الوحي في القرآن الكريم
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 124 ـ 128
(124)
الأمر الثاني : الوحي في القرآن الكريم
جاء استعمال «الوحي» في القرآن الكريم في موارد متعددة ، ومختلفة ،
يجمعها المعنى اللغوي الكلي ، وهو الإعلام بخفاء ، وهذا المعنى الجامع موجود في
بعضها حقيقة ، وفي البعض الآخر مجازاً وادعاءً ، كما لو كان الموحى إليه جماداً أو
حيواناً لا يعقل . ويظهر ذلك بالتدبر في الموارد التالية:
________________________________________
( 125 )
1 ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين
قال سبحانه: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلأَرْضِ ائْتِيَا
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحَى
فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ)(1).
القضاءُ: فَصْلُ الأمر. وضمير: (هُنَّ) ، يرجع إلى السماء . وبما أنّ
السماء كانت دُخاناً ، كان أمرها مبهماً غير مشخص من حيث الغاية والفعلية.
ففصّل تعالى أمرها ، فجعلها سبع سموات في يومين ، وأَخرجها بذلك عن
الإبهام.
وأمّا قوله: ( وَ أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا)، فالمراد أنّه سبحانه أودع في كل
سماء السنن والأنظمة الكونية ، وقدّر عليها دوامها.
فإذا كان إيجاد السنن والنُّظُم في بواطن السموات ومكامنها ، على وجه لا
يقف عليه إلاّ المتدبر في عالم الخلقة ، أشبه ذلك الإلقاءَ والإعلامَ بخفاء بنحو لا
يقف عليه إلاّ الملقى إليه ، وهو الوحي . فكان هذا كافياً في استعارة لفظ الوحي
إلى مثل هذا التقدير والتكوين للسُنن ، فقال : (فَأَوحى في كلُّ سماء أمرها).
ومن هذا القسم ، قوله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَ أَخْرَجَتِ
الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَ قَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى
لَهَا)(2).
2 ـ الإدراك بالغريزة
قال سبحانه : (وَ أَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الَّثمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكَ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة فُصّلت: الآيتان 11 و 12.
2- سورة الزلزلة: الآيات 1 ـ 5.
________________________________________
( 126 )
ذُلُلاً...)(1).
فكُلُّ الأعمال العجيبة والمدهشة الّتي يقوم بها النحل ، في صنع بيوته بتلك
الأشكال الهندسية المتقنة ، وإدارتها وتدبيرها وحراستها ، ثمّ الحركة الدؤوبة في
التنقل بين البساتين والحقول ، ومصِّ رحيق الأزهار ، وتحويلها إلى عسل ، ثمّ
إيداعها في صفائح الشهد ، وغير ذلك ، فإنّما يقوم به عن غريزة إلهية مودعة في
مكامن خلقته ، وصميم وجوده ، لا يتوانى معها عن عمله ، ولا يختار معه عملاً
آخر.
وحيث إنّ هذا الإيداع للغرائز في مكان الخلقة أشبه بالإلقاء الخفي ،
وتلقّي النحل له بلا شعور وإدراك ، أطلق عليه سبحانه الوحي فقال (وَأوْحَى
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ).
3 ـ الإلهام والإلقاء في القلب
قال سبحانه: ( وَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ
فِي الْيَمِّ وَ لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَني إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(2).
وحيث إنّ تفهيمَ أُمِّ موسى مصيرَ ولدها كانَ بإلهام وإعلام خَفي ، عبّر عنه
بالوحي.
ومثله قوله تعالى: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّنَ أَنْ آمِنُوا بِي
وَ بِرَسُولِي...)(3).
وأيضاً ، قوله تعالى في شأن يوسف ـ عليه السَّلام ـ : (وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ
بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النحل: الآيتان 68 و 69.
2- سورة القصص: الآية 7.
3- سورة المائدة: الآية 111.
4- سورة يوسف: الآية 15.
________________________________________
( 127 )
وأيضاً قوله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
آمَنُوا...)(1).
4 ـ الإشارة
قال سبحانه حكاية عن زكريا : (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ
تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَال سَوِيّاً * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الِْمحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ
سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيّاً)(2).
والمعنى : أشار إليهم من دون أن يتكلم ، لأَمِرْهِ سبحانه إيَّاه أن لا يكلّم
الناس ثلاث ليال سوياً ، فأشبه فعلُه ، إلقاء الكلام بخفاء ، لِكَوْن الإشارة أمراً
مُبْهماً.
5 ـ الإلقاءات الشيطانية
قال سبحانه : (وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)(3).
وقال تعالى : (وَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ..)(4).
ويعلم وجه استعمال الوحي هنا مّما ذكرناه فيما سبقه.
6 ـ كلام الله تعالى المُنْزَل على نبي من أنبيائه
قال سبحانه:(كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الأنفال: الآية 12.
2- سورة مريم: الآيتان 10 ـ 11.
3- سورة الأنعام: الآية 112.
4- سورة الأنعام: الآية 121.
________________________________________
( 128 )
الْحَكِيمُ)(1).
وقد غلب استعمال الوحي في هذا القسم ، فكلما أُطلق الوحي وجُرِّد عن
القرينة يراد منه ما يُلقى إلى الأنبياء من قِبَل الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الشورى : الآية 3.
التعلیقات