ملاك كون المعاد جسمانيّاً أو روحانيّاً
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 15 سنةملاك كون المعاد جسمانيّاً أو روحانيّاً
إنّ لتوصيف المعاد بالجسماني أو الروحاني ، أو هما معاً ، ملاكين ، هما :
الملاك الأوّل : ما يرجع إلى اتّخاذ موقف حاسم في حقيقة الإنسان ، وأنّها ما هي ، فلو قلنا بأنّ الإنسان عبارة عن هذا الهيكل الجسماني ، وليس للروح حقيقة وراء التفاعلات والانفعالات الماديّة الفيزيائيّة والكيميائيّة ، وهي سارية في البدن سريان النار في الفحم ، والماء في الورد ـ لو قلنا بهذا ـ فلا مناص للقائل بالمعاد من توصيفه بكونه جسمانيّاً فقط ؛ إذ ليس هناك وراء الجسم ، والتأثير الماديين ، شيء آخر حتّى يعاد.
وأمّا لو قلنا بأنّ وراء الجسم ، ووراء التفاعلات الماديّة ، جوهر حقيقي مدرك ، له تعلّق بالبدن ، تعلّقاً تدبيريّاً ما دامت العلقة باقية ، فإذا زالت يكون له البقاء ، ولا يتطرق إليه الفناء . فلو قلنا بذلك ، ثمّ قلنا بأنّه سبحانه يبعث الروح مع البدن ، فالمعاد يكون جسمانيّاً من جهة ، وروحانيّاً من جهة أخرى ، لكون المبعوث ممزوجاً من شيئين ، ومؤلّفاً من أمرين ، ولكلّ معاد.
وأمّا لو قلنا بأنّ الروح ـ بعد مفارقتها البدن ـ لا ترجع إليه ، لعلّةٍ ما ، فعندئذٍ تبعث الروح وحدها من دون تعلّقها بالبدن ، فيكون المعاد روحانيّاً فقط ، وهذا الملاك هو الذي يلوح من كلام صدر المتألّهين ، وصهره عبد الرزّاق اللاهيجي (1).
الملاك الثاني : إنّ هناك ملاكاً آخر لكون المعاد جسمانيّاً ، وروحانيّاً ، يلوح ذلك من كلمات الشيخ الرئيس ، وهو تقسيم المعاد إلى الجسماني والروحاني ، حسب الثواب والعقاب الموعودَيْن : فلو قلنا : إنّ العذاب والعقاب ينحصران بالجسماني منهما ، كنعيم الجنّة وحرّ الجحيم ، فيكون المعاد معاداً جسمانيّاً فقط ، وأمّا لو قلنا بأنّ هناك ـ وراء ذلك ـ ثواباً وعقاباً عقليين لا يمتّان إلى البدن بصلة ، بل يلتذ ويعاقب بهما الروح فقط ، فيكون المعاد ، وراء كونه جسمانيّاً ، روحانيّاً أيضاً ، وبعبارة أخرى : التذاذ النفس وتألّمها باللذات والآلام العقليّة ، فهذا ملاك كون المعاد ، روحانيّاً.
قال الشيخ الرئيس : « يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ، ولا سبيل إلى إثباته إلّا من طريق الشريعة ، وتصديق خبرالنبوة ، وهو الّذي للبدن عند البعث ، وخيراته وشروره معلومٌ لا يحتاج إلى أن يعلم ، وقد بسطت الشريعة الحقّة التّي أتانا بها سيّدنا ومولانا محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، حال السعادة والشقاء التي بحسب البدن.
ومنه ما هو معلوم مدرك بالعقل والقياس البرهاني ، وقد صدقته النبوّة ، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس إلى نفس الأمر ، وإن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما الآن. والحكماء الإلهيّون ، رغبتهم في إصابة هذه السعادة أكثر من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة ، بل كأنّهم لا يتلفتون إلى تلك وإن أعطوها ، فلا يستعظمونها في جنب السعادة التّي هي مقاربة الحق الأوّل » (2).
وقال الإمام الرازي : « أمّا القائلون بالمعاد الروحاني والجسماني معاً ، فقد أرادوا ان يجمعوا بين الحكمة والشريعة فقالوا : دلّ العقل على أنّ سعادة الأرواح بمعرفة الله تعالى ومحبّته ، وأنّ سعادة الأجساد في إدراك المحسوسات ، والجمع بين هاتين السعادتين في هذه الحياة غير ممكن ؛ لأنّ الإنسان مع استغراقه في تجلّي أنوار عالم القدس ، لا يمكنه أن يلتفت إلى شيء من اللذّات الروحانيّة ، وإنّما تعذر هذا الجمع ، لكون الأرواح البشريّة ضعيفة في هذا العالم ، فإذا فارقت بالموت ، واستمدت من عالم القدس والطهارة ، قويت وصارت قادرة على الجمع بين الأمرين ، ولا شبهة في أنّ هذه الحالة هي الحالة القصوى من مراتب السعادات » (3).
وقال الحكيم السبزواري : « القول الفحل والرأي الجزل ، هوالجمع بين المعادين ؛ لأنّ الإنسان بدن ونفس ، وإن شئتَ قلت نفس وعقل ، فللبدن كمال ومجازاة ، وللنفس كمال ومجازاة ، وكذا للنفس وقواها الجزئية كمالات وغايات تناسبها ، وللعقل والقوى الكليّة كمال وغاية ؛ ولأنّ أكثر الناس لا يناسبهم الغايات الروحانيّة العقليّة ، فيلزم التعطيل في حقّهم في القول بالروحاني فقط ، وفي القول بالجسماني فقط يلزم في الأقلين من الخواصّ والأخصّين » (4).
الهوامش
1. الأسفار : ج 9 ، ص 165. و « گوهرمراد » المقالة الثالثة ، الباب الرابع ، ص 449. « فارسي ».
2. النجاة : ص 291. والشفاء : قسم الإلهيّات ، المقالة التاسعة ، الفصل 7. والظاهر من كلام الشيخ الرئيس أنّه لا سبيل إلى المعاد الجسماني إلّا بالشريعة ، وتصديق خبر النبوّة ، وقد فسّر كلامه بأنّه لا يمكن إثبات المعاد الجسماني ، وعود البدن مع الروح في النشأة الأخرى بالبرهان ، وإنّما الطريق إليه هو الشريعة. ولكنه تفسير خاطئ ، كيف والأقلون من هذا الشيخ الإلهي مرتبة يثبتون ذلك بالبراهين الفلسفية ، وإنّما مراده من المعاد الجسماني هو اللذات والآلام الجسمانيّة من الجنّة ونعيمها والنار ولهيبها ، فإنّ إثبات خصوص هذه اللذات يرجع إلى السمع وعالم الوحي ، ولولا السمع لما قدرنا على الحكم بأنّ لله سبحانه في النشأة الأُخرى هذه النعم والنقم ، بل أقصى ما يمكن إثباته هو أن حشر الأجساد يمتنع أن يكون بلا غاية وبلا جهة ، أو بلا ثواب ولا عقاب ، وأمّا أنّ الثواب هو نفس ما ورد في الكتاب من الحور العين والفواكه والثمار وغيرها ، أو أنّ العقاب هو النار ولهيبها ، فلا يثبته البرهان. ويؤيّد ما ذكرنا أنّه يقول : « وهو الذي للبدن عند البعث وخيراته وشروره معلوم ». فالشيخ الرئيس إنّما رمي بذلك لعدم تفريقهم بين الملاكين في توصيف المعاد بالجسماني أو الروحاني ، فزعموا أنّ الملاك عنده هو الأوّل منهما ، وغفلوا عن أنّ الملاك هو الثاني منهما كما يعلم من التأمّل في كلامه.
3. شرح العقائد العضديّة : للمحقّق الدواني ، ج 1 ، ص 262 ـ 263.
4. الأسفار : ج 9 ص 165 ، تعليقة المحقّق السبزواري.
مقتبس من كتاب : « الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل الجزء الرابع »
التعلیقات