صيغة القيادة في الشرائع السابقة
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةصيغة القيادة في الشرائع السابقة
المتبع بين الأنبياء السالفين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم ، إلى خلفاء صالحين لائقين ، ليتسنى لتلك الأُمم في ظلّ الرعاية والتربية الصحيحة ، التي يتولّاها الأوصياء ، أن يستمرّوا في طريق التكامل والرشد.
نعم ، كان كثير من الأوصياء أنبياء ، ولكن بعضاً منهم كانوا أوصياء خاصين ، وهذا يعرب عن أنّ مسألة القيادة والزعامة كانت من الأهميّة والخطورة ، إلى حدّ لم يترك أمرها إلى اختيار الناس ونظرهم ، بل كانت تعهد على مدى التاريخ إلى رجال أكفاء ، يعيّنون بالإسم والشخص ، لأنّ تركه يؤدّي إلى الإختلاف والفرقة والفتنة ، وكانت القيادة يتوارثها ، في الغالب أفراد من سلالة الأنبياء والرسل ، خلفاً عن سلف ، وإليك بعض الآيات المشعرة بذلك.
قال سبحانه مخاطباً إبراهيم ـ عليه السَّلام ـ : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) وليس المراد من الإمامة هنا النبوّة ، كما زعمه بعض المفسّرين ، لأنّه إنّما جعله إماماً بعدما كان نبيّاً ورسولاً ، بشهادة أنّه يطلب هدا المقام لذرّيته ، وإنّما صار ذا ذرّية ، بعدما كبر وهرم ، قال : ( الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) (2). وقد كان نبيّاً قبل أن يرزق ولداً ، بشهادة الملائكة عليه (3). بل المراد هو الإمامة المتمثلة في الحاكميّة والقيادة ، فدعا إبراهيم أن يجعل الله تعالى هذا المقام في ذرّيته ، على النحو الذي فيه « بالتنصيب » ، ولم يردّه سبحانه ، وما أنكره عليه ، بل أخبره بأنّها لا تنال الظالمين منهم.
قال سبحانه ـ حاكياً عن موسى ـ عليه السلام ـ : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي ) (4). فيلب موسى ـ عليه السلام ـ أن يكون أخاه هارون مساعداً ومعينا ً له في القيادة ، فقبله سبحانه ، وأعطاه مصافاً إلى الوزارة ، النبوة. ويؤيّد ذلك تاريخ الأنبياء ، فقد كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصالية ، وقد ذكر المؤرّخون قائمة أو صيائهم ، فراجع (5).
هذه هي الطريقة المألوفة في الشرائع السابقة ، ولا دليل على الإنحراف عنها ، ولا صارف عن الأخذ بها ، بل نجد في السنّة ما يدلّ على أنّ كلّ ما جرى على الأُمم السابقة ، يجري على هذه الأمّة إلّا ما استثني (6).
و يدلّ على ذلك بصراحة لا تقبل جدلاً ، ما روي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنّه قال :
« كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلّما هلك نبي خلفه نبي ، وإنّه لا نبي بعدي ، وسيكون بعدي خلفاء يكثرون » (7).
وظاهر الحديث أنّ استخلاف الخلفاء في الأمّة الإسلاميّة ، كاستخلاف الأنبياء في الامم السالفة ، ومن المعلوم أنّ الإستخلاف كان هناك بالتنصيص ، فيجب أن يكون هنا بالتنصيص كذلك.
* * *
إذا تعرفت على هذه الأمور الإثني عشر ، فاعلم أنّ هذه المقدمات تعرب عن كون صيغة الحكومة بعد النبي هي صيغة التنصيص ، والتنصيب ، لا غير ، لا بالطرق التي تقدّمت عند البحث عمّا تنعقد به الإمامة عند أهل السنّة ، وإليك البيان :
1 ـ قد عرفت أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة في الأمّة ، لا مناص عن سدّها بواحد من أبناء الأمّة ، وأنّ هذه الفراغات لا تسدّ بفرد عادي ، له من المؤهلات والكفاءات العلميّة ، ما لا يتجاوز عن حدود ما لغيره من أفراد الأمّة ، بل يجب أن يكون له كفاءة وصلاحيّة توازن كفاءات النبي ومؤهلاته ، يكون مستودعاً لعلوم النبي ، واقعاً تحت عناية الله تبارك وتعالى وكفالته.
ومن المعلوم أنّ التعرّف على هذا الفرد ليس ميسّراً من طريق الإنتخاب بالشورى أو بالبيعة ، بل يُعرف يتعيّن من الله سبحانه عن طريق النبي الأكرم ، نظر أوصياء سائر الأنبياء.
2 ـ كما عرفت أنّ الدولة الإسلاميّة الفتية كانت مهدّدة في أخريات أيّام النبي ، حال وفاته ، بأعداء داخليّين وخارجيّين. أمّا الداخليّون ، فهم المنافقون الذين كانوا يتربّصون بها الدوائر ، وأمّا الخارجيّون ، فدولتا الروم والفرس ، فمقتضى المصلحة العامّة في تلك الظروف الحرجة ، تعيين الإمام الخليفة بعده ، لئلّا تترك الدولة بعد وفاته عرضة للإختلاف ، وبالتالي تمكّن أعدائها منها ، خصوصاً إذا لاحظنا أنّ حياة العرب حينذاك في نفوسهم ، ترك الأمر إلى مجتمع هذا حاله ، يؤدّي إلى التشاغب والإختلاف وبالتالي إلى القتل والدمار.
أضف إلى ذلك أنّ الوعي الديني لم يكن راسخاً في قلوب أكثر الصحابة ، وإن كان القليل منهم قد بلغ القمّة ، وصاروا مثلاً عليا للفضل والفضيلة ، قد عرفت دليل قلّة الوعي الديني ، بفرارهم في بعض الغزوات.
3 ـ كما عرفت أنّه لو كان أساس الحكم على غير وجه التنصيب ، لكان على النبي الأكرم بيان أسسه وأصوله وفروعه ، وشرائط الإمام ، وما تنعقد به الإمامة ، مع أنّ النبي سكت عن ذلك ولم ينبس منه بكلمة ، أفيصحّ لنا أن نتهم النبي بأنّه بلّغ أبسط الأمور وأيسرها ، التي تقع في الدرجة الأخيرة من الأهميّة في حياة الإنسان ، وسكت عن عظائم الأمور ومهمّاتها التي تتوقّف عليها حياة الأمّة.
كلّ ذلك يعرب عن أنّ سكوته لأجل أنّ أساس الحكم هو التنصيب ، ونصب الإمام يغني عن البحث حول أساس الحكم وشروطه ; « وكلّ الصّيد في جوف الفراء » (8).
4 ـ كما عرفت أنّ تصوّر النبي للخلافة في عصره ، هو إيكالها إلى الله سبحانه ، وأنّه تعامل معاملة الرسالة ، وأنّه عرّفها بنفس ما عرّف به الله سبحانه الرسالة ، « يضعها حيث شاء ».
5 ـ كما عرفت أنّ تصوّر الصحابة ، وسيرتهم في الخلافة هي سيرة التنصيب ، وقد كان ترك التنصيب ، في نظرهم ، إهمالاً لأمر الأمّة ، وتركاً لها بلا راع فريسة للذئاب ، والأعداء ، وبذلك استتبّ الأمر لعمر بيد أبي بكر ، ولعثمان بيد عمر ، وهكذا توالت السيرة في الامويين من الخلفاء ، وشذّت عنها خلافة علي حيث استتبت له ببيعة المهاجرين والأنصار.
6 ـ كما عرفت أنّ صيغة القيادة في الشرائع السابقة كانت هي التنصيب ، وكان الأوصياء يُنصبون من طريق الأنبياء.
7 ـ كما أنّك عرفت أنّه لا دليل على كون أساس الحكم هو الشورى والبيعة بألوانهما المختلفة.
كلّ ذلك يعرب عن أنّ القائد الحكيم ، بأمر من الله سبحانه ، سلك مسلكاً ، ونهج منهجاً ، يطابق هذه الأصول والمقدّمات ، وما خالفها قدر شعرة ، عيّن القائد بعده في حياته ، وأعلنه للأمّة في موسم أو مواسم.
هذا ما يوصلنا إليه السبر والتقسيم والمحابة في الأمور الإجتماعيّة والسياسيّة ، فيجب علينا عندئذ الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، لنقف ونتعرّف على ذلك القائد المنصوب ، ونذعن ـ بالتالي ـ بأنّ عمل النبي كان موافقاً لهذه الأصول العقلائيّة التي تقدّمت ، وهذا ما يوافيك في البحوث التالية.
الهوامش
1. سوة البقرة : الآية 124.
2. سورة إبراهيم ، الآية 39.
3. لاحظ سورة الحجر : الآيات 51 ـ 60.
4. سورة طه : الآيتان 29 و 30.
5. لاحظ إثبات الوصيّة ، للمسعودي ، مؤلّف مروج الذهب « م 345 ».
6. روى أحمد في مسنده ، ج 3 ، ص 84 ، عن أبي سعيد الخدري ، أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال : « لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم ، شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم ». ورواه غيره من أصحاب الصحاح والسنن.
7. جامع الأصول لابن أثير الجزري ، الفصل الثاني ، فيمن تصحّ إمامته وإمارته ، ص 443 ، أخرجه البخاري ومسلم.
8. مثل يُضرب.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 71 ـ 75
التعلیقات