقه ؛ بل نعتقد بأنّ ما قدّمناه هو مبلغ وسعنا وعلمنا وأنّ مبحثاً حساساً ومهماً كهذا يحتاج إلى جهد أكثر مما قدمناه ، تاركين تكميله وتطويره لإخواننا الفقهاء والأساتذة والفضلاء ، سائلين المولى سبحانه أن يتقبّل هذا القليل ويجعله في حسناتي ، مكفّراً به عن سَيِّئاتي ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .
الهوامش
1. في كتابنا « حي على خير العمل الشرعية والشعارية » : 149 .
2. في كتابنا « حي على خير العمل الشرعية والشعارية » : 59 وما بعده .
3. الاعلى : 14 .
4. المؤمنون : 2 .
5. النور : 51 .
6. البقرة : 4 ، 5 .
7. الأعراف : 157 .
8. معاني الاخبار : 387 / باب معنى نوادر المعاني / ح 21 .
9. التوحيد : 238 ـ 241 / الباب 34 / ح 1 .
10. الكافي 1 : 194 / باب ان الأئمة عليهم السلام نور الله / ح 2 .
11. علل الشرائع 2 : 312 ـ 315 .
12. صفات الشيعة ، للصدوق : 12 ، والكافي 2 : 74 / باب الطاعة والتقوى / ح 3 .
13. النساء : 59 .
14. الانفال : 41 .
15. التوبة : 105 .
16. صفحة 223 وصفحة 149 .
17. المغني 6 : 151 ، التقرير والتحبير 3 : 296 ، أدب الطلب : 211 .
18. صحيح البخاري 1 : 313 / ح 882 ، 1 : 380 / ح 1077 ، 2 : 708 / ح 1908 ، صحيح مسلم 1 : 524 / ح 761 ، مسند أحمد 6 : 169 / ح 25401 ، 6 : 177 / ح 25485 .
19. صحيح البخاري 2 : 707 / ح 1906 ، صحيح بن خزيمة 2 : 155 / ح 1100 ، الجمع بين الصحيحين 1 : 131 / ح 57 ، من افراد البخاري .
20. مناقب الكوفي 2 : 415 / ح 896 ، وروى المقدسي حديث الولاية هذا بطرق عدة وباسانيد صحيحة وبعضها حسنة ، انظر الأحاديث المختارة 2 : 87 ، 105 ، 106 ، 74 / ح 381 ، 479 ، 480 ، 481 ، 553 ، و 3 : 139 ، 151 ، 207 ، 274 / ح 937 ، 948 ، 1008 ، 1078 . ورواه الحاكم بسبعة طرق انظر المستدرك 3 : 118 ، 119 ، 126 : 143 ، 419 ، 613 وصحّح الذهبي في ملخصه منها اثنان وسكت عن ثلاثة وضعف اثنان .
21. المائدة : 67 .
22. المائدة : 3 .
23. المعارج : 1 .
24. الروضة في الفضائل : 168 ، فضائل لابن شاذان : 151 .
25. تفسير القمّي 1 : 282 .
26. انظر معاني الاخبار : 298 / باب معنى الأذان من الله ورسوله / ح 2 .
27. علل الشرائع 2 : 442 / الباب 188 / ح 1 .
28. معاني الأخبار : 59 ، في خطبة خطبها عليه السلام في الكوفة بعد منصرفه في النهروان .
29. انظر الخصال : 369 ، 558 ، 578 ، المسترشد : 302 .
مقتبس من كتاب : أشهد أنّ عليّاً وليّ الله بين الشعاريّة والإبتداع / الصفحة : 506 ـ 531
التعلیقات