شقاء عبيد الله بن الحرّ الجعفي
الشيخ ذبيح الله المحلاتي
منذ شهرينشقاء عبيد الله بن الحرّ الجعفي
قال في الناسخ وغيره : ومضى الحسين عليه السلام حتّى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به فإذا هو بفسطاط مضروب ، ورمح مركوز إلى جانبه ، وسيف معلّق على عمود الخيمة ومهرة عربيّة على بابه ، فقال الحسين عليه السلام : لمن هذا الفسطاط ؟
فقيل : لعبيد الله بن الحرّ الجعفي وهو من فوارس الكوفة وشجعانها وأهل البسالة منهم ، لا قريع له في الشجاعة ولا قرن يماثله ، فاستدعى الإمام الحجّاج بن مسروق وأمره بدعوته إليه.
فذهب إليه الحجّاج بن مسروق وسلّم عليه ، فردّ عليه السلام وقال : ما وراءك يا بن مسروق ؟ قال : إنّ الله تعالى ساق إليك خيراً وكرامة إن قبلتها. قال : وما هما ؟ فقال له الحجّاج : هذا الحسين بن عليّ عليهما السلام يدعوك لنصرته ، فإن نصرته نلت السعادة. فقال عبيد الله بن الحر : يا بن مسروق ، كنت أعلم بأنّ أهل الكوفة مقاتلوه فخرجت من الكوفة لئلّا أكون من قتلته ، واعلم يا بن مسروق إنّ أهل الكوفة قدّموا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية ، وباعوا مودّة أهل بيت النبي بعطايا ابن زياد ، ولمّا كنت على غير وفاق معه ولا أُريد أن أكون عليه خرجت من الكوفة لئلّا أشهد الموقعة وانتبذت ناحية بانتظار ما يقدّره الله تعالى.
فرجع الحجّاج إلى الحسين عليه السلام واخبره بما قال عبيد الله ، فقال الحسين عليه السلام : إنّ من الأرجح أن أذهب إليه بنفسي وأُقيم الحجّة عليه ، ثمّ قام قائماً إليه وفي رواية الدرّ النظيم : ومعه جماعة من فتيان بني هاشم ، فأقبل نحو مضارب عبيد الله فخرج لاستقباله وطرح وسادة وجلس بين يديه ، وقال : يا بن الحر ، إنّ أهل مصركم كتبوا إليّ أن هلمّ ، وعاهدوني النصرة وعدم الخذلان وأن يجاهدوا معي حقّ الجهاد ، والآن جائني خبر خذلانهم إيّاي وأنّهم استدبروا الحقّ واستقبلوا الباطل ، وأنت يا بن الحرّ على علم بأنّ للخير جزاء وللشرّ مثله ، مثوبة وعقوبة ، وسوف يُسئل المرء عن أقواله وأفعاله ، فأدعوك اليوم إلى نصرتي إن أجبتني وسوف يكون ذلك كفّارة لذنوبك وأجراً عمّا فاتك من الثواب ، وفي القيامة يُسرّ جدّي بك.
فقال عبيد الله بن الحر : إنّي لأعلم علماً يقيناً أنّ من أطاعك واتّبعك تكون جزائه الجنّة ولكن أهل الكوفة خذلوك ورفع ألوية الغدر بك ، وقد وجّه إليك يزيد بجيش لا يعدّ ولا يحصى وهم ظاهرون على أصحابك ، والنصر لهم عليك ، وفي مثل هذه المواقف الصعبة ماذا يصنع مثلي وهو فرد ، فأرجو أن تعفيني من ذلك ولك هذه الفرس الملحقة ، ما فاتها سابق ولا أدركها لاحق ، وأعطيك سيفي هذا القاطع وهو أحد من أنياب الليث فاقبله منّي ولا تحملني على خطّة لا أطيقها.
فقال الإمام عليه السلام : ما جئتك أطلب فرسك أو سيفك وإنّما أردت أن تنال التوفيق بطاعتي وتطهّر نفسك في هذا الجهاد في سبيل الله وتبذل نفسك فيه فلا حاجة لنا بمالك وما كنت متّخذ المضلّين عضداً ، ولقد قال جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله : من سمع واعية أهل بيتي فلم يُعنهم ويلبِّ ندائهم أكبّه الله في نار جهنّم ، قال هذا وخرج من خيمة ابن الحر.
وفي رواية الدرّ النظيم : قال ابن الحرّ : والله لقد كسر قلبي الحسين حين رأيته وقد أحدق به فتيانه وعلمت أنّ السيف آخذهم.
وفي خبر آخر : إنّ عبيد الله بن الحر ندم بعد الواقعة وأخذ يقرّع نفسه ويلومها على ما فاته من نصرة الحسين عليه السلام وينشد هذا الشعر :
حسين حين يطلب بذل نصري |
على أهل العداوة والشقاق | |
غداة يقول لي بالقصر قولاً |
تولّى ثمّ ودّع بانطلاق | |
ولو أنّي أُواسيه بنفسي |
لنلت كرامة يوم التلاق | |
مع ابن المصطفى نفسي فداه |
فويل يوم توديع الفراق | |
فقد فاز الأولى (1) نصروا حسيناً |
وخاب الآخرون ذوو النفاق | |
فلو فلق التلهّف قلب حيّ |
لهم اليوم قلبي بانفلاق |
الإشارة إلى تاريخ عبيد الله الجعفي
أكثر علماء الرجال من ذكره باللصوصيّة وسفك الدم والفتك وذكروه بالشعر.
قال المامقاني : يقلّ الخطأ جدّاً عند النجاشي في رجاله ولكن من أخطائه ما ذكره عند عبيد الله بن الحر الجعفي قائلاً : من سلفنا الصالح (3) مع كثرة خياناته وجناياته ، إلّا أنّه حسن العقيدة ولكنّه قضى عمره بالصعلكة ، وشارك زمن عمر ابن الخطّاب في حرب القادسيّة فأحسن البلاء ثمّ لحق بمعاوية لكي يكرمه ولم يعتن بمعاوية ، واستدعاه يوماً معاوية وقال له : يا بن الحر ، ما هذه الجموع التي تغدو وتروح على باب دارك ؟ فقال : هؤلاء يحموني ويحفظوني إن أردت ظلمي والعدوان عليَّ حالوا بيني وبينك. قال : لعلّك تخبئ في نفسك اللحوق معهم بعليّ ابن أبي طالب ؟ فقال : إن فعلت ذلك فإنّه ما علمت أهل لذلك ، لأنّه على الحقّ وأنت على الباطل. فقال عمرو بن العاص : كذبت ، فقال عبيد الله بن الحر : وأنت أكذب منّي ، ثمّ غادر المجلس غاضباً ، وخرج من الشام ومعه خمسون فارساً وكان لا يمرّ على قرية إلّا وانتهبها بمن معه ، فهب حرس الحدود وحماة الثفر لردعه فحمل عليهم وقتل جماعة منهم وفرّ الباقون حتّى نزل الكوفة إلّا أنّه لم يلاق الإمام عليه السلام.
وفي نفس المهموم يروي عن قمقام فرهاد ميرزا (4) أنّ عبيد الله المذكور كان عثمانيّاً وكان يعدّ من الشجعان ومن فرسان العرب ، وكان في وقعة صفّين في جيش معاوية بن أبي سفيان لما كان في قلبه من محبّة عثمان ، ولمّا قُتل أمير المؤمنين عليه السلام انتقل إلى الكوفة وكان بها إلى أن حضرت مقدّمات قتل الحسين عليه السلام فخرج منها تعمّداً لئلّا يحضر في قتله ، انتهى (5).
يظهر من هذه الرواية بأنّ عودته إلى الكوفة من الشام كانت بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ، وفي بعض التواريخ أنّ خروجه من الكوفة كان بعد دخول مسلم ومجيء عبيد الله بن زياد لعنهما الله ، ولمّا فرغ هذا اللعين من تصفية مسلم وهانئ عليهما السلام جدّ في البحث عن رجالات أهل الكوفة وأشرافهم من هؤلاء عبيد الله ابن الحر فلم يقع أحد له على أثر حتّى جاء مجلس عبيد الله اتفاقاً ، فسأله عبيد الله ابن زياد : أين كنت هذه المدّة ؟ فقال : مرضت ، فقال : في قلبك لا في جسدك ، فقال ابن الحر : لم يمرض قلبي وقد عافاني الله في جسمي. فقال ابن زياد : كذبت بل كنت مع عدوّنا ، فقال : لو كنت معه لشوهد مقامي ولم يخف مشهدي لأنّي لست مجهولاً ، وفي هذه الحال انشغل ابن زياد مع آخر يكلّمه فانتهز ابن الحرّ الفرصة وخرج من مجلسه ، فلمّا رأى ابن زياد مكانه خالياً قال : انظروا أين ذهب ابن الحر ؟ قالوا : خرج من مجلسك الساعة ، فقال : اطلبوه عاجلاً ، فخرج جماعة من الشرط في طلبه فرأوه وقد علا صهوة فرسه ، فقالوا : أجب الأمير ، فقال : والله لا عُدت إليه مختاراً وهمز جواده فطار به وقصد منزل الأحمر بن زياد الطائي فجمع أصحابه وقصد قصد المدائن حتّى إذا خرج المختار بن أبي عبيدة الثقفي التحق بعسكره.
فلمّا بعث المختار إبراهيم لحرب ابن زياد لعنهما الله خرج عبيد الله مع إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي وكان إبراهيم كارهاً لخروجه معه ، وأنّه قال للمختار : أخاف أن يغدر بي وقت الحاجة ، فقال له المختار : أحسن إليه واملأ عينه بالمال.
وإنّ إبراهيم خرج ومعه عبيد الله بن الحر حتّى نزل تكريت وأمر بجباية خراجها ، ففرّقه وبعث إلى عبيد الله بن الحر بخمسة آلاف درهم ، فغضب فقال : أنت أخذت لنفسك عشرة آلاف درهم وما كان الحرّ دون مالك ، فحلف إبراهيم أنّي ما أخذت زيادة عليك ثمّ حمل اليه ما أخذه لنفسه فلم يرض وخرج على المختار ونقض عهده وأغار على سواد الكوفة فنهب القرى وقتل العمّال وأخذ الأموال ومضى إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير ، وأرسل المختار إلى داره فهدمها (6) ولم يف لمصعب أيضاً فذهب من هناك إلى الشام ، وسأل عبد الملك أن يؤمّره على جند لحرب ابن الزبير ، فسيّر معه عبد اللملك أربعة آلاف فارس ونحى نحو العراق حتّى إذا بلغ أطراف الموصل ومعه الجند المذكور فانفرد عن جنده وبينما هو يسير على فرسه وقد عبر جسراً هناك إذ زلّت به قدم فرسه فكبا به الفرس وهوى في النهر فأقبل عليه الزرّاع بمساحيهم وأخذوا يضربونه بها بدلاً من إخراجه حتّى هلك وغنموا فرسه وأسلحته ، إلّا أنّ صاحب الأخبار الطوال روى موته بشكل آخر ممّا لا حاجة بنا إلى ذكره.
وله أشعار كثيرة تدلّ على ندمه لأنّه حرم الشهادة مع الحسين عليه السلام ، منها قوله :
يقول أمير غادر وابن غادر |
ألا كنت قاتلت الحسين بن فاطمه | |
فيا ندمي أن لا أكون نصرته |
ألا كلّ نفس لا تُسدّد نادمه | |
ونفسي على خذلانه واعتزاله |
وبيعة هذا الناكث العهد لائمه | |
سقى الله أرواح الذين تآزروا |
على نصره سقياً من الغيث دائمه | |
وقفت على أطلالهم ومحالهم |
فكاد الحشى ينقضّ والعين ساجمه | |
وإنّي على أن لم أكن من حماته |
لدى حسرة ما إن تفارق لازمه | |
لعمري لقد كانوا سراعاً إلى الوغى |
مصاليت في الهيجا حماة خضارمه | |
تأسّوا على نصر بن بنت نبيّهم |
بأسيافهم آساد غيل ضراغمه | |
فإن يقتلوا في كلّ نفس بقيّة |
على الأرض قد أضحت لذلك واجمه | |
وما إن رأى الراؤون أفضل منهم |
لدى الموت سادات وزهر قماقمه | |
أيقتلهم ظلماً ويرجوا ودادنا |
فدع خطّة ليست لنا بملائمه | |
لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم |
فكم ناقم منّا عليكم وناقمه | |
أهمّ مرادي أن اسير بجحفل |
إلى فئة زاغت عن الحقّ ظالمه | |
فكفّوا وإلّا زرتكم في كتائب |
أشدّ عليكم من زحوف الديالمه |
فلمّا بلغ ابن زياد شعره أرسل في طلبه ففاته.
ومجمل القول أنّ له أشعاراً كثيرة يظهر فيها الندم ويلوم نفسه على ما فاته من نصرة ابن رسول الله ، ويمدح فيها أصحابه.
يقول العلّامة بحر العلوم في رجاله : فالرجل عندي صحيح الاعتقاد وسيّئ العمل (7). إلى أن يقول : والعجب من النجاشي كيف يعدّ هذا الرجل من سلفنا الصالح ويعتني به ويصدّر كتابه بذكره .. الخ (8).
أقول : لا عجب من ذلك لأنّ المعصوم من عصمه الله ، إنّ الجواد قد يكبو وإنّ الصارم قد ينبو.
الهوامش
1. وفي نسخة : الذي.
2. جاء هذا العنوان بالعربيّة عند المؤلّف.
3. كلّ ما قاله النجاشي عن هذا الرجل : عبيد الله بن الحرّ الجعفي الفارس الفاتك الشاعر ، له نسخة يرويها عن أمير المؤمنين. وقال عنه سأل الحسين عن خضابه. راجع : الرجال ، ص 9.
4. هذا الكتاب الشريف ترجمته إلى العربيّة مع التحقيق ونشرته دار الشريف الرضي وهو كتاب جيّد مفيد ومبارك.
5. نفس المهموم ، ص 178.
6. نفس المهموم ، ص 181 و 182 نقلاً عن شرح الثار ، ص 34 و 35 بحار الأنوار ، ج 45 ص 379 و 380.
7. الفوائد الرجالية ، ج 1 ص 327 : وقد يرجى له النجاة بحسن عقيدته .. الخ. أقول : لو كان حسن العقيدة لما فارق الإمام ولجأ إلى معاوية وقد عاتبه الإمام على فعله عندما جاء يطلب زوجه. راجع الطبري. ( المترجم )
8. نفسه ، ص 324. وقد مرّ بنا قول النجاشي وهو خالٍ من هذه العبارة المنسوبة إليه. ( المترجم )
مقتبس من كتاب : فرسان الهيجاء / المجلّد : 1 / الصفحة : 141 ـ 147
التعلیقات