هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز والكرامات؟
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 103 ـ 106
( 103 )
الجهة السابعة
هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز والكرامات؟
لا شكّ أنّ للإعجاز أثراً بالغا في إيجاد الإيمان بدعوى المدّعي ، وربما يكون
أثر الإعجاز في نفوس عامة الناس أبلغ من تأثير البراهين العقلية.
فإذا كان للإعجاز هذا الأثر البالغ ، فلماذا حرم منه إنسان ما بعد عصر
الرسالة؟ ولماذا لا تظهر يد من الغيب تقلب العصا ثعباناً ، وتبرئ الكُمْه والبُرْص
والمصابين بالسرطان؟ مع أنّ إنسانَ القرنِ المعاصر أشدُّ حاجةً إلى مشاهدة
المعجزة ، لذيوع بذور الشكً والترديد بين الناس عامة والشباب خاصة ، أفليس
هذا حرماناً من الفيض المعنوي؟
الجواب : إنّ الإنسان المعاصر ، بل من قَبْله ممّن جاؤوا بعد عصر
الرسالة ، ليس ولم يكونوا محرومين من المعجزة ، بل إنّ هناك معجزتين
ساطعتين ، خالدتين على مرّ الدهور.
الأولى : القرآن الكريم
إنّ القرآن الكريم ، معجزةُ النبي الأكرم الخالدة ، المشرقة على جبين
الدهر ، تتحدّى المعاندين ، وتواجه المشككين ، بقولها: ( وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة البقرة: الآية 23.
________________________________________
( 104 )
وهذا النداء ، القرآني يكرّره المسلمون في تلاواتهم وإذاعاتهم وأنديتهم
الدينية ، فلم يُجب إلى الآن أحد من العرب والعجم ، بل كلّهم انحنوا
ـ مذهولين ـ أمام عظمة القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه وأسلوبه ، كما سيأتي
الكلام فيه مفصلاً.
على أنّ القرآن الكريم أخبر بأنّ هذه المعجزة خالدة إلى يوم القيامة ، ولن
يقدر أحد من البشر على مقابلتها ، بقوله: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى
أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً)(1).
الثانية : المباهلة
روى أهل السِيَر والتاريخ أنّه قَدِم وفد نصارى نَجران على رسول الله ـ صلى
الله عليه وآله وسلم ـ ، فدارت بينه وبينهم أسئلة وأجوبة حول نبوته عليه الصلاة
والسلام ، فدعاهم الرسول إلى قبول الإسلام ، فامتنعوا ، فدعاهم إلى المباهلة
فاستنظروه إلى صبيحة اليوم التالي:
فلما رجعوا إلى رجالهم ، قال لهم الأُسقف: « أُنظروا محمّداً ، فإن خرج
بِوُلده وأَهِلهِ ، فاحذروا مباهَلَته ، وإن خَرَجَ بأصحابه فباهلوه».
فلما كان الغد ، خرج النبي الأكرم ويده في يد علي بن أبي طالب ، والحسن
والحسين يمشيان أمامه ، وفاطمة ابنته تمشي خلفه.
وخرج النصارى يتقدّمهم أُسْقُفُهم ، فلما رأى النبيَّ قد أقبل بمن معه ، سأل
عنهم فقيل له : هذا ابن عمه ، وهذان ابنا بنته ، وهذه الجارية بنته فاطمة ، أعزّ
الناس عليه.
وتقدم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فجثا على ركبتيه ، فقال أبو حارثة
الأُسقف : « جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة » ، فرجع ولم يُقدم على المباهلة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الإسراء: الآية 88.
________________________________________
( 105 )
وقال : أنا أخاف أن يكون صادقاً ، ولئن كان صادقاً ، لم يَحُلْ والله علينا
الحول ، وفي الدنيا نصراني».
فصالحَوا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على ألف حُلّة من حلل الأواقي ،
وقال النبي : « والّذي نفسي بيده ، لو لاعنوني ، لمُسخوا قردة وخنازير ،
ولاضطرم الوادي عليهم ناراً ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا»(1).
وفي هذا المجال ورد قوله سبحانه: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(2).
والمباهلة معجزة إسلامية خالدة ، يقوم بها الأمثل فالأمثل من الأُمة في مقام
محاجة المخالفين من اليهود والنصارى وغيرهم ، ولا تختص بالنبي الأكرم.
إنّ بإمكان أصحاب النفوس الكاملة ، في مراتب التقوى والورع واليقين ،
أن يباهلوا أعداء الدين ، ويدعوا عليهم بالدمار والهلاك ، ولن يمضي زمن إلاّ وقد
شملهم العذاب الإلهي.
وقد كان سيدنا العلامة الطباطبائي ـ رحمه الله ـ يرى هذا الرأي ويقول : « إنّ
المباهلة معجزةٌ خالدةٌ للمسلمين يحتجون بها على صحّة عقائدهم وأُصولهم ، فمن
يريد المباهلة فيما جاء به النبي الأعظم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، فأنّا على أتمّ الأُهبة
والإستعداد لمباهلته ، فلُيقْدم المخالف إذا شاء».
ولعلّ الأستاذ الراحل أخذه من كلام الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ ، حينما
قال له أحد أصحابه : « إنّا نكلّم الناس فنحتجّ عليهم بقول الله عزّوجل :
(أَطيعوا الله وأَطيعوا الرَّسول وأُولي الأَمر منكم)(3) فيقولون: نزلت في أمراء
السرايا. فنحتج عليهم بقوله عزّوجل: (إنّما وليّكم الله ورسوله ـ إلى آخر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجمع البيان : ج 1، ص 452، طبعة صيدا.
2- سورة آل عمران: الآية 61.
3- سورة النساء: الآية 59.
________________________________________
( 106 )
الآية)(1) فيقولون نزلت في المؤمنين . ونحتج عليهم بقول الله عزّوجل: (قُلْ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي)(2). فيقولون نزلت في قُربى المسلمين. قال
فلم أَدَعْ مّما حضرني ذِكْرُهُ من هذه وشبهها إلاّ ذكرته.
فقال ـ عليه السَّلام ـ : إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة... إلى آخر
الحديث»(3).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة المائدة: الآية 55.
2- سورة الشورى : الآية 23.
3- أصول الكافي : ج 3، باب المباهلة، الحديث الأوّل ، ص 513، الطبعة الرابعة ، 1401 هـ،
بيروت.
التعلیقات