تعريف المعجزة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 69 ـ 72
( 69 )
الجهة الأولى
تعريف المعجزة
المشهورة في تعريف المعجزة أنّها (1): «أمر خارق للعادة ، مقرون
بالتحدي ، مع عدم المعارضة» (2).
وبما أنّ الإعجاز يفارق الكرامة في أنّ الأوّل يكون مقروناً بدعوى النبوة
بخلاف الكرامة ، فيجب أن يضاف قيد : « مع دعوى النبوة » إلى التعريف ،
ولعلهم استغنوا عنه بقيد « التحدي » . وإليك توضيح هذا التعريف.
1 ـ الإعجاز خارق للعادة وليس خارقاً للعقل
إنّ هناك من الأمور ما تعدّ خارقة للعقل ، أي مضادة لحكم العقل الباتّ ،
كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ، ووجود المعلول بلا علّة ، وانقسام الثلاثة إلى
عددين صحيحين... فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- شرح التجريد : لنظام الدين القوشجي ، ص 465.
2- وقد عرّف المحقق الطوسي الإعجاز بقوله : « هو ثبوت ما ليس بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد ، مع
خرق العادة ، ومطابقة الدعوى » ، ( كشف المراد : ص 218، طبعة صيدا ـ 1353 هـ). ولا
تخفى المناقشة في هذا التعريف لزيادة قوله مع « خرق العادة » ، للاستغناء عنه بقوله : « ما ليس
بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد » . أضف إلى ذلك أنّه ترك بعض القيود اللازمة فيه. والتعريف الّذي
ذكرناه أكمل منه.
________________________________________
( 70 )
وهناك أمور تخالف القواعد العادية ، بمعنى أنّها تعدّ محالاً حسب الأدوات
والأجهزة العادية ، والمجاري الطبيعية ، ولكنها ليست أمراً محالاً عقلاً لو كان
هناك أدوات أخرى خارجة عن نطاق العادة ، وهي المسماة بالمعاجز . ولأجل
تقريب ما ذكرنا تمثّل ببعض الأمثلة.
مثال أوّل : جرت العادة على أنّ حركة جسم من مكان إلى مكان آخر
تتحقق في إطار عوامل وأسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة ، ولكن
لم تعرف العادة أبداً حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه ، في فترة
زمانية لا تزيد على طرفة العين ، بلا تلك الوسائط العادية ، ولكن هذا غير ممتنع
عقلاً ، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير ، لم
يقف عليها العلم بعد.
ومن هذا القبيل قيام من أُوتي علماً من الكتاب بإحضار عرش بلقيس ،
ملكة سبأ ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ، في طرفة عين ، بلا توسط شيء من
الأجهزة المادية المتعارفة ، بل بأسباب غيبية كان مطّلعاً عليها. فعمله هذا الخارق
للعادة ، غير خارق للعقل لما ذكرنا ، وهو معجزة.
مثال ثان : إنّ معالجة الأمراض الصعبة كالسِّل والعَمَى ، أمر ممكن لذاته
عقلاً ، ولكنه كان أمراً محالاً عادة في القرون السالفة ، لقصور علم البشر عن
الوقوف على الأجهزة والأدوية الّتي تعيد الصحة إلى المسلول ، والبصر إلى
الأعمى . ومع تقدم العلم تذلّلت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض ، فصار
بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية والعمليات الجراحية.
وفي المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج ، وهي الدعاء والتوسّل إلى الخالق
تعالى.
والعلاج ـ بكلا الطريقتين ـ يشترك في كونه أمراً ممكناً عقلاً ، غير أنّه يختلف
في الطريقة الأولى عن الثانية ، بالطريق والسبب ، فالطبيب الماهر يصل إلى غايته
بالأجهزة العادية ، فلا يعد عمله معجزة ولا كرامة ، والنبي ـ كالمسيح وغيره ـ
يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي ، فيسمّى معجزة.
________________________________________
( 71 )
فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق لأحكام العقل ، إلاّ أنّه موافق للعادة
في الأولى دون الثانية.
وقس على ما ذكرنا كثيراً من الأمثلة يتميز فيها خارق العادة عن خارق
العقل.
2 ـ الإعجاز يجب أن يكون مقترناً بالدعوى
هذا هو القيد الثاني لتحديد حقيقة الإعجاز ، ويهدف إلى أنّ خَرْق العادة لا
يسمّى إعجازاً إلاّ بالإتيان به لأجل إثبات دعوى السفارة والنبوة ، فإذا تجرّد عنها
يسمّى كرامة.
وقد نقل سبحانه في الذكر الحكيم كرامة لمريم ـ عليها السَّلام ـ ، في قوله عزّ
من قائل: ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الِْمحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ
أَنى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَاب)(1).
وهذا الأمر (حضور الرزق بلا سعي طبيعي) لم يكن مقترناً بدعوى المقام
والمنصب الرسالي ، فلا يوصف بالإعجاز بل بالكرامة. وهكذا الحال فيما يقوم به
الأولياء والصلحاء من عظام الأمور الخارقة للعادة ، فإنّها توصف بالكرامة.
3 ـ عجز الناس عن مقابلته
هذا هو القيد الثالث في تحديد حقيقة الإعجاز، وهو ينحلّ إلى أمرين:
الأوّل : دعوة الناس إلى المقابلة والمعارضة ، وطلب القيام بمثله.
الثاني : عجز الناس كلهم عن الإتيان بمثله.
وإلى كلا الأمرين أشير في التعريف بلفظ « التحدي». ويترتب على هذا أنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة آل عمران : الآية 37.
________________________________________
( 72 )
ما يقومُ به كبارُ الأطباء والمخترعين من الأمور المعجبة ، خارجٌ عن إطار الإعجاز،
لانتفاء الأمرين فيهما. كما أنّ ما يقومُ به السحرة والمرتاضون من الأعمال المدهشة ،
لا يُعَدّ معجزاً لانتفائهما أيضاً ، خصوصاً الأمر الثاني ، لقيام المرتاض الثاني بمثل
ما قام به المرتاض الأوّل ، بل بأعظم منه.
4 ـ أن يكون عمله مطابقاً لدعواه
لا بدّ من هذا القيد في صدق الإعجاز على فعل المدعي. فلو خالف ما
ادّعاه لما سمّي معجزة ، وإن كان أمراً خارقاً للعادة ؛ وذلك كما حصل مع مسيلمة
الكذّاب عندما ادّعى أنّه نبي ، وآية نبوته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء ، يكثر
ماؤها : فتفل فغار جميع مائها.
وقد كان من أفاعليه ـ الدالّة على كذب دعواه ـ أنّه أمَرَّ يده على رؤوس
صبيان بني حنيفة ، وحنّكهم ، فأصاب القرع كلّ صبيٍّ مَسَحَ على رأسه ، ولَثَغَ
كُلُّ صبيٍّ حَنَّكَهُ(1).
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- لاحظ تفصيل هذه الوقائع في تاريخ الطبري : ج 2، ص 507.
التعلیقات