ماذا يراد من التفويض؟
التوحيد
منذ 15 سنةالمصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2 ، ص 93 ـ 98
(94)
ماذا يراد من التفويض؟
اتَّفقت كلمة الموحدين على أنَّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشّرك ،
وأنَّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يُعَدّ عبادة للمخضوع له ، والتفويض
يتصور في أمرين:
1 ـ تفويض الله تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء
والأولياء ، ويسمّى بالتفويض التكويني.
2 ـ تفويض الشؤون الإِلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع ، والمغفرة
والشفاعة ، ممّا يعد من شؤونه سبحانه ، ويسمّى بالتفويض التشريعي.
أمَّا القسم الأوّل:
فلا شكّ أنَّه موجب للشرك ، فلو اعتقد أحد بأنَّ الله فوّض أمور العالم
وتدبيرها من الخلق والرزق ، والإِماتة ، ونزول الثلج والمطر وغيرها من حوادث
العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده ، فقد جعلهم أنداداً له سبحانه ؛ إذ لا
يعني من التفويض إلاّ كونهم مستقلين في أفعالهم ، منقطعين عنه سبحانه
فيما يفعلون وما يريدون.
فالأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال والانقطاع عن الله
سبحانه(1) ، أو كونه إذا شأن بأمره تعالى وإذنه ومشيئته ، ولا قسم ثالث . والأوّل
منهما هو التفويض . وأمّا الثاني وهو الاعتقاد بأنَّ القديسين من الملائكة
والجنّ أو الأنبياء أو الأولياء مدبرون للعالَم بإذنه ومشيئته وأمره وقدرته من دون
أنْ يكونوا مستقلين فيما يفعلون ، أو مفوّضين فيما يعملون ، فليس موجباً
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهو قسمان استقلال العبد في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم والحوادث الواقعة فيه ، وهو
محل البحث . واستقلاله في أفعال نفسه كمَشْيِه وتكلمه ، وهو ما يأتي البحث عنه في الجبر
والتفويض ، وهو الفصل السَّادس من الكتاب.
________________________________________
(95)
للشرك ، بل أمره دائر حينئذٍ بين كونه صحيحاً مطابقاً للواقع ـ كما في
الملائكة ـ أو غَلَطاً مخالفاً له ، كما في الأنبياء والأولياء ، فإنّهم غير واقعين
في سلسلة العلل والأسباب بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي
بحيث يختل عيشهم وحياتهم عند اختلال تلك النُّظم . ومعلوم أنّه ليس كل
مخالف للواقع يعتبر شركاً ؛ إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية
والنظم المادية ، وليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل والأسباب مكان
النظم المادية للظاهرة شركاً.
وقد مرَّ أنَّ مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعاً من
الاستقلال في الفعل ، وكانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس . وقد جاء في
السيرة أنّه لما أصاب المسلمين مطر في الحديبية لم يبلّ أسفل نعالهم أي
ليلاً ، فنادى منادي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مناديه أنْ ينادي ألا
صَلّوا في رحالكم . وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صبيحة ليلة الحديبية لما
صلّى بهم : « أتدرون ما قال ربّكم ». قالوا: الله ورسوله أعلم . قال: قال
الله عزّ وجلّ : « صَبَّحَ بي مِنْ عِبادِي مُْؤمِنٌ بِي وَكَافِرٌ ، فأمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنا
بِرَحْمَةِ الله وَفَضْلِه ، فهو مُْؤمِنٌ بالله وكافِرٌ بالكَواكِب ، وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنا بِنَجْم
كِذَا ـ وفي رواية: بِنَوْءِ كذا وكذا ـ فهو مُْؤمِنٌ بالكَواكِبِ وكافرٌ بِي » (1).
وأمَّا القسم الثاني:
وهو الاعتقاد بأنَّ الله سبحانه فوضّ إلى أحد مخلوقاته بعض شؤونه
كالتقنين والتشريع ، والشفاعة والمغفرة ، فلا ريب أنّه شرك بالله ، واتخاذ ندّ له
كما يقول سبحانه: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ }(2). والموجود لا يكون ندّاً لله سبحانه ، إلاَّ إذا كان قائماً بفعل أو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة الحلبية : ج 3، ص 29.
(2) سورة البقرة : الآية 165.
________________________________________
(96)
شأن من أفعال الله وشؤونه سبحانه مستقلاً ، لا ما إذا قام به بإذن الله وأمره ،
فلا يكون عندها ندّاً ، بل عبداً مطيعاً له مؤتمراً بأمره ، منفذاً لمشيئته تعالى ،
هذا.
وقد كان أخف ألوان الشرك وأنواعه بين اليهود والنصارى والعرب
الجاهليين اعتقاد فريق منهم بأنَّ الله سبحانه فوّض حقّ التقنين والتشريع إلى
الرُّهبان والأحبار كما يقول القرآن الكريم: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }(1) ، وأنَّ الله فوّض حقّ الشفاعة والمغفرة ـ اللّذيْن هما
من حقوقه المختصة به ـ إلى أصنامهم ومعبوداتهم ، وأنّ هذه الأصنام
والمعبودات « مستقلة » في التصرف في هذه الشؤون ، فهي شفعاؤهم عند
الله ؛ ولأجل ذلك كانوا يعبدونها ، كما يقول عزّ مِنْ قائل: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ }(2).
ولذلك أصرّت الآيات القرآنية على القول بأنَّه لا يشفع أحد إلاَّ بإذن الله ، فلو
كان المشركون يعتقدون بأنَّ معبوداتهم تشفع لهم بإذن الله لما كان لهذا
الإِصرار على مسألة متفق عليها بين المشركين ، أيّ مبرر على أنّ ذلك
الفريق من الجاهليين إنّما كانوا يعبدون الأصنام لكونها تملك شفاعتهم ، وأنَّ
عبادتها توجب التقرب إلى الله ، لا لكونها خالقة أو مدبرة للكون ، وفي هذا
يقول القرآن الكريم حاكياً مقالتهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى }(3).
زبْدَة المقال
خلاصة القول في المقام : إنَّ أي عمل ينبع من الاعتقاد بأنَّ الله سبحانه
إله العالم أو ربّه أو غني في فعله ، ويكون كاشفاً عن هذا النوع من التسليم
المطلق ، يعد عبادة له ، ويكون صاحبه مشركاً إذا فعل ذلك لغير الله.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة: الآية 31.
(2) سورة يونس: الآية 18.
(3) سورة الزمر: الآية 3.
________________________________________
(97)
ويقابل ذلك ، القول والفعل والخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد .
فخضوع أحد أمام موجود وتكريمه ـ مبالغاً في ذلك ـ من دون أن ينبع من
الإِعتقاد بألوهيته ، لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود ، وإن كان من
الممكن أن يكون حراماً . مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها ؛
فإنّه وإن كان حراماً في الشريعة الإِسلامية لكنه ليس عبادة بل حرمته لوجه آخر ،
فالعبادة والتحريم شيئان.
ومن هذا البيان يتضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام وهو:
إذا كان الاعتقاد بالألوهية أو الربوبية أو التفويض ، شرطاً في تحقق العبادة ،
فيلزم من ذلك جواز السجود لأي شخص من دون ضمّ هذه النية.
ويجاب عليه : بأنَّ السجود حيث إنَّه وسيلة عامة للعبادة ، وحيث إنَّ
الله تعالى يُعبد بها عند جميع الأقوام والملل والشعوب ، وصار بحيث لا يراد
منه إلاّ العبادة ، لذلك لم يسمح الإِسلام بأنْ يستفاد من هذه الوسيلة العالمية
حتى في الموارد الّتي لا تكون عبادة . وهذا التحريم إنّما هو من خصائص
الإسلام ؛ إذ لم يكن حراماً قبله ، وإلاّ لما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف
ـ عليه السَّلام ـ ؛ إذ يقول عزّ وجلّ : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّدًا }(1) . ومن هذا القبيل سجود الملائكة لآدم كما يقول سبحانه :
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلأَدَمَ فَسَجَدُوا ... }(2) ؛ فإنّه لم يكن إلاّ سجود
تكريم واحترام.
قال الجصاص : « قد كان السجود جائزاً في شريعة آدم ـ عليه السَّلام ـ
للمخلوقين ، ويشبه أنْ يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسف ـ عليه السَّلام ـ
فكان فيما بينهم لمن يستحق ضرباً من التعظيم ويراد إكرامه وتبجيله ، بمنزلة
المصافحة والمعانقة فيما بيننا ، وبمنزلة تقبيل اليد ، وقد روي عن النبي
ـ عليه السَّلام ـ في إباحة تقبيل اليد أخبار ، وقد روي الكراهة إلاَّ أنَّ السجود
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يوسف: الآية 100.
(2) سورة البقرة: الآية 34.
________________________________________
(98)
لغير الله على وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روت عائشة وجابر وأنس إنَّ
النبي قال: « ما ينبغي لبشر أنْ يسجد لبشر ، ولو صَلُح لبشر أنْ يسجد لبشر ،
لأمَرْتُ المرأة أنْ تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» (1).
والحاصل : إنَّ خضوع أحد أمام آخرين لا باعتقاد أنّهم « آلهة » ،
أو « أرباب » ، أو « مصادر للأفعال والشؤون الإِلهية » بل لأنّ المخصوع لهم
مستوجبون للتعظيم ؛ لأنّهم: { عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ}(2). ليس هذا الخضوع والتعظيم والتواضع والتكريم عبادة قطعاً .
وقد مدح الله تعالى فريقاً من عباده بصفات تستحق التعظيم عندما قال: { إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}(3). وقال في
اصطفاء إبراهيم: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }(4). فهذه الأوصاف
العظيمة توجب نفوذ محبتهم في القلوب والأفئدة ، وتستوجب احترامهم في
حياتهم وبعد مماتهم . بل إنَّ بعض الأولياء ـ عليهم السَّلام ـ فُرضت على
المسلمين محبتهم بنصّ القرآن إذ يقول سبحانه وتعالى :{ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }(5).
وعلى ما ذكرنا لا يكون تقبيل يد النبي ، أو الإِمام ، أو المعلم ، أو
الوالدين ، أو تقبيل القرآن أو الكتب الدينية ، أو أضرحة الأولياء ، وما يتعلق
بهم من آثار ، إلا تعظيماً وتكريماً ، لا عبادة.
إلى هنا تبينت واتضحت حقيقة العبادة بالتعريفات الثلاثة الّتي ذكرناها ،
وأسهبنا في توضيحها ، ويمكنك بعد ذلك أنْ تعرف مدى وهن التعريفات
الأُخرى الّتي تُذكر للعبادة ، ونذكر منها التعريفين التاليين:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحكام القرآن : ج 1، ص 32 لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصَّاص المتوفّى
عام (370 هـ ق) .
(2) سورة الأنبياء: الآيتان 26 ـ 27.
(3) سورة آل عمران: الآية 33.
(4) سورة البقرة: الآية 124.
(5) سورة الشورى: الآية 23.
التعلیقات